«أور» المشكلة؟
ومرة أخرى نجمل المشكلة في موجزٍ يُحدِّدها ويوضِّحها:
-
إن الركب الإبراهيمي المهاجر قد خرج من «أور الكلدانيين» على الشاطئ الجنوبي لنهر الفرات، يقصد أرض كنعان الفلسطينية، مما يشير إلى أن الجزء الجنوبي من العراق القديم كان هو موطن النبي إبراهيم.
-
والمفروض أن كنعان هي فلسطين الحالية، وهي بذلك تقع إلى الغرب من «أور»، تفصلهما مسافة من بادية الشام الأردنية.
-
لكن الركب — دونما سبب واضح — يتحوَّل شمالًا، ويستمرُّ يضرب مسافات وبلدانًا ومواطن، ويتجاوزها جميعًا دون توقُّف، حتى يصلَ إلى ما تسميه التوراة «حاران»، وقد حدَّد الباحثون في التوراة موضع «حاران» المقصودة في أقصى الشمال، داخل الحدود الأرمينية التركية القديمة. وهنا لا مندوحةَ عن التساؤل: لماذا التحول من الطريق المباشر والقصير إلى كنعان، وتجشُّمُ مصاعبَ مضاعفة عدة أضعاف للوصول إليها عن طريق حاران؟ ناهيك عن أن هذه الرحلة التي ما كانت تستغرق على ظهور الحيوانات أكثر من عشرين يومًا مع التلكُّؤ الشديد، قد استغرقت عن طريق حاران خمسة عشر عامًا، أو أن هذه المدة — بالتدقيق التوراتي — هي الزمن الذي انصرَم، ما بين خروج الركب من «أور» إلى أن وصل «كنعان»!
-
والأهم أن «حاران» تبدو في رواية التوراة، كما لو كانت محطة ترانزيت معروفة، على الطريق من «أور» و«كنعان»، بينما الحقيقةُ أنها تقع إلى الشَّمَال، بعيدًا عن الطريق بمسافاتٍ شاسِعة.
ثم ماذا تقصد التوراة بهذا الإرباك؟ الذي تضاعفه بالإشارة إلى مواطنَ أخرى للعشيرة الإبراهيمية، فتقول: إن إبراهيم بعد استقرارِه في كنعان طلب من رئيس عبيده أن يأتيه بزوجةٍ لولده إسحاق، من بين أهل موطنه وعشيرته، فما كان من العبد إلا أن ذهبَ من فوره إلى «مدينة ناحور» (تكوين ٢٤)، وناحور جد إبراهيم، ونُفاجأ أن «مدينة ناحور» لا هي «أور»، ولا هي «حاران»، إنما هي «أرام النهرين»! وإحباطًا للباحِث، فإن التوراة تقصُّ علينا رواية أخرى، فقد سار إسحاق على الوفاء الإبراهيمي للأهل والعشيرة، إضافة للحفاظ على نقاء الدم العبري، لذلك أمر ابنَه يعقوب بمغادرة كنعان، ليأتي لنفسه بزوجةٍ من بلاد الأجداد، أو كما تقول التوراة: «فدعا إسحاق يعقوب وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين قم واذهب إلى «فدان أرام»، وخذ لنفسك زوجة من هناك، وإن يعقوب سمع لكلام أبيه وأمه، وذهب إلى فدان أرام، فخرج يعقوب من بئر سبع وذهب إلى «حاران» (تكوين ٢٧: ١، ٢، ٧، ١٠). فهل ثمة إرباك أكثر من ذلك؟
إسحاق يأمر يعقوب بالذهاب إلى موطن الأجدادِ للحصول على زوجة، والمفروض أن هذا الموطن هو «أور الكلدانيين»، لكن هذا الموطن يصبح في حديث إسحاق «فدان أرام»، ويسمع الابن المطيع نصيحة الوالدين طلبًا للرضى، وإخلاصًا للعرقية، وحفاظًا على نقاء الدم العبري، فتؤكد التوراة أنه «ذهب إلى فدان أرام»، لكن وبذات الإصحاح تؤكد أيضًا أنه «خرج … من بئر سبع وذهب إلى حاران»، هذا إضافة للموطن الذي ذهَب إليه عبد إبراهيم من قبلُ للحصول على زوجة لإسحاق، وهو «أرام النهرين بلد الجد ناحور» ونجد أنفسنا مع التوراة في متاهة من الدروب، كل منها يؤدي إلى موطن محتمل للقبيلة الإبراهيمية: «أور الكلدانيين» و«حاران» و«أرام النهرين» و«فدان أرام».
والغريب في أمر التوراة أنها بعد أن ذكرت «أور الكلدانيين» كمنطلق للهجرة، «نسيتها تمامًا»، بينما استمرت تضرب على تأكيد الأصل الحاراني مرة، والآرامي مرة أخرى. أما الجملة التي لم تملَّ تأكيدَها فهي: أن إبراهيم كان «آراميا تائهًا» (التثنية ٢٦: ٥).
وقد ظلت مسألة «حاراني» و«أرامي» تؤرِّقني فترةً من الوقت، اضطررت أثناءها إلى التوقف عن الكتابة في هذا البحث، وانهمكت في استكمال خطَّة بحثٍ آخر حول رحلة الخروج الموسوية من مصر، وكانت أهمُّ عقبات البحث في الخروج تحديدَ كمٍّ هائل من مسميات المواضع والقبائل والشعوب بشكلٍ دقيق، ومن هذه الشعوب الشعب الذي ذكرته التوراة باسم «الحيثيين»، وذهبتُ وراء المصادر أجمع المادة العلمية اللازمة عن الحيثيين، حيث اكتشفت حل مسألة «حاراني»، «أرامي» وعدت مع الكشف لاستكمال بحثنا هذا.
فإذا كانت الدويلات الآرامية قد تناثرت بطول الحزام الشمالي الذي عُرف ببلاد الحور، فإن ذلك يفسِّر لنا إصرار التوراة على القول بالأصل الحوري والآرامي معًا للقبيلة الإبراهيمية، وعليه لا أعتقد أني أجافي الصواب إذا افترضت أن حاران التوراتية، لم يقصد بها مدينة محددة بعينها (تلك التي تقع شمالي بلاد الشام داخل الحدود الأرمينية، التركية القديمة)، قدر ما قُصِد بها في التوراة منطقة واسعة شاسعة، تضم مجموعة الدويلات الآرامية (أرام صوبة، آرام النهرين، أرام معكة، فدان آرام، آرام بيت رحوب … إلخ). تلك الدويلات التي ضمتها بلاد الحور، أو الحوريون.
وإن هذا الفرضَ يفسِّر لنا بوضوحٍ كاشفٍ ومضيء قول التوراة: إن يعقوب خرج يقصد «فدان آرام» ليأتي لنفسه بزوجة، فذهب إلى «حاران»، ولا يبقى هناك تضارب، فقد ذهب يعقوب إلى مدينة «فدان آرام» الواقعة في بلاد «حاران» أو بلاد «الحور». كما يفسر لنا هذا الفرضُ بوضوح لا يقبل جدلًا قولَ التوراة: إن أرام النهرين «هي مدينة ناحور» (تكوين ٢٤: ١٠)، وناحور جد إبراهيم عليه السلام، ولا يفوت المهتم بالألسنية والحفر اللغوي، علامة مهمة في الاسم «ناحور» تؤيد فرضَنا وتدعمه، فناحور صاحب مدينة آرام النهرين، أو القاطن بها، يُنطق أيضًا «ناحار»، مثل «هارون»، و«هاران»، وبالقلب المعروف في اللسان السامي، يُقلب إلى «ناحار» إلى «حاران»!
- الوجهة الأولى: أنها تختلف مكانيًّا مع حاران أو بلاد الحور، حيث تقع «أور» في أقصى الجنوب، وتقع بلاد الحور في أقصى الشمال.
- الوجهة الثانية: أنها تختلف زمانيًّا، حيث لم تقم دولة الكلدان إلا بعد أن انقضى زمان النبي إبراهيم عليه السلام، بحوالي ألف عام أو يزيد.
وفي الوقت ذاته تؤكد التوراة: أن إبراهيم من نسل «أرفكشد بن سام ابن نوح»، مما أثار لدينا التساؤل: هل قصدت التوراة ﺑ «أور» مدينةً أُخرى تحمل ذات الاسم، ربما كانت تقع في منطقة الدويلات الآرامية «بلاد الحور»، قرب «أور» التي ألقت السفينة النوحية مراسيها قربَها، أو هي «أور-آرتو» ذاتها؟
- أولًا: لنقِفْ قليلًا مع الاسم «أرفكشد بن سام بن نوح» جد النبي إبراهيم، الذي
وضع بين يديَّ وصلات الأمر المبعثر، فإذا كانت الفاء تختلط بالباء، وتتبادل
معها في اللسان القديم «وحتى اليوم»، وإذا كان حرف «ش» يتبادل مع حرف «س»
في اللغات السامية وكثير من اللغات الأخرى، فإن الاسم «أرفكشد» ينطق أيضًا
— نطقًا صحيحًا تمامًا — «أربكسد».
والمنطقة الواقعة جغرافيًّا بين جبال أرارات الأرمينية، وبين بلاد الحور كانت تعرف باسم «آرابخيتيس»، وتعرف حاليًّا باسم «البك»، وبعلمنا أن لسان هذه المنطقة هندوأوروبي، فإنه بحذف التصريف الاسمي «الياء والسين الأخيرة» في كلمة «آرابخيتيس» تصبح «أرابخسد»، وبتبادل حرف «ك» مع حرف «خ» في اللسانين السامي والهندوأوروبي، فإنه يسوغ لنا القول دون تردُّدٍ: إن «أرابخسد» هي ذات التسمية «أربكسد» وعينها.
- ثانيًا: مع ما نعرفه عن الخاصية التوراتية، في تسمية البلدان بأسماء الأبطال، فإن اسم المنطقة «أربكسد» يلتقي تمامًا مع بطل من أبطال التوراة، هو «أربكسد» أو «أرفخشد» بن سام بن نوح، جد النبي إبراهيم،٤ ولا نعتقد أننا مخطئون إن احتسبنا منطقة «ربكسد» هي المعنية في التوراة ﺑ «أور الكلدانيين»، التي هي في الأصل العبري «أوركسديم»، و«كسديم» جمع عبري للمفرد «كسد»، فهي «أوركسد» أو «أوربكسد» أو «أربكسد».
- ثالثًا: إن أهم ما يؤيد هذا الحفر اللغوي، هو التسمية التي أطلقَها أهل الرافدين القديم على سكان تلك المناطق الشمالية، وكانوا يشكِّلون خطرًا داهمًا على البلاد، وقد غزوا بلاد الرافدين فعلًا، ودمروا بابل واحتلوها زمنًا، وأسَّسوا ما يعرف باسم دولة بابل الثالثة. هؤلاء هم من تشير إليهم النصوص الرافدية القديمة باسم «الكاسيين» أو اﻟ «كاسي» ولو جمعنا المفرد «كاسي» باللسان العبري، فإنه يصبح «كسديم»! فهل ترانا قد عثرنا على دليل مبين؟
- رابعًا: إن في التوراة ذاتها ما يؤكد مذهبَنا في موطنِ النبيِّ إبراهيم الأصلي،
فالنبي إبراهيم كما هو معلوم يعود بأُرومته إلى جدِّه البعيد «سام بن نوح»
وكان لسام أخوان هما «حام» و«يافث». وتحكي التوراة — كما أسلفنا — أن نوح
لعن النسل الكنعاني من أبناء حام، وبارك سام ونسله بالقول: «مبارك الرب إله
سام، ليفتح الله ليافث، فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدًا لهم» (تكوين
٩: ١٨–٢٧).
وحسب التقسيم التوراتي للأجناس (التكوين ١٠) فإن سام هو أبو كلِّ بني عابر وبني آرام وبني أرفكشاد. والعجيب أن كاتب هذا الجزء من التوراة، كانت لديه معلومة تقول: إن يافث ونسله كانوا يساكنون سام ونسله «ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام»، وحسب التقسيم التوراتي للأجناس، فإن يافث هو أبو الترك والصَّقالبة القُدماء، وهم ليسوا شيئًا آخر سوى سكان بلاد الحور الأرمينية وما جاورها، أفلا يعني ذلك أن مساكن سام التي سكنها يافث، كانت في المنطقة التي حددناها وعيناها كموطنٍ أول للعشيرة الإبراهيمية؟!
- خامسًا: إن «ماير» يشير إلى معلومة قديمة متوارثة، تعطينا خاتمًا توثيقيًّا على ما ارتأيناه، فيقول: «كان الرأي السائد قديمًا أن مدينة أور تقع أعالي ما بين النهرين، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتتْ أنها تقع في الجنوب في أطلال مغير، بالقرب من مَصَبِّ نهر الفرات في الخليج الفارسي.»٥
وهكذا فإن «ماير» يلقي بمعلومة قديمة متوارثة من وراء ظهره، تقول: إن «أور» تقع أعالي ما بين النهرين، وهو ما حدَّدناه، بلاد الحور الأرمينية. لكن «ماير» لم يلتفت إلى أن الاكتشافات الحديثة كشفت فقط عن مدينة تسمى «أور» تحت أطلالِ مغير العراقية، لكنَّها لم تكشف عن أصول العشيرة الإبراهيمية هناك، وتم هذا الربط من جانب الباحثين التوراتيين، فربطوا «أور الكلدانيين» — وهي كما علمنا ترجمة خاطئة — وبين أور المكتشفة في جنوبِ العراق، وقد علمنا أنها «أوركسديم» أو «أور الكاسيين» في منطقة «أرابخيتيس» الحورية، وهي على ما يبدو كانت معلومة شفاهية قديمة، مجهولة المصدر والزمان، ظلَّتْ تتواتر شفاهة، ولكن رفضها الباحثون بعد الكشف عن «أور» العراقية.
وتأسيسًا على كل ما أوردناه، وإعمالًا لمجموعة القرائن التي توصَّلنا إليها، فإنه لم يعد هناك أيُّ مبررٍ للبحث عن حاران تجاور أور الكلدانيين أو أور العراقية، كما حاولت الخريطة المرفقة بالتوراة أن تفعل، ولا يعد مرور النبي إبراهيم عليه السلام بمنطقة حاران في أقصى الشمال داخل الحدود التركية الحالية مثيرًا للتساؤل أو الاستغراب؛ لأنه في هذه الحال لم ينطلق من «أور الكلدانيين» في الجنوب، متَّجهًا إلى «حاران» في أقصى الشمال، ليعود مرة أخرى جنوبًا نحو كنعان، إنما ستتسق الأمور — وَفق طرحِنا — وتنضبط، فيغادر النبي منطقة «أربكسد» المعروفة حاليًّا باسم «إلبك» جنوب غربي أرمينيا، ويتَّجه إلى بلاد الحور أو «حاران»، وتصبح حاران بذلك محطةَ ترانزيت منطقية تمامًا في الطريق إلى كنعان، كما يصبح مفهومًا إشارة التوراة المترجمة لكافة اللغات، ومنها العربية «عن الأصل العبري» أنه خرج منها، دون سبب واحد تبرر به ذلك، ورغم إشاراتها المتعددة والمتكررة التي تؤكد آرامية النبي إبراهيم.
إذا كانت التوراة قد وصفت النبي إبراهيم عليه السلام بأنه رجل آرامي، فقد انتهينا إلى أنه رجل «حوري» أيضًا، ولم يزل اللسان الشامي يحتفظ إلى الآن بهذا المعنى، فرجل الدين أو الكاهن هو «الخوري»، والخاء تختلط بالحاء دون ضير، مما يشير إلى أن الاشتغال بأمور الدين كان يغلب على أهله العنصر الحوري، لذلك كان جليًّا في التوراة أبوة إبراهيم عليه السلام للأنبياء، ولا يغيب عن الخاطر أنه في المنطقة الحدودية بين المنطقة الكاسية الهندوأوروبية والمنطقة العراقية والكنعانية وهي سامية، كان سهلًا أن يتبادل حرف «ح» مع حرف «أ» أو مع الهمزة، ومن هنا كان ممكنًا أيضًا أن تُنطق حور الواقعة في المنطقة الكاسية أو «حور الكاسيين» بالنطق «أور-كاسيين»، والتي يجب نطقها عبريًّا «أور-كسديم»!
وقد تبدو النتائج التي وصلنا إليها مخالفة لما تعارف عليه جمهور الباحثين، وخاصة أن كثيرًا من البحوث قد أثبتتْ تطابق ميثولوجيا التوراة مع ما كشف عنه من تراث رافدي، مما يشير إلى أن أصل العبريين يعود فعلًا إلى العراق، بل إن هذا التطابق في المأثور كان من أهم أسباب تأكيد «أور» العراقية كموطن أول للعشيرة الإبراهيمية. وفُسر التطابق بين المأثورين بأن العبريين قد أخذوا معهم التراث الرافدي ليسجل بعد ذلك كعقائد في التوراة، بل إن كاتب هذه الدراسة مرَّ عليه وقت كان يأخذ بهذه النظرية في بعض بحوثه المنشورة، لكننا الآن نرى أن تطابق المأثور التوراتي مع التراث الرافدي القديم، لا يعني بالضرورة أن أهل التوراة كانوا من أهل العراق، إنما نجد للأمر أسبابًا أخرى لعلَّ أهمها أن أهلَ الرافدين من بابليين وآشوريين عندما حطموا المملكتين العبرانيتين: يهوذا والسامرة، بعد عصر إبراهيم عليه السلام بأكثر من ألف عام، واستاقوا اليهودَ أسرى ليعيشوا على ضفاف دجلة والفرات في عبق التاريخ العريق، تعرف العبريون الأسرى هناك على المأثور الرافدي وتمثلوه بعد طول مقام، هو ذات الأثر الذي تركه التراث المصري والكنعاني في التوراة، واصطنع العبريون لأنفسهم تراثًا تمَّ استخلاصه من تراث المنطقة التي كانت تموج بظواهر التحضُّر وما يلزم عنه ويفرزه. ولعل أهم دعم لهذا الرأي هو إجماع الباحثين في التوراة — تقريبًا — على أن الأسفار الخمسة الأولى الكتاب المقدس (وهي التي يطلق عليها تحديدًا اسم التوراة، وهي الأسفار التي أُجريتْ عليها دراسات ومقارنات شتى مع المأثور الرافدي، والتي حوَتْ معظم ما يتصل بالتراث العراقي) لم تُكتَبْ قبل عام ٤٠٠ق.م، هذا ونعلم أن: الأسر الآشوري لليهود قد بدأ عام ٧٢٢ق.م، أي إنَّ الأسفار التوراتية التي تطابق المأثور العراقي قد كتبت بأثر لا جدالَ فيه لهذا المأثور فهل لم يزل ثمة نقاش؟
وآخر أدلتنا على الأصل الخوري أو الحوري أو الآرامي للقبائل الإبراهيمية، وأنها كانت عناصر وافدة على المنطقة، يضطرنا إلى وقفة سريعة عَجْلَى مع النبي موسى التوراتي وإلهه «يهوه» المنطوق عبريًّا «جاهوفاه، بتعطيش الجيم وبفاء مثلثة التنقيط» وقد قصدنا التعبير «موسى التوراتي» قصدًا، لتمييزه عن النبي موسى عليه السلام كما يعرفه المسلمون.
ومن المعلوم أن موسى التوراتي قد نشأ في كنَف فرعون مصر وربا في بلاطه، لكنه تورط في جريمة قتل، قتل فيها مصريًّا انتصارًا لواحد من بني جِلدته، فهرب من البلاد خوف القصاص ونزل البلاد الموسومة في التوراة بالاسم «مديان»، وقد حددها أهل التوراة في سيناء مع امتدادٍ إلى الشرق شمالي جزيرة العرب، وسار الآخرون خلفَهم وتم تسجيلها على الخرائط على هذا الأساس، لكن مع البحث والتقصي فإننا لا نجد في نصوص مصر القديمة ما يشير إلى بلاد في سيناء، أو على الحدود الشرقية لمصر تعرف باسم «مديان»، والمفترض أن مصر تعرف حدودها جيدًا. نعم هذه النصوص تتحدث عن بلاد باسم «ميتان» أو بالقلب «متيان»، لكن هذه البلاد تقع في أقصى حدود الإمبراطورية المصرية شمالًا، وليست على الحدود السينائية، بمعنى أن «متيان» هذه تقع وفق النصوص المصرية فوق الحزام الشمالي لبلاد الشام الخاضعة آنذاك للحكم المصري.
ومن هنا ذهب بي الظنُّ إلى أن «ميتان» أو «ميتاني» التي ذكرَتْها النصوص المصرية، ربما كانت هي «مديان» في قصة موسى التوراتي، خاصة إذا ما تذكرنا أن اللسانَ المصريَّ الرقيقَ كان يقلب حرف «د» إلى «ت»، فلماذا لا تكون «ميتان» باللسان المصري هي «مديان» باللسان العبري؟
وربما يعضد ذلك أن مصر آنذاك كانت قد طوتْ تحت جناحها الأيمن كلَّ بلاد الشام حتى الفرات شرقًا، أما آخر حدودها الشمالية فكان هو بلاد «ميتان» والتي كانت عثرةً على الحُدود الشمالية، فكانت تبدي الخضوعَ لمصر وتصطنع لها الود، لكنها كثيرًا ما لعبت دورًا رديئًا في مساعدة الثورات الإقليمية، التي كانت تنشب هناك، وما كان ممكنًا لهاربٍ من العدالة أن يظلَّ داخل أي أرض مصرية، ومن ثَمَّ كان الهروب المناسب هو إلى بلاد ميتان أو مديان، أما أهم ما في هذه الجزئية فهو أن بلاد مديان هذه إنما كانت جُزءًا من بلاد الحور، وضمن الحزام الشمالي الذي سبَق وجاء منه أجداد موسى التوراتي في زَعمنا.
وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقًا … وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة. ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل وهو الجاري شرقي آشور والنهر الرابع الفرات.
وبالبحث فإنك لا يمكنك العثور في المنطقة على موضعٍ تنبعُ منه أنهار أربعة، سوى قمم أرمينيا، وهو ما افترضناه مَوطنا أصليًّا للعشيرة الإبراهيمية، ومن هذه القمم ينبع نهرا دجلة والفرات، ويستديران غربًا فجنوبًا إلى أن يصبَّا في الخليج العربي، ومن ذات القمم ينبع نهرا «كورا» و«أراكس» ليَصُبَّا في بحر قزوين، ولعل قصة التوراة في حديثها عن خروجِ أبي البشر من جنة عدن، إنما كانت تردد قصة خروج آبائهم هم من منطقة منابع الأنهار الأربعة، لتستوطن جنوبًا، لأسباب ما زالتْ تحتاج بحثًا وتقصيًا جلدًا، وربما كان المأثور الذي ذكره المسعودي عن الرجف والزلازل وتحزيب الأحزاب، مؤشِّرًا للطريق الواجب اتباعه.
وأرسل أمامك الزنابير، فتطرد الحيثيين والكنعانيين والفرزيين والحويين.
فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيِّدة وواسعة تفيض لبنًا وعسلًا، إلى مكان الكنعانيين والحيثيين والفرزيين والحويين.
والبرهان هنا على صدق أطروحاتنا أن جاهوفاه سيطرد من الطريق: الأموريين والكنعانيين، وهم تاريخيًّا شعوبٌ انتشرتْ في الطريق بين مصر وبلاد الحور. لكن إذا كانت فلسطين هي الغرض، فما بال رب التوراة يريد طرد الحيثيين منها؟ ولا حيثيين بفلسطين! إنما ما يعلمه التاريخ هو وجود دولة باسم دولة الحيثيين، كانت تقع إلى الشمال والغرب من «ميتان»، أو ما افترضناها «مديان»، وهي بهذا التحديد إنما تقع تحديدًا داخل بلاد الحور!
ثم من هم الحويون؟ بالبحث لا تجد أبدًا شعبًا في المنطقة عُرف بهذا الاسم، إنما يوجد الحوريون، ومن المعلوم أن بعض اللهجات كانت تسقط حرفَ الراء، ولم يزل منتشرًا في بعض اللغات بشكل حاد، وينتشر فرادى فيما يعرف بلثغ اللسان، وكان قديمًا وحديثًا من خصائص شعوب بعينها، وربما لا نجانب الصواب كثيرًا، إن افترضنا هؤلاء «الحويين» هم «الحوريون».
وهكذا، فإننا بإزاء بلاد يريدها موسى التوراتي، ليستْ هي فلسطين إنما تقعُ إلى أقصى الشمال، وليست فلسطين، وأهلها الكنعانيون ليسوا سوى عقبةٍ في الطَّريق، سيمطرها جاهوفاه بالزنابير، والفرزيون أمرهم مجهول، «وربما أهلكَتْهم القوات الجوية»! لكن موسى التوراتي يموت قبل تحقيق المُراد، ولا يدخل الأرض التي خرج إليها وعاش يحلم بها (أرض الأجداد، بلاد الحور وجنة اللبن والعسل)، ويترك لأتباعه استكمالَ المهمة، لكن كان واضحًا أن همم الأتباع قد قصُرت عن كل المبتغى، وتوقفت عند حدود فلسطين.
ولنلحظ أن العرب الإسماعيلية قد أطلق عليهم: العرب العدنانية! فهل يشير ذلك إلى ذكرى في التراث عن أصل هؤلاء، وقصد منها التعريف بموطنهم «عدن» أو ما أطلقت عليه التوراة «جنة عدن»؟ حيث الأنهار الأربعة، ربما. وربما كان هبوط بعض هؤلاء وتوغُّلُهم جنوبًا في جزيرة العرب، هو الذي أعطي مدينة «عدن» اليمنية اسمها الحالي، تيمُّنًا بعدن الأصلية في الشمال حيث جنة الحور الكاسية.
ربما!
ورغم احترامنا لجهد د. صليبي، ورغم أن هذا الجهد في بعض جوانبه يدعم فروضنا القادمة، حول رحلة النبي إبراهيم إلى الجزيرة العربية، فإننا قد فضلنا عدم المجازفة مع د. صليبي إلى أن تطرأ أدلة كافية على مذهبه، ومن هنا سيذهب فرضنا أن النبي إبراهيم قام برحلته إلى جزيرة العرب وعاد منها إلى فلسطين، التي هي عند الباحثين حتى الآن كنعان التوراتية، ولأن د. صليبي كان متمكِّنًا من بحثه اللغوي، فقد أخذنا عنه حفره وراء ثلاث كلمات فقط ستردُ في بحثنا هذا، أولها «أوركسديم» التي وردت في بحثه المعنون: «التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العلمية بيروت، ط٢، ص٤٩».
وفي هذه النقطة نشير إلى أنه قد سبق لنا كتابة بحث حول جنةِ عدن التوراتية، بعنوان: «وفي جزيرة العرب كانت جنات عدن» ونشرته مجلة المنار، وأشرتُ فيه إلى أن هذه الجنة التوراتية تقع في اليمن، بعد أن التبس عليَّ أمر الرحلة الإبراهيمية، وقد انصرمتْ منذ كتابته حتى الآن خمس سنوات، كانت كفيلة بإعادة النظر في المسألة، لذلك وجب التنويه.