موقعة عين جالوت١
١
كان عام ثماني عشرة وستمائة فاتحة شر مستطير في بلاد المسلمين، سالت فيه جيوش جنكيز من هضاب الصين، تغرق كل شيء، وتجرف كل شيء. طغت على التركستان، فجرفت عرش ملوك خوارزم، ودارت بالمدن العظيمة تخريبًا وتدميرًا، وبسكانها تقتيلًا وتشريدًا، وفرَّ محمد خوارزمشاه وكان كما قال مسلم بن الوليد:
وورث ابنه جلال الدين ملكًا في أيدي التتار، ومجدًا بين الحديد والنار، فصبر وصابر، وجاهد ما بين نهر السند إلى حدود العراق، يحاول جهده أن يلمَّ الشمل، ويرأب الصدع، ويخلق من الفرقة اجتماعًا، ومن الضعف قوة، ومن الذعر ثباتًا، ومن اليأس رجاء، حتى اغتالته المنون بعد أن أعجزتها مصاولتُه، وختَلته بعد أن أعيتها مجاهرته.
وانتشر الرعب، وعمَّ الفزع، ولم يثبت للتتار جيش ولا حصن في شرقي البلاد الإسلامية.
وما لي أكلف نفسي الوصف ولا أستمع لابن الأثير — وقد عاش على شاطئ هذا الطوفان وأحس لفح هذه النار — يصف هذه الوقائع: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ أن خلق الله — سبحانه وتعالي — آدم إلى الآن، لم يُبتلَ بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها … إلخ.
٢
مات جنكيز خان سنة أربع وعشرين وستمائة، بعد أن قسم بين أولاده ما فتح من الأرض وما لم يفتح، وامتد الفتح في آسيا وأوروبا، وكانت غِيَرٌ شتى، حتى أرسل منكوقا آن، حفيد جنكيز، أخاه هلاكو سنة إحدى وخمسين ليفتح حصون الإسماعيلية، ثم يفتح بغداد، فأخضع أمراء إيران والقوقاز إلى عام ثلاثة وخمسين، واستولى على أكثر قلاع الإسماعيلية.
ثم جاءت الطامة الكبرى، فاستولى على بغداد، ومحا الخلافة العباسية في تاسع المحرم سنة ست وخمسين وستمائة.
لقد طوى آباؤه الممالك الإسلامية إلى العراق، ثم أصاب هو المسلمين في الصميم إذ أخذ بغداد التي لبثت مقر الخلافة، وقبلة المسلمين في العلم والحضارة أكثر من خمسة قرون.
٣
سار التتار إلى الشام، فلم تستطع لهم حلب دفعًا، وهؤلاء المعتصمون بقلعتها لن يجديهم الاعتصام، ولا مناص لهم من الاستسلام بعد شهرين، وسارع أهل حماة إلى حلب، فأعطوا هلاكو مفاتيح المدينة، ثم لم تلبث للقوم مدينة بين حلب وغزَّة.
وأما أمراء الشام من بني أيوب، فمنهم من انحاز إلى التتر مؤثرًا العافية، ومنهم من لجأ إلى مصر مستنجدًا، والملك الناصر أكبر هؤلاء، ترددت به الحيرة بين حدود مصر والشام، ثم لم يستطع إلا السير إلى هلاكو.
٤
وأبت مصر التي تجاهد الصليبيين منذ مائة وستين عامًا أن تذل للتتر، فجمعت ما فيها من إيمان وقوة، وخرجت في رمضان سنة ثمان وخمسين، وصمدت للقوم، فالتقى الجمعان على عين جالوت في فلسطين.
فأما التتر فلم يعرفوا في الحرب إلا الانتصار منذ سال سيلهم على البلاد الإسلامية قبل ثلاثين سنة. ماذا يخشون من جيش مصر وقد مزقوا للمسلمين جيشًا بعد آخر، ولم تصدهم البسالة والاستقتال دون غاية؟
وأما جيش مصر الذي جمع المصريين وعرب البادية من مصر والشام، فقد أيقن أنها الموقعة الفاصلة، وأن هزيمة في عين جالوت تفتح طريق العدو إلى مصر فالمغرب، فصمموا أن ينتصروا. وكثيرًا ما تلد العزائم الظفر!
ولم يزلزل عزائمهم أن رأوا بعض أمراء المسلمين في صفوف العدو، ذلك الأمير الشقي المتسمي الملك السعيد.
التقى الجمعان يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة، واحتدم القتال، وصبر المسلمون ثم صبروا، ولقوا من حملات التتار ما يوهن العزائم، فلم يهنوا. إلى من يكلون الدفاع عن الإسلام والمجد إن لم يستميتوا في عين جالوت؟
كتبغا قائد التتر قتيل، وابنه أسير، وجنده مصرعون في حومة القتال، وبقايا السيوف منهم عائذون برءوس الجبال.
يومئذ علم المسلمون أنه يستطاع هزم التتر، فلم يثبت القوم في بقعة من بقاع الشام، وأسرعوا راجعين إلى الشرق.
جمع التتر شملهم، وأعدوا للحرب عددهم، ثم رجعوا فاستولوا على حلب بعد شهرين من موقعة عين جالوت، ولكن عين جالوت قد فصلت في القضية من قبل، وعلَّمت المسلمين أن الأمل والعزم والإقدام تغلب كل عدو، ولو كان التتر جنود هلاكو حفيد جنكيز.
اجتمع المسلمون على حمص، وسار التتر إليهم. فليشهد القارئ قبل المعركة جمعًا من أنجاد العرب يسيرون إلى حومة الوغى.
ودارت الحرب عند حمص يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة تسع وخمسين وستمائة، فلا تسألني كيف كانت عاقبتها، فهي العاقبة التي بشرت بها موقعة عين جالوت من قبل: فارق التتار الشام إلى غير رجعة.