سعيد بن جبير١
سيف الحجاج مصلت يرعد، وينذر ويتوعد، ويحكم في الرقاب فلا معقب، وقد جلس الحجاج مجلس بؤسه، وأدار أفلاك نحسه، وهو من تمرس بالشدائد حتى هانت عليه، وشهد القتل حتى ما يبالي به، ساعة صرح فيها الشر، وكشرت المنية، وحسبك ببطش الحجاج الذي يوحي إلى كل قلب رعبه، ويقض على القريب والبعيد مضجعه.
رأى كل أسير أن في الإقرار فرجًا، وفي التعريض لمن يأبى التصريح مخرجًا؛ سئل الشعبي فقال: أصلح الله الأمير! نبا بنا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بَرَرَة أنقياء، ولا فَجَرَة أقوياء، وسئل مطرف بن عبد الله فقال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر.
وأنت يا سعيد بن جبير! إن لك في القوم أسوة، ولك في القرآن رخصة. هذا سيف الحجاج ونطعه، وذاك جبروته وبطشه. الحجاج من لا تأخذه هوادة، ولا ينثني إذا اعتزم، فأبقِ على نفسك بكلمة؛ كلمة لا تضيرك في دين ولا دنيا. تقدَّم فصرِّح بالكفر مكرهًا، أو فعرِّض؛ فإن في المعاريض متسعًا. لا تتردد؛ فإن سيف الحجاج لا يمهل، ولا تبطئ؛ فإن الحجاج لا يؤامر.
لا لا، سعيد يأبى، سعيد يصمم أن يقول ما يكنه فؤاده: سعيد يربأ بنفسه أن تعرض في الحق، سعيد يحقر الحياة، ولا يرهب الموت، سعيد لا تأخذه في الله رهبة.
ويحك يا سعيد! إنهم ينادونك، فالله في نفسك وأولادك والعلم الذي في صدرك، إن الأمر لأهون من أن تُقتل فيه، فالآن فاختر: إما الحياة وإما الموت.
يتقدم سعيد مزدريًا بكل شىء إلا الحق، يَمثُل سعيد بين يدي الحجاج، سئل: أتقر على نفسك بالكفر؟ فقالها كلمة أكبر من الحجاج وأعوانه، وعبد الملك وسلطانه، وأكبر من كل جبروت في الأرض، قالها ليشتري الحق ويبيع الحياة. أجاب سعيد ساخرًا بالجنود والأعوان، والسيف السلطان، قد ملك عليه الحقُّ عقلَه وقلبَه ولسانَه.
قال: «ما كفرت بالله مذ آمنت به.»
هوى رأس سعيد عن جسده، قذف سعيد برأسه في وجه الجبروت، وقدَّمه ثمنًا للعقيدة والإباء.
سعيد بن جبير لم يذله مطمع، ولم يملكه خوف، ولا أزرى به ملق، ولا طأطأ رأسه لجبروت، ولكنه كره الحياة، ورغب في الموت؛ ليقول ما يعتقد بين السيف والنطع. فاعتبروا يا أولي الأبصار.