إسكندر يقتل صديقه١
١
إسكندر العظيم يثبت عرشه وسلطانه وهيبته وكبرياءه في مقدونية واليونان، ثم يتوجه تلقاء آسيا.
الفريقان من اليونان والفرس يلتقيان على نهر «كرانيكوس» الصغير عام أربع وثلاثين وثلاثمائة، فيتاح لإسكندر أول فتح في آسيا، ثم تخضع له المدائن حتى سرديس، فقد دانت له آسيا الصغرى كلها.
ثم يتقدم صوب الجنوب، فيجتاز جبال طوروس، ويسير تلقاء الشام، وإذا جيش دارا، الجيش اللهام الذي لا يُغلب من قلة، رابض في طريقه، وفي سهل إسوس الضيق بين الجبال والبحر تزدحم مئات الألوف للحرب، ويسقط في البحار مائة ألف من الفرس، ويفر دارا، ويُنهب معسكره، وتؤسر أمه وزوجته وابنتاه. فانظر إلى الإسكندر قد قهر «الملك الأعظم» ملك الفرس، وطالما فخر اليونان بأنهم احتملوا صدمتهم، وردوهم عن بلادهم أيام دارا.
ويتقدم الفاتح العظيم فيقهر مدن الشام، وتقاومه صور وتتحدى جبروته وسلطانه، ثم تخر أمامه بعد حصار سبعة أشهر، فيقتل منهم ثمانية آلاف، ويُؤسر ثلاثون ألفًا، فيباعون عبيدًا، ويُصلب على القلاع ألفان عبرة ونكالًا. ذلكم الإسكندر الفاتح القاهر، وذلكم جزاء من يقف في سبيله!
ويفتح الإسكندر مصر عام اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ويرفع نسبه إلى آمون، ثم يجمع جنده ويسير إلى العدو الأكبر؛ الملك الأعظم، فيجتاز الفرات ودجلة إلى حيث يعسكر دارا.
وهنالكم على مقربة من أطلال نينوى العظيمة، التي تندب مجد آشور الغابر، وعلى سبعين ميلًا إلى الشمال والغرب من مدينة إربل، قريبًا من ملتقى عبد الله بن علي العباسي ومروان بن محمد خاتمة الخلفاء الأمويين، حيث سقطت دولة وقامت دولة، هنالكم تراءى الجمعان، وعسكر الإسكندر تجاه دارا. ويشير «برمينيون» على الفاتح المقدوني أن يهجم على عدوه ليلًا، فيأبى مجد الإسكندر وكبرياؤه فيقول: «أنا لا أسرق النصر.»
ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر صوب المشرق، ويسارع الغالب صوب الجنوب. أريتك بابل العظيمة مدينة السحر والعلم، ها هي ذي تفتح أبوابها للإسكندر، ويباركه كهنتها، ويطوي الملك الشاب المراحل إلى سوس واصطخر حاضرتي الفرس، لا يصمد لمدينة إلا فتحها، ولا يعمد لجيش إلا مزقه.
تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء بإسكندر إلى ما وراء النهر في طريقه شطر الهند، بعد أن طرد دارا، حتى عثر به في الطريق قتيلًا.
إسكندر العظيم في مدينة سمرقند عام سبع وعشرين وثلاثمائة، وقد طوى المراحل والممالك، ما بين مقدونية ونهر سيحون، ينعم هنالك بالشباب والظفر، والملك الفسيح، والكنوز التي لا تحصى، والجند الذي لا يعد. إسكندر الآن أعظم ملك في العالم كله.
٢
ويدعو أصحابه وقواده إلى مأدبة في سمرقند، فيأكلون ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادوا، ثم تترع للملك المظفر كئوس من الإطراء والإعجاب والإجلال والإكبار، ويغلو المتملقون المعجبون، فيرفعونه فوق الأبطال جميعًا، ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون إلا عن نسب إلهي، بل يرفعونه إلى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب في إعظام مآثره، والإعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل لنفسه ما نال أبوه من ظفر في آخر عهده، ويغض من فيليب وإن كان أباه!
يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم لا ينبسون، و«كليتوس» رابض ينظر إلى إسكندر ومادحيه ساخطًا محملقًا. كليتوس أحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق القديم أخو «لانيس» حاضنة إسكندر التي قُتل اثنان من أبنائها تحت رايته، كليتوس الذي نجَّى إسكندر في معركة كرانيكوس حين أبصر فارسيًّا يهوي بسيفه إلى الملك من خلفه، فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك. كليتوس هذا لم يستطع صبرًا على الغض من فيليب، قال كليتوس: ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد الحاضرين؟
إن فيليب كان عظيمًا، ثم تأخذه الحدة فيقول: «ليست مآثره دون مآثر ابنه. لا، إن مآثره لأعظم؛ فقد خلق الرجل لنفسه ملكًا وجيشًا، وإنما صُلْتَ أيها الملك بما أورثك فيليب، من ملك ممهد، وجند مدرب. إنما ظفرت بفضل هؤلاء المقدونيين الذين تحقِّرهم اليوم، وتُقدِّم الفرس عليهم، ألم تقتل برمينيون العظيم؟»
هاج الحاضرون وقذفوا كليتون بالجدل والتوبيخ، وثار ثائر إسكندر الفتى الفاتح، الذي سخر ملك مصر وبابل وآشور وفارس، إذ قرعت أذنه لأول مرة نبأة ناقد يعترض كلامه، ويرد عليه دعواه. غضب إسكندر وصاح بكليتوس يزجره ويجادله. وانحاز الحاضرون للملك المُعجب بنفسه، وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائمًا ويصيح مادًّا يده إلى الملك: «اذكر أن حياتك دين لهذه اليد التي نجَّتك يوم كرانيكوس، وأصخ لصوت الحق الصراح، أو تجنب دعوة الأحرار إلى مأدبتك واختص العبيد بصحبتك!»
اهتاج إسكندر لموقف كليتوس، ولذكرى كرانيكوس وبرمينيون، فنهض يتحسس خنجره، فإذا الخنجر بعيدٌ قد نحاه أحد الحاضرين، فينادي الحرس مغضبًا هائجًا، ويأمر أن ينفخ في الصور إيذانًا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان.
ويتقدم إسكندر تلقاء كليتوس، ولا يجرؤ القواد أن يقفوه قسرًا، ثم ينقض كالصاعقة فينزع حربة من أحد الجند فيغمدها في صدر كليتوس صديقه القديم!
٣
يرتاع الحاضرون ويفيق إسكندر من نشوته وثورته وعنجهيته فيفتح عينيه فإذا كليتوس طريح يضطرب في دمه.
خرج إسكندر من البهو يعدو إلى فراشه، فارتمى عليه ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ويبكي بدموع عزَّت على الخطوب الشداد، وغلَت في الحوادث السود، ويتمادى به البكاء، وكلما كفكف دمعه تمثَّل له صديقه طعينًا، فيلعن نفسه نادمًا، ويهتف باسم كليتوس وأخته لانيس، ثم يقول: «ويلي! أنا الغادر الكنود؛ لقد جزيت كليتوس ولانيس شرًّا بما أحسنا إليَّ، لست بعد اليوم جديرًا بالحياة.»
ويجتمع إليه صحبه يعزونه، ويسوغون ما عمل، فلا يزداد إلا حزنًا واكتئابًا، وندمًا وأسفًا، ويجتمع الجند المقدونيون فيُجمعون على أن كليتوس قُتل بحقه، وأنه ينبغي ألا يدفن، فيغضب ويقول: كلا، إنه سيدفن بأمري.
ويأتي الكهنة فيقولون: إن الملك لم يقتل صديقه بيده، ولكنها نقمة من الإله «ديونسوس» أجراها الله على يد الملك انتقامًا لنفسه بما حُرم القربان في هذه المأدبة، ثم يأتي الفيلسوف «أنكشر خوس» فيقول: أيها الملك، إن الذي أنت فيه لعجز. إنك أيها الملك العظيم، والفاتح القاهر، لجدير بأن تُحلَّ وتُحرمَ، وتحق وتبطل بإرادتك، لا أن تخضع للقوانين التي سنَّها الناس، ثم يأتي كلستنوس الفيلسوف فيجهد أن يهون على الإسكندر ما فعل.
•••
فارق إسكندر مضجعه بقلب كليم إجابةً لنصحائه، وإجابة لواجبه في هذه البلاد النائية، ولكني أحسب الجرح قد ذهب مع إسكندر إلى قبره!
إسكندر العظيم لم يعظم عليه مطلب، ولا بعدت على همته غاية، ولا ثبتت في طريقه دولة، ولا وهن قلبه في سلم ولا حرب، ولكن إسكندر الفاتح القاهر، والملك المسلط، لم يحمل وخزة واحدة من وخزات الضمير؛ فخرَّ كالطفل يبكي ويتململ، وكاد يبخع نفسه فرارًا من الندم!