ثورة على الأخلاق١
يا أخي صاحب الرسالة، أبلغ أخي محمودًا الذي لا أعرفه هذه الكلمة عني:
«قرأت في الرسالة ما نقله الأستاذ الزيات من رأيك في مزايا الأخلاق والفضائل، فهالني ما قرأت، وعزمت على أن أبادر بالكتابة إليك على ضيق الوقت وفتور الصيام، وكيف لا يرتاع من يسمع أن رجلًا من ذوي الأخلاق خاب ظنه فيها، فثار عليها ويئس منها؟ فاقرأ يا أخي كلمتي، ثم أبِنْ لي رأيك من بعد.
دخل أعرابي مسجد المدينة ورسول الله وأصحابه هناك، فصلى ثم دعا فقال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا.» فضحك — صلوات الله عليه — وقال: «لقد حجَّرت واسعًا يا أعرابي.» وكذلك أنت يا أخي قد حجرت واسعًا حين خُيِّل إليك أن دائرة عملك — التي وسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة — هي الأمة كلها، وأن الأمة هي العالم كله، وأن العالم الحاضر هو الزمان كله، وإن شئت أن تقول: إني لم أحجر واسعًا ولكني وسعت محجرًا، فلك رأيك، والنتيجة في الحالين واحدة.
أود قبل أن أناقشك في رأيك أن أعدك موافقي، كما وافق صديقنا الزيات، على أن الخلق الفاضل سبيل إلى سعادة صاحبه، وطمأنينة، ما في هذا ريب، وأن الرجل الحر الأبيَّ الفاضل يعيش في سعة من نفسه، وعزة من خلقه، ونعيم من وجدانه، لا يدركها أصحاب الجاه العظيم، والثراء العريض، ممن وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم، وأن الحر الكريم يرى نفسه في عزتها وحريتها ورضاها فوق هذا العالم الذي تباع فيه النفوس رخيصة، وتبذل فيه القلوب ذليلة، ويعد نفسه أسدًا قويًّا مهيبًا قد رَبضَ حجره من معترك الذئاب، ومهترش الكلاب.
إنما خلافنا في النجاح في المعايش ونيل الجاه والثروة: أسبيله الخلق القويم، أم العمل الذميم؟ وإني أعجل لك الجواب في قضية نتفق عليها، لنفرغ لما بعدها، فأقول: حق أن الرجل التقي الأبي لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقًا واحدة هي التي يسنها الحق والشرف والإباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقًا شتى من التلصص والكذب، والتزوير والخداع، والنفاق والملق، والذلة والشره، والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرًّا، وحق كذلك أن من الأحرار من يُخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبيل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون، ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتل، فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقون المحرومون. كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع: كثيرًا ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع، وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكبه السبل التي جعلتها سنن الجماعة وسائل إلى الثروة والجاه، فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في أخذ الأهبة، وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجد الفجار، فلا جرم يخفق أولئك وينجح هؤلاء؛ فإن للحياة قوانين، وللمعايش سننًا، والقرآن الكريم يقول: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، ويقول: كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا، ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة، وتسلَّح بالخلق الطيب، فلن يكون هذا الخلق سببًا إلى إخفاقه، وسبيلًا إلى خيبته أبدًا. ربما تعتل الجماعة فينتصر المُبطل، ويُخذل المُحق، ويُفتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكون شرعة في الأرض، ولا سنة من سنن الله.
ثم علة الجماعة لا تدوم، وليست الجماعات كلها عليلة، وما تزال الجماعات منذ ألفها الله وعلمها، وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن، أيدًا لأنصار الحق، وعونًا لأهل الفضيلة، وخذلانًا لجند الباطل والرذيلة. ما زال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته، ويصدُق وعده أنجح عملًا وأكثر مالًا من الضائع الكذاب سيئ المعاملة، وما زال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة، والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالردئ، والغالي بالرخيص، ما زال هذا التاجر أربح متجرًا، وأملأ يدًا، وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاش، الشره المخادع، أترى في هذا ريبًا؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء، واسأل من تشاء، ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض، فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدق مالك الأرض فيما أنفق وما جنى، ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه؛ ليؤدي الأجرة في حينها، لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين، وأظفر بما يريد.
لا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة، موضع المودة والثقة، ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته، إن استقرض أقرض، وإن استعار أعير، له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار، ربما يتجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد، ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين، سل يا أخي الناس في كل قبيل، وطالع التاريخ في كل جيل.
على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسد الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل بر أمين صادق، وأمة يجد المخادعون فيها طريقًا، ولكنها وعرة، ومذهبًا ولكنه ضيق، ورواجًا ولكنه قليل، وأخرى يتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجار، ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سننًا، وتشرع في المخازي شرعًا، تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وترد الأبرار الصادقين خائبين أينما توجهوا، مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين، فإذا أرادت الأمة أن تجعل الفساد سنة، فموتها دون غايتها، وزوالها قبل استقرار سنتها.
أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبسًا، وملأ عليك العالم حزنًا، وملأك على العالم سخطًا، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة، فرأيت جماعة من خفاف الأحلام، صغار النفوس، شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا، فلما ملأت نفسك أسفًا، وانقلب أملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطًا متشائمًا، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، ووصمتها بهذه الوصمة.
إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضًا لما وصفت، ذلك بأن الرزق فيها لا ينال إلا بالسعي والكد، والجهد والدأب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة، ولكن الرزق فيها يقسم بأيد قليلة، ويصرف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعم حتى يبلغ أمده. وكثيرًا ما تفيل الآراء، وتطيش الأيدي بأهواء الساسة، ومنازع التحزب، على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون قاعدة العمل، وسنة الجزاء.
ولا تنس يا أخي أن هذه الدواوين حديثة عهد بأيدي الأجانب ومن تربى في عبوديتهم، وكانت سنة الأجنبي أن يرفع من استسلم إليه، وتوكل عليه، ولا يكون هذا الاستسلام وذلك التوكل إلا احتقارًا للكرامة، وازدراءً بالخلق الفاضل، ونحن لا نزال في أول عهدنا بالاستقلال، لم تهذبنا التجارب، ولم تتمكن أيدينا من وضع القواعد الصالحة، وسنِّ السنن القويمة، وإقامة الوزن بالقسط بين الناس أجمعين.
فإن رأيت جورًا في الدواوين، وظلمًا بين الموظفين، فهي علة زائلة، فلا تنشرها على الأمة كلها، ولا تمدها على الزمان جميعه، واعلم أن الظفر للحق، والخيبة للباطل، وأن النصر للفضيلة، والهزيمة للرذيلة، وأنها للغمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين. والسلام عليكم ورحمة الله.»
معدة قرقرت ثم استقرت٢
يا أخي صاحب الرسالة:
«أما صاحبك فقد ساءتني حربه وسلمه، وهو في سلمه أشد إساءة، وأعظم جناية؛ صورته لي غاضبًا للأخلاق، راثيًا للفضيلة، ثائرًا على الناس، يقذفهم بالتهم، ويرميهم بالحمم، يشتط في غضبته، ويغلو في ثورته، فقلت: حر غضب فأخطأ، وكريم ثار فجار، وأبيٌّ برٌّ أسخطته المذلة، وهاجه الفجور، فانطلق لا يقف عند حد، ولا يرضى بأمد، ثم صورته قنوعًا مستسلمًا، فقلت: وا سوأتا! أهذا المبطان جادلت، وهذا الجبان نازلت؟ لقد كان جهادًا في غير عدو، لم تكن شقشقة هدرت ثم قرت، بل معدة قرقرت ثم استقرت، وما الشقاشق إلا لفحول الجمال، وأشباههم من فحول الرجال.
وأما أنت يا أخي الزيات، فما أحسبك إلا شريك محمود في رأيه، أو صاحب وحيه، قدمته للكلام ونطقت على لسانه، وعرضته للنضال ونزعت في قوسه، ولا أقول: أقمته مقام الوثن من سادنه، والصنم من كاهنه، فلما تبيَّن أنه في الخصام غير مبين، وفي المآزق غير دفَّاع، وفي المعارك لا يثبت للمِصاع، وإنه لجوع يثيره، وشبع يرضيه، أبدلت به جماعة حسبتهم أقوم بحجتك، وأشد هيبة في صدور خصومك، فقلت: «على أن مجلسنا كان حافلًا بغير محمود، من رجال العلم والدين والأدب، وكلهم كانوا له وعليك.»
وأكبر ظني أن هؤلاء «رجال العلم والدين والأدب» شركوا محمودًا في المائدة، وإلا فكيف جمعهم بمحمود المجلس، وقد قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية؟ والعجيب أن تذهب المائدة بثورة محمود، وتثير سخط هؤلاء، ولعله كان أثبتهم على المائدة حملة، وأطْيشهم في الصحاف يدًا، ولعلهم آثروا القناعة، واصطنعوا الحياء، وتمسكوا بالأخلاق، فحرموا الطعام، فكانت ثورتهم على الأخلاق.
وبعد، فموضع الخلاف بيننا في هذه القضية: هل الخلق الفاضل سبيل النجاح؟ قال محمود إبان ثورته: لا، وقلت: نعم نعم، وضربت مثلًا الصانع المجيد، الحسن المعاملة، الصادق الوعد، والتاجر الأمين المخلص، والمزارع الأمين، ثم قلت: ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة، ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استُقرض أقرض، وإن استعار أعير إلخ، فبأي هذا يرتاب أصحابك؟ يقولون: ما أهون الأخلاق إن كان قُصاراها هذا النجاحَ الحقير، ويقولون: إن الذين ضربتهم مثلًا من الأخيار لن يستطيعوا أن يكونوا يومًا من رجال المال والأعمال كفلان وفلان. وأنا يا صديقي ما خصصت بقولي ضربًا من النجاح دون ضرب، ولم يكن ذكري التاجر والصانع والمزارع إلا مثلًا إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، ولا أتم الآية إشفاقًا على أصحابك، إني أقولها كلمة عامة شاملة: الخلق الفاضل، في أغلب الأحوال، سبيل إلى النجاح، في كل طرائق الحياة، إن أخفق حينًا نجح أحيانًا، وإن أكدى مرة أورى مرارًا، فالحاكم الخير، والرئيس البر، والقائد الصالح، والمؤلف الصادق، والأديب النزيه، والصانع والتاجر والزارع، بل الموظف، كل أولئك أقرب إلى النجح، وأظفر بالطلبة في أكثر الأحوال من أندادهم من الأشرار، بعد أن يتخذوا للمقاصد سبلها، ويعدوا لكل أمر عدته، فإن قصروا في الأهبة، وتوانوا في اتخاذ العدة، فماذا يجديهم الخُلُق وحده؟
إن بعض الأخيار تجنبوا المعارك، وأشفقوا من المهالك، وضيعوا الحزم، فلما أوفت بهم الأعمال على نتائجها، التبس الأمر على كثير من الناس، فحسبوا إخفاقهم بما استمسكوا بالحق والخلق الطيب، وخالوا نجاح أضدادهم بما ركبوا إلى غاياتهم مراكب الباطل والرذيلة، فقل لهؤلاء: أعيدوا النظر، وأحسنوا التفكير، ولا تقصروا النجاح على المال، فيجور بكم المنطق، فهناك الكرامة والجاه والرياسة والزعامة، وهناك الطاعة والمودة، وانظروا إلى الزعماء الذين يسوسون الأمم؛ أهم من أصحاب المال؟
وقلت في مقالي السابق: إن للأخيار إلى مقاصدهم سبيلًا واحدة، وللأشرار سبلًا شتى، ولكن هذه السبيل الواحدة أحرى بأن تؤدي إلى الغاية، وتوفي على المطلوب، فقلتَ: إن أصحابك يرون في قالتي هذه نزوعًا إلى رأي محمود، ثم قلت: «وما دام جوهر الرأي واحدًا، فالسبيل القاصدة أن نطلب لهذه الحال بما يوائم طموح الناس، وكرامة الأخلاق، وسلامة المجتمع.» ثم قلتَ: «إنه لا معدى عن إحدى وسيلتين: أن تحمل الناس بالدين والسلطان على سبيل الحق الواحدة، وذلك خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق. وهذا على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.»
وجوابي أنه ليس في كلامي نزوع إلى رأي محمود إلا أن تقطع المقدمات بعضها عن بعض، ويفصل بين أول الحجة وآخرها، وأما الدعوة إلى إعادة النظر في الأخلاق، فأنا لم أعد في مقالي جملة الأمر إلى تفصيله، لم أجادل عن خلق بعينه، ولم أقل: إن خلقًا ما صالح لهذا الزمن أو غير صالح، ولكني قلت: إن الأخلاق الفاضلة التي تتفق عليها أمة أو أمم، لا تكون سبلًا إلى الخيبة والحرمان، وإن أردت أن تعيد النظر في الأخلاق فما أنا بمنكر أن الأخلاق تقبل بعض التغيير، ولكن لا إخال إعادة النظر ستغير تغييرًا ذا بال فيما سارت عليه الأمم منذ هداها الوجدان والعقل إلى سبل الخير، ولن تحلل هذه الإعادة رذائل كالكذب والسرقة والتزوير والظلم، أو تحرم فضائل الصدق والأمانة والعدل. ومهما تكن النتيجة، فالأخلاق القديمة أو الجديدة لا تكون قرينة الخيبة والشقاء.
وقد ذكرت أيها الأخ الكريم أخلاقًا تجعلها مثلًا لما تريد تغييره، ذكرت التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل، وهذه أمور يختلف فيها النظر، وليست من قواعد الأخلاق، فقل فيها ما يهديك إليه النظر الصائب، ورأيي أن التواضع محمود ما لم يكن ذلة، والقناعة حميدة بقدر ما تحول بين الإنسان وبين الشره والاستكلاب، فإن كانت ضعفًا في الهمة، وعجزًا عن الإدراك، فهي رذيلة، وكذلك الزهد، وأما التوكل فإن يكن استكانة للحادثات، وخضوعًا لكل ما هو آت، فما يرضاه إنسان، وإن كان ثقة بالنفس وانطلاقًا في سبل الحياة، لا ترده دون غايته المشاق والأهوال، فما أحوج الناس إليه!
يا أخي: قد أساء العجز والذل تأويل هذه الأمور، وأنت تعرف أن المثل الأعلى للرجل المسلم أن يكون طماحًا إلى أبعد غاية، واثقًا بنفسه إلى غير نهاية، حرًّا لا يقر بعبودية، أبيًّا لا يقيم على دنية، يرى نفسه قائمًا في هذا العالم بالقسط، قد وكل الله إليه تصريف الأمور، وتقسيم الأرزاق، والهيمنة على الأخلاق. وأين هذا مما فهمه الناس من التواضع والتوكل؟!
وأما الربا فلا يتسع المقام للكلام فيه، وحسبك هذه الثورات الثائرة حوله، والمعارك الهائجة فيه بين البلشفية والرأسمالية.
وأما قياس الأخلاق بالنفع والضر، فقد ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، ولكن مذهبًا ينتهي إلى منفعة الجماعة وضررها، لا منفعة الفرد وضرره. ولن تقوم لأمة قائمة إن جعلت مقياس أخلاقها نزوات كل إنسان، ونزعات كل فرد.
وبعد، فيا صديقي، أراني حدت عن الموضوع الأول استطرادًا معك، فأرجع إلى محمود أحمده على ثورته مخطئًا، وأذمه على هدوئه مصيبًا، فقد تمثَّل لي في الأولى حرًّا ثائرًا يريد أن يقلب نظام الأخلاق في الأمة، وتمثل لي في الثانية تكلة نكسًا مبطانًا، لم يدع على المائدة فتاتًا، ولم تدع فيه المائدة بقية لهمة أو عزيمة أو ثورة. فرحمه الله جوعان ثائرًا، وأخزاه الله شبعان خائرًا!»