الرحيل جنوبًا
وخرَج النبيُّ إبراهيم عليه السلام من مصر.
صعد إبرام من مصر وامرأته، وكل ما كان له، ولوط معه «إلى الجنوب»، وكان إبرام غنيًّا جدًّا في المواشي والفضة والذهب، وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل، إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.
ولنتذكر قول التوراة: «أراميًّا تائهًا كان أبي» (تثنية ٢٦: ٥)، فهو ما لا يجب أن ينساه اليهودي عن جدِّه إبراهيم: «أراميًّا تائهًا» كان أبي! والمتأمِّلُ في سيرة النبي إبراهيم التوراتية يستشعر مدَى صِدق هذا الوصف وحال النبي، فمن الواضحِ في إصحاحات التكوين، أنه لم يستقرَّ زمنًا في مكان واحد، وكلما أناخ في موطن بنى مذبحًا لربه، أو بالتعبير المتواتر في التوراة «فبنى هناك مذبحًا، ودعا باسم الرب».
وعلى الطرف الآخر نجد كتب التراث الإسلامية تصرُّ من جِهَتِها على علاقةٍ وطيدة للنبي إبراهيم بجزيرة العرب، وأنه جدُّ النبي محمد ﷺ عبر إسماعيل، وأن إبراهيمَ وولدَه إسماعيل من بناة الكعبة الحجازية البيت الإلهي الذي قدَّسَه العرب قبل الإسلام بزمانٍ، وهو مما يثير أمامنا الإشكالَ من جديد حول الأصل الآرامي للنبي إبراهيم بعد أن أغلقناه، حيث سنجد احتمالًا آخر للآرامية في الجزيرة العربية، ورغم أنَّ التوراة لم تأتِ بذكرٍ واضح لرحلة قام بها إبراهيم لجزيرة العرب، ورغم أن التراثَ الإسلامي لم يحاولْ نسبةَ الأصل الإبراهيمي لجزيرة العرب إنما عده وافدًا وزائرًا، فإنَّ الإشكاليةَ تظهر فيما تمدنا به وثائق التاريخ العربي، حيث نجد تقسيمًا — لا شك لم يأت من فراغ — للعرب إلى: عرب عاربة بائدة، وعرب مستعربة باقية، وكان أشهر العرب البائدة أهل «أرم»، حتى صار اسمهم علمًا على العرب البائدة فعرفوا بالأرمان.
ثم ارتحل إبرام ارتحالًا متواليًا «نحو الجنوب».
فصعد إبرام من مصر … «إلى الجنوب».
وانتقل إبرام من هناك إلى «أرض الجنوب»، وسكن بين قادش وشور، وتغرب في جرار.
وإذا كانت التوراة قد أوضحَتْ أن إبرام لما خرجَ من مصر اتَّجه إلى الجنوب، فإنها تستمرُّ بسرعة خاطفة، لتقول: «وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل، إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.» مما يشير إلى فجوة كبرى وسط الرواية، فهي بسرعة تقول إنه عاد من الجنوب، ولا تعلمنا لماذا خرج من مصر واتجه جنوبًا من الأصل، ولأي هدف كان نزوله جنوبًا، ولا الأحداث التي جرت له هناك، ولا المدة التي قضَاها في هذا الجنوب كما هي عادة التوراة التي عهدناها مُفصَّلة إلى حدِّ الإملال، كما لو كان هذا الجزء من الرواية قد اقتطع اقتطاعًا، فيعود النبي فجأة من الجنوب إلى الشمال حيث بيت إيل، المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.
وهنا يبدو أن إصرار الإخباريين المسلمين على علاقة إبراهيم بجزيرة العرب اكتسبَ مسوِّغاته، بل أصبح واضحًا أن العلاقة يمكن أن تملأَ فراغًا وفجوة كبرى بالرواية التوراتية، لهذا وجبَ أن نقف هنيهة مع ما أورده الرُّواةُ المسلمون عن زيارة الخليل لجزيرة العرَب، والتي ترتبط بميلاد إسماعيل من المصرية هاجر.
وأما ساراي امرأة إبرام فلم تلِدْ له، وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر، فقالت ساراي لإبرام: هو ذا الرب أمسَكَني عن الولادة، ادخل على جاريتي لعلِّي أُرزق منها بنين، فسمع إبرام لقول ساراي … فدخَل على هاجر فحبَلت، ولما رأتْ أنها حبلت صغرُت مولاتها في عينيها، فأذلتها ساراي فهربتْ من وجهها، فوجدَها ملاك الرب على عين الماء في البرِّيَّة، على العين التي في طريق شور، وقال: يا هاجر جارية ساراي … ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها. وقال لها ملاك الرب: تكثيرًا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حُبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل، لأنَّ الرب قد سمع لمذلَّتِك وأنه يكون إنسانًا وحشيًّا، يده على كل واحد ويدُ كل واحد عليه.
ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لإبرام، وتكلَّمَ اللهُ معه قائلًا: أما أنا فهذا عهدي معك، وتكون أبًا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرًا جدًّا وأجعلك أممًا، وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدع اسمها ساراي، بل اسمها سارة، وأباركها وأعطيك أيضًا ابنًا منها، سارة امرأتك تلد لك ابنًا وتدعو اسمه إسحاق. وأقيم عهدي معه أبديًّا لنَسلِه من بعده، وأجعله أمة كبيرة. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه، وأجعله أمة كبيرة … «ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة» … وظهر الرب له عند بلوطات ممرًّا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، وإذا «ثلاثة رجال» واقفين لديه، فأسرع إبراهيم إلى الخيمة، وقال لسارة: أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميدًا، اعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقَر وأخذ عجلًا رخصًا وحيدًا وأعطاه الغلام، فأسرع يعمله، ثم أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذي عمله، ووضعها قدَّامَهم، وإذ كان واقفًا لديهم تحت الشجرة «أكلوا»، وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحيواة، ويكون لسارة امرأتك ابن … «فضحكت» سارة في باطنها قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزحُ، فقالت لإبراهيم: اطردْ هذه الجارية وابنَها؛ لأن ابنَ هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فبكر إبراهيم صباحًا، وأخذ خبزًا وقربةَ ماء وأعطاهما لهاجر، واضعًا إياهما على كتفيها والولد وصرفهما، فمضتْ وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرَغَ الماء من القربة، طرحت الولد تحتَ إحدى الأشجار، ورفعت صوتها وبكَتْ، فسمع الله لصوت الغلام وفتح الله عينيها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة وسقتِ الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وحدث من بعد هذه الأمور أنَّ الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم، فقال: ها أنا ذا، فقال: خذ ابنك «وحيدك» الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح ورتَّب الحطب وربط إسحاق ابنه، ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء، وقال: إبراهيم، إبراهيم، فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئًا؛ لأني قد علمت الآن أنك خائف من الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه ونظر، وإذا كبش وراءه ممسكًا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة، عوضًا عن ابنِه، فدعا إبراهيم اسم ذلك المكان يهوه يرأه، حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى.
وهنا يحاول الداعية «ماير» أن يُوعِزَ لقارئيه بأن إنجابَ إسماعيل من هاجر، كان عصيانًا لأمر الله، وبالطبع ما يترتَّبُ على هذا المعنى من لفظ العقل الإيماني للنسل الإسماعيلي، ويضعُ غرضَه في صيغةِ تساؤُلٍ يقول: «هل كان هناك ارتياحٌ خفيٌّ لذلك التدبير، أن يدخل إبراهيم على هاجر ليرزق منها نسلًا؟ الذي حقق غايةً محبوبةً على الأقل، «ولو أنَّ الله لم يكنْ راضيًا عنه»، هل كان يخشى أنه دُعي ليقدِّمَ إسحاق ذبيحة، وجد ذلك أمرًا هيِّنًا، إذ يستطيع أن يستعيضَ عنه بإسماعيل كوارث له؟» وهكذا فالمبشر «ماير» يريد القول أنَّ النبي علم بمسألة التضحية مسبقًا، فأراد التحايل على القدر الإلهي بإنجاب طفلٍ من هاجر ليكون بديلًا، بمعنى أن يضحي بابن الجارية؛ ليُحيى ابن الحرة. والعجيب أن تجد مثل هذا المنطق لدى كاتب تترجم كتبه وتباع في مختلف الأنحاء، والعجب إنما في عدم اقتناعه الابتدائي بشأنِ إسماعيل، ثم إسقاط هذا الشعور على تفسير يجعل النبي يخدع هذه المرة ربَّه نفسَه، بمحاولة تنفيذ القدر والهرب منه في آن معًا، فينجبُ إسماعيل للذبح وإسحاقَ للوراثة، والقرار أو النية بذلك قد عقدت مسبقًا قبل أن يُنجبَ إبراهيم أيًّا منهما، وعليه فإن النبي جهَّزَ ابن الجارية للذبح فداءً لابن الحرة، وهو منطق وفهم يمجُّه عرف أدنى الشعوب إلى الهمجيَّة، فما بالنا والأمر مع النبي، ثم وما بالنا وصاحب المنطق والافتراض مبشِّرٌ وداعية من بين أكثر المبشرين انتشارًا وأطولهم باعًا؟!
أما أي قارئ متعقل فإنه سيلمس مباشرة وضوح التوراة إلى حدِّ السذاجة في محاولة سحب البساط من تحت النسل الإسماعيلي؛ لتكون أرض كنعان خالصة لبني إسرائيل أحفاد إسحاق أخي إسماعيل، بمبررات مثل: غيرة النساء، وصراع الميراث والبنوة للأمة، أم للحرة، وخضوع الرب التوراتي ونبيه لمثل هذه الترهات.
وهكذا لم يُوردْ كاتب هذا الجزء من التوراة أيةَ إشارة لجزيرة العرب. وفي ذات الوقت تعمد إهدار وضع إسماعيل لكونه ليس خالص العبرية، وشابتْ دمَه المِصرية، لكن ما لا يفوت باحثًا مدقِّقًا، أن هذه الأحداث جميعًا قد تتالتْ بعد خروج النبي إبراهيم من مصر على طريق غزة (طريق جرار)، وأنه عندما خرج من مصر حسب الرواية التوراتية يمَّمَ نحو الجنوب، ولا جنوب في هذه الحال إلا جزيرة العرب، هذا إضافة إلى أن إبراهيم قد بدل اسمه من «إبرام» إلى «إبراهيم»، وبدَّل اسم زوجته من «ساراي» إلى «سارة» مما يشير إلى سُكنى إبراهيم وزوجته بعض الوقت بين قوم لحَنوا في اسمه واسم زوجته، فتغيَّر نطقه في لسانهم من إبرام إلى إبراهيم، ومن ساراي إلى سارة.
هذا ناهيك عن قصة تضحيةِ الأرض وفداء الدم، الذي اعتاد ربُّ التوراة طلبه مقابل أعطياته، وعطاؤه هنا هو أرض كنعان، والعجيب في أمر التوراة إشارتها إلى أن الابن المضحَّى به كان هو إسحاق، والتوراة بذلك تخالف شرعتها التي استَنَّتْها هي في التضحية بالبكر، ثم زيادةً في تأكيد إسحاق للتضحية، فإنها لم تر بأسًا في تكرار أن إسحاق هو وحيد إبرام، وهكذا ألغتْ إسماعيل من التاريخ العبراني (ولوجه الحقِّ فإننا من جانبنا نرى التوراة حسنًا قد فعَلت)، وواضح أن التوراة قد استبعدت إسماعيل؛ لأن دمَه ليس عبرانيًّا خالصًا، لأنه قد شابه الدَّم المصري، وهو كما تعلمنا الكتب الإخبارية، ذلك الدم الذي ساد العرب بعد ذلك الزمن بزمان.
وعليه فإن اليهود قد استَنْكفوا أن يكون المذبوح إسماعيل؛ لأنه سيكون أضحيةً مُعابة الدم، وعليه فلابد أن المذبوح كان إسحاق، حتى لو خالف ذلك شرعة التضحية بالبكر، وحتى لو أنكر إسماعيل تمامًا وأصبح إسحاق بكر إبراهيم ووحيده.
وقد ذكر القرآن الكريم قصة الذبح، لكنه لم يذكر الذبيح بالاسم، وإن كان التراث الإسلامي يعرف النبي محمدًا ﷺ بابن الذبيحين، والمقصود بالذبيحين: أبوه عبد الله، الذي كاد يكون ضحيةً للإله هبل، إيفاءً لنذر جده القريب عبد المطلب، وإسماعيل جدُّه البعيد الذي كاد يكون ضحية للإله «إيل»، والذي انتسب إليه إسماعيل باسمه «سمع-إيل»!