اتخاذ القرارات
بطريقةٍ ما، نحن نتَّخذ قرارًا في كل مرة نقوم فيها بشيءٍ ما في حين كان بإمكاننا القيام بشيء آخر. ولكن، وفقًا لهذا التعريف، فنحن نتَّخذ آلاف القرارات كل يوم. معظمها عادات لا تتطلَّب الكثير من التفكير. ثمة وجهة نظر أخرى تُفيد بأننا نتَّخذ قراراتٍ عندما نبتعِد عن العادات. على سبيل المثال، إذا كنا نستحمُّ كل صباح، فإننا لا نُقرر القيام بذلك بأي عملية للتفكير التأمُّلي. ولكن إذا لم نستحم لأننا تأخَّرنا عن العمل، فإن «ذلك» يتطلَّب قرارًا. وبالمثل، إذا كان طريقُنا إلى العمل يتطلَّب منَّا الانعطاف يسارًا عند أحد التقاطعات، فلن نُطلق على ذلك اتخاذًا لقرار. فهو أمر يحدث تلقائيًّا بالممارسة. بينما الانعطاف يمينًا، لغرض مُحدد — ربما لإرسال خطابٍ عاجل على سبيل المثال — سيتطلب قرارًا. وكما نعلم جميعًا، فمن المُحتمل جدًّا أن ننسى وننعطف يسارًا على أي حال. بلُغة نظرية المعالجة المزدوجة، تُهيمن العمليات التلقائية من النوع الأول على معظم خياراتنا اليومية. ويتضمَّن علم نفس اتخاذ القرارات في الغالب مسائل الاختيارات الجديدة التي تتطلَّب التفكير المتأنِّي من النوع الثاني لحلِّها. ولكن غالبًا ما تُنسَب الأخطاء إلى المعالجة من النوع الأول، كما سأناقش في الفصل السابع.
التفكير الافتراضي ضروري لعملية اتخاذ القرارات المتأنية. وذلك لأننا بحاجة إلى تخيُّل عواقب اختياراتنا. لنفترِض أن شابًّا يُفكر في الاختيار بين دراسة علم النفس أو الهندسة في الجامعة. يتخيل دراسة المجالَين ويُقرر أن علم النفس سيكون أكثر إثارةً ومتعة. إذا توقفت تجربته الفكرية عند هذا الحد، فسيكون هذا هو قراره. ولكنه قد يُفكر بعد ذلك فيما يحدث بعد تخرُّجه، وربما يجري بعض البحث عبر الإنترنت حول هذا الأمر. ويُلاحظ أن هناك فائضًا من خريجي علم النفس وأن معظمهم لن يجدوا وظائف في هذا المجال. من ناحيةٍ أخرى، هناك طلب على المهندسين المؤهَّلين جيدًا ومن المُحتمل أن تكون لهم وظائف بأجورٍ جيدة. استنادًا إلى هذا، قد يُقرر دراسة الهندسة. يعتمِد جزء من حساباته على تقييم المخاطر. فهو يعتقد أنه من الأرجح أن تؤدِّي الهندسة إلى وظيفةٍ ذات دخل جيد وأن هذا يفوق اهتمامه بعلم النفس.

تُقدم نظرية اتخاذ القرارات الاقتصادية قاعدة لهذه الاختيارات المحفوفة بالمخاطر تُسمى قاعدة «القيمة المتوقعة». يُمكننا اعتبار استثمارنا الآمن شيئًا مؤكدًا، فمثلًا نعرف أن قيمته ستكون ١١٠ آلاف دولار بعد خمس سنوات. فكيف نُقيِّم الخيار المحفوف بالمخاطر؟ تقول النظرية إننا نضرب احتمال كل نتيجةٍ في قيمتها ثم نجمع القيم الناتجة معًا. إذا فشل المشروع، نحصل على ٠٫٣ مضروبًا في صفر، وهو ما يساوي صفرًا. وإذا نجح، نحصل على ٠٫٧ مضروبًا في ٢٠٠ ألف دولار، وهو ما يساوي ١٤٠ ألف دولار. ومن ثم تكون القيمة «المتوقعة» لهذا الاختيار هي ١٤٠ ألف دولار، وهو بالتأكيد أعلى من مبلغ ١١٠ آلاف دولار الذي يأتي من الحساب ذي الفائدة. على هذا الأساس، فإن الخيار «العقلاني» هو الاستثمار المحفوف بالمخاطر. بالطبع، لا يكون الأمر بهذه البساطة عندما تأخذ السياق بعَين الاعتبار. قد يتَّخذ بنك استثماري هذا الاختيار لأن لدَيه أصولًا بالمليارات ويُجري عددًا كبيرًا من هذه الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر. إذ يُمكنه تحمُّل خسارة بعضها لأنه سيُحقق أرباحًا كبيرة من بعضها الآخر. ولكن ماذا لو كان مبلغ ١٠٠ ألف دولار هي مُدخرات حياة فرد يُخطط للتقاعد في غضون خمس سنوات؟ هل سيكون من العقلاني بالنسبة له أن يتحمَّل مخاطرة نسبتها ٣٠ في المائة بأن يفقد كل ما يملك؟
يبدو أن معظم الناس يُشاركونني حدسي في هذا الأمر. لنفترض أنني أعطيتُك هذا الخيار:
(أ) سوف أرمي عملةً معدنية. إذا ظهرت الصورة فسأعطيك ٢٠٠ دولار، وإذا ظهرت الكتابة فستدفع لي ١٠٠ دولار.
تُظهر الأبحاث أن معظم الطلاب المُشاركين سيرفضون مثل هذا العرض، على الرغم من أنه يُقدِّم لهم مكسبًا متوقعًا بقيمة ٥٠ دولارًا. السبب على الأرجح هو أنهم يركزون على أسوأ نتيجة ولا يستطيعون تحمل خسارة ١٠٠ دولار.
الآن، فكر في هذا الاحتمال:
(ب) سوف أرمي عملة معدنية ١٠٠ مرة. وفي كل مرة تظهر الصورة سأعطيك ٢٠٠ دولار، وفي كل مرةٍ تظهر الكتابة ستدفع لي ١٠٠ دولار.
سيقبل معظم الناس بالخيار «ب»، على الرغم من أن كل رميةٍ للعملة المعدنية لها نفس القيمة المُتوقعة كما في الخيار «أ». بعض علماء النفس والاقتصاديين وصفوا تفضيل الخيار «ب» على الخيار «أ» بأنه غير عقلاني، لأنه يتعارض مع قاعدة القيمة المتوقَّعة. لكن الخيار «ب» يُشبه إلى حدٍّ كبير حالة البنك الاستثماري أو شركة التأمين. فاحتمالية خسارة المال بعد ١٠٠ رمية للعملة مجتمعةً ضئيلةٌ جدًّا.
تُشكل حالة المقامرة مشكلةً حقيقية لنظرية القرار. في المجتمعات الغربية، يقامر معظم الناس بشكلٍ أو بآخر، وتُعَد نسبة تتراوح بين واحد في المائة واثنَين في المائة منهم مُدمِنين على القمار. تُمارَس الكثير من هذه المقامرات في ألعاب الحظ مثل الروليت، حيث تكون الخسائر المتوقَّعة مضمونة (بسبب وجود صفر أو اثنين في عجلات الروليت). ويسافر ملايين الأشخاص إلى لاس فيجاس «كل شهر» للمُقامرة بأموالهم في الكازينوهات. كما تنتشِر المُراهنات على سباقات الخيل وجميع الأحداث الرياضية حتى في الولايات المتحدة التي تُعَد فيها هذه المراهنات غير قانونية في غالب أجزائها. وكما تفعل الكازينوهات، يُحدد وكلاء المراهنات الاحتمالات بما يتوافق ومصلحتهم ويُحققون أرباحًا كبيرة، مما يعني أن المُقامرين يتوقَّعون خسارة أموالهم على نحوٍ مُنتظم. بالتأكيد ليس لديهم مكاسب متوقَّعة مثل المُستثمر في الشركات التي تنطوي استثماراتها على المخاطرة التي ذكرتُها سابقًا. ولا يمكن لقاعدة القيمة المتوقَّعة ولا قاعدة مستوى الأمان أن تُفسر هذا السلوك. إذن، لماذا يحدث ذلك؟
حاول مُنظِّرو اتخاذ القرارات الاقتصادية تطوير قاعدة القيمة المُتوقَّعة من خلال مراعاة الاحتمالات الذاتية والقيمة الذاتية للنتائج، والتي يُطلَق عليها مصطلح «المنفعة». على سبيل المثال، إذا كنتَ غنيًّا، فقد تكون المنفعة التي تحصل عليها من مبلغٍ مُعين أقل من تلك التي تحصل عليها لو كنتَ فقيرًا. قد يخوض الشخص الغني المقامرة «أ»، لأنه بعكس الطلاب المشاركين يستطيع بسهولة تحمُّل خسارة ١٠٠ دولار. وإذا سمح للاحتمالات أن تكون ذاتية، فقد يفسر ذلك بعض الانحرافات عن القيمة المُتوقَّعة. على سبيل المثال، إذا بالغ المقامر في تقدير احتمالية فوزه في اليانصيب الوطني، فقد يرى أن شراء تذكرةٍ قد يعود عليه بمكسبٍ ذاتي متوقَّع. هناك أيضًا منافع غير مالية، مثل مُتعة المقامرة. أخبرَني صديق يُحب حضور سباقات الخيل أنه يُخصص بضع مئاتٍ من الجنيهات لخسائر المقامرة كل عام، وأن المتعة التي يحصل عليها من حضور السباقات والمراهنة على الخيول تستحقُّ ذلك. وعندما حاولتُ إقناعه أن مقامرته غير عقلانية، سألني عن مقدار ما أُنفِقه سنويًّا على لعب الجولف. وبالطبع، كان المبلغ أكبر بكثير!
هل تُفضل فرصةً نسبتها ٠٫٤٥ للفوز بستة آلاف دولار، أم فرصة نسبتها ٠٫٩٠ للفوز بثلاثة آلاف دولار؟
يُفضل معظم الناس الخيار الأخير، أي الفرصة الأعلى للفوز بالمال. لاحظ أن القيمة المتوقَّعة للخيارين متساوية. الآن، فكر في هذا الخيار:
هل تفضل فرصةً نسبتها ٠٫٠٠١ للفوز بستة آلاف دولار، أم فرصة نسبتها ٠٫٠٠٢ للفوز بثلاثة آلاف دولار؟
في هذه الحالة، يُفضل معظم الناس الخيار الأول: الاحتمال الأقل للفوز بمبلغ أكبر، وهو ما يبدو غير مُتَّسِق مع الخيار الذي يتخذونه في المشكلة الأولى. عندما يكون الفوز مُرجحًا، يفضلون الاحتمال الأعلى. ولكن عندما تكون فرصة الفوز ضئيلة، فإنهم يفضلون المكافأة الأكبر. قد يُفسر هذا سبب رهان الناس على اليانصيب الوطني الذي ينطوي على جوائز كبيرة ولكن فُرَص الفوز فيه ضئيلة للغاية.
أظهر تفيرسكي وكانمان أيضًا أن القيمة الذاتية، أو المنفعة، التي يربطها الناس بالمال تعمل بشكلٍ مختلف مع الخسائر والمكاسب. على سبيل المثال، فكِّر في هذا الخيار:
هل تفضل فرصةً نسبتها ٠٫٨ للفوز بأربعة آلاف دولار، أم فرصة مؤكدة للفوز بثلاثة آلاف دولار؟
يختار أغلب الناس هنا الفوز بثلاثة آلاف دولار على الرغم من أن القيمة المتوقعة لخيار المخاطرة أعلى بنسبةٍ ضئيلة، مما يتماشى مع تأثير اليقين. ولكن ماذا عن هذا الخيار:
هل تفضل فرصة نسبتها ٠٫٨ لخسارة أربعة آلاف دولار أم خسارة مؤكدة بقيمة ثلاثة آلاف دولار؟
هنا تنقلب الأمور. إذ يفضل معظم الناس المخاطرة بخسارة أربعة آلاف دولار على الخسارة المؤكدة لثلاثة آلاف دولار.
لو كان هذا كل ما في الأمر، فلن يشتري الناس بوالص التأمين حيث يفضلون الخسارة المؤكدة لقسط التأمين على المخاطرة بخسارة منزلهم. ولكن كانمان وتفيرسكي أظهرا أيضًا أن الناس يُبالغون في تقدير احتمالات الأحداث النادرة الحدوث للغاية. ثمة احتمال ضئيل للغاية أن يحترِق منزلنا، لكننا مع ذلك نؤمِّن ضد الحريق. كما أن فرص الفوز في اليانصيب الوطني ضئيلة جدًّا، ولكننا لا نزال نشتري تذاكره.
الانحيازات المعرفية في اتخاذ القرارات
في هذا القسم، أبتعدُ عن النهج الاقتصادي التقليدي في اتخاذ القرارات وأركز بدلًا من ذلك على بعض العوامل النفسية التي تؤثر على خياراتنا، والتي قد لا تتعلق بالضرورة بالمال على الإطلاق. وقد استخدمتُ مصطلح «الانحياز» في عنوان هذا القسم، لكنَّني سأؤجِل النقاش مؤقتًا حول ما إذا كانت هذه الانحيازات تجعل الناس غير عقلانِيِّين. تُطلَق تسمية الانحيازات على هذه الظواهر لأنها تظهر أن العوامل التي تبدو غير ذات صلة بجوهر خياراتنا قد تؤثر على اتخاذنا للقرارات.
عندما نطلُب من شخصٍ اتخاذ قرارٍ ما، قد نحصل على إجابة مختلفة حسب الطريقة التي نطلُب بها، وهذه الظاهرة تُعرف باسم «الصياغة». ومرة أخرى، أجرى البحث الأصلي عن هذا الموضوع كلٌّ من كانمان وتفيرسكي، وقد نُشر بعضه في أبحاثهما حول نظرية التوقُّعات وبعضه بشكلٍ منفصل. إليك إحدى المسائل الكلاسيكية التي طرحاها.
تخيل أن الولايات المتحدة تستعِد لتفشِّي مرض آسيوي غير مألوف، ومن المتوقَّع أن يودي هذا المرض بحياة ٦٠٠ شخص. وقد تم اقتراح برنامجَين بديلَين لمكافحة المرض. افترض أن التقديرات العلمية الدقيقة لنتائج اتباع كل برنامج هي كالتالي:
-
إذا تم تبنِّي البرنامج «أ»، فسيتم إنقاذ ٢٠٠ شخص.
-
إذا تم تبنِّي البرنامج «ب»، فهناك احتمال بمقدار الثلث أن يتم إنقاذ ٦٠٠ شخص، واحتمال بمقدار الثلثَين ألا يتم إنقاذ أي شخص.
أغلب المشاركين (٧٢ في المائة) فضَّلوا البرنامج «أ»، رغم أن البرنامج «ب» يتوقَّع أيضًا (رياضيًّا) إنقاذ ٢٠٠ شخص، وقد يُنقذ الستمائة شخص جميعهم. يبدو أن هذا مثال آخر على تأثير اليقين.
ولكن يمكن إعادة صياغة السؤال بنتائج مختلفة عند تقديمه لمجموعةٍ أخرى من المشاركين:
وُجِد أن معظم المشاركين (٧٨ في المائة) فضلوا البرنامج «د» على البرنامج «ج». على الرغم من أنه من الواضح أن البرنامج «أ» يعادل منطقيًّا البرنامج «ج»، وأن البرنامج «ب» يعادل منطقيًّا البرنامج «د». وهكذا نجد أنه عندما تتمُّ صياغة المسألة من حيث عدد الأشخاص الذين سيموتون وليس الذين سيعيشون، تنعكس الاختيارات لصالح تفضيل الخيار الأكثر خطورة. كان كانمان وتفيرسكي قد أظهرا بالفعل أن تأثير اليقين ينعكس في حالة الخسارة. ولكن المُذهل في هذه التجربة هو أن المشاركين سيُعطون إجاباتٍ متناقضة تمامًا عندما تؤدي صياغة المشكلة إلى تفكيرهم في النتائج الإيجابية أو السلبية، رغم عدم تغيير منطق الاختيار بأيِّ شكل.
هناك إدراك ثقافي بأن صياغة الأسئلة يُمكن أن تؤثر على اتخاذ القرارات. لهذا الأمر أهمية خاصة عندما تُتَّخذ قرارات كبرى من خلال الاستفتاءات. في عام ٢٠١٤، حصل سكان اسكتلندا على حقِّ التصويت على استقلالهم عن المملكة المتحدة، لكن السؤال المطروح كان موضوع جدلٍ كبير. فقد تم تعديل الاقتراح الأصلي «هل توافق على أن تُصبح اسكتلندا دولة مستقلة؟» لاحقًا ليُصبح «هل يجب أن تكون اسكتلندا دولة مستقلة؟» تحسُّبًا لانطواء عبارة «هل توافق» على الإجابة «نعم». في الاستفتاء اللاحق الذي أُجري في عام ٢٠١٦ بشأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، كان السؤال مرةً أخرى موضوعًا للجدال. وفي النهاية، تم تجنُّب استخدام «نعم» و«لا»، بتقديم الخيارين «البقاء» و«الخروج». ربما كان هذا خيارًا جيدًا؛ إذ قد يكون هناك تفضيل ﻟ «نعم» على «لا»، بغضِّ النظر عن السؤال.
لسببٍ ما، يشعر الناس بمسئوليةٍ أكبر عن الفعل مقارنةً بالإحجام عن الفعل، ونتيجة لذلك قد يتسبَّبون في ضررٍ من خلال عدم اتخاذهم لأي إجراء، وهي ظاهرة تُعرف باسم «انحياز الإغفال». يتم عادة توضيح هذه الظاهرة من خلال مشكلة التطعيم. يتم إخبار المشاركين بأن مرضًا يقتل ١٠ من كل ألف طفل، لكن التطعيم قد يقتُل ما بين صفر إلى تسعة من الأطفال. ثم يُسألون عن مستوى الخطَر الذي سيكونون على استعدادٍ لقبوله لتقديم التطعيم. تقول نظرية اتخاذ القرارات إنه يجب تحديد هذا المستوى عند العدد تسعة، حيث سيظلُّ هناك إمكانية صافية لإنقاذ حياةٍ واحدة. غير أن الأبحاث تُظهِر أن قلةً قليلة فقط هي المُستعدة لتحمُّل هذا المستوى من المخاطر، فيما يُفضل عددٌ أكبر من المشاركين عدم تحمُّل أي خطرٍ على الإطلاق. يُصنَّف هذا على أنه انحياز معرفي لأن نظرية اتخاذ القرارات لا تأخُذ في الاعتبار سوى المَنفعة النسبية لكل نتيجة. قد يبدو أن المشكلة هنا هي أن الناس يشعرون بمسئوليةٍ عن أي وفَيات تحدث بسبب فعلٍ إيجابي (التطعيم) ولكن ليس عن تلك التي تحدث بسبب الامتناع عن الفعل (عدم التطعيم). غير أنه تم تقديم تفسيرٍ بديل، وهو أن الناس يميلون إلى إنشاء نماذج عقلية سببية تربط مباشرةً بين الأفعال الإيجابية والآثار. ويُمكننا ربط هذا بالانحيازات الإيجابية التي ناقشناها في الفصل الثاني.
أشار إلدار شافير وزملاؤه إلى تأثيرٍ مُثيرٍ للاهتمام في دراساتهم المُتعلقة باتخاذ القرارات. في أحد الأمثلة، يُخبَر المشاركون بأنهم قضاة يُقررون إلى أيٍّ من الوالدين يجب منح حضانة الطفل. ويتم تقديم صفات الوالدَين على النحو التالي:
-
(أ)
دخل متوسط، صحَّة متوسطة، ساعات عمل متوسطة، على وفاق معقول مع الطفل، حياة اجتماعية مستقرة نسبيًّا.
-
(ب)
دخل فوق المُتوسط، علاقة وثيقة جدًّا مع الطفل، حياة اجتماعية نشطة للغاية، الكثير من السفر بسبب العمل، مشاكل صحية بسيطة.
عندما سُئلوا إلى مَن سيمنحون الحضانة، قال ٦٤ في المائة إنهم سيختارون الشخص «ب». وسُئلت مجموعة ثانية أي الوالدَين «سيحرمونه» من الحضانة. مرة أخرى، كان الشخص «ب» هو الخيار الأرجح (بنسبة ٥٥ في المائة). ولكن كيف حدث هذا؟ إن حرمان الشخص «ب» من الحضانة يعني منحَها للشخص «أ»! ولكن واضعو التجربة يقترحون تفسيرًا نفسيًّا. إذ يشيرون إلى أنه في مجموعة منح الحضانة، يبحث الناس عن أسباب لمنح الحضانة ويجدون بعضها في قائمة الشخص «ب»، مثل الدخل الجيد والعلاقة الوثيقة مع الطفل. أما في مجموعة الحرمان من الحضانة، فيبحث الناس عن أسباب للحرمان من الحضانة ويجدون بعضها أيضًا في قائمة الشخص «ب»، مثل الحياة الاجتماعية النشطة وكثرة السفر المرتبط بالعمل. بالمقابل، الشخص «أ» متوسط في كلِّ شيء.
من الواضح أن هذه النتيجة تبدو غير عقلانية من منظور نظرية اتخاذ القرارات، حتى إن تمكَّنَّا من تقديم تفسيرٍ نفسي لها. ويمكن اعتبارها نوعًا آخر من تأثير الصياغة؛ فطرح السؤال نفسه بطريقةٍ مختلفة يؤدي إلى إجابة مختلفة. كما ترتبط بما يُعرف باسم «انحياز التركيز» عند اتخاذ القرارات. يبدو أننا قد نكون موجَّهين للتفكير بشكلٍ انتقائي حول المعلومات المتاحة عند اتخاذ القرارات، مما يؤدي إلى التحيُّز في النتيجة.
كما ناقش شافير وزملاؤه ما يُعرَف «بتأثير الانفصال». ومرة أخرى، يُشرح هذا التأثير بشكلٍ أفضل من خلال مشكلة. أُخبِر المشاركون أنهم يواجهون اختبارًا تأهيليًّا صعبًا، وإذا رسبوا في الاختبار، فسيتعيَّن عليهم إعادته بعد عطلة عيد الميلاد المجيد. ولديهم أيضًا فرصة لحجز عطلةٍ مُمتعة في هاواي لفترة عيد الميلاد المجيد. أُبلغت مجموعة منهم أنهم نجحوا في الاختبار، وأغلبهم اختاروا حجز العطلة. وأُبلغت مجموعة أخرى أنهم رسبوا في الاختبار، ولكن مرة أخرى اختارت الأغلبية حجز العرض. أما المجموعة الثالثة، فقد أُبلغت بأن النتيجة غير معروفة بعد. في هذه الحالة، كانت النتيجة مُذهلة حيث إن ٦١ في المائة منهم كانوا على استعدادٍ لدفع رسوم غير قابلة للاسترداد بقيمة خمسة دولارات لتأجيل القرار حتى تُعرف نتيجة الامتحان. لماذا دفعوا رسوم التأجيل وهم سيحجزون الرحلة في كِلتا الحالتَين؟
هناك العديد من الأدلة على تأثير الانفصال، الذي يحظى بأهميةٍ كبيرة في علم النفس. يبدو هذا غير منطقي. فإذا كنتَ تفضل «أ» على «ب» عندما يكون «ج» صحيحًا، وتفضل أيضًا «أ» على «ب» عندما يكون «ج» غير صحيح، فلا بد أنك تفضل «أ» على «ب» بغضِّ النظر عن «ج». فلماذا يؤجل الناس اتخاذ القرار؟ يقترح شافير وآخرون أن الناس لديهم أسباب مُختلفة لكلا الخيارين. يُمكننا مرة أخرى أن نفهم هذا في إطار النماذج الذهنية السببية. النموذج الأول:
النموذج الآخر:
يبدو أن الناس لا يفضلون التفكير في نموذجَين أو أكثر في آنٍ واحد. اقترحت في أحد كُتبي أن هذه سمة عامة في التفكير الافتراضي، وأُسميها «مبدأ التفرد». ويبدو أن تأثير الانفصال يظهر أيضًا في أسواق المال، التي تشتهر بتجنُّبها لحالة عدم اليقين. على سبيل المثال، غالبًا ما تنخفِض قيمة الأسهم قبل أي انتخابات عامة ثم ترتفع مُجددًا بغضِّ النظر عن نتيجة الانتخابات.
إن تخيل الأحداث المستقبلية هو نوع من التفكير الافتراضي، الذي يُعد ضروريًّا لاتخاذ القرارات العقلانية. غير أنه تم إثبات وجود العديد من الانحيازات المعرفية المتعلقة بقُدرتنا على التنبُّؤ بالمستقبل أو تخيُّله. على سبيل المثال، ظهر أن الحكم البشري يُعاني من «الثقة المفرطة» المزمنة، مما يعني، على سبيل المثال، أننا أقل قدرةً مما نعتقد على التنبؤ بالأحداث المستقبلية، مثل نتائج المباريات الرياضية. (قد يكون هذا أحد أسباب شعبية المقامرة في مثل هذه الأحداث.) لكن الثقة المُفرطة تُعَد تأثيرًا أكثر عمومية. على سبيل المثال، يُمكنك أن تطلُب من الناس اختيار أحد معنَيَين لكلمةٍ غير مألوفة وتحديد نسبة لاحتمالية أن يكونوا على صواب. عادةً، كلما كانوا أكثر ثقة، كان من المُرجَّح أن يكونوا على صواب، لكن المستوى الفعلي لهذه الثقة عادةً ما يكون مبالغًا فيه. يمكننا إثبات ذلك بفحص جميع الحالات التي فيها نسبة مُعينة من الثقة، والنظر إلى عدد الإجابات الصحيحة. قد نجد، على سبيل المثال، أنه في الحالات التي يقول فيها الأشخاص إنهم واثقون بنسبة ٨٠ في المائة، فإنهم يكونون على صواب بنسبة ٧٠ في المائة فقط. حتى مجموعات الخبراء غالبًا ما تُعاني من الثقة المفرطة، ما لم يحصلوا على تغذيةٍ راجعة دقيقة حول أحكامهم المتكررة، كما هو الحال مع خبراء التنبؤ بالطقس.
من انحيازات التنبؤ بالمُستقبل الأخرى ما يُعرف ﺑ «مُغالطة التخطيط». عندما يُطلَب من الناس التنبُّؤ بالمدة التي ستستغرقها مهمةٌ ما، فإن معظمهم يتوقعون وقتًا أقلَّ من المطلوب. وهذا تأثير غريب لأن الناس يبدو أنهم يتعاملون مع المهمة بطريقة خاطئة، حتى عندما يمتلكون الخبرة اللازمة لها. لنفترِض أنني سألت زميلةً لي عن المدة التي ستستغرقها لكتابة بحثٍ علمي لتقديمه إلى إحدى المجلات. ما يُمكنها فعله هو استرجاع تجربتها في كتابة أوراقٍ بحثية مُماثلة في الماضي والوقت الذي استغرقته، واستخدام ذلك لتقدير الوقت للورقة الجديدة. يجب أن يكون هذا دقيقًا إلى حدٍّ كبير. ولكن ما يبدو أن الناس يفعلونه بدلًا من ذلك هو إجراء مُحاكاة ذهنية للمهمة. فيتخيلون الجوانب المختلفة التي سيتعين عليهم القيام بها ولكن بطريقة مثالية. زميلتي، على سبيل المثال، ستفترض أن كل شيءٍ سيسير وفقًا للخطة وستنسى جميع المشاكل التي أعاقتها بطرق مختلفة في الماضي والتي ستحدث بالتأكيد مرة أخرى!
القرارات الروتينية — مثل قبول فنجان من الشاي أو القهوة — يمكن اتخاذها بناءً على العادة والتجارب السابقة. ولكن بعض القرارات تكون مُهمة وتتطلَّب بالفعل بعض المحاكاة الذهنية للمُستقبل. مثال على ذلك هو ما إذا كان يجب قبول وظيفة جديدة تُعتبر ترقيةً ولكنها تتطلَّب منك نقل عائلتك إلى مكانٍ جديد. توجَد العديد من التعقيدات التي علينا التعامُل معها. على سبيل المثال، سيحاول الناس اكتشاف ما يُمكنهم معرفته عن العالم الجديد الذي سيعيشون فيه، لكن الكثير سيُترَك للتخمين. يُمكننا تخيُّل الكثير وسيظل هناك أيضًا مجال لانحيازات التركيز. على سبيل المثال، قد نُركز على تخيُّل مدى سعادتنا في الوظيفة الجديدة دون التفكير بما يكفي فيما سنتركه وراءنا. أو قد نركز على الوظيفة ولا نُولِي اهتمامًا كافيًا لعواقبها على حياتنا الشخصية والعائلية. وفي النهاية، قد نتخلى عن المحاولات العقلانية لتحليل مثل هذا القرار الصعب ونعتمِد على «حدسنا». سأتحدَّث عن دور الحدس في اتخاذ القرارات في الفصل السابع.
الحكم على الاحتمالات: الاستراتيجيات التجريبية والانحيازات
ما فعله كانمان وتفيرسكي هو اقتراح أننا نقوم بالحكم على الاحتمالات عن طريق استخدام استراتيجيات تجريبية مُعينة، لكنها قد تؤدي إلى انحيازاتٍ معرفية. كما ناقشنا في الفصل الثاني، الاستراتيجية التجريبية هي طريقة مُختصرة لحل المشكلات وقد تكون فعَّالة وسريعة ولكنها قد تفشل أيضًا. على سبيل المثال، فكِّر في «استراتيجيات التوفُّر» التي اقترحها كانمان وتفيرسكي. وفيها يقترحان أننا نحكم على احتمالية الأحداث بناءً على الأمثلة المتوفِّرة لدَينا ونستطيع استحضارها. لنفترِض أن شخصًا ما سألني عن متوسِّط عدد الأهداف الذي يسجله فريق الأرسنال في كل مباراة. وأنا من كبار مشجعي فريق الأرسنال وأتابع معظم مبارياته على التلفزيون أو الراديو، وأتحقق دائمًا من نتائج المباريات التي فاتتني. لذلك قد أحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال استحضار مباريات مختلفة وتقدير متوسط عدد الأهداف. وقد أكون جيدًا جدًّا في ذلك، لكن يمكن أن تكون لديَّ انحيازات بسبب الطريقة التي تعمل بها الذاكرة البشرية. على سبيل المثال، قد أتذكَّر مبارياتهم الأفضل ومن ثَم أُبالغ في تقدير عدد الأهداف. أو قد أتذكَّر مبارياتهم الأخيرة وبذلك أكون مُتحيزًا بسبب فترة أداءٍ جيدة جدًّا أو سيئة للغاية.
يُطلب من المشاركين بعد ذلك تقييم احتمالية عدة عبارات، بما في ذلك ما يلي:
-
(١)
ليندا موظفة في بنك
-
(٢)
ليندا تؤيد الحركة النسوية
-
(٣)
ليندا موظفة في بنك وتؤيد الحركة النسوية
تُشير الصورة النمطية التي أثارها وصف ليندا إلى أنها على الأرجح تؤيد الحركة النسوية أكثر من كونها موظفة في بنك، ولذلك يُرجِّح المشاركون الخيار ٢ على الخيار ١. النتيجة المُثيرة للاهتمام هي أنهم أيضًا يُرجِّحون الخيار ٣ على الخيار ١، وهو أمر غير منطقي. يُعرَف هذا «بمُغالطة التزامن». الفكرة في ذلك هي أن احتمالية وقوع حدثَين «أ» و«ب» لا يمكن أن تكون أكبر من احتمالية حدوث أيٍّ منهما بمفرده. لقد تم إجراء الكثير من الأبحاث حول هذه المشكلة، ودار جدل كبير حول سبب مُغالطة التزامن. كان التفسير الأصلي هو أن الخيار ٣ يُمثل صورة ليندا أكثر من الخيار ١. فمن الأسهل تخيُّل أنها موظفة في بنكٍ إذا كانت أيضًا تؤيد الحركة النسوية. ولكن بالطبع، بما أن قلة فقط من موظفي البنوك يؤيدون الحركة النسوية، فيجب أن يكون الخيار أقل احتمالًا بشكلٍ عام.
في الفصل الخامس، سأُناقش المزيد من الأبحاث حول كيفية قيام الناس بالاستدلال بالاحتمالات. ينبغي أيضًا أن أذكُر أن هناك العديد من النقَّاد لبرنامج الاستراتيجيات التجريبية والانحيازات، وخاصة الرأي الذي يُشير إلى أن هذه الأبحاث تُظهر أن الناس غير عقلانيين. وسأُغطي هذا النقاش في الفصل السادس، إلى جانب برنامج عملٍ بديلٍ يقوده أحد هؤلاء النقاد، وهو جيرد جيجرينزر، الذي اقترح أن استخدام الاستراتيجيات التجريبية قد يؤدي إلى اتخاذ قراراتٍ عقلانية ومناسبة.
خاتمة
بحُكم الضرورة، يقدم هذا الفصل مقدمة إلى اتخاذ البشر للقرارات، ولكنها مقدمة قصيرة جدًّا في الواقع. هناك نظرية لاتخاذ القرارات العقلانية تأتي في أغلبِها من علم الاقتصاد، ولكنها أثرت كثيرًا في علم النفس. تقتضي هذه النظرية أن يتنبَّأ الناس بعواقب اختياراتهم المُستقبلية، ويُقدِّروا الاحتمالات والقِيَم، ويختاروا عمومًا الخيارات التي تتمتع بأفضل قيمةٍ مُتوقَّعة (رياضيًّا). على الجانب الآخر، لدينا كم هائل من الأدلة النفسية التي تُظهِر أن كلًّا من اتخاذ القرارات والحُكم على الاحتمالات عرضةٌ للعديد من الانحيازات المعرفية. هذا الصراع هو السبب الرئيسي في الجدل حول عقلانية البشَر الذي سنتناوله في الفصل السادس. يعكس الجدل أيضًا أدلة على أن استدلالنا لا يفي بالمعايير القياسية المطلوبة، التي سأناقشها في الفصل الخامس.