ذكرى الهجرة
١
يدور الفلك دورانه، ويجري الزمن جريانه، وتكر الحادثات والعبر، وتسير الأمور على قدر، ويطرد نهر الحياة في مجراه بين الأزل والأبد، والناس قوافل مجهودة تضرب في بيداء مجهولة، قد اشتبهت عليهم الأعلام، وانبهمت الغايات، لا يبلغون مدًى، ولا يقيمون على منزل إلا ريثما يُعِدُّون للمسير، ويتزودون للرحيل، مسير لا يفضي إلى نهاية، ومنازل لا تنتهي إلى غاية. إنما الغاية هذا الدأب المستمر، وهذا الكد المستحر.
والأعوام مراحل في هذا الطريق الأبدي، ومنازل في هذا السفر السرمدي، وقصارى الناس أن يقفوا كل عام وقفة لينظروا إلى الماضي فيقولوا: فعلنا ولم نفعل، ويتطلعوا إلى الآتي فيقولوا: نخاف ونأمل، يحمدون الإنجاح، ويأسون على الإخفاق، ويرجون الخير، ويشفقون من الشر.
وليس الناس سواء في سبيل الزمان، وتيار الحدثان: منهم الضعاف المغلوبون، والعبيد الخانعون الذين تصرفهم الحادثات كما شاءت، ويجري بهم التيار أنَّى توجه، لا يستطيعون ثباتًا ولا دفعًا، ولا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، كالغثاء يسيل به الماء، إن سُئِلوا: لم فعلتم؟ قالوا: سلطان الزمان القاهر، وإن قيل: لِمَ لا تفعلون؟ قالوا: العصر القاسر.
ومن الناس الأباة الأحرار، أولو الألباب والعزائم الذين تثبتهم عقولهم وقلوبهم وهممهم، فيقومون المقام الذي يرضون، وينهجون النهج الذين يريدون، يسخرون بالزمان وسلطانه، والعصر وحكمه، يمهدون الطريق للخير، ويسدون الطريق على الشر، ويقفون في مجرى الخطوب كالصخرة في مجرى السيل يجيش الماء حولها ويزبد، ويصدمها فينشق عنها، ويمضي وهي مكانها راسخة، ويثبتون كالسد في النهر يحبس ماءه ويصرفه عن وجهته.
هؤلاء أحرار يُعبِّدون الزمان ولا يُعبدهم، ويصرفونه ولا يصرفهم، ويسيطرون على العصور ولا تسيطر عليهم، بل هم يخلقون العصور والأجيال، ويذللون الزمان والمكان، لا يعتلُّون بسلطان الزمان وحكم العصر، ولكن يحتجون بالحق والخير، شاء الزمان أو أبى، ورضي العصر أم سخط، كأنما إرادتهم وعزائمهم وحي الله وسلطان القدر. لهم كل حين قول سديد، وعمل جديد، وجهاد في الحق، ونصرة للخير. ورب فرد من هؤلاء قد خلق جيلًا وأنشأ أمة، وبدَّل عصرًا بعصر، وزمانًا بزمان.
٢
والمسلمون ما مقامهم اليوم في حكم الزمان، وما شأنهم في مجرى الخطوب؟ إنهم في ذلك فرق شتى: فريق راعته الحادثات، وبهرته النائبات، ودهمه التيار الصاخب، فجرى معه راضيًا به أو مقهورًا عليه، أو يائسًا من مغالبته، أو استهوته الفتن، وسحرته الزخارف، ومال به الهوى، فأعطى العصر عقله وقلبه، واندفع يمرح ويلعب، ويستمتع جهد هواه وشهوته وفتنته. وإن حاججته اعترف بضعفه ويأسه، وخنوعه وذله، أو لقيك بملء هواه وفمه من حجج واهية، وآراء مأفونة، تدل في جملتها وتفصيلها على أنه مغلوب على أمره مسحور، لا يثبِّته عقل حر، ولا نفس عزيزة، ولا قلب همام.
ومن المسلمين فريق هالهم العصر الجديد، وأخافتهم فتنته، فأرادوا أن ينجوا بأنفسهم ودينهم بأن يجتنبوا هذا التيار، وينتبذوا من هذه الحادثات مكانًا قصيًّا، وأولئك لم يجاهدوا، فلم ينتصروا ولم يهزموا. وإن مد البحر مدة لحقهم، وإن سال السيل بهم مرة جرفهم، بأنهم لم يعدُّوا للحياة عدتها، ولم يتخذوا للحوادث سلاحها، والأعزل في هذا المعترك مغلوب، والغافل في هذا الخضم غريق.
وفريق آخر من المسلمين لم تجرفهم الحادثات، ولا فروا منها، ولم تفتنهم الفتن، ولا بعدوا عنها، بل هم في مجرى الخطوب ثابتون، وفي معترك الفتن سالمون، عُدَّتهم عقول درَّاكة لا يشتبه عليها الحق والباطل، ونفوس أبيَّة لا تريم مكانها من العزة والكرامة، وعزائم هي كفاء الخطوب المدلهمة، والجهاد المديد. أولئك وثقوا بعقولهم وهممهم ودينهم وتاريخهم وسننهم، يغالبون الحادثات ويشقون فيها طريقهم إلى غايتهم، ويمكنون لحضارتهم وأخلاقهم في هذه الأرض، لا يخشون قوة ولا يعرفون زمانًا قاهرًا، ولا عصرًا غالبًا. قد سموا بأنفسهم فوق الجديد والقديم، والماضي والحاضر، والشرقي والغربي، يأخذون ويتركون مختارين، ويأمرون وينهون على هدى وبصيرة، لا استسلامًا للفتنة وخنوعًا للزمان، ولا عصبية للقديم وغمطًا للجديد.
وهؤلاء الأباة الأحرار والعقلاء الأخيار يجدون في تاريخهم ما يهون عليهم الخطوب، ويذلل لهم الأهوال، ويعصمهم أن يضلوا، ويربأ بهم أن يستكينوا ويذلوا؛ فما تزال تتنزل عليهم من هذا التاريخ العزة والإباء والكرامة، والثبات في الحق، والجهاد في الخير، والتكبر على الأهواء، والتنزه عن الدنايا. ما يزال تاريخ الإسلام يوحي إليهم العظمة بالحق، والسيطرة بالصدق، والصبر لكل نازلة، والظفر بعد الصبر، والعدل بعد الظفر.
ما يزال تاريخ الإسلام يجلو العزائم كلما صدئت عليها المصائب، ويضيء الآمال كلما دجت عليها الكوارث، ويحرر النفوس كلما همت الرغبة والرهبة أن تستذلها. ولولا هذا الوحي المستمر من هذا التاريخ المجيد ما استطاع مسلم أن يثبت في هذه الفتن، ويصبر على هذه المحن، ويرى الصبح في أعقاب هذا الليل، والظفر وراء هذه النكبات.
وإن الهجرة — هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة — لميلاد عصر جديد عزَّ فيه الحق وغلب الخير، وسيطرت الحرية، وخلص الإنسان من سلطان الضلال، وتحكُّم الباطل، وذل العبودية لسادته وأهوائه وشهواته.
إن الهجرة لمبدأ تاريخ عرفت فيه الإنسانية من معاني الحق والخير والحرية ما لم تعرف في غير هذا التاريخ. وما يزال هذا التاريخ علمًا مرفوعًا للفضائل والخيرات تنحاز إليه في عصور الرذيلة والشر، ما يزال علمًا مرفوعًا للأخوَّة في أزمان يتناحر فيها البشر في كل حين، وتقتتل الأمم في كل بقعة، والمذاهب في كل أمة، والفكر في كل نفس.
فيا أيها المسلمون لا يهولنكم ما يحيط بكم، واتخذوا من الهجرة عيدًا يلد في كل نفس معاني من العزة والحرية تثبت بها في هذا الجهاد، ومعاني من الحق والصدق تعيش بها على هذه الأرض، ومعاني من الخير والبر يسعد بها الناس. استوحوا الهجرة كل معنى كريم يؤهل للحياة الكريمة، وكل خلق فاضل ينشئ الأمة الفاضلة، وكل خلق يجعل الإنسان إنسانًا حرًّا، عزيزًا، برًّا، خيرًا، لا عبدًا ذليلًا ولا وحشًا مفترسًا.
ألا إنكم أولى بالحق والخير، والمجد والكرامة، وأجدر بحمل أمانة الإسلام، وتبليغ رسالة محمد؛ فافعلوا وإلا فلستم أهلًا للانتساب إلى الإسلام دين الحق، ومحمد نبي الإنسانية.