فراعنة اليمن
وإذا كنا قد اتفقنا مبدئيًّا، ولو بصفة مؤقتةٍ، أنَّ النبي إبراهيم عندما غادر مصر،
ترافقه زوجته سارة وهاجر المصرية، وابن أخيه لوط، قد اتجهوا جنوبًا إلى جزيرة العرب،
فأول
ما تصف التوراة وجهتهم تقول: إنها إلى أرض «كجنة الرب كأرض مصر» (تكوين ١٣)، والتعبير
يحمل
معنى التشابه البيئي، وربما تشابه المسمى أيضًا، وهو ما لا يتطابق مع أرض الحجاز، الوادي
غير ذي زرع.
وهنا نقِفُ مع الحافظ ابنِ كثير لنجده يتابع النص الظاهريَّ للتوراة، فيقول: «ثم
إن
الخليل عليه السلام، رجَع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها،
ومعه أنعام ومال جزيل»،
١ ويلحظ ابن كثير أنه قد أورد في حديثه كلمة، ربما كانت غريبة على مسامع قارئه هي
«التيمن»، فيستدرك موضحًا: «التيمن تعني أرضَ بيت المقدس»،
٢ وهو بذلك إنما يتابع التوراة، ويعني ببيت المقدس «بيت إيل الفلسطيني»، ولكن لأن
للحقيقة أقدامها الثابتة، فقد نفذت في رواية ابن كثير، تلك الحقيقة التي — لا شكَّ —
تواترت
محفوظة في ذاكرة الأجيال، حتى وصلَتْه شفاهة أو مدونة، أقصِدُ بتلك الحقيقة اسم تلك الأرض
التي توجَّه إليها النبي عندما غادر مصر، التي ذكرها ابن كثير باسم «التيمُّن»، والمدقِّق
لا يجد التيمن في فلسطين، وإنما يجدها ترجمةً للمعنى الوارد في التوراة أنَّ النبي عندما
خرج من مصر «توجه جنوبًا»، فالمسعودي وهو يلبس ثوب أستاذ الجغرافيا، ويشرح لنا تضاريس
الأرض
وحدود البلدان والبحار، نجده يستخدم مصطلحين للدِّلالة على الجنوب، الأول هو «يمن» أما
الثاني فهو «تيمن»،
٣ ثم نلجأ للمتخصصين في أركيولوجيا اليمن نستقرئهم عسانا نجد المبتغى، فنجد
«فرتزهومل» يحدثنا عن الموضع «يمنت» على الشاطئ الغنيِّ بالبخور جنوب حضرموت القديم،
٤ و«يمنت» بالقلب هي «تيمن»!
كما لا يغيب عن الفَطِن أن الكلمة «تيمن» والكلمة «يمن» تشتركانِ في جذرٍ واحد في
حال كون
«تيمن» اسمًا، أما في حالة حسبانها فِعلًا (مع تشكيل حركات حروفهما بالفتح)، فستكون فعلًا
ماضيًا يعني اتَّجَه إلى اليمن، ارتحل جنوبًا، وتيمَّن بالشيء سعد به واستبشر وبلاد اليمن
هي بلاد العرب السعيدة، أو بلاد السعد.
ثم تقول التوراة: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب، وسكن بين قادش وشور» (تكوين
٢٠: ١)، وتكرر التوراة الإشارة إلى الموضع «شور» عدة مرات، كموضعٍ أو مدينة شهيرة في
تلك
البلاد الجنوبية التي ارتحل إليها إبراهيم (انظر كمثال: تكوين ١٦: ٧؛ وأيضًا ٢٥: ١٨؛
وأيضًا
٢٠: ١)، ولأن الباحثين لم يُعِيروا مسألةَ الخروج من مصر إلى الجنوب اهتمامًا، فقد أخَذُوا
بالقول التوراتي، وحسبوا وجهته إلى «بيت إيل» الفلسطيني، ومن ثَمَّ افترضوا أن المقصود
من
«شور» هو بلاد آشور الرافدية شمال شرقي فلسطين، وكانت تتمركز آنذاك في الجزءِ الشَّمالي
من
بلاد الرافدين.
ومما يشكك لدينا في كون «شور» قصد بها دولة «آشور» الرافدية، فهو قول التوراة في
موضع آخر
«شور التي أمام مصر» (تكوين ٢٥: ١٨)، بينما بلاد آشور لا تقعُ في الطَّريق إلى مصر، ولا
أمامها ولا خلفها، ثم إنَّ التوراةَ في مواضع أخرى كانت تتحدَّثُ عن بلاد آشور بالكلمة
«آشور» وعن أهلها ﺑ «الآشوريين»، وليس «شور»، ومن ثم تساءلت: لماذا لا تكون شور حسب
أطروحاتي موضعًا باليمن، وتكون بذلك من خير القرائن على صدق فروضي؟ وبالفعل أخذت أبحث
عن
«شور» في بلاد اليمن، وجمعت المعلومات الجغرافية القديمة وإحداثيات الأماكن، ووزعتها
على
خريطة اليمن، مؤسِّسًا ذلك على فرضِ أن المصريين الذين تواجَدوا في جزيرة العرب (الجراهمة
العمالقة بني منف) قد سكَنوا اليمن أول أمرهم، وسبق أن أشرنا للمسلَّمَات الموروثة التي
سجَّلها المسعودي وابن هِشام في كون العمالقة من بلاد اليمن، وأنَّ على هذا الفرضِ تتأسس
فروض جزئية أهمها أن هؤلاء العمالقة كانوا سببًا في إطلاق اسم مصر على منطقة سُكناهم
في
بلاد اليمن السعيد، لكن جهودي ضاعتْ هَباء وأنا أرهق النظر والجهد في خريطةٍ تلوَ أخرى،
وكدت أصرفُ النظرَ عن هذا الأمر حتى جاءني الدليل، وأنا أقلِّب في صفحات موسوعة «د. جواد
علي» وهو يؤرِّخُ لدولة قتبان اليمنية القديمة، ويقول: إن أهم المدن القديمة فيها وأكثرها
شهرة، كانت مدينة «شور».
٥ وعليه يصحُّ ممكنًا تدعيم الموقف بمزيدٍ من الأدلة التي أخذت تتتالى وتفرض
وجودَها.
ومن ثم عُدنا إلى تاريخ «أورسيوس» للعالم، وبخاصة للجزء الذي يتحدَّث فيه عن جغرافية
العالم القديم وحدود البلدان، فوقفنا على أمرٍ غاية في الأهمية، فبعد أن يذكر أورسيوس
حدود
ما يطلق عليه اسم «مصر الأدنى» يبدأ الحديث عما يسمِّيهِ «مصر الأقصى»، وقد ذهب الباحثون
بما فيهم محقق تاريخ أورسيوس نفسه «د. عبد الرحمن بدوي» إلى أنَّ مقصد أورسيوس بمصر الأدنى
هو منطقة الدلتا والوجه البحري من مصر، أو ما اصطلح على تسميته بمصر السفلى، وأن مقصده
بمصر
الأقصى هو الجنوب المصري أو صعيد مصر، أو ما اصطُلحَ على تسميتِه «مصر العليا».
ولكن لو تابعنا أورسيوس سنجده يقول: «وأما مصر الأقصى فإنها بلد ممتد إلى «ناحية
المشرق»،
وحدُّه في الجوف هو خليج العرب، وفي القبلة البحر المحيط، وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى
وفي الشرق بحر القلزم.»
٦
وما يجب التنبيه إليه هنا، هو أن أورسيوس يتحدَّثُ عن مصر الأقصى، بالنسبة الإحداثية
لمصر
الأدنى، فيقول: إنها بلد ممتدَّة إلى ناحية المشرق، وعليه فلا يمكن أن يكون الصعيد هو
المقصود؛ لأنه يقع جنوبَ مصر وليس شرقَها، والمشرق بالنِّسبةِ لمصر ليس شيئًا آخر سوى
جزيرة
العرب، ثم إنه يضع أول حدود مصر الأقصى وأعلمها «خليج العرب»، وخليج العرب ليس حدًّا
من
حدود مصر عليا أو سُفلى، صعيدًا أو دلتا، ثم إنه يضع الحد القبلي «القبلة» أو الجنوبي
«البحر المحيط». وجنوب مصر هو عمق أفريقيا وليس في جنوبها بحار، فما بالنا والحد «بحر
محيط»؟! أما جزيرة العرب، فحدها القبلي أو الجنوبي هو فعلًا بحر محيطٌ، وهو الذي نعرفه
بمصطلحات اليوم باسم «المحيط الهندي».
وفي موضع آخر يتحدث «أورسيوس» عن الزمان الذي مات فيه يعقوب النبي حفيد إبراهيم النبي،
فيقول: «وفي ذلك الزمان مات شرايس أمير مصر، الذي زعموا أنه صار من الأوثان»!
٧ وأول عجَبٍ هنا أن «أورسيوس» أو غيره من المؤرِّخين قد اصطلحوا في حالِ حديثِهم
عن ملوك مصر الكبرى سيدة بلاد الشرق القديم، باسم «الفراعنة»، ولم يذكر التاريخ حالة
واحدة
أشارت لملك مصري بغير اصطلاح فرعون، وعندما خرج القرآن الكريم على مألوفة في نعت ملك
مصر
بفرعون، وأطلق على ملك مصر زمن النبي يوسف اسم «العزيز»، كان ذلك مدعاة للشك في هوية
الجالس
على عرش مصر آنذاك، وذهبت طائفة محترمة من الباحثين — لهذا السبب — إلى حسبان حكام مصر
في
ذلك العهد لم يكونوا مصريين، بينما ذهب بعضهم إلى افتراض أن يوسف وأهله دخلوا مصر وقت
احتلالها من الهكسوس، لذلك أطلق القرآن الكريم على الملك المصري في عهد يوسف اسم أو لقب
«العزيز»، فما بال «أورسيوس» يتحدث عن «شرايس أمير مصر»؟ أما مصر نفسها فلم تعرف نصوصها
كلمة أمير، إلا للدلالة على ولاتها المنوبين عنها في ولاية البلدان التابعة لها، ونواب
الفرعون على الأمصار الخاضعة للإمبراطورية، إضافة إلى أننا قد بحثنا في قوائم ملوك مصر،
وعلى مختلف القراءات، فلم نجد ملكًا حكم مصر باسم «شرايس»، أو «شرا» بعد حذف التصريف
الاسمي
«الياء والسين»، لكن ما نعرفه يقينًا أن بلاد اليمن قد عبدت معبودًا باسم «ذي الشرى»،
وأنه
قد انتشرت عبادته من اليمن إلى مختلف بقاع الجزيرة، حتى زمن الدعوة الإسلامية، واحتفظ
بأصله
اليمني محفوظًا في اللازمة «ذي»، على غرار «ذي يزن، ذي نواس» … إلخ،
٨ ولدينا افتراض إضافي هو أن المصريين القاطنين بلاد اليمن، ربما تمثلوا الأم
الكبرى مصر في معبود «ذي الشري»؛ لأن «ذو شريت» كان اسمًا من أسماء مصر وبالتحديد
الهضبتين.
نحن هنا إذن مع «مصر الأقصى» مع مصر أخرى غير التي نعرفها، مصر تقع في طريقها مدينة
«شور»، وأنشر حدودها خليج العرب وبحر محيط، وعبدت «ذي الشري» إضافة إلى حدها الغربي وهو
مصر
الأدنى، والذي لا شك قصد به «أورسيوس» مصر الكبرى التي نعرفها التي امتدت يدها
الإمبراطورية؛ لتطوي حدود بلدان ذلك الزمان، فطوت السودان، ونالت من الحبشة، ووصلت حملاتها
إلى بلاد «بونت» الصومال، وفرضت على ملكتها الحماية المصرية، لذلك يكون طبيعيًّا تمامًا
أن
تكون حدود مصر الجنوبية، فيما وصل أورسيوس من علوم القدماء، تقع إلى الغرب من مصر الأقصى،
أو ما افترضناه بلاد اليمن، ولا يفصلهما سوى مضيق باب المندب الذي لم يمنع الاتصال بين
البلدين طوال عصورهما (الحبشة واليمن)، لذلك كان تعبير أورسيوس الذي يغرب على بال أهل
زماننا، لكنه كان مفهومًا تمامًا لأهل زمانه، «وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى»!
ومن أهم ألغاز التاريخ الكبرى، والأحجية التي حيرت ذوي الحجا، ولم تزل تلك القبور
الهرمية
والهضبية الهائلة في «عمان»، وفي واحة «يبرين»، وفي «ساحل الحسا»، وفي جزيرة «البحرين»،
وبلغ عددها في جزيرة البحرين وحدها حوالي ١٥٠٠٠ قبر (وذلك حسب تقدير الآثاري إبراهيم
معاوية)، أو حوالي ١٧٢٠٩٣ (وذلك حسب تقدير الآثاري لارسن)، تضم ما يزيد على ٥١٦٢٧٩ قبرًا
إفراديًّا.
واللغز هنا يكمن في أن هذا العدد الهائل من القبور، لا يتناسب مع عدد سكان البحرين،
الذي
لم يزد وقت ازدهارها على ٩٦١٨ نسمة في أعلى التقديرات. لذلك كان أهم افتراضات حل اللغز،
أن
تلك القبور قد أُعدت كمكان للدفن المقدس، لسكان وادي الرافدين، لكن أخطر اعتراض يواجه
هذا
الفرض هو أنه لم يعثر في النصوص الرافدية ذاتها حتى الآن، على ما يشير إلى اعتقاد الرافديين
القدماء، في حياة سعيدة في عالم خالد من بعد الموت، بل إنهم لم يعتقدوا في البعث أصلًا،
حتى
نتصورهم يعيرون الموت كل هذا الاهتمام ببناء مقابر هضبية، ومصاطب هرمية هائلة.
ويزيد الأمرَ بُعدًا عن الإقناع، هو أن تلك المقابر قد بُنِيتْ خارج حدود الرافدين،
مما
يدفع إلى التساؤل عن وجاهة السبب الذي يدفع لكل هذا العَناء، في نقل رُفات الموتى من
بقاع
شتى في الرافدين ليُدفنوا على سواحل الخليج العربي وعلى مبعدة أكثر من ثلاثمائة ميل أو
يزيد! ومن هنا ظلَّتْ هذه القبور التي تنوف على نصف مليون قبر، وتعد أكبر مقبرة في الشرق
القديم، لغزًا غير قابل للحل، مما دفع آخر من بحث هذا الأمر (كارلوفسكي)، إلى أن يرفع
صوته
متسائلًا مستنكرًا: «إنها ظاهرة تتطلب تفسيرًا، إلا أن الجميع قد تجاهلوا ذلك.»
٩
والحقيقة أن طرحنا لم يتركنا في موضع واحد مع المتجاهلين، ووفق خطنا المنهجي لا نرى
في
الأمر ألغازًا ولا أحاجي تطلب تفسيرًا؛ لأن الشعب الوحيد في الشرق القديم الذي اهتم بتسخير
جميع أنشطته الدنيوية من أجل حياته الأخروية، واعتقد جازمًا في عالم سعيد آخر، هو الشعب
المصري بلا منازع، وهو الشعب الذي تميز بكثافة سكانية هائلة، تسمح أن تكون هجرة القليل
منه
كمًّا كبيرًا، قياسًا على جيران من الأمم، ناهياك عن أن هؤلاء المهاجرين كانوا يشملون
العدد
الأكبر من العارفين بأصول الدين.
وعند بحثي عن كل ما يهم موضوعي في الكتب التي تناولت تاريخ اليمن، وجدت عند المؤرخ
اليمني
«أحمد حسين شرف الدين» معلومة خطيرة؛ إذ يجزم بيقين أن الأمة التي عاشت هناك أو آنذاك
كانت
لا تقل عن أربعين مليون نسمة،
١٠ وهو ما لا يمكن تصوُّره إذا قصرنا النظر على مجموعة البدو الخيمويين المستقرين
هناك، لكن يمكن قبوله في ضوء ما سبق وطرحناه.
وعندما كنت على وشك إغلاق هذا الجزء من الدراسة، فاجأني دليل مهمٌّ وخطير، يصادق تمامًا
على أطروحاتنا، ولوجه الحق إننا لم نتوقع مثل هذه القرينة المبينة في الظروف الراهنة
على
الأقل، وقد جاءنا الدليل في شكل خبر بالنشرة الإخبارية للصحافة بالتلفاز المصري، والتي
تذاع
حوالي الحادية عشرة صباحًا يوم ٢٢ / ٢ / ١٩٨٨م، ويقول الخبر: إنه قد اكتُشف في مقابر
جزيرة
البحرين عدد من الجعارين الفرعونية، إضافة إلى تمثالين صغيرين لأبي الهول المصري، وقد
تأكدت
مصريةُ هذه القطعِ النادرة من الكتابة الهيروغليفية المنقوشة أسفل التماثيل، وفي ذات
اليوم
بحثت في الصحف المصرية عن مزيد، فوجدت الخبر ينزوي في ركن صغير من الصفحة الأخيرة بصحيفة
الأهرام، ويقول: «أبو الهول صغير، اكتشافه في البحرين: عثر في البحرين على نماذج صغيرة
لتمثال أبي الهول، وقد نُقشت أسفله بعض الكتابات الهيروغليفية في أحد مدافن قرية سادة
شمالي
البحرين، وصرح عبد العزيز صويلح مراقب الآثار بإدارة السياحة والآثار بدولة البحرين،
بأنه
قد عثر على تمثال أبي الهول الصغير الذي يعتقد أنه يستخدم كنوع من الأختام، وذلك ضمن
مدفن
خاص بامرأة.»
إلى هنا ينتهي الخبر الصغير عن أبي الهول الصغير، الذي انزوى في الصحيفة، ربما عن
استهانة
بشأنه، لكن غاية ما نرجوه في ضوء ما قدمناه من شواهد في هذا البحث أن يعيد الباحثون إليه
قيمته وقدره، ولربما أفرد لأبي الهول الصغير بعد ذلك صفحات، تليق بدلالات سفره الطويل
إلى
الساحل الشرقي لجزيرة العرب منذ ألوف السنين، ثم نجد أكثر من رواية إخبارية تشير إلى
وقوع
بعض الناس على مقابر آثارية، أيام الجاهلية والإسلام يمكن بالتدقيق فيها، أن تجد العين
الفاحصة أكثر من علامة مصرية قديمة، رغم ما شاب هذه الروايات من مزاعم تلفيقية ومبالغات،
وتخريجات ناتجة عن عدم إمكان التفسير الصادق، فاتجهت إلى تفاسير مزعومة تلتئم وواقع الفكر
هناك وحينذاك، فيقول برهان الدين الحلبي في السيرة: إنه «في زمن عمر بن الخطاب، فُتِحت
تُسْتَر المدينة المعروفة، فوجدوا تابوتًا، أو في لفظ سريرًا، عليه دانيال عليه السلام،
ووجدوا طول أنفه شبرًا، وقيل ذراعًا، ووجدوا عند رأسِه مصحفًا، فيه ما يحدث إلى يوم القيامة.»
١١
ومعلوم أن العرب لم يعتادوا الدفنَ في غرف أو أقبية، كما لم يعتادوا دفن موتاهم في
توابيت، أو وضعهم على أسرة، والمواصفات الواردة في الرواية تطابق إلى حد مثير، أسلوب
قدماء
المصريين في دفن موتاهم، إضافة إلى ما أسماه النص مصحفًا أو كتابًا، وهي عادة مصرية بحتة،
وهو المعروف باسم «كتاب الموتى»، وكان يوضع في قبور الموتى بلا استثناء، ليهدي الميت
في
آخرته سواء السبيل. أما القول إن المقبرة المكتشفة في تستر المدينة كانت لدانيال النبي
أو
غيره؛ فإنه من قبيل التخريجات لتفسير ما ليس له تفسير. فواضحٌ أن المقبرة كانت فخمة إلى
حد
احتاج معه المفسرون إلى شخصية تتناسب وعظمتها، ولم يكن العهد آنذاك يرى من هم أعظم من
الأنبياء، كما لم يكن مُمكنًا الزعم بأنها مقبرة نبيٍّ معلوم الشأن، لما في ذلك من حساسية
تشوبها القدسية والتابو، ومن هنا لم يكن ثمة بأس من اختيار نبي توراتي مثل دانيال، لا
تزعج
المسلمين مسألة دفنه سواء على سرير أو في تابوت، في كثير أو قليل.
وثمة رواية أخرى أكثر إفصاحًا عن المصرية، واضح أنها تتحدث عن كشف لمقبرة من نوع
خاص.
فيروي السهيلي، حديث عبد الله بن جدعان، وهو شخصية حَظِيَتْ بالأهمية، حتى سجلها كُتَّاب
التراث المسلمون بعد زمان، لما حالفه من حظ الثراء المفاجئ والغنى الذي لم يبلغه غيره،
فيقول: «وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكًا تَرِبَ اليدين، نفاه أبوه وحلف ألا يؤويه
أبدًا، فخرج في شعاب مكة حائرًا بائرًا يتمنَّى الموت أن ينزل به، فرأى شقًّا في جبل
فظنَّ
فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم ير شيئًا فدخل فيه، فإذا
ثعبان
عظيم له عينان تَقِدَانِ كالسراجين، فحمل عليه الثعبان فأفرج له، فانساب عنه مستديرًا
بدارة
عندها بيت، فخطا خطوة أخرى فصفر به الثعبان وأقبل عليه كالسهم، فأفرج عنه، فانساب عنه
قدمًا
لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أنه مصنوع فأمسكه بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان،
فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم يرَ مثلهم طولًا وعظمًا، وعند
رءوسهم لوحُ فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال «من ملوك جرهم»، وإذا في وسط البيت كوم عظيم
من
الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ، ثم علَّمَ الشق بعلامة وأغلق
بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم،
فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس ويفعل المعروف.»
١٢
ولعله واضح أن كلتا الروايتين تبالغ في أحجام المومياوات المكتشفة؛ فأنف المزعوم أنه
دانيال من شبر إلى ذراع، والجثث التي عثر عليها ابن جدعان لم ير مثلها هولًا وعِظَمًا،
وهو
أمر يعكس الظن الصادق من جانبنا في أصل أصحاب هذه المقابر، وأنهم ربما كانوا عمالقة،
لذلك
كان السهيلي سهلًا في فهمه، فأضاف دون حرج عن هذه المومياوات قوله: «وإذا هم رجال من
ملوك
جرهم»، وهو ما يصادق على زعمنا أن العمالقة هم الجراهمة هم المصريون، كما لا يحتاج لبيان
قصة الثعبان، الإله المصري «مجر-ست» الثعبان، حامي التيجان والتميمة المقدسة، وحامي المقابر
الملكية، وكانت توضع له نماذج في مقابر العظماء من الذهب الخالص، ويطعم بالأحجار الكريمة،
هذا إضافة إلى اكتشاف ابن جدعان أنه مصنوع، رغم الإخراج الفني للرواية الذي يزعم له حركة
وهجومًا … إلخ، إضافة إلى أن لوح الفضة عند الرأس والقدمين يسجل الابتهالات من أجل
الميت، هو طقس مصري قديم، واضح المصرية. وإذا كنا قد
وقعنا إبَّان بحثنا على مثل هذه النوادر، في كتب الأخبار الإسلامية فلا ريب أن الذي لم
يصادفنا أكثر، كما لا شك أن مثل هذه النوادر والكشوف لم تكن كل الكشوف الحقيقية، إنما
فقط
ما وجد منها طريقَه إلى التسجيل، إضافة إلى حسبان أنها كشوف تمت بالصدفة البحتة، مما
يشير
إلى عدد لا شك كبير من القبور التي تناثرت على صفحة الجزيرة تعلن عن أصحابها.
أما الأمر العظيم لأمرنا هذا، ذاك الذي أدهش أهل التاريخ، ولأن المدهشات في التاريخ
كثيرة، فقد اكتفوا بإبداء الدهشة ووضعوا أمامه علامات التعجب، وسجلوا حوله استفهامات
تطلب
إجابات لم تأتِ أبدًا، ثم غلَّفوه بعناية وحفظوه في سلة مهملات التاريخ، وأرشفوه ضد
مجهول!
وهو ما يوجزه الباحث العراقي، والمؤرخ الكبير «طه باقر» يلخِّص فيه أمر هذا المدهش،
واتجاهات أصحاب الرأي فيه، في كتاب من أضخم كتبه وسَمه باسم «الوجيز» يقول فيه: إن نصوص
الحضارة الرافدية، كانت تتحدث عن بلاد ذات علاقات مستمرة مع بلاد الرافدين القديمة، أهمها
«قطران» ترافق ذكرهما في النصوص المسمارية، مما يشير إلى تجاورهما، وهما: قطر «مكان»
بكسر
الميم، وقطر «ملوخا»، ويوضح أن الباحثين قد اتخذوا قرارًا باعتبار «مكان» هي منطقة «عمان»
الحالية بجزيرة العرب، وقد أشارت النصوص المسمارية إلى واحد من ملوك القطر «مكان» باسم
«مانيئيم»، وأنه كان معاصرًا لفترة حكم الملك الرافدي «نرام سين»، أما القطر الثاني «ملوخا»
فقد عينه الباحثون بالحبشة الحالية.
١٣
أما ذلك المدهش الذي ظلَّ بلا إِجابة، فيأتي في تساؤل «طه باقر»: «ومع أن الاسم مكان
كان
يطلق على منطقة عمان في العصور القديمة، إلا أن الاسم نفسه صار يطلق في العصور المتأخرة
من
تاريخ العراق القديم على بلاد مصر، الأمر الذي يثير
تساؤلًا محيِّرًا، هو: هل كان المقصود من قطر مكان وملكه مانيئيم في عهد نرام سين بلاد
مصر؟!»
١٤ ولا يغيب عن القارئ أن عمان أرض يمنية، ولم تزل تحسب كذلك، كما لا يغيب عنه
أيضًا أن الأستاذ باقر، قد اكتفى بطرح السؤال وإبداء العجَبْ، وتجاوز الأمر بعد ذلك إلى
سرد
باقي تفاصيل تاريخ العراق القديم.
وعند المسعودي رواية يتحدث فيها عما يسميه بحر الزنج، فيقول: «وقد ركبت أنا هذا البحر
من
مدينة سنجار، وهي قصبة بلاد عمان، مع جماعة من نواخذة السيرافيين، وهم أرباب المراكب،
وذلك
بميكان وهي محلة سيراف»،
١٥ (لاحظ أن الكلمة سيراف تعني ثعبان، والسيرافيون إذن هم أصحاب الثعابين، ولا
ننسى الطقس المصري في وضع نموذج مصنوع للحيَّة على الرأس كتميمة للحماية).
إذن فالمسعودي كان يعرف في بلاد اليمن موضعًا باسم «ميكان»، واستخدم الرافديون القدماء
اسم «مكان» للدلالة على بلاد يمنيةٍ وعلى أرض مصرية في الوقت ذاته، مما شكَّل إزعاجًا
للباحثين، لا نرى له محلًّا بعد أطروحاتنا وما قدمناه من قرائن، تفترض أن اليمن حازت
اسم
مصر بأهلها من مصريين، كما أن الاسم «مانيئيم» الذي أشير إليه في النصوص المسمارية كملك
لبلاد «مكان»، في ضوء التحليل اللغوي يمكننا أن نرى فيه شاهدًا على فرضنا، فهو بالقلب
يصبح
«يمنيم»، والكلمة يمنيم في اللغات السامية العراقية، وفي العبرية، هي جمع للمفرد
«يمني».
أما الذي يجب أن نذكره الآن فهو أن أداة التعريف اليمنية، كانت «ن» تلحق بآخر الكلمة،
وعليه فإن «مكان» إنما هي «مكا»، وهو ما يجعلنا نفهم بوضوح حديث النبي محمد
ﷺ الذي
كان فيما يبدو واضح المرامي لدى المسلمين الأوائل، وهو يقول
ﷺ: «ما هنا يمن وما هنا
شام، «فمكة من اليمن».»
١٦ وقوله
ﷺ: «أتاكم أهل اليمن، وهم أرق أفئدة وألين قلوبًا، «الإيمان
يمان»، والحكمة يمانية»،
١٧ وقوله
ﷺ: «أنا يمانٍ والحجر الأسود يمان، والدين يمان»،
١٨ وفي الحديث أيضًا: أن أول من أجاب إبراهيم حين أذن بالحج هم «أهل اليمن»،
١٩ وروى البخاري أن الرسول
ﷺ قال: «الإيمان ها هنا، «وأشار بيده إلى اليمن».»
٢٠
وقبل أن نستطرد في الحديث عن، «مكة اليمنية» بعد الدليل النقلي عن محمد
ﷺ: أن مكة
من اليمن، لا بأس من ذكر بعض التداعيات، فالصفة «أم القرى» صفة مكة، وتعني أم البلاد
أي أم
الدنيا، والنعت «أم الدنيا» يستدعي مصر حتى لو لم تذكر بالاسم، وفي دراسة الباحث «نجيب
البهبيتي» لملحمة جلجامش الرافدية يذهب إلى أن الملحمة من أصل يمني، وهذا لا يعني موضوعنا،
لكنه في معرض هذه الدراسة مر مرور الكرام، على معلومة تعنينا تمامًا، وهي أن الباحثين
قد
وصلوا إلى أمرٍ شبهِ مؤكد، يؤكد «أن أقرب اللغات القديمة إلى لغة المصريين القدماء، هي
اللغة اليمنية القديمة»!
٢١
أما نحن فقد لحظنا شبهًا كبيرًا بين طريقة تخطيط الخطِّ اليمني المسند، وبين خطوط
الكتابة
السينائية، (في عام ١٩٠٥م عثر فلندر بتري في مناجم النحاس المصرية، بوادي معرار غربي
سيناء،
بين السويس ورأس محمد، على رسوم بدائية وأحد عشر نقشًا في أبجدية جديدة، خليط بين
الهيروغليفية وإشارات أخرى أجنبية)، وقد عقَّب المؤرخ والآثاري «ديتلف نيلسن» على هذه
الكتابة بقوله: «إنها تشير إلى الأصل المصري للأبجدية، أو الأبجدية الأم، وترجع إلى
١٨٠٠–١٥٠٠ق.م وهي الحلقة المفقودة في تطور الأبجدية»،
٢٢ بينما عقب الآثاري «فرتز هومل» بالقول: «إن هذه الكتابة تؤكد العلاقة بين
الأبجدية السامية والمصرية، لأنه من المستبعد أن توجد أبجديتان مرَّتين في العالم القديم،
ومستقلتان عن بعضهما، وتستخدمان الحروف الصامتة وإشارات الهمز.»
٢٣
وهذا يعني لدينا أن الاتصال الذي حدَثَ بين المصريين والساميين، وراء هذا التطور في
الأبجدية، التي انتقلت إلى مسند اليمن بعد ذلك، (وفي ضوء هذه الملحوظات قد نرجو أن يجد
بحثنا هذا طريقَه إلى اقتناع باحث مهتمٍّ بالكتابة القديمة، حيث تفوق دراسة هذه النصوص
—
دراسة دقيقة — قدراتنا، فلكل أربابه والعارفون بدقائقه ومنمنماته).
وملحوظة أخرى مهمة في هذا المجال، هي أنه قد عثر مؤخرًا على منطقة أثرية شمالي شبه
الجزيرة العربية، ثبت أن دولة معان اليمنية، قد أقامَتْها في هذه المنطقة كمستعمرة متقدمة،
ومحطة ترانزيت تجارية، باسم «معان مصران» والترجمة الدقيقة لاسم هذه المستعمرة هي: معان
المصرية!
أما ما لفت النظر فهو عدَم إمكان وجود تفسيرٍ مقبول لهندسة ريٍّ متقدِّمة إلى حد كبير
ومتميز في اليمن القديم دون سوابق وتمهيدات، وما كان ممكنًا أن تنشأ دون خبرات طويلة
سابقة،
لا تتوافر إلا لدى سكان مناطق نهرية من الأصل، وهو ما يمكن وضعه كقرينة مع سابق أدلتنا
على
سكنى المصريين بلاد اليمن.