انقلاب
تولَّى «عماد» من هنا زمام الأمور، وبدأ بالصياح بمكبر الصوت الذي وددت دومًا معرفة من أين ابتلانا به.
«مكيااااج! ملاااابس …» والجميع يجيب: «تمام»، جميع المُمثلين في أماكنِهم، «حسام فوزي» في السيارة (سير مايلز لامبسون)، «أحمد بيومي» بملابس الصيد البورسعيدي (سيد دنيس)، كان المشهد بسيطًا جدًّا؛ السيارة تصل لباب القصر الخارجي وتقف، وينزل منها سير «مايلز لامبسون» من زاوية رؤية «سيد دنيس» والباقي حركة الكاميرا بين جموع المناظر الخشبية للدبابات والمدرعات والمجنزرات البريطانية وسط عسكرهم، «إضاءة …»
وحبس الجميع أنفاسهم «أكشن».
صار كلُّ شيء حسب المُخطط له، ونزل سير «لامبسون» ووقف أمام الباب الحديدي، وبدأت الكاميرا في التحرك واستعدَّ «دنيس» للدخول في المشهد، وحدث ما لم يكن مخطَّطًا له.
فُتح الباب الداخلي للقصر، وخرج منه مجموعة من الجنود بملابس الحرس الجمهوري، وهرعوا للباب الحديدي، قطعوا المسافة تقريبًا في «لا وقت»، حاملين بنادقهم، تسمَّرنا جميعًا، و«عماد» رافعٌ يده للكاميرا كي لا يتوقف المصوِّرون عن التصوير، وصل الجنود سريعًا للباب الخارجي وفتحوه أمام ذهول الجميع، وذُعر «حسام فوزي»؛ فهو حقًّا لم يكن المندوب السامي البريطاني، فنظر «لعماد» وأخذ يتلفَّت بين الجنود و«عماد» تحرَّكنا أنا و«شعراني» سريعًا، ونظرت للرائد «عمر» أملًا أن يتحرك بدوره فينقذنا مما وقعنا فيه، ولم ندركه بعدُ.
يبدو أن نظرتي متعارَف عليها في علوم الاستغاثة الأمنية، فتحرَّك الرائد «عمر» سريعًا أيضًا، وتحدَّث أحد الجنود ويبدو أنه قائد تلك المجموعة: «مين صاحب الحاجات دي؟» وهو يُشير للمناظر الخشبية، حاول «شعراني» إخباره بأننا نحمل جميع التصاريح، وتمَّ تسليم نسخة منها للديوان الرئاسي، لكن يبدو أن قائد المجموعة يفقد القدرة على السمع بشكلٍ متعمَّد، فلم يُصْغِ له ولا للرائد «عمر» حتَّى صاح الأخير في قائد المجموعة، ويبدو أنه يعلوه رتبة: «الباشمهندس صاحبها، خير يا حضرة الظابط فيه إيه؟» وأشار إليَّ.
تماسكت منتظرًا ردَّه لنعرف حدود جريمتنا، لكنه لم يُجِبْ بل أشار لجنوده، والتفت وأشار مباشرة نحوي، فهرعوا جميعهم في اتجاهي مُزيحين «شعراني» والرائد «عمر» نفسه، وأحاطوني بصفَّين وقائدهم يتوسطهم ويقف أمامي، وأشار لهم مرَّة أخرى فألقَوا ببنادقهم على الأرض.
صاح الرجل بشكل مسرحي: «قيادة سَرِية حراسة القصر الجمهوري تعلن استسلامها وتُسلِّم سلاحها»، وختم عبارته بوقفة عسكرية منضبطة، وأدى التحية العسكرية، وأَنا متحجِّر الملامح من الذهول والذعر، وتبدَّلت رغبتي العارمة في الضحك من تلك الحركة المسرحية التي أظنها بالفعل «حركة» قام بها «شعراني» إلى التجمد أمام صرامة ذلك الرجل، ويبدو أنَّني لم أكن المتجمِّد الوحيد، بل كانت سحابة من عدم الفهم ألقت ثقلها على المكان، ولا أعرف كم مضى من الوقت منذ تم ضغط زر إيقاف الصورة؛ فالجميع ثابتون بالفعل كما تتوقف صورةٌ على شاشة العرض.
لمحت الحركة الوحيدة في المشهد عند الباب الداخلي للقصر، الذي خرج منه رجل متأنِّق وتحرك بعكس الجنود بخطوة منتظمة، غاية في الرسمية، تتناسب مع حلَّته السوداء وحذائه اللامع، وحين تعلَّقت عيني به تحوَّلت كل الأنظار إليه، كما لو كان «شمبليون» الذي سيقوم بفكِّ طلاسم الموقف لنا، مضى الوقت بطيئًا جدًّا حتَّى وصل إلينا، تنحَّى الجنود قليلًا في احترام لهذا السيد المُبجَّل، والتفت له قائدهم، ومال عليه، لا أعرف ماذا قال له، لكن بدا على السيد المبجَّل علامات الفهم فتقدَّم نحوي ومَدَّ يده مصافحًا: «محسن رضوان، رئيس ديوان رئيس الجمهورية.» فمددت يدي بتلقائية: «محمد عبد الفتاح، مهندس معماري.» ابتسم الرجل ابتسامة خبيثة، كما لو كان يريد إخباري بأنه يعرف أنَّني كاذب، فرفعت حاجبي وأومأت برأسي منصتًا لما سوف يقوله، فشعر الرجل بالحرج.
– أَنا باستأذن من معاليك إن الريس يتحرَّك لبيته في عربية الرياسة لحين النظر في موضوع نقل السلطات …
علت بعض الهمهمات من حولي، وكِدت أفقد الوعي من شدة غبائي، فلم أفهم أي كلمة مما قال؛ مَن هو ذلك اﻟ «معاليك» الذي يقصده؟ ولماذا يحتاج الرئيس إلى إذْن؟ وماذا يقصد بنقل السلطات؟ أي سلطات؟
بدأت أشعر بالدُّوَار، فتلفَّتُّ حولي لأرى أنَّني أقف في مركز دائرة من جنود الحرس الجمهوري، تَكبُرها دائرة أخرى من قوات مكافحة الشغب، وبينهما يقف الرائد «عمر»، وبجواره «عصام» و«شعراني» و«حسام فوزي» و«عماد»، ثم دائرة أكبر من الكومبارس بملابس الجيش البريطاني، فدائرة أكبر من قوات مكافحة الشغب مرَّة أخرى، بينهما النقيب الذي لا أعرف اسمه، و«حسن» و«أحمد بيومي»، ثم جموع من العامَّة الذين كانوا يشاهدون التصوير، كانت إحدى اللوحات المرسوم عليها دبابة قد سقطت من تلك التحركات مُحدِثة دويًّا بدا مُريعًا في ظلِّ الصمت المُطبِق على المكان.
التفتنا جميعا بلا استثناء إليها، فإذا «بأبو ميار» يقفز ليُنقذها، وتسارعت كافة الأحداث، السيد المبجَّل يقول: «أنا منتظر رد معاليك»، الرائد «عمر» يُشير للنقيب، النقيب يُشير لجنوده، يهجم الجميع على «أبو ميار» ويُوسِعوه ضربًا مُبَرِّحًا، وهو يصيح: «الحقني يا ريس، الحقني يا ريس!» وكأنه أطلق الكلمة السحرية.
الرائد «عمر» يقتحم المسافة بيني وبين السيد المبجَّل، بينما السيد المبجَّل ينسحب قائلًا: «الرسالة وصلت.» يستوقفه الرائد «عمر» قائلًا: «الريس (مشيرًا إليَّ) هايِّديكم ساعتين تسلِّموا القصر، وممكن تتحركوا بعربيات الرياسة، وعربيتي هاتطلع معاكم، و…» لم أتمالك نفسي فسقطت مغشيًّا عليَّ وأنا أسمع همهمة تحولت لصراخ: «الريس وقع، الريس وقع.» وشعرت بمن يحملني وفقدت الوعي.