قبل النهاية بقليل
أفقت متكاسلًا وعيني للسقف الحجري، «تحوت» إله الحكمة والكتابة والإبداع يمنح البركة للملك الذي لا أعرفه، ربما كان «تحتمس الثالث» أو «أمنحتب الثالث» ونقش آخر «لإيزيس» تمنحه «عنخ» أو مفتاح الحياة، الحكمة والحياة، لم ألاحظها بالأمس رغم تحديقي المستمر بالسقف، لم أتوقف كثيرًا عند الحياة، لكن الحكمة استوقفتني، الحكمة، الحكمة في الصبر؟ الحكمة في التغافل؟ في الصمت؟ هل من الحكمة قبولي عرض «الراعي»؟ أم أنَّها في رفضي له؟ ما يراه القوي مصلحة ويراه الضعيف مؤامرة، للأسف لم أكن القوي في تلك الجولة، ربما كان من «الحكمة» الاعتراف على الأقل لنفسي.
هل ستأتي «نيرمين قمر» لتكون لعنتي في قبول عرض «الراعي»؟ بالطبع ستأتي، كنت أتقافز بين الأسئلة والأجوبة حتَّى توقفت على دقات كعب رشيقة بالقاعة المجاورة، وتسللت رائحة الغابات لسريري، فادعيت النوم لربما تأتي إلى هنا.
أرسلت صوتها سائلة إن كنت أريد بعض القهوة مع الإفطار، لم أُجِبها، «بالطبع لن آتي لأساعدك في ارتداء ملابسك …» قالتها بمكر جعلني ابتسم خارجًا من صمتي قائلًا: «ولِمَ لا، ظننت أنك ستساعديني في تعلُّم التقاليد …» ضحكتْ قائلة: «وهذا هو الدرس الأول، الرئيس لا يستقبل سيدات وهو بفراشه، وبدون ملابسه.»
حسنًا، حسنًا لقد انتصرت، ذكية هي بقدر جمالها، لم أعُدْ أخشى الذكاء أو القدرة على قراءة أفكاري، بداية من «توحة» التي علمتْ أنَّني لن آتيَ إليها، ووصولًا «لنيرمين قمر»، ابنه القمر التي تعلم رغبتي في تذوُّق عطرها البَرِّيِّ.
ارتديت بنطالًا ترابي اللون، وحذاءً خفيفًا بدون جوارب، وقميصًا من الكتان الأبيض، وخرجت إليها، كانت ترتدي حُلَّة نسائية زرقاء داكنة، تعلو تنُّورتها عن ركبتيها بقليل، وقميص أبيض وحذاء يشد أرجلها ويُظهر مفاتنها، تناولت شطيرة وكوبًا من القهوة المفلترة، وجلست بمقابلتها، أشعلَت سيجارتها ونفثت دخانها لأعلى، ثم وضعت رجلها اليسرى فوق اليُمنَى ليظهر نصف فخذها … لم أكن لأختلس النظر وأترك عينيها الواسعة، الداكنة، اللامعة، لكنَّني فعلت.
وكانت الأيام تمرُّ بيننا، نقضي الوقت سويًّا في تقاليد الجلوس، والحركة، متى، من، كيف، وكنت دومًا أختلس النظرات واقتنص البعض من عفويتها الذكية والمثيرة، لم أقابل امرأة مثلها من قبل، بالطبع لم أكن لأقابلها، كيف ستقابل هذه الكاهنة شابًّا مثلي؟ في أي عصر؟ وأية ظروف؟
في الحقيقة لم أكن متطلعًا لتعلُّم التقاليد الرئاسية بقدرِ رغبتي في التقرب من «نيرمين»، كانت تكبرني سنًّا وعِلْمًا بالكثير من أمور الحياة، لم تكن فقط أنثى، بل كانت سيدة؛ قاسية حين تقاتل، ناعمة حين تلين، قطة في دلالها، ولبؤة في رغبتها، وكوبرا في حركتها، كانت تمتزج بنقوش الجدران الحجرية فتتوحد مع صور الملكات، والخادمات، والرَّاقصات، كانت ككاهنة المعبد، تملك الأسرار، تملك القلوب، تملك المعبد.
لم يعد «الراعي» يُثير حفيظتي كلما ظهر بلا موعد أو تغيرت ملامح وجهه طبقًا لحالة الأداء المسرحي التي يعيشها باقتدار واحتراف، لم أعدْ أراه غير كبير الكهنة، يصنع فرعونًا جديدًا، يربيه على يديه، ربما ليضعه على كرسي الحكم لثلاثين عامًا قادمة، ربما هو من وضع «الوزير آي» على كرسي الحكم ومن أقنع «حور محب» بتولي زمام الأمور وإعادة الوحدة والأمجاد لطيبة، لن أنسى وزراء السيادة وهم يتحركون بإشارة منه، هو قام بدوره ببراعة مذهلة، أنساني مَن كنت ومِن أين أتيت، نسيت بيتي بشارع البوستة، ونسيت «توحة»، نسيت أصدقائي ومصيرهم بعد هزلية سقوط النظام، نسيت كل شيء، وكأنَّني وُلدت على يده من رحم نيرمين قمر.
حفظت جميع النقوش بالجدران والسقف، رأيت نفسي بينها، يتم إعدادي لمهمة كبرى، خلف قناعٍ ذهبيٍّ، رأيت كبيرة الكهنة، والكاهن الأعظم، رأيت الدولة والمعبد، رأيت العوام يقفون بالبهو الرئيسي والخواص بالبهو الأوسط، والصفوة بقاعة التتويج، ورأيتها ترقص، خلف قناعي الذهبي، خلف عظام وجهي، وبين الضلوع، رأيتها تنساب كدماء حارَّة تعلوها النسمات، رأيتها تحتلُّني، وتجوب أروقتي، فتنام بقلبي، وتعبث بعقلي، وتلهو كالأطفال بين أوردتي، ورغم كل شيء فقد عقدت عزمي منذ البداية.
كانت ترى وقتها أنَّني أبليتُ بلاءً حسنًا، وأن نظرة «الراعي» دائمًا ما تصيب، بينما لم أكن أرى أيَّ إصابة فيما يرى هذا «الراعي»، بل كنت أراه ككاهن المعبد، يحكم من دون سلطة، يدير الدولة من معبده، وتتحمل العواقب أنظمة تتصدر المشهد.
كنت أشعر بقرب النهاية كلَّما اقتربت من «نيرمين»، وكأنَّها هي نهايتي، تُذكِّرني عذوبتها دومًا بأحلامي المتكررة، بالمرأة وابنتها، تعتليني وأعتليها ونتحول لتمثال من الرخام، لحظة الوصول، لحظة الفناء، كل ليلة كانت تغادر هذا السجن الحجري، وتتركني للنقوش الحجرية، أبحث عنها بين الملكات، وأحلم بالنهاية، ولم يكن الحلم أبدًا يشبه حكم مصر.