ابنة القمر
انساب عطرها يطرد بقوة أبخرة الصندل الممزوج بالأزهار البرِّيَّة من الغرفة، ويتربع الهواء معلنًا حضورها، «ابنة القمر»، ومن خلفها أربع خادمات، أقلُّهن جمالًا تستحق أن تكون إلهة الجمال، لكنَّهُن بجانبها مجرد خادمات، دخلت من الباب الذي لم أتمكن من فتحه، وغُلق من خلف موكبها.
تقدمت نحوي بخطوات واثقة، تتهادى فوق أجنحة النسيم، وقفت لترمقني بنظرة جعلتني أعتدل على فراشي، جلست، وحين حاولت الوقوف، أشارت ببنانها الذي رأيته مضيئًا كالصولجان، وأعطتني ظهرها، وتحركت بموكبها نحو المغطس، وعند منتصف البهو، أسقطت رداءها، وظلت في التهادي عارية، حتَّى وصلت للمغطس لينساب جسدها كما انساب عطرها بعذوبة تفوق عذوبة الماء، وجلست الخادمات على ركباتهن، وفتحن الصناديق التي يحملنها، وأخرجن الزيوت، والدهون العطرية التي لم أعرف أن امرأة تستعملها سوى «ابنة القمر»، حتَّى الملكة الأم لم تملك مثل تلك الرائحة يومًا.
لا أعرف ما كان يجب عليَّ فعله، فقط تسمَّرت، جالسًا أراقبها، وخادماتها يعبثن بجسدها بالزيوت، والدهون، ويعبثن بعقلي معهن، وهي يبدو عليها الاستمتاع، وكان الجميع يتحرك بنظرة آمرة مستكينة من عينها، كأنَّها تقود معزوفةً بتلك النظرات، الواثقة، الحالمة، القاطعة، لم أكن أدري ما عليَّ فعله، هل يجب أن أتحدَّث؟ أم أترك لها شرف البداية؟ هل يجب عليَّ الاستمرار في البحلقة بعدما تجاوزت مرحلة اختلاس النظرات؟ رنَّت ضحكتها الساخرة كأنَّها تقرأ حيرتي، فأشعرتني بالخجل، تملَّكني الخوف من أنَّها قد تكون بالفعل قادرة على قراءة أفكاري، فبدأت أُرَدِّد بعقلي: «ابنة القمر سيدة عظيمة، ابنة القمر سيدة عظيمة …» لكن يبدو أن حيلتي لم تنجح عندما سمعتها تقول: «أنا أكبر من كامي، وأصغر من طفلة لا تقوى على عصر ثدي أمها.» (ورنَّت ضحكتها الساخرة مرَّة أخرى)؛ فقد كنت أفكر كم عمر تلك المرأة المخيفة.
تملَّكني الرعب، ولا أدري فيمَ كنت أفكر، أو كيف انصرف الخادمات، ومتى توشَّحت بذلك الرداء الحريري الناعم، وتحلَّت بتلك الثعابين الذهبية، فقط وجدتها تجلس على الأرض أمامي في دلالٍ لم أرَ مثله من قبل، كنت صغيرًا حينها أو هكذا كنت أظن.
– هل تعرف لماذا أنت هنا؟ (قالتها مبتسمة.)
– لا أعرف، بل أعرف، أو أعرف ما قاله لي كبير الكهنة (قلتها مرتبكًا).
– دورة قمر واحدة وقد تصبح الملك، ابن الإله، أو الإله ذاته، أو تصبح قربانًا تُذبح على المذبح الحجري تعبيرًا عن أسف الكاهن الأعظم لخطأ ظنِّه فيك.
شعرت بكلِّ مياه النهر تهدر بعروقي، وكأنَّ القلب يفيض غضبًا، لم أعرف كيف أبوح بما في داخلي، فقد أُذبح قبل انتهاء الدورة، أيُّ ظلم هذا! أيُّ عبث بي الذي يفعله الكاهن الأعظم وعشيقته! كيف أُذبح إن أخطأ هو؟! كيف …؟ كيف …؟ كيف أخرج من هذا المكان؟ أخرَجَني من ثورتي المكبوتة صوتها الساخر مرَّة أخرى: «لا يمكنك الخروج يا صغيري.»
– لست صغيرك (قلتها صارخًا).
– اهدأ، لقد أعجبني ما فعلته بمعبد الملكة الأم، تلك العاهرة لا تستحق كل هذا الجمال.
استمرَّ صياحي وأَنا أجوب تلك المقبرة اللعينة التي حُبست بها.
– ليست عاهرة، أراكِ تتحدثين عن العهر كما لو كنتِ إيزيس العفيفة، أنت العاهرة، نعم أنت، وهذا المعتوه هو قَوَّادك، نعم هو قَوَّاد ولص، وأنت العاهرة.
لا أعرف كم كررت هذا الكلام، فلم أشعر بغير أَناملها تمرُّ بثغري، وأَنا أُجهِش بالبكاء بجوار الباب السرِّي الذي أتى منه كل شيء، انتفض جسدي من لمستها فصرخت فيها ألا تلمسني، فاحتضنتني وربَّتت على رأسي، وحين لمس خدي صدرها، أظن بأنِّي انتقلت لعالم النيام، أو الأموات، فلم أعرف أيَّ شيءٍ حين استيقظت على سريري.
لم يكن في مقدوري معرفة الليل من النهار إلا من حرارة الأحجار، فتحت عيني في تثاقُل لأطالع المغطس، حاولت القيام، لكنْ ألم رهيب برأسي كاد يقتلني، كان بجواري فطور من الخبز، والعسل، لا بدَّ أننا بالنهار الآن، غمست إصبعي بقِدر العسل ولعقته، كان عسلًا شهيًّا، أو مقدَّسًا؛ فقد زال ألم رأسي بسرعة، فقمت ولم أجد أحدًا بالغرفة، ولا بالبهو، فسِرْت نحو المغطس، وألقيت ثيابي في طريقي كما فعلت «ابنة القمر»، وسرت عاريًا حتَّى غمرت جسدي بالمياه المعطَّرة، حاولت أن أتذكَّر ما حدث الليلة السابقة، ولم أستطع، فقط، تذكَّرت صورًا متقطعة، وكلمات متفرقة كما سردتها، تألَّمت لما قلته لها، هل حقًّا أراها عاهرة؟ كيف تفوَّهت بمثل هذا اللَّغو؟ ابنة القمر؟ إنها مقدسة.
مُقدَّسة! كيف تكون مقدسة وتشترك في مثل تلك المؤامرة؟! تعجبتُ مني؛ فبالأمس كنت على أتمِّ الاستعداد للموت مقابل التقرُّب منها، وبعد لحظات من مشاهدتها تستحمُّ أمامي وصفتها بالعاهرة، وصرت على استعداد للموت في سبيل الخروج من تلك المقبرة، عجيب أمر الإنسان وسريع هو ما يغير قلبه من حالٍ لحال.
تذكَّرت كيف كانت تقرأ عقلي دون أن أنطق، وانتابني الرعب مرَّة أخرى، ماذا لو عرفت ما أخفيه؟ أو أخبرت كبير الكهنة؟ هل يعرف كبير الكهنة أيضًا لغة العقول من دون النطق؟ حتمًا سيكون فيها هلاكي، لكن لو كان يعرف تلك اللغة لما اختارني لتلك المهمة، أو ربما اختارني لها ليذبحني دون أن يحتاج لمبرر؛ فستكون حينئذٍ إرادة «آمون»، نعم لا بدَّ أنه عرف أنِّي لا أومن بآمون، ولا بكلِّ تلك الآلهة، يا لها من مُصيبة! وكنت أظن أنَّني استطعت خداع الجميع كل تلك الفترة، طوال حياتي وأنا أبدو الفتى المثالي لعبادة آمون، وكما يقولون تجلَّت بركة آمون وحلَّت بي في عملي كمهندس، لا أقدِّس سوى عملي، ماذا لو عرف أنَّ عملي بالمعابد لم يكن لتمجيد آمون وعبادته؟ لم أفكر يومًا أن أمجِّده في عملي، بل كنت أصنع بيوتًا تخلِّد الحب والخير، بيوتًا تقدِّس سلام الروح، وكنت أحب عطور النساء، ابنة القمر، هل تقبل أن تمنحني شرف لَعْقِها كما لعقها كل بلاط آمون؟ يا له من مطلب وضيع؛ أقصد أن تمنحني شرف مضاجعتها كما يضاجع النهر الأرض السمراء! هذا المطلب أفضل بكثير.
ويبدو أن الحظ الذي حالفني طوال حياتي قد قرَّر الهرب مني، ربما ليعبد آمون، ويتركني أسيرًا لتلك اللعبة التي ستنتهي حتمًا بهلاكي؛ فقد قطع صوتها كل شيء مرَّة أخرى.
– يبدو أن كبير الكهنة لم يُخطئ ظنه؛ فأنت بك بركة آمون؛ بالأمس نمت كطفل وديع.
رغم أنَّني لم أشعر بالسخرية من صوتها، إلَّا أنَّني كنت على يقين من أنَّها تسخر مني، لم أتمكن ممَّا هو أكثر من الابتسام، متطلِّعًا صوبَ صوتها.
مزيج عجيب؛ فبرغم كل الرعب الذي أشعر به، وبرغم خطورة تلك المرأة، إلا أنَّني أشعر بسعادة الأطفال في مولد إيزيس، حين تقترب مني، نسيت أنِّي عارٍ بالمغطس حتَّى اقتربت هي برداء من الكتان الملكي الناعم، والكحل يُحيط عينيها، وشعرها ينساب كلَيلٍ فضِّيٍّ بلون القمر، بدأت تتفحصني، فنظرتُ بعفوية صبيانية صوب أعضائي، لأرى إن كان قضيبي يظهر بحجمٍ مناسب، فشعرتُ بالخجل أكثر؛ فقد بدا لي أنه قد رحل عني خوفًا، أعطتني وشاحًا قطنيًّا وعلى وجهها ابتسامة أربكتني أكثر، ولم ترحمني بل قالت: «لا تخف؛ عادة ما يحدث هذا في الماء البارد.» وأطلقت ضحكتها الساخرة، فخطفت الوشاح ولففته حول وسطي وأنا أقوم من المغطس.
– ماذا حدث بالأمس؟ (سألتها.)
– وصفْتَني بالعاهرة (أجابت مبتسمةً).
– عذرًا لم أقصد أن …
– (مقاطِعة) بل تقصد وتقصد.
– أنا كنت فقط مرتاعًا من فكرة هذا القبر الذي …
– قبر؟ وهل كنت سأزورك وأنت تستحم في القبر؟
– ربما بركة آمون قد حلَّت بي في القبر فأرسل من أحب ليؤنس وحدتي.
– أراك تتحدث عن بركة آمون الآن (رافعة حاجبها الأيسر بخبث) فأدركت أنَّها تعرف كل شيء؛ ففكرتُ في مناورة أخيرة.
– نعم، فكل ما نصادفه من خير هو فعل بركة آمون.
بدا بوضوح أنِّي كاذب؛ فأَنا نفسي لم أصدِّق نبرة صوتي حينها، لكنها لم تَقْسُ عليَّ تلك المرَّة، بل جلست قرب السرير على الأرض كما كانت تجلس أمس، «تجلس الوصيفات والخادمات بجوار أسرة أسيادهن.» قالتها وأومأت بعينها أن أجلس على السرير كسيد، ربما كانت تُحقِّق لي حلمي قبل أن أُذبح ببهو المعبد، اقتربت لأجلس بجوارها فأشارت إلى السرير فأطعتها، جلست متظاهرًا بالهدوء والاسترخاء، لكنها لم تصدِّق أيًّا منهما، فقرَّرت التخلص من كل خوفي بهجوم مباغت فسألتها: كيف تجلس معلمتي على الأرض بجوار سريري؟
– أنا أجلس بقرب قدم الملك (وسمَّرتني بمكاني بنظرتها المشتعلة ما بين الثقة والإغواء، ما بين القوة والاستسلام).
– وهل يقبل كبير كهنة آمون أن يكون الملك القادم ممن يقولون غير ما يؤمنون به؟
ابتسمت ابتسامة الاسترخاء قائلة: وبماذا تؤمن أنت ولا تقوله؟
تملَّكتني الحيرة، فلم أعرف أأتكلم وأُصرِّح بما أومن به، أم أستمر في التظاهر، الأمر مرعب، رغم أن النتيجة قد تتساوى بالذبح ببهو المعبد، فلو صرحت سيتم ذبحي، ولو أخفيت فلن تحلَّ بركة آمون، فكيف تحلُّ بركة من لا وجود له؟! كيف يمنح اللاوجود وجودًا؟! فقررت خوض اللعبة حتَّى النفَس الأخير.
– ما أومن به أنا، حسنًا أَنا لا أومن بكبير الكهنة، وأراه مجرد وسيط ما بين اللاشيء، وكل شيء، يتربح السلطة التي يمنحها له الملوك والرعاع، أومن بأنه لا يعرف آمون ولا آمون يعرفه، وأن كل الطقوس الغريبة التي يمارسها ليقنع الجميع بأنه يتلقى الأوامر من آمون لهي مجرد لعبة وضيعة تُبقيه في سلطاته، وأومن أيضًا بعلمه؛ فهو مَن تعلَّمت منه البناء وتعلَّم منه أصدقائي الطب، وأتعجب؛ فهو يملك العلم والحكمة، ما الذي يدفعه لأن يكون وضيعًا لتلك الدرجة؟
توقَّعت أن تنهال عليَّ بالصفعات، أو تُنادي حراس المعبد لقتلي أو إلقائي بالسجن، لكن ردَّة فعلها جاءَت عكس أي منطق.
– هذا عن كبير الكهنة، فماذا عني؟ (أربكتني مرَّة أخرى.)
– ماذا عنكِ؟
– إن كنت تراه بتلك الوضاعة فلا بدَّ أنك تراني وضيعة أيضًا، أو ربما عشيقته، أو كما قلت بالأمس أنَّني عاهرة.
– لقد قلت عذرًا عمَّا قلته بالأمس.
– لسنا بالأمس الآن (قالتها مقاطِعة).
– لا أستطيع أن أفهم مَن أنت في الحقيقة، فلست كأي امرأة رأيتها؛ تملكين أيضًا ما يجعل ملوك العالم يركعون عند قدميكِ، ولست في حاجة لأن تستلقي فيلعقكِ الكهنة والأمراء من الرجال والنساء. (بدأت في الحشرجة فخرجت كلماتي الأخيرة كالفحيح، وأشحت بوجهي لأُفادي عينيها.)
– هل تعرف كيف يُدار الأربعون إقليمًا؟
– يوجد أمراء يُعيِّنهم الملك ويُباركهم كبير الكهنة يديرون الأقاليم.
– فقط؟
– لا أفهم ما تقصدين؟ وما علاقة ذلك بما كنت أقوله؟
– بل تفهم ما أقصد جيدًا، وأما عن علاقة ذلك بما قلته فهذا هو سرُّ وجودك هنا الآن.
جذبت كامل اهتمامي بطريقة تحدُّثها وبثقتها وعُدت بوجهي لمواجهة تلك الأعين الساحرة والإنصات لما تقول، استرسلت.
– إنَّ ما تفهمه وما ترفض أن تفهمه، إن ما تؤمن به وما ترفض أن تؤمن به، ولكنك تُظهره هو سِرُّ إدارة الدولة، إن من يحكم الأقاليم هو آمون الذي لا وجود له، وينوب عنه الملك بإعلانِ كبير الكهنة أنه ابن آمون، ومُمثله في الأرض، وينوب عن الملك الأمراء، لو اختلف الملك والأمراء والكهنة على أمرٍ فمن يفصل فيه؟
– آمون؟
– بالضبط، ومن يُبلغه بأمره؟
– كبير الكهنة.
– ولو كان آمون لا وجود له كما تقول، فمَن هو مطلق السلطة في الدولة؟
– كبير الكهنة.
– الآن بدأت تفهم.
– الدولة تُدار من المعبد وليس من القصر، فما هي أهمية القصر والملك؟ وما هو دورك إن كان كبير الكهنة هو الملك الحقيقي؟
– لقد جاءَ وقت الراحة، سأرسل إليك الخادمات الآن لمساعدتك على الراحة (غمزت بعينها بخبث) وقامت بوثبة واحدة وانصرفت قبل أن أرُدَّ.