مكة اليمنية
في النقوش المكتشفة حتى الآن، في آثار الجنوب العربي، ورد اسم غريب «أكثر من ألف
مرة»،
وكان واضحًا أنه علم على إلهٍ معبود، زعم الباحثون في آثار اليمن أنه اسم لمعبود سبئي،
كما
زعموا أنه كان إله القمر، ويعد أشهر معبودات اليمن طرًّا، وقد اجتهد هؤلاء في فهم الاسم
ما
بين اللامع والثاقب هذا هو الإله الذي سجَّلَتْه النقوش باسم «المقة».
١
لكن على الجانب الآخر، يكشف لنا القرآن الكريم أن سبأ قد عبَدَت الشمس، وجاء ذلك في قول
الهدهد لسليمان، وهو ينقل له خبرَ ملكة سبأ:
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ (النمل: ٢٤). والمعلوم عن عبادة الشمس
أنها تسود في المناطق النهرية والبلدان الزراعية، لما تقومُ به الشمس من دورٍ أساسي في
حياة
النبات ونضوج المحصول، لذلك عبَدها السومريون باسم «أوتوا
AUTU»، وعبدها البابليون وهم شعب سامي بالاسم
«شمس
SHAMASH»، والمصريون عبدوا الشمس باسم
«رع
RA»، و«آمون
رع
RA-AMON»، و«آتوم رع
RA-ATUM». وفي كل الحالات
كان هو رب الدولة والعرش، أما القمر فكان في العادة معبود الصحراء والبدو، لما له من
أهمية
في ليلها الموحش، ومن ثَمَّ فإن إشارة القرآن الكريم لعبادة دولة سبأ اليمنية للشمس،
إشارة
واضحة لارتباط هؤلاء أيضًا بالفلاحة والزرع، ويقول السهيلي: «وسبأ اسمه «عبد شمس وكان
أول
من تتوج» من ملوك العرب.»
٢
ورغم أن الأمر ليس بقاعدة دائمة، ولا يمنع عبادة كلا الجرمين في أرض واحدة، فإن إشارة
القرآن الكريم لعبادة الشمس في دولة سبأ، إنما تعني أنه كان الإله المعتبر لديهم عن بقية
الآلهة، ومن ثَمَّ دفعتنا إشارة القرآن الكريم إلى مزيد من البحث وراء جذور سبأ، وكانت
المفاجأة العظيمة أن يعلمنا الآثاري «فرتز هومل» أن هناك إشارات لا مجال للخلاف حولها،
تؤكد
قدوم السبئيين إلى بلاد اليمن، نازحين من مكان ما في الشمال. أما المفاجأة الثانية، فهي
أن
دولة سبأ بوجه خاص قد تميزت بكثرة الملكات من النساء، وهو أمر إن كان غريبًا تمامًا على
الطبع البدوي، فإنه بشواهد التاريخ وطبيعة المجتمع، لم يكن غريبًا على المصريين! فأثار
الرافدين تذكر في نصوص «بتجلتجسلر الرابع» ملكة من سبأ باسم «سمس»، كذلك أشارت نصوص
الرافدين إلى ملكة سبئية باسم «زبيبي»، كذلك أشارت نصوص العاهل الرافدي «أسر حدون» إلى
ملكة
سبئية دون أن يشار إليها بالاسم، وأخرى ذكرتها نصوص «سنحريب» ومن أسماء ملكات سبأ اللاتي
أنشأن علاقات مع حكومات الرافدين، الملكة «يثعي» والأميرة «تبوءة» أيام حكم الملك الرافدي
«أسر حدون».
٣
ولكن كان لعبادة القمر أيضًا دورها لدى سكان اليمن وكل بادية العرب، فقد عبده القتبانيون
والحميريون بالاسم «عم» وعم القبيلة سيدها، وعبَدَه الحضارمة باسم «سين» و«ياسين»، وعبَدَه
المعانيون بالاسم «ود» وعبده السبئيون كما سبق وأشرنا، حسبما يذهب المؤرخون باسم «المقة»،
وإن كان لدينا تصور خاص يذهب إلى أن عبادة «المقة» تمثل نوعًا من التطور في العبادة،
ومبعثنا إلى ذلك هو أن كل أنواع الآلهة التي ذكرها الإخباريون المسلمون عن عبادات العرب
قبل
الإسلام ذكرت شتى أنواع الآلهة بأسمائها عدا «المقة»، رغم أنه كان أشهر هذه الآلهة، ولم
يكد
يخلو نقش من اسمه، ومع ذلك وجدت جميع الآلهة طريقها للتدوين في كتب الأخبار بينما لم
يرد
اسم المقة بالمرة، وهو ما أثار حيرة الباحثين ودهشتهم ولم يزل! ومن هنا وقفنا مع «المقة»
ذلك الاسم الغريب، نحاول الفهم.
ووجه الغرابة في نظرنا يكمن في أمرين: الأمر الأول، ويتعلق بحرفي «ال» في أول كلمة
«المقة»، ونحن نعلم أن أداة التعريف في العربية الشمالية كانت هي «ﻫ» في أول الكلمة،
مثل
«هبعل» أي الإله «هبل»، ثم أهملت العين بالتخفيف، لينطق بعد ذلك «هبل» كبير أصنام الكعبة
زمن البعثة الإسلامية، أما في العربية الجنوبية، فكانت أداة التعريف هي حرف «ن» يلحق
بآخر
الكلمة، مثل قولهم: «رحمنن» أي «الرحمن»، ومن ثم كان تساؤلنا: ما هي دلالة الألف واللام
في
اسم «المقة»؟!
أما وجه الغرابة الثاني، فيتعلق بحرف التاء الأخير في «المقة»، وحرف التاء مضافًا
أو
لاحقًا بآخر الكلمة، سواء عربية شمالية أو جنوبية، فكان غرضه التأنيث، بينما تفهمنا النصوص،
التي راجعناها أكثر من مرة عند «جلازر» و«هوميل» و«نيلسن» و«كانالكيس» وغيرهم، أن المقة
إله
ذكر، ومن ثم كان تساؤلنا الثاني عن الحكمة من إضافة «تاء» التأنيث لاسم علم، يدل على
معبود
ذكر!
وقد سبق لنا أن عالجنا هذه الجزئية في بحثٍ مستقل، نشرته الكرمل «عدد ٢٦ تصدر في
نيقوسيا»، وبدأنا بالمشكلة الأولى «الألف واللام – إل»، ووجدنا حلَّها في عدة إشارات،
نذكرُ
منها إشارة «موسكاتي» إلى شخصية إلهيةٍ، وصفها بأنها غامضة، تحمل اسم «إل»،
٤ وقد سبق وأشرنا إلى معبود عبراني يحمل ذات الاسم «إل»، وكان قبل ذلك علمًا
إلهيًّا معروفًا في بلاد الرافدين والشام القديم، وإشارات أخرى أكد فيها «نولدكه» وآخرون،
وكذلك «د. جواد علي» أنَّ «إل» كان إلهًا معروفًا في عبادات الشعوب السامية القديمة بلا
استثناء،
٥ إلا أن هؤلاء لم يوضِّحوا لنا دلالتَه بشكل صريح، كذلك أكد «ديتلف نيلسون» أن
معبودًا باسم «إل» كان معروفًا في كل بقاع جزيرة العرب (ونيلسن من أبرز أركيولوجيى الجزيرة
وبخاصة الجنوب العربي)، ويرى أنه كان اسمًا ذا دلالة عامة، فيقال: «إل كذا»، ويتبع «إل»
باسم الإله المقصود، ويضيف «نيلسن» أن «إل» ورد كعلمٍ لإلهٍ خاص في النقوش السبئية والقتبانية،
٦ ورغم أهمية هذا الأمر فإن نيلسن لم يوضِّحْ لنا أيَّ إله خاصٍّ تسمى بالاسم
«إل» وعلى أية منطقة من الطبيعة، أو على أية ظاهرة طبيعية كانت دلالته، هذا وقد أفادنا
«ريكمانز» أن «إل» قد جاء في النقوش السبئية، يحمل اللقبين «فخر» بمعنى العظيم، و«تعلى»
بمعنى تعالى،
٧ أما هوبر فقد أثمرت أبحاثه ونشاطه، الكشف عن «إل» في النقوش الثمودية بالصيغة «إله-ن»،
٨ وباعتبار حرف «ن» الأخير هو أداة التعريف، فإن المعنى واللفظ سيكون «الإله» أو
«الله».
وتأسيسًا على هذه المعاني يمكننا الزعم أن حرفي «أ» و«ل» في أول المقة، إنما تعني
الله أو
الإله، وبذلك تتركب كلمة «المقة» من مقطعين أو ملصقين، وهي خاصية في اللغات السامية،
فتعني
الإله أو الرب «مقة»، ونتذكر مرة أخرى أن الإخباريين المسلمين، كان واضحًا أنهم لا يعلمون
شيئًا عن «الرب مقة» سيد أرباب الجنوب.
وتبقى الإشكالية الثانية، وهي «تاء» التأنيث في «المقة»، وأتصور حلها يمكن استخلاصه
من نص
قتباني، يشير إلى الذبائح المقدسة بقوله: «مختن ملكن بمكي»،
٩ وتأخذ الباحثة «منقوش» بترجمته إلى «المذبح الملكي بالموضع مكي»، وعليه فالنص
يشير إلى موضع للذبح المقدس وتقديم القرابين، وأن هذا الموضع يقع في منطقة تحمل الاسم
«مكي»
مع ملاحظة تعبير النص الأصلي «مختن» فهو يعني مقر «الختان»، والختان كما هو معلوم كان
شرعة
مقدسة، تمارس في أيام محددة في أماكن مقدسة، لدى الشعب المصري بوجه خاص، ولم تزل تمارس
في
مقامات الأولياء وموالدهم حتى اليوم، إضافة إلى أن المختن تعني أيضًا المذبح.
وهنا يثور التساؤل الحذر: إذا كان المعبد المقدس للإله حيث تتم عملية الختان، أو تقديم
الأضاحي، يقع في منطقة «مكي»، فهل هناك علاقة بين اسم الإله الغامض «المقة» أو «الرب
مقة»،
وبين «مكي» في النص: مختن ملكن بمكي؟
هناك مشكلة ظاهرية يمكن أن تواجه هذا الاقتراح، وهي أن النص قتباني، وقتبان كانت
تعبد
الإله القمر باسم «عم» وليس باسم «المقة»، إلا أن هذه المشكلة الظاهرية يمكن أن تساعد
على
الحل، ولنطرح تصورنا لهذا الحل في الخطوات التالية:
- (١)
ورد عند ابن طيفور المصري، وعند القيرواني، أن بعض أهل اليمن كانوا يقلبون
القاف كافًا، كما يفعل أهل فلسطين اليوم، وكثير من المناطق الأخرى، وفي اليمن
ذاتها، ومن هنا لا نستبعد العلاقة بين «مكي» و«مقة».
- (٢)
إن إشارة النص القتباني إلى المذبح الملكي بكونه في الموضع «مكي» مع ما
عرفناه عن تقديسهم للإله «إل» وتلقيبهم له باللقبين «فخر» و«تعلى»، والصيغة
التي يعتبرها «هوبر» لقيته، أقصد «إله-ن» أي «الله» وتشير إلى «إل»، ومع ما
علمناه عن «إل» كعَلَم ذي دلالة خاصة على إله خاص لدى القتبانيين والسبئيين
معًا — فيما زعم نيلسن — ومع ما افترضناه حول كون «الألف» و«اللام» في أول
«المقة» إنما هي «إل» أي إله أو رب، مع هذه المجموعة من الإشارات، نجدنا شبهَ
مضطرين إلى استنتاج أن معبد «إل» على الأرض، سواء كان قتبانيًّا أم سبئيًّا،
إنما كان يشار إليه بالاسم كان يشار إليه بالاسم «مكي»، ويقدس معبده ومحيطه
كحرَم خاصٍّ له.
- (٣)
ومن هنا نقترح أن يكون اسم «المقة» ليس خاصًّا بإله خاص، إنما يعني «إل مقة»
أو «إله مكي». وهنا ننتقل خطوة أخرى فنحتسبُ ترجمة النقشِ «المقة» إلى «الرب
مقة» ترجمة غير دقيقة، ويجب أن تكون «إله مكي» أي إله المعبد المسمى «مكي»،
وبذلك لا يعد لفظ «المقة» اسم عَلَم يطلق على إله القمر السبئي — كما زعم
الباحثون — إنما يصبح مع هذا الاجتهاد بمعنى «رب البيت» أو «بيت الرب»، ويعضد
ذلك أنه فيما يبدو كانت كلمة «مك» أو «بك» تعني البيت، أو ربما البيت المقدس في
اللسان السامي، ومثال لذلك معبد «بعلبك» في لبنان، والكلمة «بعل-بك» تعني بيت
البعل، وكان البعل إلهًا كنعانيًّا فينيقيًّا في تلك المناطق كإله للخصب
والخضرة والنماء وربًّا للمياه والغيث، وعليه يمكن اعتبار «إل مقة» هي «بيت
الرب» أو «رب البيت»، وعادة ما تواتر في تاريخ العبادات القديمة إطلاق اسم «بيت
الرب أو رب البيت» على محيطه ومدينته بالكامل، وهو ما حدث في حالة «بعلبك»،
وحدث أيضًا في اليمن حيث وجدنا — كما سبَق وفصَّلْنا — نصوص نرام سين تتحدث عن
«مكان» بكسر الميم، كبلد يمني ذي علاقات خاصة ببلاد الرافدين القديم، وحيث أشار
المسعودي لوجودها في عهده، وقال إنه ركب السفينة من «ميكان» وبحذف أداة التعريف
اليمنية «ن» تصبح «ميكا» أو «مكا» بكسر الميم، وهو ما يوعز لنا بالنطق الأصدق
للنص القتباني «مختن ملكن بمكي» ليصبح «مختن ملكن بميكا أو بمكا».
- (٤)
ويدعم هذه الاستنتاجات، ما جاء في النصوص السبئية تصف الرب المعبود بأنه «ذوي سموي»،
١٠ وتعني صاحب السماء أو رب السماء، وإذا أخذنا بافتراض العلماء أن
«المقة» فيما زعموا كان إلهًا للقمر، فسيكون «ذوي سموي» هو «إل» أو «إله-ن»
بالذات والتحديد، أي «الله»، أما «المقة» أو «مكة» فلم يكن اسمًا إلهيًّا، إنما
هو حرم هذا الإله على الأرض، أي يصبح «إل» هو «ذوي سموي» رب السماء، رب البيت
المقدس المكرس لعبادته على الأرض.
- (٥)
ويذكر «ديتلف نيلسن» أنه قد عثر على كلمات احتسبها أسماء إلهية، أو ألقابًا
للمقة في النصوص السبئية، أهمها هنا اللفظ «رحمنن» أي الرحمن، واللفظ «حريمن»
لكنه يترجم «حريمن» بمعنى «محرم» أو «القديس»،
١١ لكن وفق ما طرحناه نجدُ هذه الترجمة غير دقيقة، إنما تستقيم تمامًا
عندما نترجمها «الحرم» أو «القدس» بمعنى الحرم الإلهي أو القدس الإلهي، وهي
تلتقي تمامًا مع احتسابنا «المقة» إشارة للبيت الإلهي الذي يصحُّ وصفه هنا
بكلمة «الحرم» بينما هذه الكلمة «حرم» لا تعني شيئًا إذا وصفنا بها ربًّا،
وعليه تصبح «تاء» التأنيث في آخر «المقة» أمرًا مفهومًا، إذا احتسبنا اللفظة
دلالة على موضع أو بلدٍ مقدَّسٍ باسم «مقة» أو «مكة»، وإعمالًا لكل ما سلف نصل
إلى نتائج هي:
-
إن «مقة» أو «مكي» أو «ميكان» أو «مكا» لفظٌ قُصد به الإشارة إلى
موضع الحرم الإلهي على الأرض، وليس اسمًا لإلهٍ، وهو ما يفسِّر لنا
سبب عدم ورود اسم «المقة» عند الإخباريين المسلمين، بين ما ذكروه
من معبوداتِ الجزيرة قبل الإسلام.
-
إن لفظة «المقة» إنما تعني رب البيت أو على الأرجح «بيت الرب»
على غرار «بعلبك» بيت البعل.
-
إن رب البيت هو «إل» هو «ذوي سموي» أو رب السماء، هو «إله-ن» أو
«الله»، أما أهم ألقاب المعبود في اليمن فهي ما ترجمه الآثاريون
إلى
Monimos، وإلى
Azizos مونيموس
١٢ أو ما يعني ببساطة «العزيز» و«المنعم»، إضافة إلى لقب
«الرحمن»، ولقب «الحكيم».
١٣
ومن المعروف أنه بعد انهيار مركز «اليمن السعيد» التجاري، ودمار سد مأرب الشهير،
نزحت
قبائل اليمن نحو الشمال، لتستقر في أنحاء متفرقة من بلاد العرب. وتعلمنا كتب الأخبار
أن
أكبر هذه القبائل كانت «خزاعة»، وأن هذه القبيلة قد استقرَّتْ في المنطقة التي أصبح التاريخ
يعرفها باسم «مكة» في الحجاز،
١٤ ومن الطبيعي أن تحمل هذه القبائل معها معتقداتها، ومعبوداتها، وطقوسها الدينية،
وعلى رأس الجميع «رب البيت» وذكري «بيت الله»، ذلك الاصطلاح الذي يفسِّرُ لنا: لماذا
ذكرت
الأخبار معبودات الجزيرة ومعبودات اليمن بوجهٍ خاص، دون ذكر «المقة»؟ والحقيقة المبنية
على
ما أسلفنا أنه ذكر فعلًا فهو «رب البيت» أو «بيت الرب».
وقد لاحظت الباحثة «ثريا منقوش» التشابه بين: ما اعتقدت أنه إله قمري لسبأ باسم «المقة»
وبين «مكة» الحجازية، وربطت بين الاثنين في ضوء ما جاء عند ابن طيفور المصري والقيرواني
عن
بعض أهل اليمن، ولكونهم ينطقون القاف كافًا، وما جاء على لسان النبي محمد
ﷺ عن الفقه
اليماني والحكمة اليمانية، لتصل إلى أن أهل اليمن هم أصل التوحيد في الجزيرة العربية،
وأتصور أنه بعدما أسلفت من جهد، في التعامل مع الاسم «المقة» يمكن أن تكون ملاحظة الباحثة
حول التشابه بين «المقة» و«مكة» قد تدعمت بشكل كاف.
وفي الروايات الإسلامية، أن منطقة الحجاز كانت صحراء بلقعًا، حتى انفجر زمزم تحت
خد
إسماعيل طفلًا، فكان أول من جاء واستقرَّ بجوار البئر، ركب من اليمن،
١٥ إضافة إلى ما جاء عن «عمرو بن لحي الخزاعي» عند الإخباريين المسلمين باعتباره
أول حاجب للبيت، وفي ذلك إشارة واضحة إلى «بداية حجابة البيت مع الخزاعيين القادمين من
اليمن»، خاصةً إذا علمنا أن هذه الحجابة الأولى للبيت لا تبعد زمانيًّا عن تاريخ دمار
سد
مأرب، وتشتت القبائل اليمنية، بأكثر من نصف قرن،
١٦ مع رواية إخبارية أخرى، تحكي عن «تبع الثاني» أحد ملوك اليمن، الذي قدم البيت
الإلهي الحجازي، وطاف به وقام ينحر للناس ويطعمهم، ثم كسا البيت بالبرود اليمنية، «وجعل
له مفتاحًا
١٧ ذاك المفتاح الذي استلمه الخزاعيون»، وأصبح فيما بعد محل صراع ونزاع، وانتهى به
إلى يد «قصي بن كلاب» الذي ألف القبائل «وقرشهم تقريشًا، ومنها: قريش»، ضد خزاعة وأخرجهم
من
مكة الحجازية، وانتزع منهم البيت. وسواء حدثَتْ قصة «تبع الثاني» أو لم تحدث، فهي تعبير
عن
ترجيع الذاكرة لصدى أحداث نشأة البيت وظروفه، وعلاقته بأهل اليمن، حتى جعلت مفتاحه بيد
قبيلة خزاعة اليمنية، أما الباحثة منقوش، فقد أكَّدَتْ — على ذمتها — أن كثيرًا من عبادات
الحج للبيت الحجازي كانت على غِرار التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج
للإله «المقة»،
١٨ والملفت للنظر أن «تبع» الملك اليمني، الذي سلَّمَ خزاعةَ مفتاح البيت وكهانته،
يستدعي إلى الذهن اسم الملكة السبئية التي ذكرتها نقوش الملك الرافدي «آسر حدون»، أقصد
الاسم «تبوءة» والغريب في بابه أن الاسم «تبع» في الترجمة الرافدية يصحُّ تمامًا أن ينطق
«تبوءة» أو «تبوءًا». وهذا بدوره يستدعي اسم الشهر الخامس من السنة المصرية القديمة تبوة
أو
«طوبة» ومن المعتاد تسمية الأفراد وبخاصة الملوك بأسماء الشهور، مثل «تموز، أغسطس»، وقد
نجد
العكس مثل «رجب، شعبان، رمضان، خميس، جمعة … إلخ»، أما الأكثر إضاءة هنا هو أنك يمكنك
العثور على أسماء القبائل العربية في أصول لسانية بالمعاجم العربية، وأن تجد لهذه الأسماء
دلالاتها في أسماء الشهور والأيام، أو في أشياء الطبيعة وظواهرها مثل «حجر، كلب، سهيل،
نجم
… إلخ»، أو حتى في فعل مثل «قريش من التقريش أي التأليف والجمع»، أما خزاعة فواضح أنه
لم
يجد لها اللسانيون أصلًا واضحًا، فوضعوا لها تخريجًا غريبًا، هو أنها سميت كذلك لتخزعها
أي
تأخُّرها وانقطاعها، والواضح أنه تخريج مُتكلَّف، فهل سميت خزاعة بالاسم خزاعة قبل
انقطاعها؟
وإذا ما لجأنا إلى اللغة المصرية القديمة، سنجد الكلمة «خو، تكتب هيروغليفيًّا على
هيئة
ذراع يحمل مدقًّا» تعني: حمى أو صان أو حرس،
١٩ والكلمة «سا، تكتب هيروغليفيًّا على هيئة ذكر البط» وتعني: ابن،
٢٠ لكن إذا أخذناها مكتوبة على شكل مقعد، وتنطق في هذه الحالة «س» فقط، فإنها تعني الكرسي،
٢١ أما الكلمة «عا، وتكتب هيروغليفيًّا في شكل وتد الخيمة» فتعني: الكبير أو العظيم،
٢٢ وعليه تعنى الكلمة «خزاعة» أو «خوساعا»: حراس
الابن الكبير، «بمعنى ابن الإله أو الملك» أي الحرس الملكي، أو تعني: حراس الكرسي الكبير،
وتفيد المعنى ذاته أي حراس العرش، وهو ما يلتقي إلى حد كبير مع مذهبنا وأطروحاتنا.
والملاحظ أن الروايات الإخبارية، التي جمعت راسب العصور العتيقة، وسوالف أحداثها،
تكاد
تجمع على أن البيت الإلهي القديم، قد تعرض لحدث تدميري، يتفق على أنه بفعل سيول من الماء
أتتْ عليه، فهذا السهيلي يصف الحدث بأنه سيل هائل صدَّعَ بنيان الكعبة،
٢٣ وهو بذلك إنما يتبع ابن هشام وابن اسحق،
٢٤ أما أصرح المعقبين على الحدث فهو «برهان الدين الحلبي» الذي أكَّد أن البيت قد
غرق بفعل طوفان نوح،
٢٥ وأن سر تسميته بالبيت العتيق، يرجع إلى أنه أعتق من سيطرة الجبابرة الذين كانوا بمكة،
٢٦ — إذن هم الجراهمة العمالقة! — كذلك «ابن سيد الناس» يتفق مع الغالبية على
القول بتصدُّع البيت بفعل سيل هائل،
٢٧ وكلها إشارات ترجع الصدى لذكريات العهود الخوالي عن سيل العرم ودمار مأرب الذي
أدى لانهيار السد وحدوث طوفانات المياه، والتي ربما حدثت إثر هزة أرضية أو تفجر بركان
قريب،
وما تلا ذلك من هجرة القبائل اليمنية بعقائدها شمالًا.
لكن ما يثير العجب، فإنه رغم اتفاق الرواة على الدمار بسيل أو طوفان، فهم يتفقون على
أمر
مخالف تمامًا، يقول: إن البيت الإلهي المكي، سمي العتيق لأنه أعتق من الغرق بالطوفان
النوحي، وهو تضارب نجد له مثيلًا آخر حول ما جاء عن الكعبة اليمانية من ذكريات، وأنه
كان
يقال عنها: «الكعبة اليمانية والشآمية، ويعنون بالشاآمية البيت الحرام»،
٢٨ وهو النص الذي أدى إلى خُلف واضح بينهم في التفسير والتبرير، بينما الواضح
لدينا أن القول يشير إلى ذكريات صادقة لبيت قدسه يمنيون، وقوم جاءوا من بوادي الشام،
بيت
بني في اليمن، ثم بني بعد ذلك في مكة بيت يجمع بين معبود يمني قح كان اسمه «الرحمن»،
ومعبود
شمالي باسم «إل» أو «الله»، وهو ما عالجته بعد ذلك الآيات القرآنية بقولها
قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (الإسراء: ١١٠).
أما صفة «العتيق» إذا أخذناها بمعنى العتق من الغرق، فستتضارب مع إجماع الرواة على
انهيار
البيت بالسيل، لكن لن يكون هناك أي تضارب إذا ما أخذناها كإشارة للبيت القديم، فالعتيق
تعني
القديم، فهي صفة تلزم البيت دومًا، مما يشير إلى أنها كانت تستخدم للتأكيد والتذكير بأمر
بيت قديم أو عتيق، هو ذاك الذي زعمناه كان في اليمن السعيد، عندما كان سعيدًا!