يا ليل
يبتلع الظلام أشعة الشمس المرسلة من وراء الأفق كأنفاس المحتضر، ويغطي الرماد جمرة الشفق، فلا يبقي ولا يذر، ثم أطبق الظلام، ومحت آية الليل آية النهار، والأرض هاجعة تشكو اللغوب، وتعد على الناس الذنوب، والسماء من عليائها ناظرة، كأنما النجوم عيونها الحائرة.
يا ليل قد استتر الناس وتقطعت قيود العادات، فظهرت كل نفس على حقيقتها، وأعلنت بما في ضميرها، وظهرت الإنسانية بخيرها وشرها.
فكم في طيات الظلام لصوص مسخت ذئابًا، واتخذت من السلاح مخالب وأنيابًا، تروع الآمن في سربه؛ لتحول بين الكاسب وكسبه؛ كل دم دون مآربهم مطلول، وكل جريمة في سبيلهم هينة! وكم يا ليل من مضطغن يضطرم الحقد في قلبه، ويئز كالمرجل صدره، يخرج به الانتقام في أحشاء الظلام! وكم يا ليل من فاسق دلف إلى مأربه، وأكب على شهوته، وكم أيها الليل وكم قد انتشر جندك الشرير كما ينساب في الغاب وحشه وحشراته!
وكم عابد صف في محرابه، لعينه سكيب، ولقلبه وجيب، وصل قلبه بربه، وعقد لسانه بذكره، قد أنار له الظلام الطريق إلى مولاه، بعد أن هدأت عنه ضوضاء الحياة، وأسمعه السكون صوت الحق، بعد أن فرغ من ضوضاء الخلق، وأوت إليه نفسه في أعماق الظلماء، فإذا جسم في الأرض وقلب في السماء، وإذا هو وربه ثم العالم هباء!
يا ليل والمضطجعون في مراقدهم طار بهم الخيال، وسرت بهم الأماني والآمال، فمنهم المتمني خيرًا، ومنهم المتمني شرًّا، وذو الفكرة الشريفة، وذو الرغبة الخسيسة.
يا ليل، حتى النائمون يغمضون أجفانهم عن عالم العمل؛ ليفتحوها في عالم الأمل، انبعثت بهم الأحلام الهائمة، والأفكار النائمة، فشهدوا الشقاء والنعيم، والفقر والغنى، والنجاح والخيبة. ورب حلم أصدق من العيان، ونوم أقرب إلى حقيقة الإنسان.
يا ليل، أنت الإنسانية خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وأمانيها وآمالها، وحقائقها وخيالها.
أنت يا ليل الإنسانية المجردة، يكسوها النهار ثوبًا من الرياء، وأنت الحقيقة الرائعة، يزيفها في النهار الضياء.
يا ليل أنت الحقيقة المظلمة، وما النهار إلا كذب مضيء.