رسول الله في عرفات
أما اليوم فتاسع ذي الحجة، وأما السنة فالعاشرة من الهجرة، والحجيج يسيرون من منًى إلى عرفات، فما بال الناس لا يسيرون على السنن المألوف، ولا يفعلون ما كانوا يفعلون؟ ما بالهم لا تفرقهم العصبيات وينحازون إلى الرايات؟ ما بال القبائل لا تلبي لآلهتها ولا تهيب بأصنامها؟ عجبًا، لا تذكر الآلهة حتى اللات والعزَّى ومناة، ولا تُسمى الأوثان حتى ود وهبل؟
كلا، كلا، قد تتابع القوم في سمت وخشوع، فأين الجلبة والضوضاء، والتفاخر بالآباء؟ وهذه قريش تتجاوز المزدلفة مع الناس إلى عرفات، فكيف سوَّت نفسها بالقبائل، ورضيت أن تسير إلى هذه المنازل؟ لست أرى ما يميز قريشًا من غيرهم، ولا الحمس ممن عداهم، وأين النسأة من كنانة؟ لا ترى لهم شارة ولا موكبًا، ولا تبصر منهم أحدًا، ماذا دها العرب فغيَّر سُنَنهم؟ بل من ذا الذي جاءهم فجمع شملهم، ووحد كلمتهم، وأخلص لله دعوتهم! إن هذا لشيء عجاب! كنا قبل سنتين نسمع الضجيج والضوضاء، والتصدية والمكاء، ونرى كل قبيلة تنحاز إلى علمها، وتنادي ربَّها، فمِن مشيدٍ بالأوثان، ومِن منادٍ: لبيك رب كنانة، أو لبيك رب همدان! فاستمع اليوم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك!
قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار، وتبدلت السيما والسيرة، وما عهدنا هذا من قبل!
والشيطان ذليل حسير، قد آوى إلى صخرة على جانب الطريق يرقب الوفود المتآخية، بل الأخوة المجتمعة، ويرى الجموع بعينه خزيان، ويعض بنانه حيران، يقول: ويلي من محمد، لقد أخلى بيوتي من هذه الأوثان، ومحا البغضاء والشنآن. لقد ذهب النزاع والخصام، وأفلت من يدي الزمام، ويلي من محمد! ألم يكن بالأمس يغشى هذه المجامع وحيدًا، ويرتد عنها مخذولًا؟ ألم يكن يعرض نفسه على القبائل لتجيره، فيلقى الغلظة والجفاء، والهزء والسخرية؟ ويلي من محمد! لست آسى على الحجاز وحده ولا على جزيرة العرب فحسب، إني لأوجس خيفة أن يجاوز هذا التوحيد الجامع، وهذه الأُخوَّة الموحدة حدود الجزيرة، فتدمِّر منازلي من معابد الوثنية وقصور الجبارين، وتمتد إلى كل بقعة لي تزلزلها الفرقة، ويسيطر عليها الظلم، ويشيع فيها الفساد، وتتغلغل فيها الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويرفع فيها لواء الباطل فوق كل لواء. ويلي! لقد جاهدت محمدًا في داره ثلاثًا وعشرين سنة، واستنصرت شياطين الإنس والجن، وحشدت جنود الباطل، وخُيل إليَّ مرارًا أني أشرفت على الظفر، فما هذه الجموع التي تسير وراء محمد، وتدعو بدعوة محمد، ويلي! إنه يوم له ما بعده.
يسير رسول الله ﷺ في عشرة آلاف من الحجاج إلى عرفة، وهذه قبة ضربت له في نَمِرة فينزل بها.
أُلْهِمَ الرسول أنه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وأن الدين قد كمل، ونعمة الله قد تمت، فقال: «أيها الناس، اسمعوا قَولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.»
وعلم رسول الله أن التوحيد الذي جاء به الإسلام كفيل بتوحيد الله على مر الدهور، وأن الكتاب الذي بلغه ضمين أن لا تُعبَد الأوثان من بعدُ، وأن العقول التي حررها تستنكف أن ترتكس في أباطيل الجاهلية، فليس يخشى على أمته الشرك، ولكن يخشى أن يستجيبوا للشيطان فيما عدا التوحيد في أمور يحسبونها هينة، وهي عظيمة الأثر في نظام الجماعة وأخلاقها، حريَّة أن توهي القوة، وتفرق الكلمة، وتحلَّ العقدة الصالحة، وتلكم كل كلمة تؤدي إلى فرقة، وكل فعلة من الظلم والعدوان، أو الرذيلة والمنكر. عرف هذا خاتم النبيين فقال: «إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ممَّا تحقرونه من أعمالكم.»
ثم وكَّد الرسول ما بلغه وعلمه ثلاثًا وعشرين سنة من حرمة الدماء والأموال والأعراض. وكَّد ما أبطل به الحروب المتمادية، والغزوات المستمرة، والثارات المستعرة، وما هدم به جاهلية العرب هدمًا، وردها شرعًا من السلام والوئام، وسلطان القانون العام، فقال: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وحرمة شهركم هذا … وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ فهو أول من أبدأ به من دماء الجاهلية.»
ثم عمد الرسول الذي علَّم البِرَّ بالفقير، وجعل له حقًّا في مال الغني، وعطف القلوب بعضها على بعض وأشعرها البر والمواساة. عمد إلى هذا الإثم الآثم والجرم المنكر الذي تتبرأ منه الأخلاق والمروءة، هذه الشِّرعة الدنيئة التي تُحكِّم الغني في رقبة الفقير بدراهم معدودات، وتتغلغل في الأخلاق والأموال تغلغل السوس، فأعاد ما وكَّده الكتاب والسنة من إبطال الربا، وأعلن أنه سواء منه ما تقدم وما تأخَّر، قد محَقه الله ومحَق آثاره، فقال: «وإن كلَّ ربًا موضوع، ولكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا. وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله.»
أما بعد، أيها الناس؛ فإن لكم على نسائكم حقًّا ولهن عليكم حقًّا … واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله … فاعقلوا أيها الناس.
ليت النساء أخذن الحقوق وأدين الواجبات! ليت ثم ليت!
ثم وكَّد نبي التوحيد والأخوَّة ما بني عليه شرعه من التراحم والتآخي والمساواة والمواساة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، سواء فيهم الأسود والأبيض، كلهم لآدم، وكلهم عباد الله، وكلهم إخوة في الله، قال الرسول الأكرم: اعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي، فإني قد بلَّغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنة نبيه … أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني قد بلغت، واعقلوا. تعلمُنَّ أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس؛ فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت؟
قال الحاضرون: نعم، قال الرسول: اللهم اشهد.
ذلكم ما أوصى به الرسول يوم الحج الأكبر في حجة وداعه، وتلكم حقوق الإنسان دوَّت بها أرجاء العالم قبل ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. تلكم وصايا الرسول لأمته تدوي بها الأجيال، وتسمعها الآذان، فأين منها الأعمال؟ إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ.