الرواية
لم أستغرق الكثير من الوقت في نشر المناظر في أماكنْها، بينما كان «حسن» يقوم بدور مساعد المخرج؛ فنحن عادة نقوم بكافة الأدوار سويًّا، ولا نلتزم بهيكلة الأمور، فقط توزِّع المسئوليات الرئيسية ثم ينطلق الجميع، عدت لأجلس بجوار «عماد» و«حسن»، وثوانٍ وانضم إلينا «شعراني»، كان «حسن» قد رتَّب المجموعات، ولاحظ العساكر التي ترتدي الزي الألماني، واستبعدهم من التشكيل، وبدا موقع التصوير كموقعة حربية على وشك اندلاع نيرانها.
لم يأتِ «شنن» التصوير بحجة وهمية؛ أن صديقته في فترة «التبويض» وفرصتهما للإنجاب تحين وقت التصوير، في الحقيقة ليس له صديقة من الأساس، ولكنها الحجة التي نعتاد أن نُطلقها للاعتذار عن حضور أي حدث، وكل مرَّة يختلف الطرف الآخر «صديقة، زوجة …» حتَّى إن «شعراني» مرَّة قال: «معلش يا جماعة، مش هاقدر آجي؛ خالتي في فترة التبويض …» فقاطعناه تقريبا جميعًا «وانت بتخلَّص الورق لجوز خالتك؟» وصارت من قفشاتنا أو لعناتنا الحقيقة، ورغم أن «شنن» له العديد من الأشعار الغنائية في هذا الفيلم إلَّا أنه لا يحضر التصوير أبدًا؛ والسبب أنه لا يشعر بالراحة في الزحام ولا يتحمل الضوضاء.
جلسنا جميعًا نراقب الموقع، كل شيء في مكانه، حتَّى قوات مكافحة الشغب والرائد «عمر» قائد القوات يشرب القهوة وبجواره «عصام» بكوب الشاي، ويبدو أنه يروي له مغامراته في أدغال مكافحة الجريمة المنظمة، و«عصام» يلعب دور المندهش ببراعة، والجميع في انتظار اختفاء قرص الشمس وحلول الظلام.
جذبتُ نَصَّ الرواية الأصلية للفيلم والذي لم يُنشر؛ فقد كتبه «حسن» خصيصًا للفيلم «عابدين ٤ فبراير — رواية فيلم لحسن عبد السلام»، هكذا قرأت ما كُتِب على الغلاف الكرتوني الذي يشبه ملفات الرُّخَص بإدارات المرور، ولا ألاحظ أيَّ اختلافٍ في خط الكتابة ذاته، أخذت أُقلِّب في الرواية رغم أنِّي قرأتها عدة مرات، لكنِّي من المعجبين — بل أشدهم إعجابًا — بأسلوب «حسن» في فرض وجهة نظره، وإثباتها ببراهين لا تقبل الشك، وأيضًا والأدهى هي وجهة نظره ذاتها، الرواية مقتبسة من مذكرات سير «مايلز لامبسون» للأيام الأربعة الأولى من شهر فبراير عام ١٩٤٢، في البداية تعجبت من فكرة أن مذكرات أربعة أيام قد تكون كافية لأحداث فيلم، لكن حين قرأت المذكرات الأصلية، عرفت أنَّها قد تحتاج لعدة أجزاء؛ فسير «لامبسون» أو اللورد «كيلرن» كما أُطلق عليه بعد حصوله على لقب فارس من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كان رجلًا لا يُستهان به، ويُعَد من أفضل مَن خدموا الإمبراطورية، ومن أول من أدركوا أن الإمبراطورية لها مصالح، وليس لها أصدقاء.
كان يُشير للملك «فاروق» دومًا في مذكراته بلفظ «الولد»، بينما كان الملك «فاروق» يذكر «لامبسون» في أحاديثه بلفظ «جاموس باشا»؛ ربما بسبب ضخامته؛ فكان طوله ١٩٢ سنتيمترًا وليس نحيفًا على الإطلاق، فاستحقَّ وعن جدارة لقب «جاموس باشا».
كانت معاهدة ٣٦ هي جذور حادث الرابع من فبراير، والتي أصرَّ الإنجليز أن يحضر مباحثاتها كافة الأحزاب، عدا الحزب الوطني، الذي أطلق شعار «لا مفاوضات قبل الجلاء»، ووقع المعاهدة عن الجانب المصري «النحَّاس باشا»، وكان رئيسًا للوزارة وقتها، وعن الجانب البريطاني سير «مايلز لامبسون» بوصفه المندوب السامي البريطاني، وبعد إقالة وزارة «النحَّاس» بعد عام واحد من المعاهدة، وتكليف «محمد محمود باشا» بتشكيل الوزارة، وهو أول تكليف يقوم به الملك «فاروق»؛ فتكليف «النحَّاس» جاءَ من الملك «فؤاد»، أزعج الإنجليز قليلًا إقالة وزارة النحَّاس في البداية، لكنهم استحسنوا الفكرة حتَّى لا تقوى شوكته على حدِّ تعبير «لامبسون»، وتوالت الوزارات من عام ١٩٣٧م وحتَّى عام ١٩٤٢م، فجاءَت بعد وزارة «محمد محمود» وزارة «علي ماهر باشا»، ثم وزارة «حسن صبري باشا»، تليها وزارة «حسين سرِّي باشا»، والتي تعتبرها إنجلترا من الوزارات المتفهمة لمصالح الإمبراطورية، وحين تمَّ إقالتها، واستدعاء «علي ماهر» مرَّة أخرى لتشكيل وزارة لم يُعجِب «لامبسون» الأمر، وشعر بتهديد لمصالح الإمبراطورية؛ لكون «علي ماهر» على اتصال بدول المحور، مما يُعدُّ خرقًا لاتفاقية ٣٦، وأن «النحَّاس» هو أفضل من يتفهَّم تلك البنود في الوقت الراهن.
وكانت مذكرات «لامبسون» تضع وصفًا دقيقًا لما فعله خلال الأيام الأربعة من شهر فبراير، واستلهم «حسن» تلك الرواية منها، ومن بعض التقارير الأسبوعية التي كان يرسلها «لامبسون» للإمبراطورية، والتي كانت لها تركيبة ثابتة، تبدأ بما فعله بملاحظاته طوال الأسبوع، بما في ذلك الإشاعات التي سمعها، ثم تقرير «والتر سمارت»، المستشار الشرقي للإمبراطورية، ثم تقرير السير «كين بويد»، وهو آخر مستشار إنجليزي لوزارة الداخلية المصرية، وفي كثير من الأحيان كان يُرفق تقرير «روبرت فيرنس»، وهو المُشرف على الإذاعة، والجرائد، والبريد، والمكالمات الهاتفية التي يتم التنصت عليها من غرفة خاصة بمصلحة التليفونات المصرية بشارع «الملكة ناظلي»، والمعروف بشارع «رمسيس» حاليًّا.
لم تكن قراءة «حسن» للمذكرات هي المبدعة، بقدر ما أظهره من قدرة لا يُستهان بها على إظهار مَواطن الضعف والقوة في الشخصيات المشتركة في ذلك الحدث، ولم يُغفَرْ للنحاس قبوله تشكيل الوزارة بالدبابات والمدرعات الحربية البريطانية.
صاغ حسن الرواية من خلال رحلة لصائد سمك من بورسعيد، جاءَ ليطلب من الملك أن يُبعِد عنه وقريته أذى الجنود البريطانيين، فيأتي «سيد دنيس» وهو اسم بطل الرواية، وأسماه «دنيس» لكون هذا النوع من السمك يمكن اصطياده بدون وضع أيِّ طُعْم في السنارة، ورغم حلاوة طعمه إلا أنه معروف بالغباء، وقلة البخت.
فيأتي بطلنا هذا إلى القصر، فيجد الملك نفسه يتعرض لمضايقات الإنجليز، فيعود أدراجه، كنت أُقلِّب في الرواية حتَّى وصلت لأغنية الختام التي صاغها «شنن» بروعة يُحسَد عليها.
كنت أقرؤها، ويتردَّد في أذني صوت الشيخ «عبد الكريم» المُنشد الذي عَثر عليه «عماد» في أحد الموالد وأعجبه صوته، وأصبح ملازمًا لأفلامه، ورددت بصوت عالٍ باللحن «كفاية أموت، كفاية أمووت، أموت فيكي» أفقت من حالتي حين سمعت صوتي فنظرت حولي فوجدتهم ينظرون مبتسمين جميعًا، واختفت الشمس.