الوطن١
تربتك وماؤك، وأرضك وسماؤك، منه نشأت، وإليه إن كنت سعيدًا تعود، أول ما أحسست من الحياة، وأبصرت من الضياء، ونشقت من الهواء، وسمعت من الترنيم والغناء، وعرفت من الفرح والبكاء. مرحت طفولتك مع طيره، في زرعه وشجره، ورتع صباك في بره وبحره، وسهله ووعره، وحره وقرِّه، وشمسه وقمره، فهو روحك وجسمك، وحسك وعقلك، وحقيقتك وخيالك، وذخائرك وآمالك. كدحت يدك في مادته، وسبح فكرك في معناه، واستنزلتَ الوحيَ من سمائه، وأطرت الخيال في هوائه، ورأيت غِيَر الحياة في أرجائه، بين صباحه ومسائه، وضيائه وظلمائه، ورعيت الجمال في جناته النواضر، ونجومه الزواهر، وفي زروعه وأشجاره، وجداوله وأنهاره، واستمددت من شمسه القوة والعمل، ومن قمره جمال الخيال ونضرة الأمل، وعرفت معاني الحياة في مشارقه، وأدركت أسرار الفناء في مغاربه.
كتاب آبائك المفتوح لك، وصحف أجدادك المُنَشَّرة أمامك، تقرأ فيها عزك وهُونك، وأفراحك وشجونك، وأنت فيها سطر مقروء غدًا، يراه الخلف رديئًا أو جيدًا. حقب أنت إحدى ساعاتها، وسلسلة أنت من حلقاتها. حي أنت فيها وكنت من قبل حيًّا، وستحيا وإن كنت في رمسك مطويًّا، تقول: «فعلنا» وقد فعل آباؤك القدماء، و«سنفعل» وإنما تريد أن يفعل الأبناء، قرآنك المتلو على الدهور، وأدبك تقرؤه الأجيال بين منظوم ومنثور، وموسيقى وضعت لك ألحانها، وأناشيد تخاطبك قوافيها وأوزانها، وتهيب بك أفراحها وأشجانها، ليس بأمانيك تحبه أو تقليه، ولا باختيارك أن تنام عنه أو تسهر فيه، فأنت فيه قد خلقت، ولنصرته قد طبعت، وليس في قدرتك أن تبدأ الخليقة، أو تنقض السليقة.
أنت فيه عَلَم وفي سواه نكرة، ووجهك في مغانيه صورة محبوبة، وفي غيره خلقة منكرة، وصوتك في منازله نغمة مألوفة، وفي غير همهمة منفرة. وأنت في سواه حرف لم يركب فهو غير مقروء، ولفظ يعثر به اللسان فهو جد مشنوء، وصفر لا على يمين ولا على يسار، لا يدخل في حساب المجد ولا العار، لو لم تكن منبوذًا لقلت: رقعت بالية في ثوب أجد، ولو لم تكن خفيًّا لقلت: شعرة بيضاء في ثور أسود.
•••
مصر التي برزت خضراء في صحراء، وجرى نهرها بين جناتها كالمجرة في السماء، وظهرت بين الرمال، كما تلوح في اليأس الآمال، أو كما ينبثق الفجر من الظُّلَم، ويرف الزهر على الصخر الأصم، ينبوع في مجاهل، وورد بين السباسب عذب المناهل.
مصر التي طلع فيها فجر التاريخ فأضاء، وكشف بها عن المعارف أول غطاء، وأنشد الدهر على نيلها أنشودة الفخار الأول، وألقى المجد فيها رحله ثم لم يتحول، وانفجر فيها ينبوع العلم فعم، فنهلت منه سائر الأمم، وانقدحت منها شرارة المعرفة فكانت نارًا، فعشَتْ إليها الأمم الحيارى.
مصر التي أعجبت في القديم والحديث، وراقت ماضية وحاضرة، ألم تر كيف رسا هرمها على الزمن، وثبتت قواعدها على الفتن، وبقيت كما كانت مدهشة السر والعلن؟ هرمها طاول الدهر فطاله، وصارعه الزمن فما أماله، صرح رهبته القرون، وعي ببانيه ريب المنون، فالقبور التي هي سطور الفناء، تقرأ فيها آيات الخلود والبقاء. ترى فيها الحياة جامدة، وتحس فيها اليقظة هاجدة، وتتبين منها شعلة النبوغ وهي هامدة، كتمتها الأرض حينًا ثم لم تستطع صبرًا، وضاقت بسرها العظيم صدرًا، وابتلعها الزمان فلم يستطع لها هضمًا، فلفظها رائعة كما كانت قدمًا، فيا لك من موت أدل على الحياة، وفناء أشبه بالبقاء، وهمود أقرب إلى الخلود!
مصر التي جرى نيلها بياضًا في ظلمات الأيام، وسطرًا تترنم به الأعوام، مرآة للتاريخ لها من جنات مصر إطار، وسيف للحق قَلْبُ الظلم منه مستطار، كم أنبتت بشاطئيه أممًا زاهرةً، ومدنًا عامرة، وجنات ناضرة! فقابل السماء بأبهى من نجومها، وأنفذ من رجومها، رأت الشمس وجهها فيه فتاة وشمطاء، وشبت النجوم ترى صورتها في الماء، وظهرت المجرة صورة له في السماء. سقى القرون الخوالي ولم ينضب، وكتب عِبَر الأيام بمداده فلم ينفد، تدفق كالقدر من الأزل إلى الأبد فياضًا هدارًا، معطاءً مكثارًا.
هو يا ابن مصر حياتك وعزك، وقد كتب به مجدك وفخرك.
يا بني مصر الحديثة، لا تكن آثاركم على عِبْري النيل أردأ خطًّا ولا أقبح سطرًا، فإنما تلكم الحقب الموروثات، والآثار الخالدات، وديعة الأمم الخالية، وميراث القرون الآتية؛ فتقدموا للعمل بقلوب ملؤها الإيمان والأمل، ورءوس ملؤها الحكمة والروية، وأيد ملؤها النشاط والقوة، واحذروا غضب الله، ولعنة الخلف، وحكم التاريخ.