عمر في بيت المقدس١
١
هذا عام ستة عشر من الهجرة، وقد انسابت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس، وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين، وأبو عبيدة بن الجراح يحصر بيت المقدس، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم.
عزم أهل البيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس: في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر، عمر الذي ملأت سيرته الآفاق، وسكنت إلى عدله النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون.
وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم، خرج يغذُّ السير إلى الشام؛ ليتفقد أحوال المسلمين، ويصالح أهل فلسطين.
لما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق، وتبعه غلامه، فنزل فمشى قليلًا، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه.
وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة، فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء، فتحول إلى رحل غلامه.
٢
وجاءه رجل من اليهود، وكان اليهود يرقبون روح الله بأيدي العرب، ويدعون الله أن يفرج كربهم، ويذهب عنهم جبروت الروم بأيدي المسلمين، قال اليهودي: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء، لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
وأقبل وفد بيت المقدس إلى الجابية، فصالحوا، وكُتب لهم عهد شهد فيه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان، وأُعطوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وألا يُكره أحد على الدين، أو يضار في شيء.
٣
دخل عمر بيت المقدس لا مدمرًا مخربًا كما دخلها بختنصر، ولا مضطهدًا أهلها كما دخلها الرومان من قبل، ولا مزهوًّا بفتحه كما دخلها هرقل قبل عشر سنين، بعد أن غلب الفرس على الشام، ولكنه دخل رافعًا لواء التوحيد والعدل، والأخوة العامة، والمرحمة الشاملة.
دخل المدينة فسار إلى المسجد ليلًا، ومضى إلى محراب داود، فصلى فيه، وطلع الفجر بعد قليل، ودوى الأذان في أرجاء المدينة المقدسة لأول مرة؛ صيحة الحق في أعقاب الباطل المهزوم، ترفعها تباشير الصبح في أُخريات الظلام، وشهد الله لقد كانت فاتحة الخير والسلم والكرامة للبيت المقدس ومن فيه.
وقرأ عمر في الركعة الأولى سورة «ص»، وسجد حين قرأ آية السجدة: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، ثم قرأ في الركعة الثانية أول سورة الإسراء «سورة بني إسرائيل»، وفيه وصف ما أصابهم على يد البابليين.
ثم تقدم إلى الكناسة؛ الكناسة التي تراكمت على البيت حين أخرب وهجر، والتي عجز اليهود أنفسهم عن إزالتها حين ملكوا أمر البيت.
تقدم إلى الذلة المكدسة على الحرم، تقدم عمر ليزيلها عن البيت، كما أزال عن أهله الظلم والقسوة، تقدم أمير المؤمنين وجثا، وقال: أيها الناس، اصنعوا كما أصنع. وحثا في فَرْج من فروج قبائه. وإنما فعل عمر ما فعل تكريمًا للبيت، وتطهيرًا وإيذانًا بهذا العهد؛ عهد الطهارة والكرامة.
لقد لبث اليهود خمسمائة سنة ينتظرون أن تطلع شمس الإسلام ويأتي الفاروق، ليحثو التراب في قبائه، ويأمر الناس بتطهير البيت المقدس، وما فقدوا رعاية الإسلام من بعدها إلا تسعين عامًا غلب فيها أهل الصليب، فأصاب البيت المقدس ما أصابه، حتى استرجعه رجل من رجال المسلمين، ملك، يتشبه بعمر بن الخطاب في الإشادة بعدل الإسلام، ومرحمة الإسلام. رحم الله صلاح الدين يوسف بن أيوب.
ولكن بني إسرائيل حين رأوا الزمان يُنيخ على المسلمين بكلكله، لم يأتوا عونًا للعرب والمسلمين، ولم يذكروا فضل الإسلام، ولا حفظوا يد عمر، ولا اعترفوا برعاية المسلمين وحمايتهم إياهم ثلاثة عشر قرنًا، بل جاءوا يجزون الحسنة بالسيئة، ويُعينون الخطوب على الذين دفعوا عنهم الخطوب، ويناصرون الأعداء على الذين أنقذوهم من الأعداء، ويمالئون الذين دفنوا بيت المقدس على الذين رفعوا عنه التراب والرجس والهوان.
وليت شعري ماذا ينقمون من المسلمين والعرب يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ؟