الهجرة إلى فلسطين
عبر خمس وعشرين آية، من الإصحاح الحادي عشر بسفر التكوين، تثبت التوراة نسبَ النبي
إبراهيم عليه السلام وتصعد به عبرَ أسلافه حتى تصله بسام بن نوح، مع تفصيلٍ وشرحٍ يتعلق
بعمر هذا الفرد أو ذاك، من شجرة العائلة يمكن اقتضابها جميعًا في القول: إن النبي إبراهيم
هو: «إبرام بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام
بن
نوح.» (تكوين ١١: ١٠–٢٦).
وأول ذكرٍ للنبيِّ إبراهيم عليه السلام في التوراةِ يأتي في سياقِ حديثها عن هجرة
قادها
أبوه «تارح بن ناحور» مع أفراد عائلته، من موطنهم الأصلي، فتقول:
وأخذ تارح إبرام ابنه، ولوطًا بن هاران ابن ابنه، وساراي كنَّته، امرأة إبرام
ابنه، فخرجوا معًا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران
وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران.
تكوين ١١: ٣١–٣٣
ويُفهم من هذه الرواية:
أن قائد هذه القبيلة المرتَحِلة، كان هو «تارح» أبو النبي إبراهيم، وأن زوجة النبي
إبراهيم كانت تدعى «ساراي» وأنه كان له أخٌ يُدعى «هاران» لم يكن مع المرتحلين، إنما
كان
ولده «لوط» هو رفيق ترحال عمه إبراهيم، وهو ما دفع المفسرين للقول: إن «هاران» قد مات
في
«أور» وهو ما يقول به «ماير».
ويذهب في قوله — مخالفًا النصَّ — إلى أن إبرام كان هو قائد الرحلة، وليس الأب «تارح»
فيزعم أن إبرام «أخذ أباه تارح، فخرجوا من أور الكلدانيين، ونحن لا ندري كيف ارتضَى تارح
أن
يترك وطنه العزيز، ومقابر موتاه، حيث رقدَ هاران ابنُه، واضح على الأقل أنه لم يكن جادًّا
في السير، ولا كانت البواعث التي دفعَتْه للمسير صافِية، ولهذا كانت مرافقته لإبراهيمَ
سببًا في تعطيل مسيره …»،
١ ولما لم يكن في التوراة أية إشارة تدفعُ إلى مثل هذه الاستنتاجات، فمن الواضِح
هنا أن «ماير» قد تأثر بالروايات الإسلامية حول مخالفةِ الابنِ لأبيه في العقيدة، وهو
ما لا
يُمكن الخروج به من التوراة إطلاقًا، حتى ولو من باب التأويل.
إن هؤلاء المرتحلين قد خرَجوا من مكان أسمته التوراة «أور الكلدانيين»، دون أن توضِّح
سببًا عقديًّا، أو حتى خلافًا فقهيًّا، أو سياسيًّا لخروجهم من هذا المكان الحضاري العريق.
فقط تذكر التوراةُ أن هدف المرتحلين كان أرض كنعان — المفترض أنها فلسطين الحالية — والتي
تواتر وصفُها في التوراة بأنها «أرض اللبن والعسل»؛ مما يشيرُ إلى أن هدفَ الرحلة كان
الوصول إلى أرض أكثر خيرًا وفيئًا. ولعل أول خلافٍ نلحظُه بين هذه الرواية التوراتية
وبين
الرواية القرآنية، هو أن القرآن الكريم يذكر أبا إبراهيم بالاسم «آزر»، فالآيات تقول:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا
آلِهَةً (الأنعام: ٧٤)، والخلاف هنا ليس فقط حول الاسم «تارح/آزر»، إنما هو
خلاف عقديٌّ أيضًا، حيث تُفهمنا الآيات أن الابنَ كان يُخالف الأب في مُعتَقدِه، وأن
هذا
الأب كان يعبدُ نوعًا من التماثيل الإلهية، وهو ما لم تُشر إليه التوراة بالمرة، بل ولم
تشعرنا أنه كان ثمةَ خلاف بين الأب والابن من أي نوع. وكل ما توحي به أسفار تلك الحقبة،
أن
الابن إنما كان على سُنة الأب والعشيرة يسير، وأن الأب كان القائد والموجه. وإذا لجأنا
إلى
كتب التراث الإسلامية نستنطقها القول حول هذا الخلاف، نجدُها تؤكِّدُ أن أبا إبراهيم
كان
مقرَّبًا من الطاغية، الملك الكافر نمروذ، وأن هذا الأب كان صانعًا للتماثيل الإلهية،
بارعًا في فنِّها، مما أدَّي إلى خلاف شديد بين الابن الذي يرفضُ عبادة التماثيل وما
تمثله،
وبين الأب الذي يعتقد فيها، ويتقوَّت من صناعتها وترتقي مراتبه الاجتماعية بقُربها. أما
الخلاف الثاني المتعلق باسم أبي إبراهيم، فإن معظمَ التراثيين يسيرون خلف رواية التوراة
سَيرًا دقيقًا، ويتابعونها متابعةً عجيبة في غالب أمرها، حتى لا تكاد تجد خلافًا إلا
في
الروايات التي انفردَ بها القرآن الكريم دون التوراة، فعلى سبيل المثال يؤكد «ابن حبيب»
في
مُحبَّره: أن تارح هو آزر دون أيةِ مناقشة أو اعتراض.
٢ وابن حبيب إنما يسير في هذا الشأنِ على درب سلكه أصحابه من أهل التراث، فابن
كثير بدوره يكادُ يطابق الكثير من دقائق التوراة، وإن اختلفتْ بعض «الحروف» بين يديه،
كنتيجة لما تتمتع به اللغات السامية من تبادل الحروف ذات المخارج الواحدةِ في النطق،
إضافة
لعدم وجود التشكيل والتنقيط في الكتابات القديمة، مع ظاهرة القلب اللِّسَاني (كما في
زوج
وجوز مثلًا)، وفي قصة ابن كثير عن النبي إبراهيم شجرة نسب تطابق تمامًا شجرةَ النسب
الإبراهيمية في التوراة، مع الاختلافات الحرفيةِ المُشار إلى بعضِ أسبابها، فيقول: إن
إبراهيم هو ابن تسارخ (تارح في التوراة) بن ناحور بن ساروغ (سروج في التوراة) بن راعو
(رعو
في التوراة) بن شالح بن أرفخشد (أرفكشاد في التوراة) بن سام بن نوح.
لكن ابن كثير يرسل قوله الواعي الحذِر «وهذا نص أهل الكتاب»؛ ليلقي بالمسئولية على
أصحاب
التوراة، متخلِّصًا من تبعاتها بمهارةٍ هادئة، وفي الآن ذاته يثبت تحلِّيه بالأمانة.
٣
ولا تفوت «ابن كثير» مسألة «آزر» و«تارح»، فيتناولها — بذات الحذر — ويحيلها إلى «ابن
جرير» محمِّلًا إياه خطلَ الرأيِ من صحَّتِه، فيقول: «وقال «ابن جرير»: الصواب أن اسمه
آزر،
ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب، والآخر عَلَم».
٤ وفي معنى كلمة «آزر» ذهب «البيضاوي» إلى أنها اسم وصفي، بمعنى: القوي أو العضد
أو المعين، أما الاسم العلمي فهو «تارح».
٥ ولنذكر أن في اللغات السامية: «عازر» و«عزير» تساوي «آزر» وتفيدُ النُّصرة
والتقوية، وقد عرفت السامية استبدالَ العين بالهَمزة وبالعَكس، ووضح ذلك في الآية القرآنية
… فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
(الأعراف: ١٥٧)، وعليه فإن الروايات الإسلامية لم تحاولْ بحث أمر «آزر» و«تارح» أبعد
من
ذلك، وعمدت إلى الأسلوب التوفيقي بين ما جاء في القرآن وما جاء في التَّوراة، رغم عدَم
اضطرارها شرعًا لذلك، مما يشير إلى رغبة عجيبةٍ في الالتقاء مع التوراة والتوافق معها
وعدَم
ردِّها، رغم أن الشَّرع قد أعطاهُم هذا الحق في الرفض، وهو أمر يُمكن أن نرى فيه وجهين؛
فهو
من جِهةٍ دلالةٌ طيِّبةٌ على علمية هؤلاء الإخباريين من حيث عدم رفض الرأي الآخر لمجرَّد
المخالفة العقدية، لكنه من جهةٍ أخرى يشير إلى رغبةٍ محمومة في الالتقاء مع التوراة،
«تضع
علامات استفهام حول مبرراتها»!
أما المسألة الأخرى التي تتَّفق فيها الروايات الإسلامية مع رواياتِ التوراة، فهي
القول
بخروج النبي إبراهيم عليه السلام من بلاد الرافدين يقصدُ أرض كنعان، وعلمنا أن التوراة
قد
حدَّدَتْ مركز انطلاقِ هذه الرحلة في مدينة «أور الكلدانيين» بالذات.
وإذا بحثنا عن مدينة باسم «أور
UR» في الخريطة التاريخية
للمنطقة، وتنتسب في ذات الوقت إلى دولة الكلدانيين، سنجدُها على الشاطئ الغربي لنهر الفرات،
في أقصى جنوب الوادي الخَصيب، ولكن تخصيص «أور» بأنها «أور الكلدانيين» لا يعني للعارف
بالتاريخ أنها وُجدَتْ فقط في عصر الدولة الكلدانية، التي قامت ما بين عامي ٦٢٥ و٥٣٨
قبل
الميلاد، فهي مدينة عريقة عراقةَ العراق، وتعد من أشهر حواضِر هذا الإقليم الحضاري الكبير،
بينما الكلدانيون لا يُحسَبون إلا على الهامش الأخير لهذه الحضارة الكبرى، فهم أصحابُ
دولة
بابل الحديثة، التي سبقتها دول كبرى وعظمى، بدأت منذ منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد،
على
يد السومريين
٦ وكانت «أور» آنذاك دولة مدينة مستقلة
٧ ذات شأن ومكانة، وظلت «أور» على مكانتِها مع الدول التي تتابعتْ في المنطقة بعد
السومريين، وظلت مدينة إدارية ودينية رفيعةَ الشأن، إبَّان حكم الأكاديين
٨ وإبان العصر السومري الثاني
٩ وإبان حكم دولة بابل الأولى
١٠ وظلت صامدة أيام الاحتلال الجوتي
١١ والكاسي
١٢ واستمرت على ازدهارها حتى قيامِ الدولة الكلدانية
١٣ آخر ممالك العراق المستقل في ذاك الزمان، فعاشت «أور» كمدينة كبرى، ذات دور
فاعل، ما يزيد على ثلاثة آلاف عامٍ متتالية، دون انحسار تامٍّ أو انكسار حاد، يذهب بها
في
طوايا القُرى والقرون الخوالي.
وإن اتفاق الرواة المسلمين مع التوراة، حول العراق القديم كموطن أول للنبي إبراهيم،
يظهر
في قول الثعلبي النيسابوري: «لقد اختلف العلماء في الموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم:
كان
مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد بناحية يقال
لها
كوثا، وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء في حدود كسكر، وقال بعضهم: كان مولده بحران لكن
أبوه
نقله إلى أرض بابل، وقال عامة أهل السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم عليه السلام زمن نمروذ
بن كنعان.»
١٤
وهكذا نجد «الثعلبي» لم يخرُجْ عن حدود بلاد العراق
القديم، أو القسم الجنوبي من وادي الرافدين بالتحديد، وهو القسم الذي كانت «أور» مدينته
الرائدة، والمواضع التي ذكرها «السوس، الأهواز، السواد، كوثا، الوركاء، كسكر» إنما تقع
حول
«أور» القديمة، لكنه يشير إلى موطن آخر، هو لوجه الحق ملحوظة مهمة، سنجد أنها ذات قيمة
لا
تنكر في حينه، فيقول: «وقال بعضهم: كان مولده بحران»، ثم يستدرك «لكن أبوه نقله إلى أرض
بابل.»
هذا عما جاء عند «الثعلبي»، أما زعيم طبقةِ كتاب
السِّيَر والأخبار «ابن كثير»، فإنه يحسم المسألة بقوله: «إن أرضه التي ولد فيها هي أرض
الكلدايين، يعنون أرض بابل، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار،
فقد
انطلق تارخ (تارح في التوراة، ولنلحظ أن ابن كثير قد غير هنا من تسارخ إلى تارخ) بابنه
إبراهيم وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج من أور الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين،
فنزلوا حاران، فمات تارح له مئتان وخمسون سنة، وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، إنما
مولده
بأرض الكلدانيين.»
١٥ (ولنلحظ في رواية ابن كثير هنا أن الأب كان هو قائدَ الرحلة، وهو ما قررته
التوراة، وأن الابن خرجَ في الرحلة مع الأب، ولم يكن على خلافٍ معه طوال هذه السَّفرة
الطويلة.)
ومرة أخرى، نجد التراثيين المسلمين في شكٍّ من الأمر، فيُشيرون إلى احتمال «حاران»
كموطن
أول ومهد ميلاد للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي كما قلنا إشارة لها أهميتها التي ستتضح
بعد
قليل، وحتى تتضح الصورة أمام قارئنا، فإن «أور» تقع — كما أشرنا — في أقصى الطرف الجنوبي
للرافدين على حدود جزيرة العرب، بينما تقع «كنعان» إلى الغرب منها مباشرة، يَفصِلهما
الجزء
الجنوبي من بادية الشام، فهي منها قاب قوسين أو أدنى، أما «حاران» فتقع في أقصى شمال
المنطقة وخارج حدودها، وبالتحديد داخل المنطقة التركية الأرمينية القديمة.
وإن وجود «حاران» هنا يشكل مُعضلةً للباحث في
التوراة، فهي تظهر كما لو كانت موطنًا للقبيلة الإبراهيمية، أو هي موطنه الأصيل، إضافة
إلى
«أور» فالتوراة تقولُ: إنه بعد تحرُّك الأب «تارح» بعشيرته من «أور» لم يذهب مباشرة إلى
كنعان — هدف الرحلة — رغم قُربها منه، حيث تقعُ إلى الغرب مباشرة، إنما أخذ يضرب شمالًا
مسافات بعيدة، في رحلة كبرى:
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران، وقال الرب لإبرام: اذهب من «أرضك
وعشيرتك ومن بيت أبيك» إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك،
وتكون بركة. فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطًا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي
اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان.
تكوين ١١: ٣١؛ ١٢: ١–٥
لاحظ هنا أن التوراة تشير إلى «حاران» بأنها: «أرضك وعشيرتك وبيت أبيك»، ثم هناك
إشارات
أخرى متعددة تشير إلى مواطنَ أخرى للنبي إبراهيم، فبعد أن يترك «حاران» ويستوطن «كنعان»
غريبًا، وينجب ولده الثاني «إسحاق»، تقول التوراة:
وشاخ إبراهيم وتقدَّم في الأيام، وبارك الرب إبراهيم في كل شيء. وقال إبراهيم
لعبده كبير بيته: … ضع يدك تحتَ فخذي فأستحلفك بالرب
إله السماء وإله الأرض، ألا تأخذ زوجة لابني من
بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم، بل إلى «أرضي وعشيرتي» تذهب وتأخذ زوجة
لابني إسحاق.
تكوين ٢٤: ١–٤
أما أين أرض العشيرة الإبراهيمية، التي اتجه إليها العبد ليأتي بزوجةٍ لإسحاق؟ فهو
ما
يوضِّحُه استطراد التوراة:
إن العبد ذهبَ إلى أرام النهرين: إلى مدينة ناحور.
تكوين ٢٤: ١٠
وناحور هو جدُّ إبراهيمَ، هو أبو تارح أبو إبراهيم، أي إن أرام النهرين هي موطن الأجداد
والعشيرة!
ثم نجد إشاراتٍ لمواطن أخرى، فهذا إسحاق يسير على سنة أبيه، مصرًّا على نقاء الدم
العبري،
وعدم تدنيسه بدم آخر، لذلك فإن إسحاق:
دعا يعقوب «ابنه» وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين، قم
واذهب إلى «فدان أرام» … وخذ لنفسِك زوجة من هناك … فخرج يعقوب … وذهب إلى
«حاران»!
تكوين ٢٧: ١، ٢، ٧، ١٠
والملحوظة الجديرة بالبيان هنا، هي أن «أرام النهرين، وفدان أرام، وحاران» كلها مناطق
تقع
شمالَي بلاد الشام، وشمال غربي العراق، فما للتوراة إذن و«أور الكلدانيين» في أقصى الجنوب؟
ويبدو أن هذه الإشكالية قد واجهت مؤرخينا الأوائل، وتركَتْهم بين الشك واليقين، أو بين
«أور» و«حاران» كموطن للقبيلة الإبراهيمية ومهد أول، فقال الثعلبي محاولًا الحل: «وقال
بعضهم: كان مولده بحران، لكن أبوه نقله إلى بابل». أما ابن كثير فأكَّد أنه من مواليد
«أور»
الكلدانية الرافدية، بدليل أن أباه مات في «حاران» بعد الرحيل إليها، ويعقِّب بالقول:
«وهذا
يدلُّ على أنه لم يولد بحران، إنما كان مولده بأرض الكلدانيين!» أما المستر «ماير»،
١٦ فقد بَلْبَلَتْه إشارةُ التوراة، إلى أن عبد إبراهيم لما ذهَب يأتي بزوجة
لإسحاق، توجَّه إلى «أرام النهرين مدينة ناحور»، فهذا الجد البعيد «ناحور» لا يقيم في
«أور
الكلدانيين»، إنما في «أرام النهرين»، قرب «حاران» في أقصى الشمال، وخلاصًا من البلبلة
حل
«ماير» الإشكال بجرة قلم، وقال:
يظهر أن ناحور كان قد سبق … إلى حاران، إذ إننا نجد ذريته لاتزالُ موجودة فيها
فيما بعد.
١٧
ويحيلنا إلى دلائل هذا التواجد بالتوراة في سفر التكوين (١١: ٢٩؛ ٢٢: ٢٠–٢٣؛ ٢٤: ١٠–٢٧،
٤٣).
أما الباحثون المحدثون في علوم التوراة، فيبدو أنهم قد أهملوا مسألة «حاران»، وتوقَّفُوا
عند «أور» يبحثون ويفحصون، ومن ثم أعلن الأستاذ «دي
فو
DE-VAUX» أن إبراهيم قد هاجر من «أور» ما بين عامي (١٩٠٠–١٨٥٠ق.م) مؤسِّسًا
إعلانه على زعم أنَّ سبب الهجرة هو النزاع الذي قام في جنوبي الرافدين حينذاك، بين دولتي
«إيسن» و«لارسا»
١٨ مما أدى إلى هِجراتٍ متتابعة من المنطقة؛ هربًا من أوار الحربِ، وقد دعم «دي
فو» مذهبَه بنقوشٍ تمَّ العثور عليها في المنطقة، منقوشة على ألواحٍ بابلية، جاء بها
الكلمتان: «أبام رام» و«آباراما» واحتسبهما صيغتين لاسم النبي «إبراهيم»، أو «إبرام».
١٩
والغريب في أمر الأستاذ «دي فو» أنه يعلم يقينا الموعد المقبول لزمن النبي إبراهيم،
وحدده
هو نفسه بين عامي ١٩٠٠–١٨٥٠ق.م أو بالتقريب حوالي ١٧٠٠ق.م عند غالب الباحثين، ولا شك
أنه
يعلم يقينًا أن دولتي إيسن ولارسا غير دولة الكلدانيين، وأنهما قد سبقَتَا دولة الكلدان
بحوالي ألف عام، وهو زمن — في عرف التاريخ — غير هيِّن أو قليل فكيف اتَّفق له ذلك؟ كيف
جاز
أن يعثر على «أبام راما» على نقشٍ بابلي، فيعلن فورًا: هنا ولد إبراهيم! كما لو كان «إبرام»
هو الوحيد بين الساميين الذي انفرد باسم «إبرام»، في منطقة تموج بضجيج الشعوب السامية
وتفور!
أما الباحث في التوراة الأستاذ «فيلبي»، فقد وقف بدوره عند «أور» لا يتجاوزها أُنملةً،
لا
يرفع عينيه عنها، وانتهى من بحثِه إلى قراءة نقوشٍ بابلية، تحكي عن ملك حُكمٍ في جنوب
الرافدين، قامتْ ضدَّه حركة انقلابية أقصَتْه عن البلاد، وكان اسمه «يثع إيل
YATHI-IL» وقد استنتج «فيلبي» أنَّ هذا الملك هو النبي
إبراهيم، استنادًا لترجمة العلامة
DOUGHTY لاسم «يثع إيل»
بمعنى «خليل الله» والصفة «خليل الله» هي صفة إبراهيم في التوراة.
٢٠
ومرة أخرى نجد في حديث الأستاذ «فيلبي» غرابة حديث الأستاذ «دي فو»، فلا شكَّ أنه
يَعلم
أن الاسم «يثع إيل» كان اسمًا متواترًا بين الساميين عمومًا وبين عربِ الجنوب خصوصًا.
وقد
بحثنا فعثرنا على أسماء لعددٍ من الملوك في قوائم العربية الجنوبية بهذا الاسم، فهناك
ثلاثة
ملوك حكموا بهذا الاسم في الجيلِ الأول من مكاربة سبأ،
٢١ واثنان آخرانِ في باقي الأجيال الخمسة من مُلوك سبأ، وغيرهم كثير، فهل كانوا
جميعًا خلانًا للإلهِ وأنبياء له؟ وإذا كانوا جميعًا كذلك فمَنْ منهم كان هو النبي إبراهيم
على وجهِ القصد والتحديد؟ حقيقةً إن سندَ الأستاذ «فيلبي» هنا سند غير تامِّ الإقناع
بدوره.
وكان الاسم «يثع» منتشرًا في بلاد العرَب الجنوبية، وكان أحدُ أسماء الإله القمر، كما
كان
يُنطق أيضًا: «يشع»، «يشوع»، وفي هذا الحال كان يعني المخلص. وقد تخلَّف في اسم «يشوع
بن
نون» وبتبادل حرف «ش» مع حرف «س» ينطق أيضًا «يسوع»، الذي تخلَّف في اسم المسيح، وبالقلب
تنطق «يسوع» نطقًا صحيحًا تمامًا «عيسى».
٢٢
وهكذا لا نرى المسألة قد حلَّها «الثعلبي» أو «ابن كثير» رغم اجتهادهما، ورؤيتهما
الاحتمالية لموطن إبراهيم عليه السلام بين «حاران» وبين «أور»، ولا حلَّها القسُّ «ماير»
بتخلُّصِه السريع الفَكِه، ولا حلَّها الدارسون المحدثون في علوم التوراة، وضربنا منهم
مثلًا بالأستاذين «دي فو» و«فيلبي». وعليه فتبقى الإشكالية تطلُب حلًّا، ممثله في التساؤل:
هل كان موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو: «أور الكلدانيين»، أم «حاران»، أم «أرام
النهرين» أم «فدان أرام»؟ وهل كان في أقصى جنوب العراق على الحدود العربية؟ أم في أقصى
الشمال داخل الحدود الأرمينية؟