المعتصم بن صُمادح١ على فراش الموت
الأندلس في أمر مريج، زال عنها سلطان الخلافة فاضطربت، وفقدت رواسيها من بني أمية فمادت، وأصبحت كرقعة الشطرنج يتغالب الملوك على كل بيت فيها، كل قوي يحوز ما وسع حوله وهمته، والعيش غلاب، «والبر أوسع والدنيا لمن غلبا.»
في هذا المعترك ملك محمد بن أحمد بن صمادح التجيبي مدينة «وشقة»، وملك عمه مدينة «سرقسطة»، ثم غلبوه على مدينته.
ثم ملك ابنه معين بن محمد مدينة «المرية»، غصبها من عبد العزيز بن أبي عامر، وخلفه ابنه أبو يحيى المعتصم بالله وهو في سن الرابعة عشرة.
نشأ المعتصم في ملك ضيق الرقعة، فاستعاض منه سعة الخلق، وبعد الهمة، وحلية العلم والأدب، والسخاء الشامل، والجود العمم، حتى طاول المعتمد بن عباد كبير ملوك الطوائف ونافسه، وحتى قال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين حينما لقيهما بالأندلس: «هذان رجلا هذه الجزيرة.»
وكان رحب الفناء، جزيل العطاء، حليمًا عن الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمه جماعة من فحول الشعراء.
ملك أقام سوق المعارف على ساقها، وأبدع في انتظام مجالسها واتساقها، وأوضح رسمها، وأثبت في جبين أيامه وسمها، لم تخل أيامه من مناظرة ولا عمرت إلا بمذاكرة أو محاضرة.
وكانت دولته مشرعًا للكرم، ومطلعًا للهمم، فلاحت بها شموس، وارتاحت فيها نفوس، ونفقت فيها أقلام الأعلام، وتدفقت بحار الكلام، وكإجادة ابن عمار وإبداعه في قوله معتذرًا من وداعه:
وكان المعتصم كالمعتمد بن عباد شاعرًا مجيدًا، كتب إلى الوزير الشاعر ابن عمار:
طوى الأمير أربعين عامًا في إمارته، شاع فيها ذكره، ونبه اسمه، وحلب الدهر أشطره، وخبر أحداثه وعبره، ثم حمَّ القضاء.
بعث ابن تاشفين جنوده على ملوك الطوائف تثل عروشهم، وتعفي على آثارهم، ولقي «رجلا الجزيرة» الصدمات الأولى، فدارت على المعتمد الدائرات، فإذا هو أسير أغمات. وللمعتمد بن عباد قصة ملؤها العبرات والزفرات.
وعلم ابن صمادح بما أصاب صاحبه، فملكه الغم، وناء به الحزن. وكان أسعد من صاحبه جدًّا؛ نجاه الموت من الإسار، وأنقذه الحمام من المذلة والعار، ورحم الله أبا الطيب: «رب عيش أخف منه الحمام.»
يقول ابن بسام: وكان بين المعتصم وبين الله سريرة، أسلفت له عند الحمام يدًا مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا أيام يسيرة، في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده.
دع ما نمق الكتاب، وأنشد الشعراء، ودع أربعين عامًا طواها الزمان كأنها أحلام، وانظر المعتصم ليلة الخميس لثمانٍ بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة؛ الليلة التي طلع عليه بالردى فجرها.
ها هو ذا على فراش الموت في قصره بالمرية، ومعسكر ابن تاشفين على مقربة من المدينة تُرى خيامه، ويُسمع ضوضاؤه.
لا إله إلا الله، نغص علينا كل شيء حتى الموت.
فدمعت عيني، فلا أنسى طرفًا إليَّ يرفعه، وإنشاده لي بصوت لا أكاد أسمعه: