لِمَ لا تقول الشعر؟١
١
يا سيدي، بماذا أجيبك؟ لقيت الحياة مبتسمًا، ونشأت مترنمًا، أطالع تباشير الصباح مرحًا كالأطيار، مترنحًا مع الأشجار، تروقني ألوان الأفق، وظلمات الغسق، وتشدهني طلعة ذكاء، في موكب الضياء، أراقب الأضواء، في الإصباح والإمساء، وأساير الظلال، بالغدو والآصال، وأخلو إلى القمر أشرب ضياءه، وأحس في نفسي صفاءه، وأقول:
وأتأمل الأزهار في شعاعه، وأقبل الورد في لآلائه، وأساير النيل أجري مع مائه، وأضطرب مع أمواجه، وأقف على البحر فرحًا بآذيه المهتاج، معجبًا بسلاسل الأمواج، أرقب العراك المتواصل بين الماء والساحل.
وكم طربت لزقزقة العصافير في نور الصباح، وتنزيهًا على متون الرياح، وضحكت لبكور الغراب، سابحًا في الضباب!
وكم فتنني الوجه الجميل، والخلق النبيل، فقلت:
أرى الجمال فتطبعه زجاجة العين على صفحة القلب، فإذا هو على لساني وقلمي؛ فأنطلق قائلًا معجبًا، ومنشدًا مطربًا.
وكل شيء يبعث الأمل، ويحدو إلى العمل، وكأن القضاء طوع الخيال، وليس في الدنيا محال، وكأن الإنسان يستطيع أن ينحت الجبال بقلمه، وينزف البحر بفمه، والمستقبل وضاء، وكل ما في العالم ضياء.
٢
ثم نفذ الفكر إلى ما وراء الظاهر، وتطلع إلى ما في السرائر، وجاوز القشر إلى اللب، وخاض الضحضاح إلى العباب، وكشف المجاز عن الحقيقة، وطالع ضمائر الخليقة، فانبهم العالم واستعجم، فإذا كل شيء مبهم، فالفكر فيما وراء الحجب جائل، وكل سر هنالك هائل، والضوء هنالك ضباب، والبصر حجاب.
امحت الأشكال، وخفيت الألوان، وعيت الريشة في يد الراسم، وحار القلم في يد الشاعر، وبهت المنطق دون البيان، وجمد اللفظ على اللسان، ويبقى السر المحجب، آبيًا على كل مطلب، أو يبص من الحقيقة حاجب يتسع عن ضيق الألحان، ويكبر على سلاسل القوافي والأوزان.
أهم بالمعنى الصغير، فإذا هو حلقة في سلسلة، وطريق إلى كل معضلة، وجزء من كل حقيقة هائلة.
وأحاول الأمواج، فتنفتح عن الأعماق، فيضل الفكر، وتزيغ الأحداق، وأعالج حمرة الشفق، فإذا وراءها خبيئات الأفق، وإذا الأفق صلة الأرض والسماء، وملتقى الظلام والضياء، وكيف بما هناك من حقائق؟ كيف بما استسر من أسرار الخالق؟
وأهم بالكلام عن الحيوان، فإذا أنا في لجة الحياة، وهي السر العجاب، سلسلة وسطها فوق الأرض وطرفاها في التراب.
وأريد أن أصف الذرة، فإذا هي والشمس سواء، باهرة الحقيقة، رائعة الضياء، أنظر إلى الصغير فيكبر، وأقصد إلى الآنس فيفر، وأعمد إلى الواضح فينبهم، وإلى المعرب فيستعجم.
والأمل تكسرت أمواجه على صخور الحقائق، وضل سرابه في فسيح السمالق.
هأنذا على ساحل المحيط الأعظم، حائر الطرف بين اللجة والشاطئ، مقسم الفكر بين الظاهر والباطن، ولست أدري أأبقى صامتًا مبهوتًا، أم أهجم على الأهوال، وأغوص في الأعماق، مبينًا عن عرفاني وجهلي، وإدراكي وعجزي، أم أرجع إلى العهد القديم أصف الألوان والأشكال، والضياء والظلال؟