تأسيس (١)
لا مراءَ أن شخصية النبيِّ إبراهيم عليه السلام، تُعدُّ واحدةً من أهمِّ الشخصيات في التاريخ الديني؛ فقد بلغَ هذا النبيُّ منزلةً لا نزاعَ حولها في الأديان الكبرى الثلاثة، التي أفرزتها المواطنُ السامية شرقِيَّ المتوسط؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، وتوطئة للبحث وراء ارتحالات النبي إبراهيم عليه السلام، والتي أدَّت — حسبما يُخبرنا به التاريخ الديني — إلى نشوءِ علاقاتٍ بينه وبين أهلِ المنطقة، وما تبِعَ ذلك بالضرورة من تفاعلٍ جدَلي في الفكر والثقافة والمعتقدات، نُهيِّئ السبيل برؤية مكثَّفة وموجزة، لوضعِ النبي إبراهيم في الديانات الثلاث.
-
فهو عند العبريين: أهمُّ الآباء الأوائل للشَّعب العبري، وهو أبٌ لسلسلة من الأبناءِ كانوا
جميعًا ذوي علاقة حميمةٍ بالإله، وأنه يعود بموطنِه إلى مدينة «أور
الكلدانيين» على شاطئ نهر الفرات، وأنه قد هاجرَ من موطنِه «أور UR» في العراقِ القديم، على رأس قبيلتِه يبغي
الذهاب إلى أرض كنعان، المفترض أنها أرض فلسطين الحالية، وأنه في كنعان
التقَى بربه، وهو الربُّ المعروف في التوراة بالاسم «إيل» أو «إل» — وإليه
تُنسب الأسماء مثل جبرائيل وميكائيل وإسرائيل وإسماعيل … إلخ — ويفترض
الباحثون أنه أصلُ لفظِ الجلالة في اللغة العربية «إله – ألله».
وتذهب التوراة إلى أن الربَّ «إيل» قد اتَّخذ من النبي إبراهيم خليلًا «خل – إيل» ومن ثم أقطعَه ونسلَه من بعده أرض كنعان خالصةً لهم، أو بنصِّ التوراة:
وقال الربُّ لإبرام: ارفعْ عينيك وانظر إلى الموضع الذي أنت فيه، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ لأن جميعَ الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها، ولنسلِك إلى الأبد.
سفر التكوين ١٣: ١٤، ١٥ونص آخر يقول:وأعطي لك ولنسلك من بعدك «أرضَ غربتك»، كل أرض كنعان، مُلكًا أبديًّا، وأكونُ إلههَم.
سفر التكوين ١٦: ٨والواضح في هذه النصوص — ومثلها كثير في التوراةِ المتاحة الآن — أنَّ النبي قد جاء أرضَ كنعان غريبًا عنها «أرض غربتك» بقصد استيطانِها، وعندما وصلها، منحها له رب التوراة «إيل».
ومع متابعة النص التوراتي، نجد «إيل» يوسِّع على خليله، ويزيدُ من مساحة الأرض المقطعة للنسل الإبراهيمي، وفق ميثاق وضعت فيه حدود الأرض، ونصه:وفي ذلك اليوم، قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر، إلى النهر الكبير نهر الفرات.
تكوين ١٥: ١٨وتمَّ توثيق هذا العهدِ حسبَ الرواية العبرية بين «إيل» و«إبراهيم» بعلامةٍ شاهدة، وخاتم لا يُمحى١ أصبحَ فيما بعد منسكًا وفريضة على كلِّ يهودي، هو الختان، وقد جاء ذلك في النصِّ القائل:وقال الله لإبراهيم: أما أنتَ فتحفظ عهدي بيني وبينكم، يختتن كلٌّ منكم، كل ذكر، فتختتنون في لحم غرلتِكم، فيكون علامةَ عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا.
تكوين ١٦: ٩–١٣وبموجب هذه المجموعة من الحيثيات، فإنَّ التوراةَ قد وضعت للقبيلة العِبرية عدةَ قواعد: أهمها أن النبي إبراهيم هو أب العبريين جميعًا، وأنهم تحدَّرُوا من صُلبه خلفًا عن سلف، وأنه تمكَّن بصداقتِه للرب «إيل» أن يضمَن لهم أرضًا خاصة، لم تكن أرضهم أصلًا، إنما وفدوا عليها، وأن الشاهدَ على صِدق ما حدث هو بصمةُ الختان، التي وثَّقت العقد، حتى أمسَتْ هذه العلامة البدنية مصدرَ اعتزاز لكلِّ يهودي، وبحيث عدُّوها نيشان شرَفٍ يتميَّزون به على العالمين.
-
وهو عند المسيحيين: لا يقلُّ رتبةً عنه عند اليهود؛ لأن إنجيل «متَّى» يقرر أن إبراهيم هو
الجدُّ الأعلى ليسوع المسيح، ومتَّى يصفُ إنجيله من البداية: أنه «كتاب
ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم متى ١: ١». ولوجه الحق فإن ما يستعصي
على الفهم هنا هو: كيف يتَّفقُ أن يكون المسيح من نسل إبراهيم، مع جوهر
الاعتقاد المسيحي وأساسِه الأول. والمعلوم أن المسيحية تعتبر يسوع المسيح
إلهًا ليس له أبٌ بشري، وإذا حاولنا التملُّصَ باحتساب هذه الأبوة
الإبراهيمية للمسيح، إنما تأتي عن طريق أمِّه «مريم»، فإن الإنجيلي «متى»
لا يترك لنا هذه الفرصة، فيؤكِّد الأبوةَ الإبراهيمية ليسوع المسيح عن
طريقٍ آخر، ويرصد لذلك سلسلة مِن نسبِ الأبناء والأحفاد، تمتد من إبراهيم —
مرورًا بداودَ وسليمان — حتى تصلَ إلى «يوسف النجار» الذي يصفُه بأنه «رجل
مريم التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح».٢وتأسيسًا على ذلك فإنَّ إبراهيم هنا سيكون أيضًا أبًا لكل المسيحيين؛ لأن المسيحيين، حسَب العقيدة المسيحية، إنما هم جميعًا أبناءٌ ليسوع المسيح، وذلك عن طريق الإيمان به، وبموته على الصليب، وبقيامتِه، وبأن لاهوته لم يفارق ناسوته ولا لحظة واحدة٣ ومن هنا كان نداؤهم الجهير: «أبانا الذي في السماوات»، وعليه فإن جميع المسيحيين أبناءٌ لإبراهيمَ عبرَ الإيمان بحفيده يسوع.
ومن ثم تصدق المسيحية بالروايات التوراتية حول خروجِ النبي إبراهيم من «أور الكلدانيين» إلى أرضِ فلسطين الكنعانية، فيقول سفر أعمالِ الرسل الإنجيلي: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيمَ قبلما سكن حاران، وقال له: اخرج من أرضِك ومن عشيرتِك، وهلمَّ إلى الأرض التي أريك، فخرج من أرض الكلدانيين وسكَن في حاران، ومن هناك نقله بعدما ماتَ أبوه إلى هذه الأرض، التي أنتم ساكنون فيها» (٧: ٢–٤).
- وهو عند المسلمين: خليل الله النبي الكريم، أب الأنبياء جميعًا، فقد انحدَرَ من صُلبه سلسلة من الأبناء والأحفاد، وأحفاد الأحفاد، يحملون بذرةَ النبوة، ومن ثم كانوا سلسلة من الأنبياء، وهو ما تشير إليه الآيات القرآنية دون لَبس، وذلك في قوله تعالي: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ (العنكبوت: ٢٧)، وهو في الآيات خليل الله وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (النساء: ١٢٥)، أما الأهمُّ من ذلك كله، فإنه كان غريبًا على بِلاد العرَب.٤ ومع ذلك فقد نالتْ هذه البلاد من نسلِه نصيبًا، بعد أن زارهم وترك فيهم ولده إسماعيل، ثم عاد إلى زيارته في بلادِ العرب الحجازية بعد يُفوعه، حيث قاما بإعادة بناء البيت الإلهيِّ «الكعبة» في مكة الحجازية، والذي كان مقدَّسًا لدى عرب الجاهلية قبل الإسلام، وقد أوضحتِ الآيات ذلك بقولها: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (البقرة: ١٢٧)، لكن ربما كان أخطر ما قرَّره القرآن الكريم بشأن النبي الخليل، هو أنه المؤسس الأول لملة الإسلام، وإعلانه السَّافر والمتحدي: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران: ٦٧).
وبذلك قطع القرآن الكريم بشأنِ النبي إبراهيم، وقصتُه في القرآن الكريم معروفة، لا تحتاج إلى مزيدِ شرحٍ أو تفصيل، إلا أنَّ الأمر فيه إشكالية دعتْ إلى بحثنا هذا «وربما إشكاليات»؛ فالتوراة تصرُّ من جهتها على الصمتِ المطبق إزاءَ ما أعلنه القرآن الكريم حول علاقة النبي إبراهيم ببلاد العرب الحجازية، فلم يرِدْ لهذا الأمر أي ذكر في التوراة المتاحة بين الأيدي اليوم، وهو بحدِّ ذاتِه مدعاة للتقصِّي إزاء ما ورد في الإسلام عن علاقات حميمة وأساسية وجذريَّة للنبي إبراهيم بجزيرة العرب وديانةِ الإسلام، خاصةً مع عِلمنا أن التوراة قد انتهتْ كتابتها قبل تسعة قرون من الميلاد في بعضِ أسفارها، في أبعد تقدير وقبل قرنٍ واحد من الميلاد، في أقرب تقدير لأسفار أخرى؛ بمعنى أنها قد حازتْ في معارف الإنسان قصبَ السبق، مما يدعو للوقوف مع مسألةِ هبوط النبي إبراهيم عليه السلام بلاد الحجاز، وجهل التوراة بهذا الأمر، بغرض الوصول إلى المصداقية، حسب مقرَّرات المنهج العلمي، وما تتطلبه شروط هذا المنهج الصارمة من قرائنَ وأدلة، لدعم الرؤية الصادقة. ومن هنا سنضطر إلى التأني مع قصة التوراة عن الخليل، وبحثها بحياد العلم، عَلَّها تكشفُ لنا في الأمر أمرًا، وهذا بحدِّ ذاتِه سبيل وعر، وعروج محفوفٌ بالمحاذير والصعوبات، وربما كان قطع القرآن الكريم في الأمر مدعاةً للتساؤل حول جدوى مثل هذا البحث أصلًا!
انظر: الروض الأنف، في شرح السيرة النبوية لابن هشام، ضبط وتعليق: طه عبدالرءوف بيروت، د.ت، ج١، ص١٦.