عُقْبة على شاطئ المحيط١
١
مَن القومُ ترمي عزائمُهم الغايات، وتطوي هممُهم المسافات، سيان عندهم البعيد والقريب، والعسير واليسير؟
العرب المسلمون يقودهم عمرو، يتوجهون تلقاء مصر، رموا الباطل في جانب، وساروا إليه في جانب، وصرعوه في ميدان، وهُرعوا إلى ميدان. هدموا سلطان الروم في الشام، وصمدوا لسلطان الروم في مصر وإفريقية.
بالأمس زحموا الصرح فانهار، ونفخوا زخرف قيصر فطار، وأشاروا إلى الصنم فسجد، وخلَّى جبروته إلى الأبد. وضعوا سلطان هرقل، ورفعوا سلطان الله، وأقاموا الحرية في مصارع العبودية، وشادوا العدل على مقاتل الجَور.
واليوم يتَّبعون الباطل المهزوم، ويشردون الزور المزءود. إنهم يؤمون مصر، ومصر أكرم على الله من أن تكون مَباءة الباطل، ومثوى الجبروت. إنهم يسرعون إلى مصر، فعفاء على الروم وسلطانهم. ويل للباطل يدمغه الحق، والظلم يزلزله العدل، والاستعباد تثور به الحرية، ويل للروم يسير إليهم العرب.
٢
وا عجبًا، قد أصبح فرسان الصحراء أبطال الدأماء، وصار حُداة الإبل أمراء السفن، جاوزوا الكُثبان البيض إلى اللجج الخضر، فاتخذوا السفين جيادًا، والبحر مرادًا. وهل الإبل إلا سُفن الصحراء، وهل السفن إلا أفراس الماء؟ ما استبدل هؤلاء إلا سفينة بسفينة، وفرسًا بفرس.
٣
ما جزيرة العرب وفارس والشام ومصر، وما الهند والصين، والمشرق والمغرب في همة هذه الشمس الوهاجة، وعزيمة تلك الكواكب السيارة؟ قد استقر سلطان القوم في مصر فلم يقنعوا، وها هم قد غزوا برقة ورجعوا، أتحسب الأمد تطاول عليهم، والشقة بعدت بهم، فملوا أو خاروا؟
ويقف القوم سنين، وما هو إلا الجمام للمسير، والتحفز للوثوب، والإعداد للجهاد، والتريث للتثبت، وعما قليل يطوون المغرب، لا تعوقهم الفيافي المترامية، ولا تصدهم الجيوش الجرارة. تنظَّر الغد، فما بلغ القوم الأمل الموعود، ولا قاربوا الغاية المقدورة.
٤
عشرة آلاف تطوي الأوطان والقطان في سبيلها، وتطأ الأهوال والأبطال إلى غايتها! عشرة آلاف، وفي الناس واحد كألف.
عشرة آلاف قائدهم عقبة بن نافع، عزموا ألا ينثنوا، وصمموا ألا يُهزموا، وآلوا ألا يرجعوا ما اتسع الفتح لعزائمهم، وامتدت الأرض لأقدامهم.
ها هو ذا عقبة يبني مدينة القيروان، فعل الغازي المعمِّر، والفاتح المقيم، وسيجعلها مبدأ السير، وأول الفتح، وكأنهم ما قطعوا المهامه إليها، ولا ساروا عن ديارهم قبلها.
أرض الله، وعباد الله: أينما توجهوا فهي أرضهم، وحيثما حلُّوا فهي ديارهم، لا بعد عندهم ولا قرب، ولا شرق ولا غرب وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.
ولكن عشرات الألوف من الروم والإفريقيين قد ساروا إليهم. لقد أعد الروم لهم وأزمعوا أن يحطموهم، فوا رحمتاه للأنجاد القليلين، والغرباء النازحين!
كلا، لا خوف ولا حزن، ولا قلة ولا كثرة، انظرهم يديرونها على عدوهم حربًا طاحنة، ويُلجئون الروم وأعوانهم من لظى النار إلى سلاسل الإسار، انظر إلى ألوف من الروم مُصفَّدين.
أترى الكثرة أغنت، أم ترى القلة قلت؟ ذلك آخر عهد الروم بإفريقية.
٥
أين الجنود البواسل والعُبَّاد الغزاة، والبُداة الذي خرجوا ينشدون الحق، ويردون الجبارين إلى العدل؟ إنهم ليسوا في برقة ولا إفريقية، ها هم أولاء في أقصى المغرب، هم اليوم في طنجة، بل هم في السوس، لقد انتهوا إلى الساحل، لقد انتهت الأرض! وا أسفًا للجواد المتمطِّر لا يجد مجالًا، والعزم المُحضِر لا يجد مضطربًا. قد بلغوا البحر فكيف المسير؟ وفتحوا ما بين المدينة المنورة وبحر الظلمات، فأنَّى الفتح؟