مصطفى الصادق الرافعي١
«قال قائل: مات سنائي!
إن موت هذا العظيم ليس خطبًا أممًا، لم يكن تبنة ذهبت بها الريح، ولا كان ماء جمد في الزمهرير، ولا كان مشطًا كسرته شعرة، ولا كان حبة سحقتها الأرض، إنما كان كنزًا من الذهب في هذا التراب، لا يزن العالمين بمثقال ذرة.
•••
ذكرت هذه الأبيات، أبيات جلال الدين الرومي، حينما قرأت نعي الرافعي. وا عجبًا! أنضبت هذه النفس الفياضة؟ أذبل هذا الخلق النضير؟ أخمدت هذه الجذوة؟ أأطفئ هذا المصباح؟ أكلت هذه العزيمة الماضية؟ أفترت هذه الهمة الدائبة؟ أأظلم هذا القلب الذي يملأ الدنيا ضياءً؟ أوقف هذا الفكر السيار؟ أوقع هذا الخيال الطيار؟ أسكن هذا القلم المصور الذي يصبغ العالم كما يشاء، يضحكه ويبكيه، ويسخطه ويرضيه، والذي إن شاء صور أحزانه مواسم، وإن شاء رد أعياده مآتم؟
أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟
كلا، كلا، إن مولد الحر في الدنيا قليل، وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله، فهو تاريخ لا يُمحى، وذكرى لا تموت.
إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء، فلا يزال وضاء هاديًا، أو كما يولد النهر في سفح الجبل، فلا يفتأ جاريًا ساقيًا، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر، ثم لا تموت أبدًا.
إن الحر الكريم فطرة صافية تستمد من الله، فلا يحول عنها نوره، ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل، فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع، وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان. إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وإن حد الناس مكانهم حد هو مكانه، فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خيل إليهم الباطل حقًّا والحق باطلًا، وقف هو هازئًا أبيًّا يستوحي ربه، ويستفتي قلبه، وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتمسح بهم كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم، البحر الخضم:
إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية مقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام، وهل التاريخ كما قالوا إلا إعاة وتكرار؟!
•••
ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيبًا، ومن النور الإلهي قلبًا، ومن الفيض الإلهي ينبوعًا، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي للظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال، ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.
كان الرافعي نورًا وسلامًا، ومحبة ووئامًا، فإذا سيم الدنية في دينه أو في أمته، وإذا تجهم الباطل لحقه، أو تطلعت المذلة إلى خلقه، ألفيت النور نارًا تلظى، والسلم حربًا تهيج، والحب بغضًا ثائرًا، والرحمة شدة حاطمة.
لبثت سنين طوالًا أقرأ للرافعي ولا أراه، وأحبه ولا ألقاه، وأتحدث عنه معجبًا، ثم أقول لمحدثي: هذا وجه ما سعدت برؤيته حتى لقيته العام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وكأنا صديقان قديمان، ثم أتاحت الفرص لقاءه مرتين أو ثلاثًا، كانت أخراها في دار هذه اللجنة، بعد أن كتبت مقالي عن كتابه وحي القلم، فعانقني وما توهمت أنه عناق الوداع، ثم افترقنا وما علمت أنه آخر العهد، وفرقة الدهر. رحم الله مصطفى الصادق، وجزاه عن لغته وقومه ودينه خير الجزاء، لا جرم سيحفظ ذكره بيان القرآن، وتاريخ العرب والإسلام.
شباب أم أماني؟٣
أروع الأشياء٤
•••