المبالغات والتلفيقات
تأتينا في القرآن الكريم مزيدٌ من الأَخبارِ عن النبي إبراهيم عليه السلام، لم تعرفها
التوراة بالمرة، لعل أهمها أن إبراهيم عليه السلام كان موحِّدًا، بينما كان أبوه عابدًا
للأوثان صانعًا لها. هذا إضافة إلى قصةِ تكسير إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه، وما
ترتَّبَ على ذلك من حدثِ إلقائه في النار، ونجاته منها بأمر الله بلطف منه. وما دار بينه
وبين «نمروذ» من جدَلٍ حول صحيح العقيدة مع شروحٍ أخرى كثيرة، وإضافات أكثر جاءت بكتب
التراث الإسلامية، بعضُها ترديدٌ للقصص القرآني، وبعضها ما أنزل اللهُ به من سُلطان،
ويعد
من قبيل الشَّغَف بالمبالغات. وأكثرها لم يرد له في التوراة ذِكْرٌ، وبعضها الآخر نوع
من
الإسرائيليات الواضحة التي أخذها الإخباريون المسلمون دون تحقيقٍ أو تدقيق، لذلك رأينا
التوقُّفَ هنا للتعرُّف على الصورة التي خطَّطَها هؤلاء للنبيِّ إبراهيم عليه السلام،
وهي
تتعلَّق في رأي أصحابها، بالفترة التي قضَاها الخليلُ في موطنِه الأول قبل هجرته إلى
أرض
كنعان.
تقول هذه الروايات: إنه ما إنِ استقرَّت البذرة الإبراهيمية المباركة في بطن أم إبراهيم
عليه السلام، حتى لاحظَ القوم أن الأصنامَ قد نكَّست رءوسَها (؟!)، وظهر وقتها نجم في
السماء له طرفان
١ وأن الدارس للأساطير وتاريخ الأديان يمكنه أن يلحَظَ، دون جهد، أنَّ مثل هذه
الإضافات المبالغة، تلحق بقصص الأبطال الأسطوريين لدى الشعوب القديمة وبشكل متواتر، حيث
كان
لابد أن تسبق ميلاد البطَل إشاراتٌ ونبوءات، من نوع الخوارق الطبيعية للإعلام بمقدمه،
فمثلًا إله فارس القديم «ميثهرا» صحب مولدَه نجمةٌ بذيلٍ عظيم، كذلك «نيرون الروماني»،
كذلك
«زرادشت» المزعوم أنه نبي فارس، كذلك قاد شعاع هذه النجمة المجوس إلى حيث ولد «يسوع المسيح»
حسب رواية الأناجيل … إلخ.
وعندما ولد النبي إبراهيم عليه السلام كان يحكم بلاد الرافدين الطاغية «نمروذ الجبار
بن
كنعان» الذي ادعى الألوهية. هذا ما ترويه كتبُنا التراثية، وقد بحَثنا عن اسم «نمروذ»
في
قوائم ملوك العراق القديم، فلم نظفر بنتيجة وطاشَت جهودنا، غير أننا لحظنا وجود منطقةٍ
آثارية يطلق عليها هذا الاسم «نمروذ»، ومن الواضح أن هذا الاسم قد أطلق في بداية العصور
الإسلامية تأثرًا بهذه الروايات، ومن المعلوم أن هناك أسماء كثيرة وغفيرة قد أُطلقت على
مواضع مختلفة في كثير من البلدان نتيجةً لمثل هذه الروايات، وفقدت أسماءَها القديمة،
أو
أصبحت الأسماء القديمة علامات تاريخية في كتب المؤرخين والآثاريين المتخصِّصينَ فقط،
وكثير
من مواطن فلسطين والشام والعراق قد أُعيدت صياغة أسماء المواضع فيها أكثرَ من مرَّة،
وكان
للتسميات التوراتية بالتحديد نصيبُ الأسَد في هذه المعمعة التلفيقة.
وتستمر الروايات فتقول: إن «نمروذ» قد غالى في طُغيانه، وأخذ يجبر الناس على عبادته.
وذات
يومٍ ذهب إليه كبير كُهَّانه وعرَّافيه؛ ليعلمه بأنه قد آن أوان ميلاد شخص جليل، وأنه
على
يدي هذا الشخص سينتهي شأنُ النمروذ، فما كان من هذا الملك الطاغي إلا أن أمَر بتقتيل
جميع
الذكور الذين ولدوا في هذا العام، ولنلحظ مرة أخرى أن البطل في القصص القديم عادة ما
كان
يتعرض لمحنة القتل والموت، وحتى يكون بطلًا فإنه لابدَّ أن يجوز المحنة ويقضي على الطاغية،
الذي يمثل دور الشرِّ في الأسطورة، إضافة إلى العنصر الدرامي الثالث وهو النبوءة، التي
عادة
ما يمثلها كاهنٌ شرير لديه قدرات خرافيَّة على رأسها معرفة الغيب، ومن ثم يُحاول الملك
الشرير أن يُبطل مفعول النبوءة السحري بالتحايل على القدَر، أو محاولة التغلُّب عليه،
لكن
القدر بالمرصاد، ولابدَّ أن ينتصر الخير على الشر، فينجو الطفل من المذبحة لتكتمل فصول
الملحمة القدرية. والدارس للأساطير القديمة يلحظ بوضوح سيادة فكرة القدَر في القصص
الميثوبي، فهذا «سرجون الأول» ملك أكاد يتعرَّض للمحنة، فتُلقي به أمه في صندوق من القَشِّ
في مياه النهر.
٢ وهذا «تموز» إله الخصب البابلي الأصل يتعرض لمحنةِ الموت لكنَّه ينتصرُ عليها،
٣ وهذا «أوديب» اليوناني يتعرَّضُ لذات الأمر ولذات النبوءة في فصول درامية، تكشف
عن فشل أية محاولة للتملص من نبوءة قتل الملك «لايوس» على يديه
٤ وهذا النبي «موسى» يُلقى في الماء لكنه يقضي في النهاية على الطاغية، وتتحقق
النبوءة القدرية. وهذا «يسوع» تهرب به أمُّه إلى مصر؛ حتى لا يقتل في محنة ذبح الأطفال
التي
أمر بها الطاغية «هيرود»،
٥ وهذا «أدونيس» الفينيقي يجوز ذات التجربة،
٦ وهذا «أتيس» الفريجي يتغلب أيضًا على تجربة الموت …
٧ إلخ. ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم لم يُورِدْ مثل هذا الحدث في قصة
النبي إبراهيم، إضافةً إلى أن البحوث التاريخية في العراق القديم لم تثبت أن ملوك العراق
لَجئُوا إلى تأليهِ أنفسهم إلا في حالات نادرة، كما في حالة الملك «جوديا» في العصر السومري
الثاني، وهو عصر غير عصر الكلدانيين المزعوم — توراتيًّا — عصرًا للنبي إبراهيم، وهو
أمر
يُضاف لتساؤلنا حول مصداقية «أور الكلدانيين» كمنطلقٍ للرِّحلة الإبراهيمية، وموطن أول
له!
وتتابع روايات التراث الإسلامية، فتقول: إن النبوءة كانت محقَّقة في حمل أم النبي
إبراهيم
عليه السلام به، ولما أتاها المخاض توجَّهت إلى مغارَةٍ في الجبل حيث وضعَتْ وليدها هناك
وتركته تحت رحمة الأقدار وعادَتْ إلى قريتها، ولكن الحنينَ اشتد بها إلى وليدها ولم تنقض
من
الأيام ثلاثة، وعادت تهرع إلى باب المغارة حيثُ تركته، وهناك «وجدت الوحوش والطيور حاشدة
عند باب المغارة، فأشفقت على إبراهيم، وخشيت أن يكون قد أصابه سوء، أو يكون قد هلك، فلما
دخلت عليه ألفَتْه سَليمًا آمنًا يجلس على فراش من سُندس، مدهونًا مكحولًا … وقد لاحظت
أنه
يمص أصابعَه، وأن لبنًا يحرج من أصبع، وعسلًا يخرج من الآخر، وماء يخرج من الثالث.»
٨
وهكذا حاولت أمه أن تنقذه من الموت على يد «نمروذ»، لتتركه ثلاثة أيام كاملة في مغارة
بالجبل معرضًا لموت محقق، لكن حتى تبرز المبالغات دور القدر ورعايته للبطل، تجده أمه
محاطًا
بالوحوش ترعاه، ويخرج له الغذاء من أصابعه، إضافة إلى الرعاية التجميلية كالدهن والكحل.
وهو
أيضًا ما لم يرد به نص قرآني أو توراتي، ولا يمكن تفسيره إلا في ضوء خصائص الأسطورة والقصص
الشعبي، (وللتذكرة فقد ورد ذلك النصُّ في كتاب قدَّم له الشيخ مخلوف مفتي الديار المصرية
الأسبق!) ويستكمل النيسابوري القصة فيقول: «وكان اليوم يمرُّ على إبراهيم عليه السلام
كالشهر، والشهر كالسنة، فلم يمكثْ إبراهيم عليه السلام في المغارة إلا خمسة عشر يومًا،
حتى
جاء إلى أبيه آزر فأخبره أنه ابنُه.»
٩
ولم يمضِ إبراهيم عليه السلام إلا قليلًا مترددًا بين عبادات قَومه، الثالوث الكوكبي
المقدس لدى الشعوب القديمة (القمر الأب، والشمس الأم، وكوكب الزهرة الابن) حتى انتهى
إلى
الوحدانية، ومن ثمَّ بدأ يسخَرُ من قومه وأربابهم، التي عدَّها تماثيل لا تنفع ولا تضر،
ثم
انتهز يوم خروج قومه من المدينة في عيد لهم، وادَّعى السقم كي يبقى في المدينة لغرضٍ
أضمره،
وما إن خرج الناس حتى توجَّه من فوره — والمدينة خالية — إلى ساحةِ الأصنام، يحمل فأسًا،
فحطمها وجعلها جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُم علق الفأسَ برَقبته لتُناطَ به المسئولية.
وتقول الآيات:
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (الأنبياء: ٥٨)، وعندما عاد القوم، وأصابهم
مصاب أربابِهم بالهلع والغضَب، توجَّهتْ أصابع الاتهام فورًا إلى إبراهيم؛ لأنه هو الذي
كان
يعيبها ويستصغر شأنها، فأجابهم بسخرية: إن الذي كسَّرها هو كبير الآلهة، وفي الحديث عن
محمد
ﷺ قوله الذي يورده الثعلبي مدعمًا: «إنَّ إِبرَاهِيمَ عليه السلام، لم يكذب إِلاَّ
ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ، كلُّها في الله تعالي؛ قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلُهُ: بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، «وقوله: للملك الذي عرَضَ لسارة: إنها أُختي».»
١٠
وهنا ثارت عوارم القوم، واتخذوا قرارًا بحرقِ الساخر المتحدِّي
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا
نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (الأنبياء: ٦٨–٧٠)،
ويشرح الثعلبي بعضَ دقائق الموقف حينذاك بقوله: «فلما أرادوا إلقاءَه في النار، أتاه
ملكُ
المياه، فقال: إنْ أردتَ إخماد النار فإن خزائنَ المياه والأمطار بيدي، وأتاه خازنُ الريح
فقال: إن شئتَ طيرتُ النارَ في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام: لا حاجةَ لي بِكُم.»
١١
وقال «الضحاك»: «يُروى أن جبريل كان معه يمسَح العرقَ عن وجهِه، لم يُصِبْه منها
(أي: من
النار) شيءٌ غيره، وقال السُّدِّي: كان معه أيضًا ملَكُ الظِّلِّ»،
١٢ وفي رواية مسلم (أخرجه النسائي وابن ماجه، ورواه أحمد)، أنَّ إبراهيم لما أُلقي
به في النار، جعلت كل الدواب تطفئُ النارَ عنه إلا الوزَغ، فإنه كان ينفُخُها عليه؛ لذلك
أمر النبي محمد
ﷺ بقتل الأوزاغ!
١٣ وفي رواية إضافية: أن إبراهيم عليه السلام لما خرج من النار سليمًا معافًى،
حدَث أن نمروذ جلسَ على عرشه، فإذا العرش يهتزُّ من تحته اهتزازًا عنيفًا، وإذا صوت يرتفع
قائلًا: يا ويحَ الكافر بإله إبراهيم، يا ويحَ الكافر بإله إبراهيم، وأن الطيورَ والوحوش
كانت تهتف: يا ويح الكافر بإلهِ إبراهيم،
١٤ ورغم هذه البينة الخارقة، لم يؤمنِ الكافر بإله إبراهيم، ولم يُقنعه منطق الطير
والوحش! إنما طغى وتجبَّر، ودخل مع إبراهيم عليه السلام في مناظرة جدَليةٍ حول العقيدة
الجديدة.
ويحكي القرآن الكريم هذه المناظرة في قولِه تعالي:
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (البقرة: ٢٥٨). ويعقب «السُّدِّي» بالقول: «إن هذه المناظرة كانت
بين النمروذ وإبراهيمَ يوم خرَجَ من النار»،
١٥ وهنا يضيف ابن كثير: إن الله اختَتم هذه المجادلة التي لا طائلَ من ورائها بعد
أن ظلَّ نمروذ على جحوده، بأن «أرسل … عليهم ذُبابًا من البعوض، بحيث لم يروا عينَ الشمس،
وسلَّطها الله عليهم فأكلَتْ لحومهم ودماءهم وتركَتْهم عظامًا بالية، ودخلت واحدة منها
في
منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة (؟!) عذَّبه الله بها، فكان رأسهُ يضرب بالمراذب
هذه المدة كلَّها، حتى أهلكه الله عز وجل.»
١٦
وإذا لم يعجب العقل لأربعمائة سنة عمر الإنسان، وعذابًا، أفلا يعجب من بعوضة تعيش
أربعة
قرون، تستمتع بمشهيات المنخار النمروذي؟
أما ما تَلا ذلك عند الإخباريين فهو خروج إبراهيم
ﷺ بقومه من «أور الكلدانيين» إلى
كنعان، بعد أن أخرَبها البعوض على أهلِها، لكن العقل يظلُّ واقفًا يتساءلُ ولا يتزحزح:
لماذا تترك العائلةُ الإبراهيمية «أور» ذلك الموطن عريق الحضارة؟ والعقل يقف كذلك بالطَّبع؛
لأنه لم يقنع بهلاك «أور» بالذباب والبعوض، لأن «أور» ظلت قائمة بعد عهدِ النبي إبراهيم
بما
يزيد على اثني عشر قرنًا آخر، وللعقل في ذلك حق مشروع وشرعي حيث لم يرد لهذه التفاصيل
إشارات في القران الكريم، إضافة إلى الإشكال الحقيقي والأساسي المتمثل في تخصيص «أور
الكلدانيين» موطنًا للعشيرة الإبراهيمية، فالدولة الكلدانية قامت بين عامي ٦٢٥–٥٣٨ق.م،
بينما النبي إبراهيم عليه السلام يعود إلى زمن أقدم من هذا الزمان، فقد عاشَ فيما يذهب
الباحثون حوالي ١٧٠٠ق.م
١٧ فيفصل بين زمنه وزمن الكلدانيين ألفُ عامٍ تقريبًا، وليس بين الملوك الكلدانيين
نمارذة، ولا في «أور» نمارذة، ولا في تاريخ الملوك الرَّافدين نمروذ واحد، وهو مما يدعو
إلى
التشكُّك في المصدر الأول ومصداقيته، أقصد التوراة، وكل مَن تبع هذا المصدر في دربه وزَعْمه
أن موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو «أور الكلدانيين» حتى لو كان مَن سلكَ هذا الدرب
أعلام مثل المستر «فيلبي»، والمسيو «دي فو».
لكن قبل طرح رؤيتنا في حلِّ مشكلة الموطن الأصلي للعشيرةِ الإبراهيمية، نجدُنا وقد
اضطرنا
للوقوف مع «أور» أُمورٌ تنتج لزومًا وتتأسَّس على ما ورد في كتب الأخبار الإسلامية، وهي
وإن
كانت خارج دائرة اهتمامِ هذا البحث، إلا أنَّ لها أهميتها العامة، ولا يصح التغافل عنها
عندما تفرض نفسها.
وأول ما يلفت النظر في روايات الإخباريين، هو اسم الطاغية الذي ادعى الألوهية، أقصد
«نمروذ بن كنعان»، وقد سبق وأشرنا إلى أنه لم يرد في قوائم ملوك العراق القديم، أما الأهم
فهو كونه «ابن كنعان». والإخباريون المسلمون هنا أكثر مجاملة للعبريين من التوراة، التي
قسمت شعوب الأرض عبر نسل النبي نوح بعد الطُّوفان، فقالت: إنه أنجب «سام» الذي جاء من
نسله
الشعب العبري، و«حام» وأبناء حام هم: «كوش» الذي أنسل الأحباش وسمر البشرة عمومًا،
و«مصرايم» الذي أنجب المصريين، و«كنعان» الذي أنجب الكنعانيين، ثم تقول: «وكوش ولد نمروذ
الذي ابتدأ يكون جبَّارًا في الأرض، وكان ابتداء مملكته بابل وأورك وأكد وكلنة في أرض
شنعار» تكوين ١٠: ٦–١٠.
والمعلوم أن التوراةَ تصب لعنتَها فوق رءوس أبناء حام عمومًا، من مصريين وكنعانيين
(فلسطينيين)، لكنها عادة تخص «كنعان» باللعنة باعتبار الكنعانيين هم سكان فلسطين الأصليون،
والمطلوب إبادتهم لصالح النسل العبراني من أبناء سام. ومن هنا نعرف سر البركات التي تواتر
استنزالها بالتوراة على رءوس النسل السامي، لكنها هنا تقول: إن نمروذ الجبار هو من أبناء
كوش، ويبدو أن الإخباريين المسلمين لكثرة الاعتياد على سبِّ كنعان، رأوا من جانبهم أن
يكون
نمروذ الكافر الجبار ابنًا لكنعان بالمرة، طالما قد تمَّ اختياره كمَصبٍّ لكل اللعنات،
دون
إدراك حقيقي لما يترتب على ذلك من فهم في ذهن المسلم العربي!
وهكذا يكون عدو النبي إبراهيم اللدود هو ابن كنعان، وكفى بذلك مبرِّرًا للاستيلاء
على أرض
كنعان من قبل العبريين، ولا ملامة. بل إنهم بذلك ضامنون لتعاطف كل المؤمنين مع النبي
إبراهيم، ضد مدعي الألوهية ابن كنعان الكافر ابن الكافر! أو التعاطف مع النَّسل العِبراني
ضدَّ أهل البلاد، والعجيبُ أن يكون ابن كنعان ملكًا في العراق، ويهجر النبي بلاده ليلجأ
إلى
بلاد أبيه كنعان في فلسطين!
أما أصل اللعنة وسرُّها التوراتي، فيرد في قصتِها التي تقول: إنه بعد هبوط النبي
نوح
وأبنائه من الفلك.
ابتدأ نوح يكون فلاحًا، وغرس كرمًا وشرب من الخمر وتعرَّى داخل خبائه فأبصر حام
عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافت الرِّداء ووضعاه على أكتافهما
ومشيًا إلى الوراء وسترًا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يُبصرا عورة
أبيهما، فلما استيقظ نوح من خَمره، علم ما فعَلَ به ابنه الصغير، فقال: ملعون
كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدًا
لهم.
تكوين ٩: ٢٠–٢٦
وسار الإخباريون المسلمون وراء التوراة هنا أيضًا (عالجنا ذلك بالتفصيل في بحث سبق
نشره)،
١٨ واستنزلوا اللعنات صبًّا على رأس كنعان بن حام، رغم أن الآثم في القصة (إذا كان
فيها إثم) هو حام الأب، وليس كنعان الابن!
أما الأمر الثاني الذي يتأسس على ما أوردته التوراة، وأخذ به الإخباريون المسلمون،
فهو ما
نضرب له مثلين: الأول من أصحاب الديانة المسيحية التي تأخذ بالتوراة الحالية كمقدَّس
مُسلَّم بصدقه، وهو القس المبشر العالمي «ماير».
والثاني من الباحثين المسلمين المحدثين «د. صابر طعيمة»، حيث كان إبراز المثالية النبوية
ممثلة في النبي إبراهيم، تعني في المقابل الحط من شأن أهل العراق القديم بحسبانهم من
أهل
«أور الكلدانيين».
يقول «ماير»: «كان أولاد حام قد أُغرقوا في العبادة الوثنية … وسرعان ما اقترنتْ
عبادتهم
بمظاهر الدعارة والفجور، وفي وسط بني حام قامت عشيرته (يقصد عشيرة النبي إبراهيم) من
بني
سام، واستقرَّت في المراعي الغَنيَّة خارجَ مدينة أور تحت قيادةِ رئيسِها تارح، ولأن
أفراد
هذه العشيرة كانوا من الرعاة، فلم تأخذ ألبابهم تلك المدينة ذات الأسوار العالية، بكل
ما
فيها من مظاهر وأمجاد المدنية … «إن حياتهم الدينية كانت أنقى من حياة أولئك القوم» الذين
سكنوا في وسطهم. على أنه للأسف الشديد، سرعان ما دبَّتْ «جرثومة الفساد» وسط هذه العشيرة
بسبب مجاورتها لبني حام، يا لها من مسئولية خطيرة على أولاد الله الأتقياء، إذا ارتضوا
أن
يعيشوا في «الأوساط النجسة الشريرة» …
١٩ إلخ.»
هذا كل ما رآه «ماير» في حضارة الرافدين القديم: عبادات وثنية، جرثومة فساد، أوساط
نجسة
شريرة … إلخ، وهي بالطبع رؤية من خلال العدسات التوراتية.
فماذا يقول «د. طعيمة»؟
«حوالي عام ١٨٠٠ق.م كانت مجموعة من الرعاة والمنتسبة تاريخيًّا لبعض هذه الأفواج،
التي
هاجرت من الصحراء إلى منطقةِ الهلال الخصيب، قد استطاعت أن تنتشر في العراق وتستقر لتؤلف
دولة يذكرها التاريخ باسم الكلدانيين، وهناك من وسط الطبقات الدنيا، في قلب «هذا الشعب
الوثني المتخلف» نشأ النبي إبراهيم عليه السلام.»
٢٠
وهنا أيضًا، نجد «د. طعيمة» لا يذهب أبعد من «أور» ودولة الكلدانيين رغم المفارقة
الزمنية، ثم لا يرى في حضارة العراق وشعبها (واصطلاح العراقة لغةً مأخوذ من عراق) سوى
أنه
شعبٌ وثني ومتخلف! لاحظْ مرةً أخرى (ومتخلف)! وللتوراة هنا — كما هو واضح — دورها الخطير
وأثرها العجيب، والتي لم يترك كاتبوها فرصةً للطعن فيمن اصطلحوا على تسميتهم «بني حام»
إلا
وانتهزوها، بل قد تجد اللعناتِ أحيانًا بدون مناسبة وفي غير سياقها، وهو أمر لا يحتاج
جهدًا
في كشفه، فإضافة إلى أن أرض كنعان كانت الغرض والمُشتَهَى، فإن العراق ومصر قد جعلوا
من
الدويلة الإسرائيلية زمنًا طويلًا كرة يتقاذفانها، ولم ينسَ هؤلاء أبدًا أنَّ الفرعون
«مرنبتاح» ومن بعده الفرعون «شيشنق» قد سحَقا هذه الدولة، ثم جاء العراقيون القدامى
الآشوريون أولًا، ثم «نبوخذ نصر» الكلداني، ليجهزوا على ما تبقَّى منها، ولم يكن بيدهم
سوى
صب اللعنات على رءوس العراقيين والمصريين.
أما اتفاق «ماير» و«طعيمة» على وثنية الشعب العراقي آنذاك وهو اتفاق مؤمنين، فربما
كان
مقبولًا للتعددية في العبادة، لكن ما لا يجبُ إغفاله أنَّ الشعب العبري نفسَه كان معدِّدًا،
وعبَدَ كثيرًا من الآلهة في آن واحد. ولعل أغرب الحقائق في بابه أنَّ الإله الذي عرف
في
التوراة خلال الحقبة الإبراهيمية، وطوال سفر التكوين، والمعروف بالاسم «إيل» أو «إل»
كان
إلهًا معبودًا لدى جميعِ الساميين، وفي كنعان، وبخاصة في العراق القديم! كما كان الاسم
«إيل» يُستَخدم كعلمٍ عامٍّ دال على أيِّ إلهٍ من آلهة الرافدين القُدامى، وفي التوراة
نجدُ
الاصطلاح الإلهي في سفر التكوين هو «إللوهيم» وهو الجمع العبري للمفرد «إل»، ويعني ببساطة
«الآلهة»!