مدنية زائفة١
قال صاحبي وأنا أسايره في شارع الحافة «الكورنيش» من الإسكندرية ليلة من ليالي الصيف: «ما أجمل هذه المدينة!» انظر هذه المهيع الممهد، ما بين رأس التين والمنتزه، مشرفًا على لجة يمعن فيها البصر والفكر إلى غير غاية، وانظر هذه الأبنية الهائلة الشامخة، تزحم السحاب بذراها، وتقابل السماء بمثل نجومها، وتنسج على الأمواج أشعتها، وتزيد الأضواء بهجتها.
وتأمل هذا العقد من المصابيح الكبيرة يطوق هذا الخليج الجميل، والسيارات تطوي الأرض ذات اليمين وذات الشمال، فيها المصطافون قد أخذوا من الحياة متعتها، واهتبلوا من الأيام فرصتها، وألحان الموسيقى تتدفق من هذه الأندية والمراقص، فتموج في الهواء، حتى تختلط بأمواج الدأماء، وهذا البحر الزاخر من الناس، والمحافل المزدحمة بشتى الأجناس، يحوطها النظام، ويهيمن عليها القانون والسلطان، ويرقبها الشرط والعسس، كل آخذ بحقه، مأخوذ بعدوانه.
يا أخي لقد استبحر العمران، وشمل الناس الأمان، وأمكنهم العيش السعيد، وأسلس لهم الزمان العصى، وأطلعت لهم المدنية من النعيم ألوانًا، وأنبتت لهم من اللذات أفنانًا، يا أخي، إنها لمدنية.
ثم صمت صاحبي، ومال بنا المسير حتى ملنا ذات الشمال إلى محطة الرمل، فمررنا بباب القنصلية الإيطالية، فرأيت بجانب الجدار شبحين ضئيلين، فاقتربت أنعم النظر فيهما، فإذا طفلان نائمان، جلس أحدهما القرفصاء واعتمد بجانبه على الجدار، وتمدد الآخر على الأرض، عرضة لأقدام السابلة، قلت: وا رحمتاه! طفلان شريدان ألجأهما الشقاء إلى هذا الجدار.
ويعلم الله ما بهما من السغَب والنصب، وما لقيا في يومهما وأمسهما، وما يلقيان في غدهما، قال صاحبي: لا تعجب، فأمثال هذين كثير، يعثر بهم السائر حيثما ذهب، فانقلب الأسى في نفسي غضبًا على صاحبي، قلت: أرأيتك مدنيتك هذه العظيمة، وطرقها المعبَّدة، وقصورها الشاهقة، ومصابيحها المتلألئة، وسياراتها الخاطفة، ومراقصها اللاهية، وأنديتها الحافلة، أرأيتك القانون والسلطان، والشرطة والعسس والنظام، وهذا العمران المتبحر، والسعادة التي شملت الناس، وألوان النعيم التي طلعت بها المدنية، والعيش الخفض، والزمان المواتي، ومدنيتك الرائعة الفاتنة، أليس في هذه المدنية العظيمة لهذين الطفلين سعة؟ أليس في هذا العمران لهذين الطفلين مأوى؟ أليس في هذه القوانين لهذين الطفلين حماية؟ أليس في هذا النظام لهذين الطفلين موضع؟ أليس في هذه القلوب لهذين الطفلين رحمة؟ يا صاحبي، حسبك حسبك، لا تحدثني عن المدنية ونعيمها، لا تخدعني بالمدنية وقوانينها؛ إنها لمدنية زائفة.