الهجرة مولد تاريخ
تعمد الأمم إلى حدث جليل من أحداثها يبرز بين خطوبها، ويثبت على مر الزمان في أنفسها، فتجعله ميقاتًا تبتدئ منه حساب الأيام، وعلَمًا تعد من لدنه الشهور والأعوام، وربما يكون موت أحد كبرائها، أو مصيبة من المصائب التي لا تفصل طورًا عن طور، ولا تميز عصرًا من عصر، ولا تكون حدًّا بين سيرة وسيرة، ولا برزخًا بين فساد وصلاح، أو رشد وغي، أو عزة وذل، أو جهالة ومعرفة، ولا ينبوعًا يطرد منه في حياة الأمة نهر، أو ذكرى تفيض منها المواعظ والعِبَر، أو مبدأ تعطف إليه في الخطوب الذِّكَر.
وخير ما أرخت به أمة حادث يلد لها تاريخًا، أو يغير لها وجهة، أو يهديها إلى غاية، ويبقى على مرِّ الزمان خلاقًا للعظائم، مدَّادًا بالفضائل، فياضًا بالعظات، تنظر إليه الأمة كلما بعد بها المسير لتنظر أين هي من المكانة التي تُراد لها، وأين سيرها من الطريق المبينة؟ وأين وجهتها من الغاية المرجوة؟
وقد كان إلهامًا ما رآه ثاني الخلفاء الراشدين عمر الملهَم المحدَّث، حين أشار على المسلمين أن يجعلوا الهجرة مبدأ لتاريخهم، وميقاتًا لأعمالهم، فما أعرف حدثًا ولد تاريخًا طويلًا، وخلق عصرًا مديدًا، واطَّرد في تاريخ البشر فياضًا بالخير مترعًا بالحوادث كالهجرة، وما هي إلا سفرة محسوسة قصيرة جعلها الله عنوان أسفار معنوية طويلة في نفوس الأفراد والجماعات والأمم، وما هي إلا نقلة بين بلدين كانت انتقالًا من الوثنية إلى التوحيد، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الباطل إلى الحق، ومن الجهل إلى العلم، من الجاهلية إلى الإسلام.
بالهجرة عزَّ الإسلام وانتصرت دعوته، ونفذت شريعته، وتألفت الجماعة الإسلامية الأولى؛ الجماعة التي انتشرت فإذا هي أمة تجمع المشرق والمغرب، وجاهدت فإذا هي ملء الزمان عزمًا وحزمًا، وإقدامًا وصبرًا، وثباتًا ودأبًا، وسيطرت، فإذا دولة تقوم على الأسود والأبيض بشريعة من الحق الشامل والأخوة الجامعة، ثم استقرت وعملت فإذا الحضارة المؤمنة الرفيعة التي تحطم الحدود الفاصلة، وتمحق العصبيات الباطلة، وتسوي بين الناس إخوة عاملين متعاونين، كلهم لآدم، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.
لقد كانت هذه الجماعة الإسلامية القليلة التي أقرتها الهجرة في المدينة كالبذر الطيب يجمعه الزارع الصالح، وينقيه ثم ينثره فيملأ الأرض خصبًا وبركة، وكبخار البحر يجمعه السحاب ثم يتفرق به في أرجاء الأرض حياة وطهرًا وخصبًا ونماءً.
فَقِهَ هؤلاء الصحب الأجلاء عن رسولهم، ووعي هؤلاء التلاميذ الصالحون عن معلمهم، ثم انتشروا في أرجاء الأرض قوادًا فاتحين، وولاة راشدين، وقضاةً عادلين، وعلماءً هادين، وعبادًا خاشعين، فاجتمع السيف والكتاب، والعرش والمحراب، والسلطان والعلم، والقدرة والحلم، وما زال هذا البحر يمد، وما زال هذا النور يشعُّ، وما زال هذا الخير يشيع، وما زال هذا الحق يسيطر، وما زال هذا الدين ينتشر، وما زال هذا العزم يمضي، وما زال هذا الجهاد يدأب، حتى شهد العالم أول مرة أمة واحدة منتشرة بين الصين وبحر الظلمات، فنيت فيها الأجناس، وامَّحت الألوان، وصبغها لون وضَّاء من الأُخوَّة والمودة، وتعاونت فيها العقول على فلسفة واحدة، وفقه واحد، وأدب واحد، وتضافرت الأيدي على نسج حضارة واحدة.
كم في تاريخنا من أعمال تمتُّ إلى الهجرة بسبب! وكم فيه من أبطال يربطها بالهجرة نسب!
محمد بن القاسم الثقفي، ثم محمود الغزنوي، وظهير الدين بابر، كانوا في فتح الهند وإقامة الدول فيه من آثار الهجرة، وقتيبة وأسلافه وخلفاؤه في تركستان سهام رمت بها الهجرة فأبعدت المكان والزمان، وعقبة بن نافع على فرسه على شاطئ بحر الظلمات، وطارق بن زياد في الأندلس، وعبد الرحمن الغافقي في بلاط الشهداء، كانوا يطوون الأرض والممالك، وينشرون العدل والأخوة مهاجرين على آثار الهجرة النبوية.
ثم ما وعى التاريخ من سِيَر فقهاء وعلماء، وكتاب وشعراء، ومتكلمين وفلاسفة وصوفية، وما شاد الزمان من مساجد ومدارس وقصور وقناطر، كل ذلك للهجرة أثر فيه وطابع عليه!
كل ذلك كتاب، الإسلام بيانه، والتاريخ برهانه، والهجرة عنوانه.
ألا إن التاريخ الذي ولدته الهجرة لا يزال في ازدياد، والنهر الذي أجرته لا يزال في اطراد، والروح الذي نفخته لا يزال قويًّا، والعزم الذي شحذته لا يزال فتيًّا، والكتاب الذي كانت عنوانه لم تُقرأ صفحاته، ولم تنفد كلماته، وإن في ضمير الدهر لأحداثًا كبارًا، وإن في ثنايا الغيب لأسرارًا وأسرارًا.
قد أضاع المسلمون الزمام، ورضوا أن يكون غيرهم الإمام، وفقد كثير من المسلمين عقولهم في هذه الفتن المحيرة، وأضلوا رشدهم في هذه الخطوب المظلمة، وبرقت أبصارهم من هذه الأشعة، وصمت آذانهم في هذه الضوضاء، ورضوا بفضلات الأقوام لعقولهم وقلوبهم وأيديهم وألسنتهم، ولكن لا يزال وحي الإسلام يُسمَع من وراء الحجب، ونوره ينفذ في ثنايا الظلمات، ولا تزال هذه العقول تعرف غايتها، وهذه الوجوه تقصد قبلتها، ولا تزال هذه الهمم تسمو إلى سمائها، وهذه الأرواح تطمح إلى عليائها، ولا تزال هذه الإبر تعرف قطبها، وتتجه وجهتها.
إن التاريخ الذي ولدته الهجرة لم يمت، والمجد الذي بدأته لم ينقطع، والجذوة التي أوقدتها لم تنطفئ، ولا يزال في الأرض خصب، وفي النهر ماء، وفي السحب مطر ورعد وبرق.
وإن علينا أن نتذكر فنحسن التذكر، ونعتبر فنجيد الاعتبار، ونخلق من العسر يسرًا، ومن النقمة نعمة، ومن الضلال هدًى، ومن الضعف قوة، مستبصرين بالوحي الذي لا يفتر، والنور الذي لا يخبو.
من كان يظن أن الأقلام جفَّت، والصحف طويت، فليُصغ ليسمع صرير الأقلام تخط في صفحات التاريخ الإسلامي فصولًا جديدة، ومن كان يحسب أن الينبوع نضب، فليمعن النظر ليرى أن الينبوع فياض، وإن حجبته الأدغال، أو تراكمت حوله الرمال، ومن أحس همود الحياة في نفسه، وخمود الهمة في صدره، وضعف الأمل في قلبه، ومرض البيان في لسانه؛ فليرجع إلى الهجرة وآثارها، والإسلام وتاريخه؛ ليغترف من هذا الينبوع، أو يقبس من هذه النار، ويقرأ في هذا الكتاب، ويستمع إلى هذا الخطاب؛ ليرجع إلى نفسه حياتها، وإلى همته وقدتها، وإلى أمله قوته، وإلى لسانه بيانه، وإلى عقله سلطانه.
فإن الإسلام لا يعرف الموت ولا الضعف ولا الذلة ولا اليأس، وإنما هو العيش في عزة وكفاح، أو الجنة تحت ظلال الرماح، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.