هل نحن عقلانيون؟
تُتيح معظم المواضيع التي يتناولها هذا الكتاب مقارنة التفكير والاستدلال البشرِيَّين وفقًا لمعيار «تقريري»، أي نظرية شكلية للأجوبة الصحيحة والخاطئة. ومن بين النظريات التقريرية الأكثر تطبيقًا نظرية اتِّخاذ القرارات، ونظرية الاحتمالات، والمنطق. وقد رأينا أن الناس وفقًا لهذه المعايير غالبًا ما يرتكبون الأخطاء، وتبيَّن أن لديهم العديد من الانحيازات المعرفية. وتساءل بعض علماء النفس والفلاسفة عما إذا كان هذا يعني أن البشَر لا بدَّ وأنهم غير عقلانيين بطبيعتهم. إلا أن هذا السؤال ليس بسيطًا كما يبدو، بل كان موضوعًا للكثير من الجدل على مدار الثلاثين عامًا الماضية وأكثر.
هناك عدد من الطرُق المختلفة لتعريف العقلانية. على سبيل المثال، يميز الفلاسفة بين «العقلانية الأداتية» (كيف يجب أن نتصرَّف) و«العقلانية المعرفية» (ما يجب أن نؤمِن به). نحن عقلانيون أداتيًّا عندما نتصرَّف لتحقيق أهدافنا. إذا لم نُحقق الأهداف البيولوجية الأساسية مثل الأكل والشرب والتكاثر، فلن يبقى نوعنا. ولكن العديد من الأهداف بالنسبة للبشَر أكثر تعقيدًا من هذه ويمكن أن تتعارَض بسهولةٍ فيما بينها. على سبيل المثال، قد يتعارض هدف قصير الأجل، مثل الاستمتاع بليلةٍ من الشرب مع الأصدقاء، مع هدفٍ مهني طويل الأجل عندما يكون هناك امتحان مُهم يجب أن نخوضه في الصباح. في مثل هذه الحالات، لا يكون تحديد السلوك العقلاني أداتيًّا بالأمر السهل.
في الفصل الأول، وصفتُ الحركة السلوكية التي كانت سائدة في علم النفس لمدةٍ تقترب من خمسين عامًا. كان مؤيدو علم النفس السلوكي يعتقدون أن دراسة تعلُّم الحيوان ستُخبرنا بالكثير عن سلوك الإنسان. كان التركيز بالكامل على العقلانية الأداتية (مثل كيف تتعلَّم الحيوانات الحصول على الطعام) وكان معظمه على الأهداف الأساسية. أظهرت الحركة السلوكية اهتمامًا ضئيلًا بتمثيل المعرفة ومعالجتها في العقل البشري. ولكن الفلاسفة قد أدركوا أهميتهما منذ فترة طويلة، وناقشوا «العقلانية المعرفية». فنحن عقلانيون معرفيًّا عندما نكتسب المُعتقدات الصحيحة حول العالم من حولنا. ولكننا بحاجةٍ أيضًا إلى أن نكون قادرين على استنباط الاستنتاجات الصحيحة من هذه المعتقدات. لذلك يهتمُّ علم نفس الاستدلال بشكلٍ أساسي بدراسة العقلانية المعرفية. أما اتخاذ القرارات، فهو على العكس من ذلك، يتعلق بقيام الناس بتحديد الاختيارات الصحيحة لتحقيق أهدافهم ويبدو أنه يُركز على العقلانية الأداتية. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة حقًّا؛ حيث تستنِد العديد من القرارات إلى المُعتقدات. على سبيل المثال، في استفتاء المملكة المتحدة عام ٢٠١٦ حول عضوية الاتحاد الأوروبي، تشير الأدلة الاستطلاعية إلى أن المعتقدات التالية كانت ذات أهمية حاسمة:
-
(١)
إذا غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، فسوف يتأثر الاقتصاد بشدة.
-
(٢)
إذا غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، فسوف تستعيد السيطرة على الحدود وتُقيد الهجرة.
كانت هناك قضايا أخرى، بالطبع، ولكن يبدو أن هذه كانت الحجج الأكثر تأثيرًا؛ إذ كان (١) هو العامل الأساسي الذي دفع الناس للتصويت ببقاء المملكة المتحدة ضمن دول الاتحاد الأوروبي و(٢) هو العامل الأساسي الذي دفع الآخرين للتصويت بمغادرتها الاتحاد الأوروبي. ركز مؤيدو الحملتَين في الغالب على محاولة بناء الاعتقاد في (١) أو (٢)، حسب موقفهم. لكي يكون الناس عقلانيين أداتيًّا، يجب أن يُفكروا في «كِلا القضيتَين» وفي عددٍ من القضايا الأخرى، حيث يؤثر القرار عليهم بطُرقٍ متعددة. ولكن الناس يميلون إلى التركيز على قضايا منفردة عند اتخاذ القرارات. من الواضح أن التصويت لن يكون مُبرَّرًا إلا إذا كانت معتقداتهم «صحيحة» أو على الأقل ذات احتمالٍ كبير. وهذا يدل على أن العقلانية المعرفية مطلوبة أيضًا للعقلانية الأداتية في اتخاذ القرار. في الاستفتاء، كان من الصعب جدًّا على الناس تقرير صحَّة أيٍّ من (١) أو (٢)، جزئيًّا بسبب تعقيد القضيتَين وجزئيًّا بسبب الحملة المُتحيزة والمضللة التي يشنها كِلا الجانبين، وربما يجِد المرء هذا مُبررًا قويًّا لعدم اتخاذ قرارات مُعقدة ومتعددة الجوانب عن طريق الاستفتاء.
مفهوم آخر مفيد، اقترحه هيرب سايمون، هو مفهوم «العقلانية المحدودة». فالناس لديهم قدرات محدودة وقد لا يكونون قادرين على اتباع الاستراتيجيات التي يعتبرها علماء الرياضيات مثالية. إذا طلبتُ منك أن تُخبرني بالجَذْر التربيعي للعدد ٨٩٥٨٠٤٩ عن طريق الحساب العقلي، فلن تتمكَّن بلا شكٍّ من إعطاء الإجابة الصحيحة (٢٩٩٣). ولكن لا أحد سيحكُم عليك بأنك غير عقلاني نتيجة لذلك. وتدخل دراسة الاستراتيجيات التجريبية لتقليص فضاء بحث المشكلة، التي ناقشناها في الفصل الثاني، في نِطاق العقلانية المحدودة. تُمكِّننا مثل هذه الطرق على الأقل من حلِّ بعض المشكلات التي تتجاوز قُدرتنا الحوسبية بالوسائل المباشرة. في نهج العقلانية المحدودة، لا يزال الناس يسعون لتحقيق أهدافهم، ولكن عقلانيتهم محدودة بقُدرتهم المعرفية.
هناك بعض التعريفات الأخرى للعقلانية تستحقُّ الذكر. يُشير بعض الباحثين إلى «العقلانية المعيارية»، وهي السلوك الذي يتوافق مع النظرية المعيارية، مثل المنطق. ويُعَد تحديد ما إذا كان هذا السلوك عقلانيًّا أداتيًّا إحدى المسائل محلَّ النقاش في هذا المجال. جادل بعض الباحثين بأن هذَين المفهومَين يجب التعامُل معهما كلٌّ على حدة، بينما اقترح آخرون أن النظرية المِعيارية هي ببساطة وصفٌ شكليٌّ لماهية العقلانية الأداتية. وهناك آراء شديدة التبايُن حول قيمة النظريات المعيارية، كما سنرى لاحقًا. من بين مفاهيم العقلانية الأخرى مفهوم «العقلانية البيئية»، التي تُشير إلى السلوك المُتكيِّف مع البيئة، وهناك أيضًا «العقلانية التطورية»، وهي السلوك الذي تطوَّر لتحقيق أهدافنا الوراثية. وسوف أُناقش أمثلةً على كل هذه المفاهيم في هذا الفصل.
النقاش الكبير حول العقلانية
في هذا الكتاب، رأينا العديد من الأمثلة على الانحيازات المعرفية. في الاستدلال الاستنباطي، يرتكب الناس أخطاءً منطقية مُتكررة وهم عُرضة لانحياز المطابقة وانحياز المُعتقد. وفي الاستدلال الإحصائي، يبدو أن الناس لا يفهمون جيدًا أهمية إحصاءات مُعدل الأساس، مما يؤدي أحيانًا إلى استدلالاتٍ غير دقيقة بالمرة. في اتخاذ القرارات، قد يُعطي الناس إجاباتٍ مختلفة تمامًا على الأسئلة حسب كيفية صياغة المعلومات، فقد يكونون مُفرِطين في الثقة بالتوقعات والأحكام وما إلى ذلك. في كلٍّ من هذه الحالات، توجَد نظرية معيارية راسخة — المنطق، نظرية الاحتمالات، نظرية اتخاذ القرارات — تُمكِّننا من حساب الإجابات الصحيحة. وإذا كان الفلاسفة التقليديون مُحقِّين في اعتبار هذه القواعد معايير للتفكير العقلاني، فإنه يبدو أن الناس «غير عقلانيين» بطبيعتهم. ولكن كان عددٌ من علماء النفس والفلاسفة مُتردِّدين في الوصول إلى هذا الاستنتاج، مما أثار نقاشًا كبيرًا في المجلَّات الأكاديمية. يُشار إلى هذا أحيانًا ﺑ «النقاش الكبير حول العقلانية».
في قلب هذا النقاش ما أُحب أن أُسمِّيه «مفارقة العقلانية». خارج مختبرات علماء النفس، يبدو الجنس البشري جنسًا ذكيًّا وناجحًا للغاية مقارنةً بأي حيوان آخر. فنحن نتمتع بمعرفة متقدمة بالرياضيات والعلوم والهندسة، ونحن الوحيدون من بين الحيوانات الذين يُمكننا تصميم وبناء بيئاتٍ تُناسبنا. على سبيل المثال، الحيوانات التي تعيش في القطب الشمالي قد تطوَّرت وتكيَّفت للعيش هناك من خلال عملياتٍ بطيئة جدًّا. أما البشر، فيمكنهم تصميم وتفصيل ملابس دافئة، وبناء مبانٍ مزوَّدة بالتدفئة، وصناعة جرافات الثلج، وغيرها ليتمكنوا بسرعةٍ من العيش في هذه البيئة القاسية. يبدو أننا عقلانيون أداتيًّا، بل أذكياء جدًّا في كيفية تحقيق أهدافنا في الظروف الصعبة. وهنا تكمُن المفارقة؛ إذا كان البشر بهذا الذكاء، فكيف تجعلهم تجارب عِلم النفس المُتعلقة بالاستدلال وإصدار الأحكام يبدون أغبياء؟
اشتعل النقاش بين علماء النفس بعد نشْر ورقة بحثية مهمة للفيلسوف جوناثان كوهين في عام ١٩٨١، حيث جادل بأنَّ مثل هذه التجارب «لا» يُمكن أن تثبت عدم عقلانية البشر. وذكر هو والباحثون ذوو الآراء المُماثلة ثلاث حُجج رئيسية، وقد ظلَّت هذه الحجج حاضرةً في النقاش منذ ذلك الحين. الحجة الأولى هي أن الناس يَبدون مُخطِئين لأن مُجري التجربة يُطبق النظرية المعيارية الخاطئة. على سبيل المثال، تم التشكيك في التحليل المنطقي لمسألة الاختيار لواسون (الفصل الثاني)، وقد جادل آخرون بأنه من منظور نظرية اتخاذ القرارات، يمكن اعتبار الخيارات المُعتادة عقلانيةً تمامًا. في الواقع، يتَّسم العديد من المشكلات التي درسها علماء النفس بالغموض بهذه الطريقة، حيث تُشكك النظريات المعيارية المنافسة في الإجابات الصحيحة.
الحجة الثانية هي ما إذا كان المشارك يُفسِّر المشكلة بالطريقة التي قصدها مُجري التجربة. تذكَّر مشكلة ليندا الواردة في الفصل الرابع. يُحكَم على الناس بأنهم غير منطقيِّين لأنهم يقولون إنَّ احتمال أن تكون ليندا موظفة بنك ومؤيدة للحركة النسوية أعلى من أن تكون موظفة بنك وحسب. ولكن لنفترِض أن افتراضهم في سياق التجربة أن «ليندا موظفة بنك» يعني أن «ليندا موظفة بنك و«ليست» مؤيدة للحركة النسوية.» الآن لا تُوجَد مُغالَطة تزامن، ويكون من المنطقي تمامًا الحُكم بأن هذا الاحتمال أقل من احتمال أن تكون موظفة بنك وتؤيد الحركة النسوية.
اقترح مؤلفون آخرون أن الناس قد يرتكبون مُغالطات ظاهرة في الاستدلال الاستنباطي لأنهم يُكمِّلون المعلومات المُعطاة بالمعرفة السابقة. على سبيل المثال، لنفترِض أننا نطلُب من شخصٍ ما تقييم هذا الاستدلال:
-
إذا لم يتم الحدُّ من انبعاثات الكربون، فسوف يستمر الاحتباس الحراري.
-
لنفترض أن الاحتباس الحراري مُستمر، فهل يترتب على ذلك أنه لم يتم الحدُّ من انبعاثات الكربون؟
إذا كانت الإجابة بنعم، فيُمكننا اعتبار هذا خطأً منطقيًّا أو مغالطة. إذ لا يمكن استنتاج ذلك من المعلومات المُعطاة، لأن الاحتباس الحراري قد يستمرُّ لأسبابٍ أخرى. ولكن إذا كان الفرد لا يدري أي أسبابٍ أخرى للاحتباس الحراري، أو يتجاهلها، فإن الاستنتاج يترتَّب بالفعل على المعلومات المُعطاة عندما تُضاف معرفته إلى المُقدمة المُعطاة. هناك العديد من التجارب التي تُظهِر أن الناس يستخدمون معرفتهم بالضبط بهذه الطريقة.
تدور العديد من النقاشات حول العقلانية حول استخدام الناس لمعرفتهم المُسبقة في محاولة حلِّ المسائل المُختبرية. من ناحية، يبدو من العقلاني في الحياة اليومية أن يستخدِم المرء كل المعرفة ذات الصِّلة عند ممارسة الاستدلال واتخاذ القرارات. ومن ناحيةٍ أخرى، يعني القيام بذلك في التجارب في كثيرٍ من الأحيان أن الناس يتجاهلون التعليمات المُعطاة لهم. على سبيل المثال، يُفضل الناس غالبًا الاستنتاجات القابلة للتصديق في تجارب الاستدلال حتى عندما يتمُّ إخبارهم صراحةً بأن يعتمدوا في استدلالهم على المعلومات المُقدَّمة فقط. تقترح الأدلة أن الأشخاص ذوي معدلات الذكاء العام الأعلى وحدَهم هم مَن يجدون من السهل تجاهل مُعتقداتهم من أجل الامتثال للتعليمات. ولكن يُمكننا القول إن هذه التجارب مفتعلة ولا تُمثل العالم الحقيقي. وقد كانت هذه، في الواقع، هي الحجة الثالثة التي جادل بها كوهين. إذ اقترح أن الأخطاء في مثل هذه التجارب لا تعني عدم العقلانية في الحياة اليومية.
من المُغري أن نفترض أن النتائج المختبرية تنطبق على المواقف في العالم الواقعي، ولكنه أمر خطير. على سبيل المثال، افترض العديد من المؤلِّفين أن مشكلة واسون ٢-٤-٦، التي ناقشناها في الفصل الثالث، كانت مكافئة لاختبار الفرضية العلمية، مُشيرين إلى أن العلماء قد يكون لديهم انحياز تأكيدي. ولكن بعض المؤلِّفين الذين درسوا هذه المسألة عن كثَب خلَصوا إلى أنها في الواقع لا تُمثل الاستدلال العلمي، وأنها في كل الأحوال لا تُظهِر بالضرورة انحيازًا لتأكيد الفرضيات. ظهرت مشكلات مُماثلة مع استخدام مسألة الاختيار لواسون. خلال الثمانينيَّات والتسعينيَّات من القرن العشرين، كان هناك الكثير من الاهتمام بمسألة الاختيار، وكتَب أشخاصٌ لا يدرسون عادة الاستدلال البشري عددًا من الأوراق البحثية المُهمة حولها. أتذكَّر أنني كنتُ قلقًا حيال هذا الأمر في ذلك الوقت لأنني كنتُ أدرك أن القليل من الاستدلال يكمُن وراء اختيارات الناس للبطاقات. باستثناء عددٍ صغيرٍ من المشاركين ذوي معدلات الذكاء المُرتفعة جدًّا، كان ما يُحدِّد الخيارات في الغالب هو انحياز المُطابقة أو المُعتقدات السابقة. وهذا لا يُقلل من أهمية المسألة في مجال علم النفس، ولكنه يجعلها خيارًا سيئًا إذا كنت ترغب في استخلاص استنتاجاتٍ عامة حول قدرة الناس على الاستدلال.
تركت ورقة كوهين البحثية أثرًا عميقًا في علم نفس التفكير. لا يرى جميع علماء النفس بأي شكلٍ من الأشكال أن أبحاثهم حول التفكير والاستدلال تُظهِر أن الناس غير عقلانيين، ولكنَّ مُعظمهم يشعرون الآن أنهم مُضطرُّون لاتخاذ موقفٍ ما في هذا الموضوع. يُصِر بعضهم على أن الانحيازات المعرفية حقيقية ومشكلة في الحياة اليومية. وقد يقترح مثل هؤلاء العلماء التدريب والتعليم لتحسين الاستدلال البشري. ولكن يواصِل عدد من العلماء الجدل، مثل كوهين، بأن الناس يَبدون غير عقلانيِّين فقط بسبب تطبيق المعيار الخاطئ أو أن التجربة مفتعَلة أو مُضللة بطريقةٍ ما. ويفترض بعض العلماء أن عقلانية البشر أمر مُسلَّم به. ويجادلون بأنه بمزيج من التطور والتعلم، لا بد أن يتكيف سلوك البشر تكيفًا جيدًا مع بيئتهم ومن ثم فنحن بالضرورة قادرون على الاستدلال بدقة وفاعلية. وبناءً على ذلك، لا بد أن نُقرر نظرياتنا حول ما يجب أن يفعله الناس بناء على النظر فيما يفعلونه بالفعل. وسأتناول هذا النهج فيما يلي.
التحليل العقلاني
التحليل العقلاني هو نهج دعا إليه عالم النفس المعرفي الشهير جون أندرسون. في علم نفس الاستدلال واتخاذ القرارات، أشهر المؤلفين الذين تبنَّوا التحليل العقلاني هما مايك أوكسفورد ونيك تشاتر. ويفترضان أن السلوك البشري سيكون متكيفًا مع البيئة. لذا عندما يتعارَض السلوك مع نظرية معيارية لِما يجب أن يفعله الناس، فلا بدَّ أن تكون النظرية بها خطأ ما.
وكما ذكر أوكسفورد وتشاتر في كتابهما الذي نُشر عام ٢٠٠٧: «هذا الرأي يعتبِر العقلانية اليومية أساسية، ويتجاهل التناقض الظاهر بين الاستدلال البشري والمبادئ الشكلية للمنطق ونظرية الاحتمالات باعتباره عيبًا في هذه النظريات الشكلية.»
كان التحليل العقلاني أحد دوافع المنظور الجديد لعِلم نفس الاستدلال، الذي ناقشناه في الفصل الخامس. نعلم أن الناس غالبًا ما يصِلون إلى استدلالاتٍ غير منطقية ومِن ثم يبدون غير عقلانيين وفقًا لهذا المعيار. ونتيجة لذلك، اتفق العديد من الباحِثين على أننا يجِب أن نتخلَّى عن المنطق كمعيارٍ للاستدلال البشري. يرى بعض الباحثين أننا يجِب أن نُركز أكثر على وصف ما يفعله الناس، بدلًا من الحكم على سلوكهم بالصواب أو الخطأ. غير أن بعضهم الآخر يرغبون في تعريف المنظور الجديد من خلال نظريةٍ جديدة للاستدلال السليم وغير السليم، ليحلَّ محلَّ المنطق. وضع أوكسفورد وتشاتر، تحديدًا، العديد من التفسيرات المِعيارية البديلة للاستدلال على مدى سنوات. وهما يرَيان الآن أن العقلانية اليومية تستنِد إلى نظرية القرارات البايزية، وتعكس عدم اليقين في العالم الذي نعيش فيه. ويطبق الناس هذه العقلانية اليومية في المُختبر ومِن ثم يبدو أنهم يرتكبون أخطاء منطقية.
مثال على ذلك، اقترح أوكسفورد وتشاتر أنه عندما يستدلُّ الناس بالجُمل الشرطية، فإنهم يعتبرونها غير مؤكدة بطبيعتها. فكِّر في المشكلة التالية كما لو أنها قُدِّمَت قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام ٢٠١٦:
في الطريقة التقليدية، سيُطلَب من الناس الإجابة بنعم أو لا. تُشير التجارب ذات الصِّلة إلى أن الكثير من الناس سيقولون لا، على الرغم من أن الاستنتاج يترتب على المقدمات بموجب حجَّة القياس المنطقي المُثبَت البسيطة والسليمة. ولكن أوكسفورد وتشاتر يقترِحان أنه من العقلاني أن يأخذ الناس اعتقادهم بعَين الاعتبار عند النظر في الجُملة الشرطية. ويُمكننا اختبار هذا عن طريق السماح للناس بإضافة الاحتمالات. لنفترِض أن شخصًا ما يعتقد أن هناك احتمالًا نسبته ٣٠ في المائة فقط أن يبني ترامب الجدار. هذا سيجعله يتردَّد في الاستنتاج بشكلٍ قاطع أنه سيفعل ذلك. ولكن إذا سمحنا له بوضع احتمالٍ للاستنتاج — وهي الآن طريقة شائعة — فسوف يضع احتمالًا نسبته ٠٫٣. عمليات الرياضيات بسيطة جدًّا في هذه الحالة، ولكن أوكسفورد وتشاتر قد أظهرا الدعم لهذا النموذج عبر أنواعٍ مختلفة من الاستدلالات الشرطية، حيث يكون حساب الاحتمال الصحيح أكثر تعقيدًا.
يُعتبر نهج التحليل العقلاني لأوكسفورد وتشاتر ممثلًا لجوهر النقد الشهير الذي قدَّمه كوهين. إذ يؤيدان وجهة نظره القائلة بأن عدم العقلانية الظاهرة غالبًا ما تعكس معيارًا خاطئًا. كما يتَّفقان ضمنيًّا مع حُججه القائلة بأن التجارب النفسية قد تكون مُفتعلة وتخضع للتفسير الشخصي للمشاركين. على سبيل المثال، من المشهور عن أوكسفورد وتشاتر أنهما قد جادلا بعقلانية الخيارات المُعطاة في مسألة الاختيار لواسون. ولكن هذا يستنِد إلى تجاهل الناس لجوانب من التعليمات القياسية؛ حيث يُفترَض أنهم يعيدون تفسير المشكلة في الواقع ضمن الإطار الذي يستخدمونه لاتخاذ القرارات اليومية. ولكن تُوجَد صعوبة هنا أشار إليها بعض النقاد. دائمًا ما يُعطي «بعض» الناس الإجابة الصحيحة التقليدية عن هذه المشكلات المعملية، حتى المشكلات التي في صعوبة مسألة الاختيار. وعادةً ما يتمتع هؤلاء الناس بمعدلات ذكاءٍ مرتفعة للغاية، كما سأناقش لاحقًا.
النهج التطوري
أحدَث علم النفس التطوري تأثيرًا كبيرًا في عِلم نفس الاستدلال واتخاذ القرارات عندما روَّجَت له كتابات ليدا كوسميديس وجون توبي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. وكانت حُجتهما هي أن السلوك لا بدَّ أن يكون عقلانيًّا لأنه نتاج التطور. ولكن البيئة التي تطورنا فيها ليست تلك التي نعيش فيها الآن. فلِمعظم تاريخنا، عاش البشر كصيَّادين وجامعي ثمارٍ في بيئة قاسية تتَّسم بندرة الموارد. زعمت كوسميديس وتوبي بشكلٍ مُثير للجدل أن القدرة على الاستدلال العام لم يكن من المُمكن أن تتطور، وأن كل شيءٍ في الإدراك البشري مُقَسم إلى «وحدات». والوحدة هي قِسم مستقل من العقل تطوَّر لغرَض مُعين. النظام البصري مثال جيد على ذلك. إذ تُعالج أدمغتنا المعلومات الموجودة في الضوء الذي تتلقَّاه أعيُننا، وتكتشف الخطوط، والأنماط، والألوان، وما إلى ذلك، وتحوِّلها، على مستوى أعلى، إلى تمثيلاتٍ للعالم من حولنا. كل هذا يحدث تلقائيًّا دون تدخُّل من الشخص الواعي. ومثل الوحدات الأخرى، فإن عمليات النظام البصري مكرَّسة لوظيفته ولا يمكن الوصول إليها من أي جزء آخر من العقل.
كان أول من قدَّم فكرة العقل المقسم إلى وحداتٍ هو الفيلسوف جيري فودور ولكنه رأى أن الوحدات تعمَل جنبًا إلى جنبٍ مع نظام استدلال ذي أغراض عامة. وكان إغفال مثلِ هذا النظام العام هو ما جعل موقف كوسميديس وتوبي مثيرًا للجدل، وكان فودور من بين العديد من ناقِدِيه. غير أن هذا النهج «القائم على الوحدات» يُمكنه أن يُفسر لماذا يحلُّ الناس المشكلات في سياقاتٍ مُعينة وليس في غيرها، حتى وإن كانت تلك المشكلات تتشابَهُ في شكلها المنطقي. من أمثلة ذلك الاستدلال البايزي والقدرة على أخذِ معلومةِ مُعدلِ الأساس في الاعتبار، وهو ما تحدَّثنا عنه في الفصل الخامس. تنصُّ حجة التطور هنا على أننا لم يكن لدَينا سبب لتطوير وحدة للتفكير في الاحتمالات بينما كانت لدَينا ضرورة ملحَّة لتطوير وحدة لمعالجة التكرارات في البيئة الطبيعية. وقد اعتُبرَت حقيقة أن الناس يُمكنهم معالجة التكرارات وليس الاحتمالية في مسائل الاستدلال البايزي دليلًا على تفسير العقلانية التطوُّرية القائم على تقسيم العقل إلى وحدات.
ركز أول أعمال كوسميديس عن الاستدلال على مسألة الاختيار لواسون. رأينا في الفصل الثالث أن المسألة في شكلها المجرد القياسي صعبة جدًّا. ولكن هناك أشكال واقعية شديدة السهولة، بما في ذلك مشكلة العمر المُصرح فيه بشُرب الكحول. راجعت كوسميديس عددًا من التجارب المنشورة وزعمت أن الأشكال السهلة للمسألة تتضمَّن جميعها شيئًا مشتركًا، وهو أنها تُشكِّل «عقودًا اجتماعية». في العقد الاجتماعي، يعتمد الإذن للقيام بعملٍ ما على تحقيق شرط مُسبق حدَّده المجتمع. ففي مشكلة العمر المُصرح فيه بشُرب الكحول، يجب أن يتجاوز أي شخصٍ يشرب الكحول سنًّا مُعيَّنة، وإذا لم يتجاوزها فهو يُخالف أو يغشُّ العقد الاجتماعي. جادلت كوسميديس أنه خلال التطوُّر كان من المُهم جدًّا أن يكون لدَينا عقود اجتماعية نافذة وأنَّنا قد طوَّرنا وحدة للكشف عن الغشاشين. ومِن ثَم فالأشخاص الذين يحلُّون مثل هذه النُّسخ من المشكلة يُظهرون عقلانية تطورية. كما أن فشل (معظم) الناس في حلِّ مسألة الاختيار المجردة دعم أيضًا وجهة نظرِها القائلة بأننا لم نُطوِّر نظامًا عامًّا للاستدلال. لكن هذه النظرية تشترك في المشكلة التي لُوحظت في نهج التحليل العقلاني. فكيف يمكن أن يحلَّ «بعض» الناس هذه المسألة، حتى لو كانوا عددًا قليلًا؟
كانت إحدى الحُجج التي قدَّمها نُقَّاد النظرية التطورية هي أن هناك أشكالًا قابلة للحلِّ من مسألة واسون «غير» العقود الاجتماعية. بيَّن مانكتيلو وأوفر واحدة منها، بهذه الجُملة: «إذا كنتَ ستُنظف دمًا مسكوبًا فعليك ارتداء قفازات مطاطية.» سيُراجع كلُّ شخصٍ تقريبًا يسمع هذا الجُملة الأشخاص الذين يُنظفون الدم والذين «لا» يرتدون قفازاتٍ مطاطية. ولكن الشخص الذي ينتهِك هذه القاعدة لا يغشُّ أحدًا بالتأكيد سوى نفسه. ولكن بعيدًا عن الاعتراف بالهزيمة، كان ردُّ فعل المُتخصِّصين في علم النفس التطوُّري هو اقتراح وحدة بديلة «لتجنُّب الخطر» يُمكنها أن تفسِّر النجاح في حلِّ هذه النسخة من المسألة والنسخ المُماثلة. بالطبع، يمكن للمرء أن يجادل بأن النظرية التي يُمكنها إنشاء وحدات مُخصَّصة عند الحاجة ليست قابلةً للدحض. وما هو بالضبط مدى قوة الحجة القائلة بأننا «ربما» نكون قد طوَّرنا شيئًا، لمجرد أنه مُفيد؟ فودور، أحد أبرز نقَّاد نهج تقسيم العقل إلى وحدات، علَّق ساخرًا بأنه كان سيُطوِّر آلية للتنقُّل بواسطة المجال المغناطيسي للأرض، لمساعدته في العثور على طريقه في الليالي الغائمة!
الاستراتيجيات التجريبية السريعة والمُقتصدة
كما ناقشنا في الفصل الرابع، من المشهور أن كانمان وتفيرسكي قد اقترحا سلسلةً من الاستراتيجيات التجريبية للحُكم على الاحتمالات، مثل استراتيجيات التوفُّر والتمثيلية. مالت أوراقهما البحثية حول هذا الأمر إلى التأكيد على الحالات التي تؤدي فيها هذه الاستراتيجيات التجريبية إلى الخطأ، لذا غالبًا ما يُشار إلى البرنامج البحثي المُستوحى من أبحاثهما باسم «الاستراتيجيات التجريبية والانحيازات». وكما حدث مع واسون، تعرَّض كانمان وتفيرسكي للعديد من الهجمات لأنهما يُظهران أو يَزعمان أن البشر غير عقلانِيِّين. كان أحد أوائل نقادهما وأبرزهم جيرد جيجرينزر، الذي كان يعتقد أن تجاربهما كانت غير مُمثلة ومُضللة. وكان هو أول مؤلِّف يزعم أن العديد من الانحيازات في الاستدلال الإحصائي يمكن أن تختفي باستخدام التكرارات بدلًا من الاحتمالات.
يقود جيجرينزر مدرسةً بارزة في البحث في شأن صُنع القرار البشري، ويتبنَّى موقفًا مميزًا حول العقلانية. فعلى الرغم من ارتباطه الوثيق بالنهج التطوري، يُركز على العقلانية «البيئية» أكثر من العقلانية التطورية. وتعني العقلانية البيئية أننا نتكيَّف مع البيئة التي نتفاعل فيها. بالطبع، قد يلعب التطوُّر دورًا كبيرًا في هذا، ولكن التعلُّم والتنمية يُمكنهما المساهمة فيه أيضًا. للمنظور البيئي جذور أقدم في عِلم النفس، ويعتقد المُتخصِّصون في علم النفس البيئي أن دراسة البيئة بالإضافة إلى الفرد ضرورية لفهم الإدراك البشري. يستلهِم جيجرينزر أيضًا من أعمال سايمون حول العقلانية المحدودة. يجب أن تكون أي آليات طوَّرناها للاستدلال الفعَّال نوعًا ما بسيطة وغير مُعقدة. وإلا لَما كنَّا، على سبيل المثال، استوعبنا الرياضيات في نظرية بايز. بينما يَعتبر جيجرينزر العقلانية أمرًا مفروغًا منه، مثل أوكسفورد وتشاتر، إلا أنه لا يسعى لنظرياتٍ معيارية بديلة. في الواقع، لقد جادل بأننا غالبًا ما نكون أفضل حالًا عند الاعتماد على الحدس أو «الشعور الداخلي» بدلًا من محاولة حلِّ المشكلات بواسطة الاستدلال الواعي القائم على القواعد.
أجرى جيجرينزر ومدرسته أبحاثًا مُكثفة على ما يُعرَف بالاستراتيجيات التجريبية «السريعة والمقتصدة». الفكرة هي أن لدَينا آلياتٍ بسيطة تُمكننا من صنع قراراتنا بفاعلية شديدة في بيئاتنا الطبيعية. وعلى عكس استراتيجيات كانمان وتفيرسكي التجريبية، تقودنا هذه الاستراتيجيَّات إلى اتخاذ قراراتٍ سليمة بدلًا من ارتكاب الأخطاء. مثال جيد على هذا هو استراتيجيات التعرُّف. وهي عنصر من بين العديد من العناصر في «صندوق الأدوات التكيفية»، وهي فكرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمجموعة الوحدات المعرفية التي تحدَّث عنها كل من كوسميديس وتوبي. توصف استراتيجيات التعرُّف بأنها توفر ميزة الجهل. في الواقع، ذهب مؤيدو هذا النهج إلى حدِّ القول إن الجهل يمكن أن يتفوَّق على الخبرة عند الاستثمار في الأسواق المالية. التعريف الأساسي لاستراتيجية التعرُّف هو أنه إذا تم التعرف على أحد كائنَين ولم يتم التعرُّف على الآخر، فإن الكائن الذي تم التعرُّف عليه له القيمة الأعلى.
على سبيل المثال، إذا طُلِبَ من طلابٍ أمريكيِّين وألمان تقدير الحجم النِّسبي للمدن الأمريكية والمدن الألمانية، فإن الأجانب يحققون نجاحًا أكبر، على الرغم من أن لديهم معرفةً أقل. إنهم ببساطة يختارون المدينة التي سمِعوا عنها. في إحدى الدراسات، لم يُقدِّر على نحوٍ صحيح سوى ٦٢ في المائة من الطلاب في جامعة شيكاغو أن سان دييجو أكبر من سان أنطونيو، بينما أعطى ١٠٠ في المائة من طلاب جامعة ميونيخ الإجابة الصحيحة. في دراسة أخرى، تنبأ الطلاب الأتراك بنتائج مباريات كأس الاتحاد الإنجليزي بشكلٍ أفضل من الطلاب الإنجليز الذين كانوا يعرفون الكثير عن الفِرق. بالطبع، اختار الطلاب الأتراك أنديةً كبيرة سمِعوا عنها مثل مانشستر يونايتد، أو ليفربول، أو آرسنال، وتبين أن هذا كان مؤشرًا أفضل من التفكير في أداء الأندية واللاعِبين بشكلٍ فردي. وأظهرت مجموعة جيجرينزر أيضًا قيمة استراتيجية التعرُّف في البيئات الواقعية من خلال المحاكاة الحاسوبية.
وبينما أنتجت هذه الأعمال بعض النتائج المُدهشة، فإنها تترك بعض الأسئلة المُهمة دون إجابة. على سبيل المثال، ما الآلية العقلية المسئولة عن اختيار الاستراتيجية التجريبية الصحيحة من صندوق الأدوات لمُهمةٍ مُعينة؟ كما أن فكرة أن الجهل يتفوَّق على المعرفة هي بالتأكيد فكرة خطيرة في العديد من السياقات. هل نريد حقًّا من سياسيينا أن يستندوا في قراراتهم إلى الجهل؛ فيما يتعلق بالبحث العِلمي عن تغيُّر المناخ على سبيل المثال؟
الفروق الفردية والذكاء
سعى بعض المؤلِّفين، مثل كوسميديس وجيجرينزر، إلى التقليل من أهمية الذكاء العام والاستدلال ذي الأغراض العامة في تحقيق العقلانية. ولكن العديد من سنوات العمل قد أثبتت أن هناك عاملًا عامًّا في الذكاء البشَري، يُشار إليه عادةً بالحرف «جي»، وهو وراثي إلى حدٍّ كبير. هذا يعني أن قياسات «جي»، مثل اختبار معدل الذكاء، يُحددها بشكلٍ كبير (ولكن ليس بشكلٍ كامل) المستودَع الجيني للأبوَين. ويرتبط «جي» بعلاقة طردية مع التحصيل الدراسي ويشارك في مجموعة واسعة من المهامِّ المعرفية، خاصةً تلك التي تتطلَّب الاستدلال. إذن، لماذا لدَينا هذا الشكل الشائع من الذكاء العام إذا لم يكن له أيُّ قيمة؟
أحد المؤلِّفين الرائدين في الاستدلال والعقلانية هو كيث ستانوفيتش، الذي يختلف موقفه تمامًا عن المؤلِّفين الذين تحدثت عنهم حتى الآن. يؤيد ستانوفيتش بشدة وجود نظام استدلالٍ ذي أغراضٍ عامة في إطار المعالجة المزدوجة (الفصل السابع). أجرى ستانوفيتش، بالتعاون مع شريكه ريتش ويست، عددًا كبيرًا من الدراسات حول الفروق الفردية في الأداء في مهامِّ إصدار الأحكام، والاستدلال، واتخاذ القرارات. تعتمِد معظم هذه الدراسات على نتائج اختبار «السات» كمقياس للذكاء العام. «السات» هو اختبار للكفاءة الدراسية يأخذه جميع الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق بمرحلة التعليم العالي في الولايات المتحدة. ومن المعروف أن هذه النتائج مُرتبطة بشكلٍ كبير بمعدلات الذكاء، حتى وإن كانت ذاتية التقييم، ومن ثم فهي وسيلة جيدة لتقدير العامل «جي». وتُظهر النتائج السائدة لهذه الدراسات أن الذكاء العام يتنبَّأ بالأداء الصحيح في معظم هذه المهام تقريبًا، كما تُقيِّمه النظريات المعيارية.
لذا، بينما يسعى مؤلِّفون آخرون إلى تجاهُل أو تبرير الأخطاء والانحيازات باستخدام المعايير البديلة، أو لتقليل دور أنظمة الاستدلال ذات الأغراض العامة، يبدو أن عمل ستانوفيتش وويست يسير في الاتجاه المعاكس. أيًّا كان ما تقيسه اختبارات الذكاء، فهو يجعل الناس أفضل في حلِّ المشكلات المُختبرية المستخدمة لدراسة التفكير واتخاذ القرارات. ولكن هل هذا يعني أن الأشخاص ذوي معدلات الذكاء المُرتفعة أكثر عقلانية؟ بينما يعتقد ستانوفيتش أن المعايير القياسية توفِّر تعريفًا جيدًا للسلوك العقلاني، فهو في الواقع لا يُساوي بين العقلانية والذكاء العام. في الواقع، يزعم أن القيام بذلك يشكلِّ مغالطة خطيرة. السبب هو أن معدل الذكاء ليس هو العامل «الوحيد» المرتبط بالأداء في هذه المهام. فالأفراد يختلفون أيضًا فيما يُعرَف ﺑ «نزعات التفكير العقلاني». هذا يعني أن بعض الأفراد يميلون إلى الاعتماد على الحدس بينما يبذل آخرون جهدًا للاستدلال. على عكس ما يدَّعيه جيجرينزر، غالبًا ما يؤدي الاعتماد على الحدس إلى الخطأ، على الأقل في هذه المُشكلات المختبرية النموذجية. ونتيجة لذلك، قد لا يتمكن أحيانًا الأشخاص ذوو مُعدل الذكاء المرتفع ونزعات التفكير العقلاني المتدنِّية من حلِّ مشكلةٍ بسيطة. فهم يعتمدون على حدْس (خاطئ) بدلًا من الاستعانة بقُدرتهم الاستدلالية.
في الأساس، يزعم ستانوفيتش أن العقلانية تتطلَّب مزيجًا من الذكاء العام ونزعة التفكير العقلاني. كان هو وويست يعملان نحو تطوير «معدل عقلانية» يجمع بين العامِلَين. ولكن من المُهم الإشارة إلى أن منهجيتهما تعتمِد على الأداء المعياري القياسي، لا سيما في مهام اتخاذ القرارات، كمعيارٍ للعقلانية. ومن ثم قد يتوقَّع معدل العقلانية أداءً جيدًا للعلماء، والمهندسين، والاقتصاديين، على الرغم من أنه قد لا يعكس صفاتِ الخيال والحدس التي من شأنها أن تكون مهمةً للإبداع. ويبدو أنه أقل ملاءمة لمجالاتٍ مثل الموسيقى، والأدب، والفنون بشكلٍ عامٍّ حيث يكون الأسلوب الحدسي أكثر فاعلية. وحتى في مجالات مثل الإدارة والسياسة، لا يعتمد النجاح على الاستدلال فحسْب ولكن يتطلَّب حكمًا جيدًا. وما زال غير معروف حتى الآن ما إذا كان معدل العقلانية سيتوقع النجاح في مثل هذه المجالات.
إذن هل نحن عقلانيُّون؟
اتخذ العلماء الذين يعملون في مجال علم نفس التفكير عددًا من وجهات النظر المختلفة حول العقلانية. من الواضح أن هناك مشكلةً يجب التعامُل معها، حيث يرتكب المشاركون في تجارب الاستدلال واتخاذ القرارات، الذين عادة ما يكونون من طلَّاب الجامعة الأذكياء، العديد من الأخطاء في هذه المسائل. ليس هذا فحسب، بل يُظهِرون أيضًا العديد من الانحيازات المعرفية. لذا سيكون من السهل الزعم على هذا الأساس أن البَشَر غير عقلانيين. من ناحية أخرى، يرى العديد من الفلاسفة وعلماء النفس أن الجنس البشري يتمتَّع بدرجاتٍ عالية من الذكاء والنجاح البديهيَّين؛ لذا لا بد أن هناك خطأً في التجارب أو في تفسيرها.
إحدى مناطق الخلاف الواضحة هي قيمة النظرية المِعيارية، مثل المنطق ونظرية اتخاذ القرارات. يعتمِد بعض المؤلِّفين على مثل هذه النظريات في تعريفهم العملي للعقلانية. ويقول بعضهم الآخر إنه إذا كان الناس يرتكبون الأخطاء، فلا بدَّ أن هذه النظريات خاطئة. ويُريد بعضهم استخدام نظريات بديلة بدلًا من النظريات المعيارية، ولكن بعضهم الآخر لا يرى أهميةً للنظريات المعيارية من الأساس. من القضايا الأخرى قيمة المسائل التجريبية نفسها؛ هل هي حقًّا طريقة عادلة ومناسبة لقياس «العقلانية اليومية»، خارج المُختبر؟ ربما تكون الانحيازات المعرفية المُلاحَظة مجرد تطبيقاتٍ خاطئة لآليات التكيُّف في سياقٍ مصطنع.
من مناطق الخلاف الأخرى أهمية الذكاء العام. يبدو أن بعض الباحثين في المنظورَين التطوري والبيئي لا يُولون أهميةً كبيرة له وينكرون الدور المُفيد لنظام التفكير والاستدلال ذي الأغراض العامة. ولكن على مدار أكثر من قرن، أثبتت الأبحاث في الذكاء واختبارات مُعدل الذكاء بما لا يدع مجالًا للشك وجود عاملٍ عامٍّ للذكاء موروث ومرتبط بالأداء في العديد من المهام المعرفية. في المنظور الفلسفي أيضًا، تُعتبر القدرة على الاستدلال حجَر الزاوية للعقلانية. أثبتت أبحاث علم النفس الأخيرة أن كلًّا من العقلانية الأداتيَّة والمعرفية، وفقًا للتعريفات التقليدية، تستعين بكلٍّ من الذكاء العام ونزعة التفكير العقلاني.
وأخيرًا، يُمكن القول إن علماء النفس قد انغمسوا أكثر مما ينبغي في النقاشات حول العقلانية. إن مهمة عالم النفس المعرفي، مثل أي عالمٍ آخر، هي فهم العمليات التي يدرسها. يدرس عالم الجيولوجيا كيفية تكوُّن الصخور وتحوُّلها، ولكنه لا يحكم على ما إذا كانت «يجب» أن تتصرَّف بالطريقة التي تتصرَّف بها أم لا. في معظم موضوعات علم النفس المعرفي، ينطبق المبدأ ذاته؛ فقد نلاحظ الأوهام البصرية أو الانحيازات في طريقة عمَل نظام الذاكرة، ولكننا لا نحكُم على الناس بأنهم غير عقلانيين نتيجة لذلك. يبدو أننا لا نشعر بالحاجة إلى الحكم على ما نلاحظه إلا في مجال العمليات المعرفية «العليا».