الربيع١
دار الفلك دورته، وعاد سيرته، فسرت في أعصاب الأرض هزة الحياة، وتفجرت عروقها بالمياه، وسالت قمم الجبال جداول وأنهارًا، واشتعلت الأرض أزهارًا وأشجارًا.
قد صرَّحت الأرض بمكنونها، وأبانت الحياة عن ضميرها، فنبتت معاني الحياة والجمال في ألفاظ من الأوراق والنوار.
ونفخت أنفاس الربيع الحرَّى الحياة في كل ذرة، فأخرجت قواها أعشابًا وأزهارًا، فرقتها ألوان، وألفتها معان.
أي مسرح للفكر، وأي مجال للخيال، وأي مراد للطرف!
والفَراش قلق بين النوار، هائم بين الأزهار، لا يقر له قرار، كأن كل فراشة زهرة طائرة، أو قُبلة بين الأزهار حائرة، أو نغمة في جمال الروض سائرة!
والشعراء ينافسون الطير على الأيك طربًا وتغريدًا، وفي المرج تسبيحًا وتحميدًا، تنبجس في جوانبهم ينابيع البيان، وتتفتح سرائرهم على أزهار الشعر؛ ففي كل قلب ربيع، ومن كل قصيدة روضة، وفي كل معنى زهرة، وعلى كل قافية نضرة.
هكذا تفيض الحياة على الجماد والنبات والحيوان، وينتظم الجمال الخليقة والإنسان، كأنما العالم كله فكرة واحدة، أو قصيدة خالدة.
ذلكم الربيع الذي فتن الناس، فافتنُّوا في وصفه والإبانة عن محاسنه، والإشادة بذكره، والاحتفال بمقدمه، فاتخذته الأمم على اختلاف المذاهب عيدًا، ومجَّدته بشتى الوسائل تمجيدًا، وأولع به الشعراء في كل قبيل، ولم يخلُ من المفتونين به جيل.
والناس في مصر ربيع دائم، من أرضهم وسمائهم، وزرعهم ونيلهم، فهم لا يحسُّون مقدم الربيع إلا قليلًا. ولو أنهم عرفوا كلَب الشتاء، وانجماد الهواء، وقشعريرة الأرض وقسوة السماء، ورأوا كيف تموت الطبيعة في زمن، وتلتف من الثلج في كفن.
ثم شهدوا كيف يأتي الربيع، فيكهرب كل ذرة، ويفيض كل عين ثرة، ويخلق كل نضرة — لاحتفوا بالربيع، وعرفوه يقظة بعد هجود، واشتعالًا بعد خمود، ورأوا فيه النشور بعد الموت، والإدراك بعد الفوت.
على أن للربيع في مصر دقائق يُسرُّ لها الإنسان، وشِيات يدركها الشعراء في كل زمان.
جاء الربيع فليت في كل قلب من صفائه قطرة، وفي كل نفس من جماله زهرة، وفي كل خلق من عبيره نفحة؛ لتعمر النفوس بمعاني الحياة، وتستنير بأشعة الجمال، ويسكن الناس إلى السعادة حينًا، وينسوا أساليب العداوة والبغضاء زمنًا. وليت الناس جروا مع الحياة طلقها، ولم يفسدوا على الطبيعة خلقها، فأنبت الربيع في كل قسوة رحمة، وفي كل يأس أملًا، وفي كل حزن سرورًا، وفي كل ظلام نورًا. ليتهم اجتمعوا على ورد الحياة متصافين، كما ترفُّ على جداول الربيع الرياحين.