حل المشكلات
متى أردنا فعل شيء نواجه مشكلة تستوجب الحل، ولكننا نفتقر إلى الوسائل الفورية لإيجاد هذا الحل. ومعظم الأهداف التي نُحققها في حياتنا اليومية لا تتطلب حلَّ مشكلات، لأن لدينا عادةً أو معرفةً مسبقة تُمكِّننا من تحقيقها. الذهاب إلى العمل، على سبيل المثال، يتطلب سلسلة من القرارات والأفعال التي قد تكون معقدة نوعًا ما، ولكنها عادةً ما تكون روتينيةً وتُنفذ تلقائيًّا. فنحن نعلم كيف نشغِّل سياراتنا وأي طريق نسلُكه، وما إلى ذلك. ولكن إذا لم نتمكن من تشغيل السيارة في صباح أحد الأيام، أو كان طريقنا المُعتاد مغلقًا، «حينها» نواجه مشكلةً تستوجب الحل. مثل العديد من المشكلات الواقعية، هذه المشكلات «غير واضحة المعالم» وتفتقر إلى إجراءاتٍ أو قواعد واضحة لحلها. على سبيل المثال، إذا لم نتمكن من تشغيل السيارة، يُمكننا تجربة مجموعةٍ متنوعة من الاستراتيجيات والحلول. إذا كانت البطارية فارغة، يُمكننا تنشيطها باستخدام سيارة أخرى. أو قد نستعير سيارة من الزوج أو من صديق، أو نُقرر استخدام وسائل النقل العام.
قد تكون المشكلات غير واضحة المعالم سهلة الحلِّ على البشر ولكنها شبه مُستحيلة على الكمبيوتر، ما لم يكن لدَيه جميع المعلومات التي نعرفها. وعلى النقيض، فإن بعض المشكلات — بما في ذلك العديد من المشكلات التي يدرسها علماء النفس — هي مشكلات «واضحة المعالم». هذا يعني أن هناك مجموعةً واضحة من القواعد التي يمكن تطبيقها لحلها. عادةً ما يكون للمشكلات الاصطناعية هذا الطابَع. على سبيل المثال، حلُّ لُغز كلمات مُبعثرة (قد يُصادفنا في لُغز الكلمات المتقاطعة)، أو حل لُغز سودوكو، أو الانتصار في الشطرنج في ثلاث حركاتٍ فحسب. إذا كانت المشكلة واضحة المعالم، يمكننا مبدئيًّا كتابة برنامج كمبيوتر لحلها.
يُعَد حلُّ المشكلات سمةً أساسية واضحة للذكاء البشري. فبشكلٍ عام تتطور الحيوانات بأنماطٍ سلوكية ثابتة. وبعض الأمور التي تقوم بها قد تبدو ذكيةً جدًّا. على سبيل المثال، قد تُهاجر الطيور والحيوانات الأخرى آلاف الأميال لتصل (عادةً) إلى المكان الصحيح. ويمكن لنحْلِ العسل أن يشير إلى موقع الرحيق لبقية أفراد مجموعته باستخدام شفرةٍ معقدة. كما تتبع الحيوانات المفترسة استراتيجيات مُعقدة للإيقاع بفريستها، وغيرها من الأمثلة. ولكن هذه السلوكيات قد اكتُسبَت ببطءٍ من خلال التطوُّر ولا يمكن لحيوانٍ مفرد تغييرها. وإذا تغيرت البيئة، فلن يكون من الممكن للكائن المُنفرد تعديل سلوكه. على الرغم من وجود بعض الأدلة على الاستخدام الذكي للأدوات لحلِّ المشكلات الجديدة لدى بعض الحيوانات، فإن حلَّ المشكلات الجديدة هو بشكلٍ عامٍّ ما يميز جنسنا البشري عن كلٍّ من الحيوانات الأخرى وأسلاف البشر الأقدم. فقد كان لدى النياندرتال مهارات متطورة جدًّا — في تصنيع الأدوات وصيد الفرائس، على سبيل المثال — ولكن هذه المهارات كانت منعزلة بعضها عن بعض. لذلك، لم يكن بإمكانهم تعديل صناعة أدواتهم إذا واجهوا أنواعًا مختلفة من الفرائس. على النقيض، كان نوعنا البشري، «الهومو سابينس سابينس» (الإنسان العاقل) قادرًا على تعديل تصميم أدواته بسرعةٍ لتحقيق أهداف مُتغيرة، وهذا ربما يكون السبب في أننا النوع البشري الوحيد الذي استمرَّ حتى يومِنا هذا.
لا يعتمد الذكاء البشري، في المقام الأول، على أنماط سلوكية ثابتة ورثناها عن أسلافنا، ولا يعتمد على التعلُّم من خلال التكرار. فباستطاعة البشر، وهم يفعلون ذلك بالفعل، حل مجموعةٍ متنوعة من المشكلات الجديدة، وهذا هو السبب وراء قدرتنا على تطوير مثل هذه التقنيات المتقدمة. إذا أردنا فهم الذكاء البشري، فيجب علينا دراسة كيفية قيام البشر بحلِّ كلٍّ من المشكلات غير الواضحة المعالم والواضحة المعالِم. ليس لكل المشكلات حلٌّ صحيح واحد، ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نَيئس من إيجاد أفضل حلٍّ ممكن. على سبيل المثال، لا يستطيع أي إنسانٍ أو آلةٍ ضمان حساب أفضل حركة في الشطرنج في معظم الوضعيات، لكنهم يستطيعون بالتأكيد تحديد الحركات الأفضل بكثيرٍ من غيرها. يُشبه أفضل علمائنا لاعبي الشطرنج الكبار، لأن العلم أيضًا لا يمكنه تقديم معرفة صحيحة على نحوٍ يقيني. وحتى النظريات العلمية العظيمة، مثل ميكانيكا نيوتن، قد يظهر لاحقًا أنها غير صحيحة أو محدودة في بعض الجوانب. في حالة نيوتن، لا يمكن اكتشاف الأخطاء في الأنظمة التي تتحرَّك بسرعاتٍ أبطأ بكثير من سرعة الضوء، وقد كانت فيزياء نيوتن قريبةً بدرجة كبيرة من الحقيقة لتُتيح تطوير العديد من التقنيات بناءً على مبادئها.
علم النفس الجشطالتي وظاهرة الاستبصار
في الفصل الأول، ذكرت أن السلوكية كانت هي الحركة المهيمنة في علم النفس لمدة نصف قرن (من عام ١٩١٠ إلى ١٩٦٠ تقريبًا). وبالتفكير في تلك الفترة، نجد أن هذه الحركة أعاقت التقدم في مجال علم النفس إعاقةً شديدة. فلم يقتصر مؤيدو السلوكية على إنكار دراسة الوعي، بل قيَّدوا المجال تقييدًا كبيرًا. حاولوا تفسير الذكاء البشري كله من خلال مفاهيم الارتباط الشرطي والتعلُّم من خلال التكرار، كما لو أن السلوك البشري يمكن تفسيره ببساطة من خلال دراسة طرق تعلُّم الفئران والحَمَام. وعلى هذا الأساس، فمن شأن جميع المشكلات البشرية أن تُحلَّ تدريجيًّا عبر التعلُّم عن طريق التجربة والخطأ.
لحُسن الحظ، نشأ تحدٍّ كبير لوجهة النظر السلوكية على يد مَدرسة ألمانية في علم النفس كانت قويةً أيضًا في النصف الأول من القرن العشرين، وتُعرَف هذه المَدرسة بمَدرسة علم النفس الجشطالتي. مهَّد هذا العمل المُهم في كثير من النواحي الطريق أمام تطوُّر علم النفس المعرفي في ستينيات القرن العشرين، ولكن دون إشارة صريحة إلى مفهوم معالجة المعلومات. وقد تحدَّدت في تلك الفترة معظم القضايا التي تُدرَس اليوم والمُتعلقة بحلِّ البشر للمُشكلات. ويُستخدَم مصطلح «جشطالت» للإشارة إلى فكرة «الشكل الجيد» أو الصورة الكاملة التي لا يمكن استنباط خصائصها من مجموع أجزائها. كان علم النفس الجشطالتي يهتمُّ أساسًا بدراسة الإدراك البصري، ولكنَّ عددًا من العلماء البارزين طبقوا فيما بعدُ أفكارهم على دراسة التفكير وحل المشكلات، في تعارُض واضح مع السلوكية.


في دراساته حول مشكلة الورم، طوَّر دونكر طريقة ذات أهمية كبيرة في دراسة حل المشكلات، تُعرَف باسم «تحليل البروتوكول اللفظي». يُشجَّع المشارك على «التفكير بصوتٍ عالٍ» أثناء محاولة حلِّ المشكلة، بحيث يتم تسجيل الأفكار، والمحاولات، والفرضيات التي يُفكر المشارك فيها، والحلول الخاطئة وما إلى ذلك لكي يدرُسها الباحث النفسي. قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الطريقة هي نفسها التقارير الاستبطانية، التي قلتُ إنها فقدت مصداقيتها إلى حدٍّ كبير. لقد نُوقِش هذا الأمر كثيرًا بين علماء النفس، والرأي العام السائد هو أن الطريقتَين «ليستا» متطابقتَين وأن تحليل البروتوكول اللفظي أكثر فائدة بكثير. البروتوكولات اللفظية تُنتَج متزامنةً وليس بأثرٍ رجعي، ولا يُطلَب من المشارك شرح أفعاله أو تبريرها. وبذلك، يقع عبء التفسير على عاتق عالِم النفس، وليس المشارك. من المستحيل تقريبًا دراسة حل المشكلات المعقدة دون هذه الطريقة؛ لأننا بحاجة إلى سجل للنتائج الوسيطة حتى نتمكن من فهم العملية بأكملها.
أظهر دونكر قيمة هذه الطريقة بشكل جيد جدًّا في ورقته البحثية. سارت بعض الحلول الخاطئة في طرق مسدودة أو خالفت التعليمات المُعطاة (على سبيل المثال، علاج الورم جراحيًّا على الرغم من أن التعليمات تقول إنه غير قابل للجراحة). ولكن بعض الحلول ساهمت بجزءٍ من مفهوم الحل الصحيح. على سبيل المثال، «يجب تقليل شدة الأشعة إلى أن تصل إلى الورم: على سبيل المثال — هل سينجح هذا؟ — لا تقُم بتشغيل الأشعة بكامل قوَّتها إلا بعد الوصول إلى الورم». على الرغم من أن الحلَّ المقترح هنا غير مُمكن، فإن فكرة تقليل شدة الأشعة في طريقها إلى الورم تُشير فعليًّا إلى الحل الصحيح، الذي يصل إليه هذا المشارك في النهاية باستبصارٍ تقليدي مفاجئ: «تحويل الأشعة بطريقة أو بأخرى … تشتيت الأشعة … بعثرة الأشعة … توقف! إرسال حزمة واسعة وضعيفة من الأشعة عبر عدسة بحيث يقع الورم عند البؤرة الأساسية للعدسة.» بالمصطلحات الحديثة التي قدَّمها علماء النفس بعد الحرب، قام المشارك بتيسير المشكلة عن طريق تحديد «هدف فرعي». الهدف الفرعي هو الذي إذا تم تحقيقه، يمكن أن يؤدي مباشرة إلى الهدف. في هذه الحالة، الهدف الفرعي هو تقليل شدة الأشعة في طريقها إلى الورم.


المشكلات الواضحة المعالم والمنهج الحوسبي
من الناحية النظرية، يمكن كتابة برنامج كمبيوتر لحل أي مشكلة واضحة المعالم، بشرط أن يكون لديه وقت غير محدود. يمكن للكمبيوتر الحديث بسهولة أن يلعب لعبة «سكرابل» جيدًا لأن لديه الوقت لحوسبة جميع الطرق الممكنة لوضع الأحرف على اللوحة ويمكنه التحقق بسرعة مما إذا كانت كل سلسلة أحرف تكوِّن كلمة حقيقية باستخدام القاموس المُضمَّن بداخله. من ناحية أخرى، لا يمكن للكمبيوتر لعب لعبة شطرنج أو «بريدج» جيدًا لأن هناك عددًا كبيرًا جدًّا من المواقع والتسلسُلات المُمكنة في هاتَين اللعبتَين لدرجةٍ يصعب عليه حوسبتها وتقييمها جميعًا. تُوصف مثل هذه المشكلات بأنها «غير قابلة للحل حوسبيًّا»، مما يعني أنها تتجاوز القدرة الحوسبية للآلات الحديثة، وكذلك البشر.
تستفيد أنظمة التشفير الحديثة من التعقيد الحوسبي. إذ تعتمد نظم الكمبيوتر الآمنة، مثل تلك المُستخدَمة في المعاملات المالية عبر الإنترنت، على تقنيات التشفير التي تستخدِم مفتاحًا عامًّا مرفقًا بالرسالة (يتغير في كل مرة) ومفتاحًا خاصًّا يحتفظ به المُرسِل والمُتسلِّم. يمكن حساب المفتاح المُستخدَم لتشفير الرسالة بسهولةٍ من خلال الجمع بين المفتاحَين العام والخاص. ولكن الجزء الذكي في هذا هو أن المفتاح العام هو حاصل ضرب عددَين أوليَّين كبيرَين ويجب عليك تحليله إلى عوامله لفكِّ الشفرة، ما لم يكن لديك المفتاح الخاص. لا توجَد طريقة سريعة معروفة لحساب عوامل عددٍ بهذا الحجم الكبير. لذلك، رغم إمكانية كتابة برنامج كمبيوتر لحلِّ هذه المشكلة الواضحة المعالم، فقد يستغرق حتى أسرع أجهزة الكمبيوتر الحديثة مئات أو آلاف السنين لفك الشفرة.
يستند علم النفس المعرفي إلى معاملة العقل كجهاز كمبيوتر، وله روابط نظرية مع دراسة الذكاء الاصطناعي، الذي يهدف إلى جعل أجهزة الكمبيوتر ذكية. وقد أجرى ألان نيويل وهيرب سيمون برنامجًا بحثيًّا رائدًا يجمع بين كِلا الهدفَين، في الغالب في ستينيَّات القرن العشرين وركز هذا البرنامج على حلِّ البشر للمشكلات. فقد كتبا برنامج كمبيوتر أطلقا عليه «برنامج حلِّ المشكلات العام»، وكان مصممًا ليكون ذكيًّا. وتمَّت مقارنة العمليات التي يقوم بها الكمبيوتر لحل المشكلات مع البروتوكولات اللفظية الخاصة بالبشر أثناء حلِّ المشكلات نفسها، وأظهرت المقارنة تشابُهات مُذهلة بين الاثنين. في ذلك الوقت، كانت قدرة أجهزة الكمبيوتر ضئيلةً للغاية، لذا كان يجب على البرنامج استخدام وسائل أشبَهَ بوسائل البشر. أما برامج الكمبيوتر الحديثة فيُمكنها استخدام أساليب «القوة الغاشمة» التي تتضمَّن فحص مليارات الاحتمالات، لكن هذه الأساليب ليست ذات أهمية كبيرة في علم النفس.
اقترح نيويل وسيمون أن كلًّا من البشر وأجهزة الكمبيوتر يحتاجون إلى أساليب ذكية لتقليص فضاء البحث، وأطلقا على هذه الأساليب «الاستراتيجيات التجريبية». لا يمكن للاستراتيجيات التجريبية ضمان النجاح، لكنها يمكن أن تؤدي إلى حلولٍ فعَّالة لمشكلات غير قابلة للحل حوسبيًّا. إحدى الطرق هي العمل عكسيًّا من الحل المرغوب إلى الحالة الحالية، بتحديد هدفٍ فرعي، كما اكتُشف في عمل دونكر. طريقة أخرى هي «تحليل الوسائل والغايات»، حيث يتم حساب الفرق بين الحالة الحالية والحالة المستهدفة، ومحاولة تقليص هذا الفرق. على سبيل المثال، إذا كنت ترغب في إعداد عجة البيض، فإنك تحتاج إلى بيض. وإذا لم يكن لديك بيض في المنزل، فعليك إنشاء مشكلة فرعية وهي الحصول على البيض. إذا قمتَ بحلِّ هذه المشكلة (على سبيل المثال بشراء البيض أو استعارته)، فإنك قد اقتربت من حالة الحلِّ (عجة بيض مطهوَّة في طبقك). في هذه الحالات الواقعية، قد تُقرر بالطبع أن المشكلة الأكبر هي تناول الغداء، وأنه قد يكون من الأسهل إعداد شيءٍ آخر بدلًا من الحصول على البيض. كانت برامج الكمبيوتر الاصطناعية التي صمَّمها نيويل وسيمون قادرة على إثبات العديد من النظريات (ولكن ليس جميعها) في المنطق الرياضي باستخدام هذه الاستراتيجيات، وهو إنجاز لافت للنظر في ظلِّ التكنولوجيا التي كانت متاحة في ذلك الوقت.
قد تكون المشكلات الواضحة المعالم صعبة لأنها تحتوي على فضاء بحث واسع، مثل العثور على حركة جيدة في الشطرنج. ولكنها يمكن أن تكون صعبة أيضًا لسبب آخر مختلف؛ وهو أنها قد تحتمل حلًّا حدسيًّا جذابًا ولكنه خاطئ. وقد ظهر هذا مؤخرًا في اختبار تفكير قصير وضعه شين فريدريكس، حيث قدم عدة مشكلات يمكن حساب حلِّها بسهولة، ولكنَّ لها حلًّا حدسيًّا خاطئًا يُنافس الحل الصحيح. مثال جيد على ذلك هو مشكلة المضرب والكرة:
سعر المضرب والكرة معًا ١٫١٠ دولار. إذا كان سعر المضرب أكثر من الكرة بدولار واحد، فكم سعر الكرة؟
الإجابة الصحيحة — ٥ سنتات — يمكن استنتاجها بسهولة باستخدام عملية بسيطة من عمليات الجبر. ولكن الإجابة الخاطئة — ١٠ سنتات — تتبادر مباشرةً إلى الذهن، وغالبًا ما يُجيب الناس بها دون تفكير. العديد من الأذكياء والمُتعلمين تعليمًا جيدًا يُخطئون في هذه المشكلة، ولكن ليس لأن الإجابة الصحيحة يَصعُب حسابها. هناك الآن الكثير من الأدلة على أن الاعتماد على الحدس في مثل هذه المشكلات سمة شخصية، مما يعني أن بعض الأشخاص يميلون باستمرار إلى ارتكاب هذا النوع من الأخطاء، بينما يتحقَّق الآخرون من حدسهم باستخدام الاستدلال. يرتبط هذا بما يُعرف الآن باسم «نظرية المعالجة المزدوجة»، التي تعتبر شائعة جدًّا في علم النفس المعاصر. تميز هذه النظرية بين التفكير القائم على العمليات من «النوع الأول» (السريعة والحدسية) والعمليات من «النوع الثاني» (البطيئة والتأمُّلية). ويبدو أننا في بعض الأحيان نعتمد على النوع الأول بينما نحتاج في الواقع إلى النوع الثاني لحلِّ المشكلة.
استخدام الاستبصار والخبرة في حلِّ المشكلات
ما زالت المشكلات التي يعتمِد حلها على الاستبصار محورًا للبحث في علم النفس حتى يومِنا هذا. إذ تحظى ظاهرة الحلول المفاجئة التي تُصاحبها صيحة «وجدتها!»، التي اكتشفها علماء النفس الجشطالتيون، باهتمامٍ كبير في علم النفس. في المنهج الحوسبي، تُحل المشكلات من خلال البحث المنهجي في فضاء المشكلة. لكن من الواضح أن هذا لا يُفسر صعوبة المشكلات التي يعتمد حلُّها على الاستبصار، والتي تكون عادةً عصية على الحلِّ كما يفهم الناس ويقولون عنها من البداية. يعتمد الاستبصار على إعادة هيكلة المشكلات للتخلُّص من الافتراضات الخاطئة والتوجُّهات العقلية غير المفيدة. ولكن كيف يحدث هذا؟ تُخبرنا الدراسات القديمة أنه يمكن أن يحدُث تلقائيًّا أو يتم تسهيله من خلال تلميحاتٍ بسيطة قد تكون غير ملحوظة حتى بشكلٍ واعٍ. لكن هذا لا يُساعدنا كثيرًا في فهم الظاهرة.
لقد عرفنا منذ فترة أن إحدى طرق حل المشكلات المعتمدة على الاستبصار هي الاستدلال بالحالات المُماثلة. قدمت إحدى الدراسات الحديثة حول مشكلة الورم التي قدَّمها دونكر لبعض المشاركين قصةً تمهيدية عن جنرال يُهاجم حصنًا يخضع لحراسة قوية. يمكن الوصول للحصن من أربع جهات مختلفة، ويقرر الجنرال تقسيم قواته والاقتراب منه من جميع الاتجاهات في نفس الوقت، ثم تجميع كل القوات عند الوصول إلى الحصن ودكِّه بأقصى قوة. هذا ما يُعرف بالتشبيه التمثيلي البِنيوي لمشكلة الورم. صحيح أن المجال عسكري وليس طبيًّا، ولكنه يتضمن فكرة توزيع القوى الضعيفة التي لا تتجمَّع سوى عند الموقع المُستهدَف لدكِّه بأقصى قوة. الأشخاص الذين قُدمت لهم هذه القصة أكثر قدرة على حلِّ مشكلة الورم، ولكن معظمهم لا يزال يحتاج إلى تلميحٍ بأن قصة الجنرال ذات صلةٍ بالمشكلة التي هُم بصدد حلِّها. يتطلَّب التفكير الإبداعي عادةً الربط بين أفكارٍ من مجالات مُختلفة تمامًا. مثالٌ جيد على ذلك هو العدسات العاكسة التي تُستخدَم في جميع أنحاء العالم على الطرُق لتمكين السائقين من رؤية علامات الطرق غير المُضيئة ليلًا. غالبًا ما يُشار إليها باسم عيون القطط، حيث كانت عيون القطط مصدر الإلهام لمُخترعها بيرسي شو. أدرك شو أنه إذا كانت عيون القطط تعكس الضوء ليلًا مما يُمكِّن المرء من رؤيتها، فإن من شأن عدسة اصطناعية أن تؤدي الوظيفة نفسها للسائقين.
إحدى القضايا الرئيسية التي يُواجهها الباحثون المُعاصرون هي ما إذا كان حلُّ المشكلات بالاستبصار يتضمَّن عملية نفسية أو عصبية مميزة. المعسكران المختلفان في هذا النقاش يُعرفان بالمُصطلحين «العمل كالمعتاد» و«العملية الخاصة». يعتقد الفريق الأول أن العمليات المعرفية التي تؤدي إلى الاستبصار هي نفسها المُستخدَمة عادةً في البحث في فضاء المشكلة، وأن الاختلاف الوحيد يكمن في التجربة الانفعالية للحل المفاجئ. ولكن هناك أدلة قوية تدعم فكرة أن الاستبصار يتطلَّب عمليةً مميزة وخاصة. على سبيل المثال، أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن مناطق مُعينة في القشرة الدماغية اليُمنى تُصبح نشطةً عندما يصِف الأشخاص لحظات الاستبصار. غالبًا ما يصنع منظِّرو «العملية الخاصة» روابط واضحة مع نظريات المعالجة المزدوجة الخاصة بالتفكير، التي أشرتُ إليها سابقًا. وعلى الرغم من أن العمليات السريعة وقبل الواعية من النوع الأول غالبًا ما يتم ربطها بالانحيازات المعرفية — كما هو الحال في مشكلة المضرب والكرة — فلا يوجَد سبب حتمي للاعتقاد بأن العمليات الحدسية ستؤدي إلى أخطاء. من شأن الحدس أن يكون مفيدًا أيضًا، خاصةً عندما يمتلك الشخص الخبرة المطلوبة. من ثم قد يكون الاستبصار انعكاسًا للعمليات قبل الواعية من النوع الأول.
تربطنا هذه الفكرة مباشرةً بموضوع آخر، وهو حل المشكلات عن طريق الخبراء. من المعروف أن قدرات الاستدلال من النوع الثاني تتطور بشكل أفضل لدى الأشخاص ذوي معدلات الذكاء العام الأعلى. قد تظن أن هذا يعني أن الخبراء أكثر ذكاءً، ولكن هذا فهم خاطئ لطبيعة الخبرة. على الرغم من أن الحد الأدنى من معدل الذكاء قد يكون مطلوبًا ليُصبح الشخص خبيرًا في بعض المجالات، فإن ما يميز الخبراء هو مدى المعرفة المُتخصِّصة التي اكتسبوها. غالبًا ما تتجلى هذه المعرفة في شكل حدسٍ متفوق أو عمليات من النوع الأول، كما هو الحال مع لاعبي الشطرنج المُحترفين الذين «يرَون» الحركات الأقوى. تُظهر دراساتُ حلِّ المشكلات بواسطة الخبراء عمومًا أن الخبراء يعتمدون على «التعرُّف على الأنماط». من خلال الخبرة، يتعرفون على المواقف التي تُشبه تلك التي واجهوها من قبل، ويُمكنهم بسرعة اقتراح حلولٍ مُحتملة نجحت في الماضي. ولا يحتاجون إلى الاستدلال الصريح من النوع الثاني إلا عندما تكون المشكلات جديدةً بشكلٍ غير معتاد. وهذا هو بالضبط ما نريده. إذا كان طبيب ذو خبرة يتعامل مع حالةٍ مرضية طارئة، أو كان طيار يواجِه طقسًا خطيرًا أثناء رحلته، فلا نريدهما أن يقضيا وقتًا طويلًا في الاستدلال بالمبادئ الأولى. على العكس، نريد من خبرائنا أن يكونوا قادرين على التعرُّف على المشكلات والتصرف بسرعة.
أجرى جاري كلاين العديد من الدراسات حول كيفية قيام الخبراء بحل المشكلات واتخاذ القرارات في أماكن عملهم، ويؤكد على هذا الجانب الحدسي من الخبرة. ويروي قصة قائد في قوات الإطفاء الأمريكية، قاد رجاله إلى منزلٍ من طابق واحد لإخماد حريق. بعد محاولة غير ناجحة لإخماده، تولَّد لدَيه شعور بأن ثمة شيئًا غير صحيح، فقام بإجلاء رجاله. بعد فترةٍ قصيرة، انهار الطابق الذي كانوا يقفون عليه كاشفًا عن حريقٍ كان يشتعل في القبو أسفلهم. بينما ادَّعى القائد أن «الحاسة السادسة» هي التي أنقذتهم من الموت في الحريق، قدم كلاين تفسيرًا أكثر واقعية. لم يكن القائد يعلَم بوجود قبو في المبنى، لكن النار لم تستجب لمحاولة الإخماد كما هو متوقَّع وكانت حرارة الغرفة مُرتفعة جدًّا بناءً على خبرته. في هذه الحالة، «لم» يتعرَّف على النمط وكان عدم التوافق هو ما أثار قلقه ودفعه إلى اتخاذ القرار (الحكيم) بالانسحاب.
باختصار، تُظهر الأبحاث حول حلِّ المشكلات أن الأمر يتعدَّى مجرد الاستدلال أو حساب الحلول للمشكلات الواضحة المَعالم. بعض المشكلات صعب لأن له عددًا كبيرًا من الحلول المُحتمَلة التي يجب التفكير فيها؛ ولذا يجب إيجاد وسائل مختصرة لحلِّه. بينما يكون بعضها الآخر صعبًا لأننا ببساطة نفتقر إلى النهج الصحيح والتوجُّه العقلي المناسِب، وقد لا نتمكَّن من حلِّه إلا عندما نحصل على فترة راحة أو تلميحٍ أو تشبيه تمثيلي يسمح لنا بالاستبصار. والمشكلات التي تكون صعبةً على المبتدئ قد تكون سهلةً بالنسبة للخبير، لأن الأخير يمتلك قدرًا كبيرًا من المعرفة والخبرة اللتَين تُمكِّنانه من التعرُّف على نمط مألوف. وقد أشرنا في هذا الفصل لأول مرةٍ إلى نظرية المعالجة المزدوجة، ويُمكننا أن نرى أن العمليات السريعة والحدسية يمكن أن تكون مصدرًا للخطأ أو سببًا للنجاح، وذلك حسب السياق والمعرفة السابقة لِمن يقوم بحلِّ المشكلة.