الأمومة عند العرب
ما لا يُعلم كله لا يُترك كله، فإن العلم بالبعض خير من الجهل بالكل.
من المسائل العلمية التي استلفتت حديثًا أنظار العلماء مسألة «الأمومة»، ويُراد بهذه
الكلمة في عرف علماء علم الاشتراك القرابة من طرف الأم، كما يُراد بالأبوة القرابة من
طرف
الأب، بمعنى أن الولد في الحالة الأولى ينتسب إلى أمه وفي الثانية إلى أبيه، وقد بان
لمن
اشتغل بهذه المسألة أن الأمومة أقدم عهدًا من الأبوة إلَّا أنه لا ينتج من هذا أنها أقدم
نوع في تاريخ العائلة، بل هي أحد تلك الأنواع التي مرت على هذا التاريخ من يوم ظهرت العائلة
بمعناها الحالي، ثم تحقق عندهم من أخبار القدماء والسياح وأبحاث العلماء العصريين أن
الأمومة أمر يعم جميع شعوب الأرض، حتى لا تكاد تجد قومًا إلَّا وترى للأمومة آثارًا حية
بينة لا تزال باقية عند البعض إلى هذا اليوم، كما ترى ذلك فيما بعد، وكادت تضمحل عند
البعض
الآخر أو اضمحلت كليًّا في الأعصر الخالية، وعوِّض عنها بالأبوة أو بنوع آخر من أنواع
العائلة، وذلك بعد أن تركت آثارًا تدل على شيوعها بينهم سابقًا وتقدمها على الأبوة. هذا
وقد
أخذت على نفسي في هذه العجالة أن أبحث عن المسألة المذكورة عند الشعوب السامية عمومًا
والعرب خصوصًا، والذي دفعني إلى هذا البحث تأليف المستشرق الشهير
Robertson
Smith; “Animal Worship and animal tribes among the Arabs and in the Old
Testament”.
١
فقد ذكر صاحب هذا الكتاب جملة أمور جاءت دليلًا على شيوع الأمومة سابقًا عند العرب،
لكنه
لم يأت ذلك متعمَّدًا بل على سبيل الصدفة، وهو ما دعاني إلى البحث عن هذه الأمور الخطيرة
بحثًا خصوصيًّا مطولًا، وتقريبها بعضها من بعض، ومقابلتها مع الأبحاث الحديثة العصرية
التي
لها علاقة بهذا النوع العائلي، لما في ذلك من الفائدة والأهمية، ثم أنتهز الفرصة لأتكلم
عن
بعض أمور أخرى لم يتعرض لذكرها الكاتب المذكور، من شأنها أن تساعدنا على حل المسألة
المذكورة حلًّا مقنعًا. يظهر من اسم التأليف المذكور آنفًا أن الغرض من وضعه بيان شيوع
عبادة الحيوانات عند جميع الشعوب السامية، ومعرفة العرب «للتوتاميزم»
(
totemismus كلمة مأخوذة كما هو معروف عن هنود أميركا
الشمالية، وهم يشيرون بها إلى الحيوان الذي تعبده كل قبيلة منهم وتسمَّى باسمه وتنتسب
إليه)، مثال ذلك أن الهنود الذين اتخذوا كلب الماء توتمًا لهم يعدُّون هذا الحيوان ملاكًا
أو روحًا حارسًا لهم، فيلقبون به ويعتقدون أنهم أقرباء لسائر كلاب البحر. أمَّا إن كثيرًا
من القبائل العربية كانت تلقب باسماء بعض الحيوانات فهذا مما لا ريب فيه الآن، والدليل
المقنع على ذلك قبائل أسد وكلب وظبيان وأوس وثور وعقاب وبنو حمامة إلى غير ذلك، مما يكاد
يخرج عن الحصر، إلَّا أن هذه الألقاب على زعم علماء أنساب العرب كانت تُطلق على أشخاص
تاريخية معروفة انتقلت منهم بالتسلسل إلى سلفهم، ثم أصبح كل منها لقبًا لعشيرة أو قبيلة،
ذلك أن بني كلب اتخذوا لقبهم عن شخص تاريخي معلوم هو كلب بن وبرة بن ثعلبة جد قضاعة وحفيد
سبع، إلَّا أنه من المقرر الآن عند العلماء أن لا أهمية تاريخية كبرى لكتب الأنساب العربية
لأن أكثرها ملفَّق موضوع لا يصح الاعتماد عليه، وهاك ما قاله عن ذلك المستشرق الشهير
Nöldeke: «قد حان للعلماء أن يلقوا وراء ظهورهم تلك
الآراء الصبيانية التي تحاول أن تقنعنا أن كتب الأنساب العربية التي لفقها محمد الكلبي
وابنه هشام وغيرهما ليبيِّنوا صلة القرابة بين العائلات العربية المعاصرة لهم والقبائل
القديمة خالية من كل تلفيق وتزوير. أمن المعقول يا تُرى أن نسب جميع قبائل بني قيس النازلة
في أواسط بلاد العرب إلى شخص واحد هو قيس المتوفى كما يزعمون قبل ظهور المسيح بمدة قليلة؟
والذي عندي أن لا أحد من الشعوب والقبائل العظيمة يعرف حقيقة الشخص الذي ينسب
إليه.»
٢ وقد وافقه على هذا الرأي المؤلف
Rob. Sm. حيث
قال في كتابه المذكور آنفًا ما تعريبه: «من المحقق أن جملة قبائل لم تكن تلقب في الأعصر
السالفة الغير قديمة باسم شخص تاريخي معروف.»
لا ننكر أنه يمكن أن يعبر عن تسمية القبائل العربية بأسماء بعض الحيوانات بطريقة
أخرى لكن
R. S. يعتقد أن لهذه الأسماء في الأصل معاني دينية، وأن
لها علاقة بعبادة الحيوانات كما هو مشاهد في التوتاميزم، وقد برهن على ذلك بجملة أدلة،
منها
أن تسمية بعض القبائل بأسماء الآلهة التي كانت تعبدها لم يكن بالأمر النادر عند العرب،
فكم
من شخص بل كم من قبيلة عُرفت باسم الإله الذي كانت تعبده،
٣ مثال ذلك أن بني هلال وبدر وشمس يُنسبون — ولا شكَّ — إلى تلك الآلهة التي
كانوا يعبدونها قبل الإسلام، ومن هذا القبيل بنو غنم ونِهْم ونُهْم ونُهَم، وكلها مأخوذة
عن
أسماء تلك الآلهة التي كانت تعبدها هذه القبائل، فيُستنتج من هنا بطريق القياس أن الحيوانات
التي تُنسب إليها بعض قبائل العرب كانت في الأصل معبودة عندهم، ولنا على ذلك براهين ملزمة،
منها أن الحمامة
٤ كانت تُعد إلهة الكعبة، ومثلها الظبي وبهما تسمت بنو حمام وبنو ظبي. ومن المرجح
أيضًا أن بني أسد نسبوا إلى الصنم ياغوث كما أن بني عقاب إلى النسر؛ وذلك لأن
R. S.٥ يشك في صحة رأي بعض العلماء القائلين بأن الصنمين المذكورين أخيرًا هما رمز عن
الشمس أو عن بعض صفاتها التي كانت تعبدها العرب.
قد أشرنا فيما سبق إلى القسم المهم من كتاب R. S. وهو أن
القبائل العربية كانت قديمًا توتامية، أي إنها كانت تعبد الحيوانات وبعض العجموات، واتخذت
ألقابها عن هذه المعبودات، ولكن من صفات التوتام ونتائجه أن يكون محصورًا في نسل الامرأة،
أي إن من صفاته أن يتبع الولد توتام أمه دون أبيه كما هو معروف إلى اليوم عن هنود أميركا
الذين لا يزالون حتى الآن على الأمومة، وهو ما حمل R. S.
على أن يبرهن أن الأمومة كانت معروفة عند العرب أيضًا، وهنا وصلنا إلى النقطة التي رأينا
أن
نقف لها هذا البحث.
من المقرر اليوم عند العلماء أن أصل الأمومة عدم معرفة أب الولد، وذلك ناتج عن عدم
تمسك
الهيئة الاجتماعية القديمة بالزواج الشرعي الذي يُعد حديثًا بالنسبة إلى حالة الزواج
الفوضوية التي كانت عليها الهيئة الاجتماعية قبل معرفتها للزواج الشرعي، إذ من المعلوم
أن
الزواج كان في أول العمران وقتيًّا وغير مقيد، أي إن الامرأة لم تكن مربوطة مع الرجال
برباط
متين شرعي لأجلٍ مسمًّى، بل كانت اليوم تجامع زيدًا وغدًا عمرًا من نفس قبيلتها وهكذا
إلخ.
إلَّا أنه تولد فيما بعد عن هذا الاختلاط والمجامعة المطلقة التي تقرب كثيرًا من
الزنا
الزواج الشرعي أو الفردي الشائع بيننا اليوم، لكن بعض العلماء وفي مقدمتهم الكاتب الإنكليزي
Mac Lennan٦ يعتقد أن الأمومة نشأت عن تعدد الأزواج الذي كان في بادئ الأمر غير مقيد، بمعنى
أنه لم تكن صلة قرابة بين الأشخاص المالكة لامرأة واحدة، لكنه أصبح بعد ذلك مقيدًا
ومحصورًا، أي إن الامرأة أصبحت تخص جملة أشخاص معينة من عائلة واحدة أو من أم واحدة.
نعم لا
نذكر أن تعدد الأزواج كان شائعًا عند بعض الشعوب على الصورتين المذكورتين آنفًا إلَّا
أن
هذا النوع من الزواج كان بهذا المقدار غير ثابت ومنتقلًا؛ حتى إنه يصح أن يُقال عنه إنه
كان
أينما شُوهد في دور الترقي والنمو. أمَّا ليببوك
٧ وغيره من العلماء فإنهم يعدُّون تعدد الأزواج من الأمور الشاذة الناتجة في
الغالب عن قلة النساء. على كلٍّ لا ريب فى أن الأمومة كانت سائدة يوم كان زواج الاشتراك
شائعًا عند سائر الأمم، أي قبل ظهور الزواج الفردي، فلا بد الآن من تفقد آثار العرب في
الجاهلية لنرى إذا كان زواج الاشتراك معروفًا عندهم أم لا.
إن أقدم الأخبار التي وصلت إلينا عن عرب الجاهلية هي ما نقلها السائح اليوناني الشهير
سترابون
٨ في معجمه الجغرافي المشهور، حيث جاء عن أمر الزواج عندهم ما تعريبه: «والأملاك
عندهم مشتركة، أي تخص جميع أعضاء العائلة التي يرأسها شيخ، وهو أكبرهم سنًّا، ولهم جميعًا
امرأة مشتركة يختلفون إليها، فمن جاء منهم قبلًا دخل عليها وترك في باب الخلا عصاه ليشير
بذلك إلى اختلائه بها، لكنها في الليل لا تجامع إلَّا أكبرهم سنًّا.» فيظهر من هذه العبارة
الوجيزة أن تعدد الأزواج القانوني كان شائعًا بين العرب أيضًا، وهذا ما يعتقده
R. S. لكن عبارة سترابون التي استطرد بها حديثه السابق
تحملنا على الشك في صحة هذا الرأي.
فقد جاء بعد العبارة المذكورة آنفًا ما تعريبه: «وهم يجامعون أمهاتهم، ويعاقبون الزاني
بالموت، والزاني عندهم من جامع امرأة من غير عشيرته.» أي إنه كان مباحًا لرجال القبيلة
الواحدة أن يجامعوا نساءها بدون تقييد ولا حصر، بمعنى أن الامرأة عندهم لم تكن تخص رجلًا
معيَّنًا أو جماعة معلومة بقطع النظر إلى صلة الرحم التي كانت تربطها معهم، كما يظهر
ذلك
جليًّا من الحديث الذي رواه سترابون بعيد ذلك، وهو أن خمسة أخوة تعشقوا أختًا لهم، وهي
بنت
أحد أمراء العرب، فكانوا يختلفون إليها الواحد بعد الآخر حتى سئمت ذلك وتوصلت بحيلة إلى
التخلص منهم، وقد جاء هذا الحديث مصدِّقًا لرأينا السابق؛ لأنه يشير إلى شيوع زواج الاشتراك
عند العرب أكثر مما إلى تعدد الأزواج. وروى الكاتب اللاتيني
Ammianus
Marcellinus٩ أن العرب في الجاهلية لم تكن تعرف زواجًا مستمرًّا تُربط فيه الامرأة مع رجل
معين لأجل مسمًّى؛ وذلك لأن العرب كانوا يفضلون النكاح الوقتي على غيره، ثم استطرد فقال:
«وهم يقضون عمرهم في التجول والتنقل، ونساؤهم يجامعن من أردن من الرجال لأجل مسمًّى بعد
أن
يأخذن منهم أجورهن فريضة … ولكي يقربوا هذا الجماع نوعًا من الزواج كانت الامرأة تقدم
لزوجها بصفة مهر رمحًا وخباءً
١٠ تختبئ داخله متى أراد ذلك زوجها.»
لا ريب أن النكاح الوقتي الذي ذكره
A. M. كان شائعًا بين
العرب يوم ظهر بينهم الإسلام، إذ من المعلوم أن محمدًا نفسه أباحه لأصحابه، ويعرف هذا
النكاح في الإسلام بالمتعة أو نكاح المتعة، وقد عرفوه بأنه نكاح يُعقد لأجل مسمى، ثم
يُحل
بعد انقضاء هذه المدة.
١١ هذا ولما كان تاريخ المتعة لا يخلو من بعض الفائدة لاسيما لمعرفة علاقات
الجنسين في الجاهلية رأينا أن نأتي هنا على ذكره إتمامًا للفائدة.
إن أول ما تجب معرفته عن الكلام على المتعة وقبل الخوض في البحث عنها رأي القرآن عنها؛
ولذلك نبتدئ بذكر الآيات القرآنية المتعلقة بالمتعة أو التي تشير إليها ولو من طرف خفي.
جاء
في سورة النساء (آية ٢٤) التي نزلت بين السنة الثالثة والخامسة للهجرة ما حرفه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إلخ.
إلَّا أن المتأخرين من أهل السنة يرون في هذه الآية إشارة بسيطة إلى الزواج الشرعي
المصطلح عليه اليوم؛ ولهذا تراهم يفسِّرون كلمة أجور بكلمة مهور وهو رأي أكثر مفسري القرآن
أيضًا، لكن بعضهم يرى غير هذا الرأي ويعتقد أن في الأية المذكورة إشارة صريحة إلى نكاح
المتعة، كما نُقِل مثلًا عن ابن عباس
١٢ من أنه فسَّر العبارة الأخيرة من هذه الآية
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بما معناه: «فما
استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن»، فيؤخذ من هنا أن في الآية المذكورة إشارة
واضحة إلى النكاح الوقتي أو نكاح المتعة.
نعم إن القرآن لم يذكر المتعة في غير هذه الآية
١٣ إلَّا أن الأحاديث المتعلقة بهذا الموضوع كثيرة تكفي لحل المسألة حلًّا مرضيًا،
وخلاصة هذه الأحاديث أن واضع الشريعة الإسلامية أحلَّ — ولا شكَّ — لأصحابه نكاح المتعة،
لكنهم اختلفوا في زمن إعطاء هذه الرخصة، وفيما إذا نُسخت بعد ذلك أم لا، وللقارئ اللبيب
أن
يبدي رأيه في هذه المسألة مستندًا على الأحاديث الآتية.
من أهم الأحاديث المتعلقة بهذه المسألة ما نقله لنا سبرة الجهني قال: «أذن لنا رسول
الله
بالمتعة (يوم كان في مكة بعد أن فتحها في السنة الثانية للهجرة)، فانطلقت أنا ورجل إلى
امرأة من بني عامر كانت بكرة عيطاء، فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ما تعطي، فقلت ردائي،
وقال
صاحبي ردائي، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي، وكنت أشبَّ منه، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي
أعجبها، وإذا نظرت إليَّ أعجبتها، ثم قالت أنت ورداؤك يكفيني، فمكثتُ معها ثلاثًا. ثم
إن
رسول الله
ﷺ قال من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع (بها) فليُخلِّ
سبيلها.»
١٤ إلَّا أن الحديث الآتي الذي نقله سبرة عن محمد يناقض بالكلية هذا الحديث؛ إذ
يظهر منه أن محمدًا حرَّم المتعة يوم فتح مكة وليس بالعكس، مما ينتج عنه أن المتعة لم
تكن
ممنوعة قبل هذا اليوم، وجاء في حديث آخر للناقل المذكور بدون تعيين الوقت ما حرفه: «يا
أيها
الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة،
فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا مما آتيتموهن شيئًا.»
١٥ ثم يؤخذ من كلام سلمة أحد رواة الحديث المشهورين أن نكاح المتعة أُحلَّ يوم
أوطاس، أي بعد فتح مكة، لكن الرسول نهى عنه بعد ثلاثة أيام.
١٦
أمَّا بقية الأحاديث ولا سيما ما أُسند منها إلى علي بن أبي طالب حفيد الرسول فإنها
تحدد
زمن النهي عن المتعة يوم خيبر
١٧ (السنة السابعة للهجرة) أي قبل فتح مكة، فيظهر مما ذكر أن الأحاديث غير متفقة
فيما يتعلق بزمن تحليل المتعة ونسخها. وقد حاول علماء الإسلام أن يوفقوا بين هذه الأحاديث
المتضاربة والأقوال المتباينة، فقرَّ رأيهم على أن محمدًا أذن بالمتعة مرتين ونهى عنها
مرتين،
١٨ وأنه نسخها للمرة الأخيرة إلى يوم القيامة، إلَّا أن بعض الأحاديث تناقض هذا
الرأي؛ وذلك لأنها لا تذكر شيئًا عن نسخ الرسول بنفسه للمتعة وأحكامها، فقد ورد مثلًا
في
بعض الأحاديث المنقولة عن عبد الله بن مسعود أن محمدًا لما سمع من أصحابه في بعض غزواته
أنهم عازمون أن يستخصوا لقلة النساء نهاهم عن ذلك، ورخَّص لهم أن ينكحوا المرأة بالثوب
أو
بمثله إلى أجل.
١٩
ولم يذكر في هذا الحديث أن محمدًا نهى بعد ذلك عن المتعة، بل يؤخذ من غير هذه الأحاديث
أن
أول من نهى عن المتعة هو عمر بن الخطاب لأنه كان من أشد أعداء الاستمتاع، كما يبان ذلك
من
الحديث الآتي المنسوب إليه، وهو: «لا أوتي برجل تزوج امرأة إلى أجل إلَّا رجمتهما
بالحجارة.»
٢٠ وهذا نفس ما يرتئيه جابر بن عبد الله، فقد ورد في حديث أنه لما سُئل عن المتعة
أجاب: «نعم كنَّا نستمتع بالقبضة من الثمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر
حتى
نهى عنه عمر.»
٢١ لكن أهم حديث يتعلق بهذا الموضوع ما جاء منقولًا عن ابن عباس، فقد روي عنه أنه
قال: «ما كانت المتعة إلَّا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده، ولولا نهي عمر عنها ما
زنا
إلا شقي.»
٢٢ وزعم بعضهم أن من ينسب إلى عمر تحريم المتعة يجهل نسخها
٢٣ من محمد نفسه إلَّا أن ابن عباس لم يذكر شيئًا عن هذا الأمر، نعم جاء في حديث
أن علي بن أبي طالب أجاب لما سأله ابن عباس عن أمر المتعة ما حرفه: «مهلًا يا ابن العباس
فإن رسول الله نهى عنها يوم خيبر.»
٢٤ وروى بعضهم أن ابن عباس تاب وهو على فراش الموت ورجع عن قوله بالمتعة،
٢٥ ولكن لما لم يقم على ذلك دليل صعب علينا والحالة هذه تصديقه.
ينتج مما قدمنا أن الأحاديث متباينة للغاية وغير متقنة فيما إذا نسخ محمد المتعة أم لا،
فأهل السنة على نسخها، ومرجع أدلتهم إلى الأحاديث الناسخة للمتعة والآية ٢٤ من سورة النساء
التي يرون فيها إشارة إلى نسخ الاستمتاع وليس إلى الزواج الاعتيادي، ومنهم من حاول أن
يبني
نسخ المتعة على القرآن فقط، واستنادهم في ذلك على الآيات الآتية (كما روي ذلك مثلًا عن
عائشة):
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ
أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ
ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ. فالمتعة لم تكن مباحة بحسب هذا الرأي؛ لأنها لم تكن «نكاحًا ولا
ملك يمين»،
٢٦ وهو ما لا برهان عليه، فلا ريب في أن عائشة وقعت هنا في الغلط المعروف عند
المنطقيين باسم
petitio principii، أمَّا أهل الشيعة فعلى
عكس أصحاب السنة فإنهم لا يحرمون نكاح المتعة ويعدُّونها غير منسوخة
٢٧ مستندين في ذلك على القرآن وبعض الأحاديث الناسبة نسخ هذه العادة إلى عمر وليس
إلى محمد.
٢٨
هذا وقد حاول بعض المسلمين في عهد المأمون المعروف بميله إلى أهل الشيعة أن يحيوا
هذا
العادة، لكنهم لم يفلحوا؛ إذ لما اطَّلع على ذلك القاضي يحيى بن أكثم سار إلى الخليفة
وبيَّن له أن النصوص القرآنية — وذكر منها هنا الآية الأولى من سورة المؤمنون — والأحاديث
الصحيحة لا تفرق بين المتعة والزنا، فرجع المأمون عن رأيه وأمر لوقته أن ينادوا بتحريم
المتعة.
٢٩ تحقق عندنا مما سبق أن المتعة هي عين النكاح إلى أجل كان يفسخ عند انقضاء الأجل
المسمى من غير طلاق شرعي،
٣٠ وأن الرجل كان يقدم كما ورد في الأحاديث المذكورة هدية أو صداقًا للامرأة التي
كان يستمتع بها في مقابلة هذا الاستمتاع، وأنه لم يكن في نكاح المتعة ولي ولا
شهود.
٣١ ومن المعلوم أيضًا أن نكاح المتعة لا يزال شائعًا إلى اليوم بين أهل الشيعة
يحلونه لمن لا يعرف نكاحًا غيره، فقد روي عن ابن عباس الذي يرجع إليه في هذه المسألة
أهل
الشيعة أنه أجاب لما سُئل عن المتعة بأن محمدًا كان يرخِّص بالمتعة عند الضرورة
فقط،
٣٢ ولا سيما في أول الإسلام وفي الغزوات المتواترة يوم لم يكن الجيش يستصحب معه
نساءه كما رأينا ذلك في الأحاديث المذكورة آنفًا، لكنه جاء في حديث آخر يتصل إسناده بابن
عباس أن العرب كانت تلجأ إلى المتعة في أول الإسلام كلما كانت تنزل في إحدى المدن، فكان
الواحد منهم يتخذ له امرأة يقيم معها مادام في البلدة ويجامعها إلى أن يرحل عنها.
٣٣ وقد بقيت هذه العادة شائعة حتى في الأعصر المتأخرة، فمن الأدلة على ذلك ما رواه
الرحالة الإنكليزي
Hamilton في رحلته المعروفة «بلمعة جديدة
عن شرق بلاد الهند». قال: «وأعظم مدينة في اليمن سنان، وهي تبعد عن مكة مقدار خمسة عشر
يومًا نحو الشمال، وتجارتها الداخلية واسعة تمر فيها أكثر البضائع الهندية الواردة إلى
مكة،
وفيها لكل من الصنائع والبضائع سوق خصوصية، حتى إن الغريب إذا احتاج إلى بضاعة ما يجد
السوق
التي تباع فيها هذه البضاعة بكل سهولة. ورأيت في أكثر شوارعها سماسرة للنساء، فكل غريب
لا
مأوى له في المدينة يمكنه أن يتزوج ويتبلد في المدينة بقيمة زهيدة وبطريقة سهلة، وهو
أن
يتفق مع الامرأة بعد أن يراها وتعجبه على الثمن، فيحدد لها المدة التي يمكنه أن يقيمها
معها
أسبوعًا كان أو شهرًا أو سنةً كاملةً، ثم يحضر معها أمام القاضي أو حاكم البلدة، فيسجلان
اسميهما في كتاب عنده، ويكتبان الشروط التي اتفقا عليها، وكل ذلك لا يكلفه أكثر من شلنغ،
ثم
يضع الرجل يده في يد الامرأة أمام القاضي فيتم الزواج، ويعد بذلك شرعيًّا حتى انقضاء
المدة
المعينة. هذا وكل منهما حر أن يفترق عن صاحبه متى أراد، وأن يرتبط معه ثانية بعد انقضاء
المدة المعينة، أمَّا إذا افترق أحدهما عن الآخر قبل انقضاء هذه المدة فعليه أن يدفع
لصاحبه
القيمة التي استلمها منه أو اتفق معه عليها طبقًا للشروط التي عقدت بينهم، وبعد ذلك يمكنه
أن يتزوج على الصورة نفسها متى شاء.»
٣٤
فقد ذكرنا فيما سبق أن المتعة هي النكاح الوقتي بعينه أو الزواج إلى أجل الذي يتكلم
عنه
Annmianus Marcellinus، وأنها كانت من عادات العرب في
الجاهلية التي أحلها محمد لأصحابه، إلَّا أن بعض الأحاديث المتعلقة بالمتعة تناقض هذا
الرأي، وهو مما يوجب العجب
٣٥ لأنه يصعب علينا أن ندرك كيف توصل محمد إلى معرفة نكاح المتعة لو لم يكن هذا
النكاح عادة شائعة قبله بين العرب، ولو لم تكن هذه العادة من أخلاق القوم وطباعهم المألوفة
لاستحال وجود نساء بينهم يبعن عرضهن بدريهمات أو بقبضة دقيق أو بثمر بخلاف ما نراه في
الواقع، حيث يظهر من حديث سبرة المذكور آنفًا أن الامرأة كانت تقدم على الاستمتاع بكل
سهولة، ولم يكن أحد يستغرب ذلك منها.
٣٦ وهذا من أقوى الأدلة على شيوع هذه العادة بينهم، وهو ما لا يسع أحد الاعتراض
عليه إلَّا إذا كان من المكابرين، وفوق كل ذلك فإن لنا على ذلك أدلة أخرى، منها أن العرب
في
الجاهلية لم تكن تنسب عظيم أهمية للزواج الشرعي المستمر كما يستفاد ذلك من شيوع نكاح
الذواق
بينهم، وقد عُرف هذا النكاح بأنه كان يُعقد من دون شروط، وهو يُحل من نفسه إذا أراد ذلك
أحد
الطرفين متى لم يعد يجد فيه لذة وارتياحًا وإليه ميلًا وانعطافًا.
٣٧ فقد روي عن أم خارجة أنها جامعت أكثر من أربعين رجلًا من عشرين قبيلة، فكان
يأتيها الخاطب فيقول خطب، فتجيبه نكح، فكانت تتزوج واحدًا وتطلق غيره اللهم بعد أن
تذوقه،
٣٨ فمن هنا المثل: «أسرع من نكاح أم خارجة».
وأمثال أم خارجة عديدات كما يؤخذ مما ذكره الميداني في شرح بعض أمثاله قال: «وكانت
أم
خارجة هذه ومارية بنت الجعيد العبدية إلخ
٣٩ إذا تزوجت الواحدة منهن رجلًا وأصبحت عنده كان أمرها إليها إن شاءت أقامت وإن
شاءت ذهبت، ويكون علامة ارتضائها للزوج أن تعالج له طعامًا إذا أصبح.»
ولكن لا يستنتج من هذا أن حق الطلاق كان محصورًا في النساء فقط، بل كان يتعدى إلى
الرجال
أيضًا كما هي الحال في الشريعة الإسلامية التي اعترفت بهذه الحقوق والأحكام القديمة،
فأباحت
لأصحابها استعمال الطلاق تقريبًا بدون تقييد كما يظهر من الأمثلة الآتية: جاء في بعض
التنبيهات المفيدة التي ذيل بها
Lane ترجمته لألف ليلة
وليلة ما تعريبه: «ليس من عادات العرب المستحبة ولا سيما في الطبقة الوسطى منهم أن يتزوجوا
في وقت واحد بأكثر من امرأة، ولكن قلَّ من أصحاب الطبقة المذكورة من لم يتخذ أكثر من
امرأة
في أوقات مختلفة، وما ذلك إلَّا لسهولة الطلاق عندهم، مثال ذلك أن عليًّا (صهر النبي)
اتخذ
بعد فاطمة أكثر من مائتي امرأة من المطلقات، ومما قيل عنه أنه كان أحيانًا يبني على أربعة
نساء بعد أن يطلق مثل هذا العدد، وحُكيَ عن مغيرة بن ثابت أنه تزوج بأكثر من ثمانين امرأة،
وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى، وكلها مدونة في مؤلفات العرب أنفسهم، وما ذلك إلَّا نتيجة
حبهم
للتغيير، ولكن أغرب ما سُمع عن العرب من هذا القبيل ما حُكيَ مسندًا إلى مصادر ثقة عن
محمد
بن الصباغ البغدادي (توفي سنة ٤٢٣ للهجرة عن ٨٥ عامًا) من أنه تزوج أكثر من تسعمائة امرأة،
فلو فرضنا أنه لما تزوج أول مرة كان ابن خمس عشرة سنة لكان عدد ما كان يأخذه من النساء
سنويًا ثلاث عشرة.»
٤٠
وكل ذلك ناتج عن تأثير عوائد العرب قبل الإسلام، ولا يمكنَّا أن نعبر عنه إلَّا بذلك،
فلو
أمعنَّا النظر إلى أن المتعة — ناهيك عن زواج الذواق — كانت يومًا ما قاعدة مطردة عند
العرب، وعادة من عاداتهم المتأصلة في أخلاقهم وطباعهم، لسهل علينا وقتئذ إدراك الأمر
الآتي،
وهو أن آثار هذه العادة القديمة بقيت ظاهرة مدة طويلة بين العرب مع نسخ صاحب الشريعة
الإسلامية للعادة نفسها وتحريمه إياها، وما ذلك إلَّا لأنه كان يصعب على جميع الأوامر
التي
صدرت في هذا الشأن أن تثني العرب عن عاداتهم المتأصلة في أخلاقهم أجيالًا وتحملهم دفعة
واحدة على التمسك بالزواج الشرعي المستمر، ولقد غلط من زعم أن التسامح المشاهد في الطلاق
الإسلامي والبالغ أحيانًا حد التطرف ناتج عن تساهل المسلمين مع نكاح المتعة وعادات العرب
القديمة؛ إذ لا أحد ينكر أن بين الزواج الذي يمكن فسخه بكل سرعة وسهولة وبين المتعة فرقًا
بيِّنًا وبونًا واسعًا، وإن كنَّا لا نرى اليوم تقريبًا أثرًا لهذا الفرق عند أكثر الفقهاء
الذين «أجمعوا على أن من نكح مطلقًا ونيته أن لا يمكث معها إلَّا مدة نواها فنكاحه صحيح
حلال وليس نكاح متعة، وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور».
٤١
يمكنَّا الآن بعد الذي قدمناه أن ننتقل إلى البحث عن عبارة صحيح البخاري التي ورد
فيها
ذكر أنواع النكاح في الجاهلية، قال المصنف المذكور: «النكاح في الجاهلية كان على أربعة
أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم
ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي،
ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا
تبين
حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح
الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على الامرأة كلهم يصيبها، فإذا
حملت ووضعت ومر ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى
يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي
ما
أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به (منه) الرجل، والنكاح الرابع يجتمع
الناس
الكثير فيدخلون على الامرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات
تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمِعوا لها ودَعَوا
لهم
القافة،
٤٢ ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه لا يَمتنعُ من
ذلك.»
٤٣
يظهر مما ذُكر أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنواع، نبحث عن ثلاثة منها ونضرب
صفحًا عن الرابع، وهو النوع الأول؛ لأنه لا يهمنا البتة. رأينا من كلام البخاري أن النوع
الثاني كان يُعرف عند العرب بنكاح الاستبضاع، كان الرجل يرخِّص لامرأته أن تجامع أحد
أشراف
القوم كما بيَّن الشارح
٤٤ رغبة في نجابة الولد، وفي ذلك من الغرابة ما لا يخفى على أحد. نعم إن هذه
العادة معروفة عند غير العرب من الشعوب، لكن الذي نعرفه من أمرها أن الامرأة كانت تجامع
غير
زوجها إذا لم يكن لها ولد منه، وكانت ترى فيه السبب كما يؤخذ ذلك مثلًا من كلام العالم
الألماني غريم عن الجرمانيين القدماء قال: «وكان الغرض من الزواج عندهم الحصول على وارث
شرعي بحيث إنه كان يحق للرجل أن يطلق امرأته إذا تحقق عقْرتَها ويأخذ غيرها من غير
معارضة.»
٤٥ وورد في بعض القصائد القديمة عن القديسة أليصابات أن أحد فرسان تورنغ بعد أن
تحقق ضعفه في الحصول على وارث له مثل أمام الأمير لودفك زوج أليصابات وطلب إليه أن يطأ
امرأته.
٤٦ وأمثال ذلك عديدة تراها مسرودة بكل حرية في الكتاب المعروف «بحكمة الشعب» نقتصر
منها هنا على واحد ذكره غريم في تأليفه المذكور، قال: «سؤال: إذا لم يكن في وسع الزوج
أن
يقوم بما عليه نحو امرأته، وإذا كانت امرأته راضية عنه فماذا عليه أن يفعل ليرضيها ويطيب
خاطرها؟ الجواب: يجب عليه أن يحملها على ظهره وينقلها إلى ما وراء السياج، وبعد أن يجوز
بها
السياج يجب عليه أن يسلمها إلى رجل يرضيها.»
٤٧
وكانت هذه العادة معروفة عند اليونان القدماء أيضًا، فكان الهرِم من سكان إسبرطا
يأتي
بامرأته إلى أحد أصحابه من الأحداث ليواقعها إذا رأى من نفسه عدم القدرة على ذلك، فإذا
حبلت
امرأته من صاحبه ووضعت ولدًا تبنَّاه وجعله وريثًا له كأنه ابنه الحقيقي، أمَّا في أثينا
فكان للابنة الوارثة الحق في مجامعة من أرادت من الرجال Si maritus: qui cam
sibi jure vindicavit, coire non posset (إذا لم يكن في وسع الزوج
الشرعي أن يفعل ذلك).
ومن المعروف أيضًا أن هذه العادة لا تزال شائعة إلى اليوم بين قبائل التشوكشي في
شمالي
سيبيريا،
٤٨ فإن الرجل عندهم يحمل امرأته على مواقعة غيره إذا لم يكن له ولد وأحب أن يكون
له وريث، فلا ريب أن هذه العوائد وما يقابلها من عوائد العرب بقايا دور من الزمن لم يكن
الزواج الشرعي معروفًا فيه. قال الكاتب الإنجليزي
Mac
Lennan عن هذا الأمر ما تعريبه: «إن الاهتمام بمستقبل العائلة يذكرنا
بحالة المجتمع الإنساني القديمة يوم كان سائدًا نكاح تعدد الأزواج، إذ لا داعي إلى هذا
الاهتمام في عصر عمَّ فيه الزواج الفردي وقويت عرى المحبة بين الزوجين.»
٤٩
أمَّا النوعان الثالث والرابع من أنواع النكاح الأربعة فهما تعدد الأزواج ونكاح المشاركة،
وقد عُرف هذا النوع الأخير بأنه: «كان يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، فإذا ولِد
من
هذا الجماع ولد تبناه واحد منهم». وأدلة ذلك كثيرة نقتصر منها على ما ورد في كتاب الملل
والنحل للشهرستاني عند كلامه عن صاحبة الراية «التي كان يختلف إليها النفر وكلهم يواقعها
في
طهر واحد، فإذا ولدت ألزمت الولد أحدهم».
٥٠ فيظهر مما ذُكر أن المقسمة وإن كانت مباحة للجميع كما روي ذلك صريحًا في صحيح
البخاري لكنها في الواقع كانت تخص جماعة معلومة، ولكن ما المعنى من إلزام الولد أحدهم
بواسطة القافة أو بعض علامات معروفة عندهم؟ لا بدَّ لفهم هذا الأمر من مقابلته مع ما
يشابهه
من العوائد عند غير العرب كالنَّائر مثلًا، وهم طبقة الأعيان في بلاد ملابار (الهند)
الذين
يستعملون نكاح المشاركة، وبالتالي لا يعرفون الزواج الشرعي، كما يؤخذ ذلك من أخبار بعض
سياح
البرتوغال والإيطاليان والإنكليز والهولانديين التي جمعها باخوفين في كتابه المعروف «بآراء
القدماء عن القرابة»، حيث قيل عن النائر ما تعريبه: «والنساء عندهم مشتركة يختلف إليهن
كل
من أراد، اللهم إذا كان من نفس قبيلتهن لا غير، إلَّا أن كل امرأة منهن تخص في الحقيقة
جماعة معلومة من القبيلة، فالجميلة منهن تخص ثلاثة أو أربعة من طبقة النائر، وهم يقومون
بأودها ولوازمها ويطئونها متى أرادوا، وعندهم أنه كلما زاد عدد أخدان الامرأة زاد شرفها
واعتبارها في أعين سكان القبيلة. هذا ومع أن لكل امرأة منهن من رجلين إلى اثني عشر، لكن
ذلك
لا يمنعها إذا أرادت من معاشرة غيرهم وإن تكن الأفضلية للأولين فمتى اختلى أحدهم بالمقسمة
علَّق على الباب إشارة إلى ذلك سيفه أو درعه، فلا يتجاسر غيره على الدخول، ومن خالف ذلك
عوقب بالقتل، أمَّا إذا غابت العلامة فلكل الحق في الدخول عليها والاستمتاع بها، ثم إذا
حبلت ووضعت ولدًا ألزمته غالبًا من كان يكثر من الاختلاف إليها من الجماعة
المعلومة.»
٥١
فكم من المشابهة بين هذه العوائد وما ذكرناه من عوائد العرب في الجاهلية، فلو أمعنا
النظر
إلى هذا الأمر لسهل علينا إدراك الفرق بين نكاح المشاركة وتعدد الأزواج القانوني، وهو
ما
كانت تخص فيه الامرأة بعض الرجال لا غير كما نرى ذلك في النوع الثالث، فلما ظهر الإسلام
لم
يحلل من هذه الأنواع الأربعة إلَّا النوع الأول، أمَّا الثلاثة الأخيرة وهي: نكاح
الاستبضاع، ونكاح المشاركة، وتعدد الأزواج، فقد حرمها ونهى عنها «إلى يوم القيامة». ولكن
من
منَّا يجهل أن النهي عن الشيء أمر وتركه حالًا أمر آخر، إذ من أصعب الأمور أن نستأصل
عادة
تمكنت في أخلاقنا حتى أصبحت كعنصر من عناصر حياتنا، فلا عجب والحالة هذه إذا بقيَ شيءٌ
من
هذه العوائد والآثار الماثلة بين العرب حتى وبعد انتشار الإسلام بينهم بمدة طويلة.
وكل ذلك يشير من طرف خفي إلى شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة عند العرب قديمًا،
وأغرب
من ذلك كله أن بعض المسلمين لم يكن يعرف شيئًا عن الأوامر الصادرة من النبي بخصوص النكاح،
وإليك على ذلك دليل قاطع ذكره
Dozy في كتابه «تاريخ الإسلام
في إسبانيا» مأخوذًا عن أبي إسمعيل البصري قال: «اتفق أعرابي طاعن في السن مع شاب أن
يبعث
بامرأته إليه ليطأها ليلة بعد أخرى، على شرط أن يحفظ له قطيعه، فلما اطلع أمير المؤمنين
على
هذا الاتفاق الغريب أحضر الاثنين وسألهما ألا تعرفان أن الإسلام ينهى عن مثل هذه الأمور،
فأقسما أنهما لا يعرفان عن ذلك شيئًا.»
٥٢
وأمثال ذلك كثيرة حتى في الجيلين الثاني عشر والرابع عشر ب.م، كما يؤخذ ذلك من أخبار
بعض
كتبة العرب كياقوت الحموي وابن بطوطة، حدَّث الأول في معجمه الجغرافي عند كلامه على مدينة
مرباط ما نصه: «وأهلها عرب وزيهم زي العرب القديم، وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة
وتعصب، وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة، وذلك أنه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى
ظاهر
مدينتهم ويسامرن الرجال الذين لا حرمة بينهم، ويلاعبنهم ويجالسنهم إلى أن يذهب أكثر الليل،
فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته، وإذا هي تلاعب آخر وتحادثه، فيعرض عنها ويمضي
على
امرأة غيره ويجالسها كما فُعل بزوجته، وقد اجتمعتُ بكيش بجماعة كثيرة، منهم رجل عاقل
أديب
يحفظ شيئًا كثيرًا وأنشدني أشعارًا وكتبتها عنه، فلما طال الحديث بيننا قلت له بلغني
عنكم
شيءٌ أنكرته ولا أعرف صحته، فبدرني وقال لعلك تعني السمر، قلت ما أردت غيره، فقال الذي
بلغك
من ذلك صحيح وبالله أقسم إنه لقبيح، ولكن عليه نشأنا وله مذ خلقنا ألفنا ولا استطعنا
أن
نزيله، ولو قدرنا لغيرناه ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين عليه واستمرار العادة
به.»
٥٣
وحكى ابن بطوطة عند كلامه على نزوا عاصمة عُمان ما حرفه: «ونساؤهم يكثرن الفساد،
ولا غيرة
عندهم ولا إنكار لذلك.» واستشهد على ذلك بالحكاية الآتية، قال: «كنت يومًا عند سلطان
عُمان
أبي محمد بن نبهان فأتته امرأة صغيرة السن حسنة الصورة بادية الوجه، فوقفت بين يديه وقالت
له: يا أبا محمد طغى الشيطان، فقال لها اذهبي واطردي الشيطان، فقالت له لا أستطيع وأنا
في
جوارك يا أبا محمد، فقال لها اذهبي فافعلي ما شئت، فذكر لي لما انصرفت عنه أن هذه ومن
فعل
مثل فعلها تكون في جوار السلطان وتذهب للفساد ولا يقدر أبوها ولا ذوو قرابتها أن يغيروا
عليها، وإن قتلوها قُتِلوا بها لأنها في جوار السلطان.»
٥٤
هذا ولا بأس إذا أضفنا إلى أخبار الكتبة السالفين شيئًا مما ورد في مؤلفات بعض سياح
هذا
العصر عن العرب وأخلاقهم؛ ليرى القارئ أن حالة الأدب عند العرب لا تزال تحتاج إلى تحسين
وتقويم، فمن ذلك ما جاء في كتاب السائح الإنكليزي
Palgrave
يصف فيه رحلته إلى بلاد العرب، قال في معرض كلامه عن البدو ما تعريبه: «إن عِظم الفساد
السائد على أخلاق البدو يجعل حدود الشريعة الإسلامية المتعلقة بأمر الزواج بين محللة
ومحرمة
نافلة وغير ضرورية؛ وذلك لأن الزواج عندهم أقرب إلى نكاح المشاركة منه إلى تعدد الزوجات،
حتى يصح أن يقال إن العبارة الدارجة بينهم وهي «هذا الولد أخبثهم لأنه يعرف أباه» تنطبق
عليهم أكثر مما على غيرهم، وبالحقيقة فإنهم من هذا القبيل كما وفي أمور أخرى — يسمح لي
القارئ ألَّا أذكرها هنا — «أحط درجة من الكلاب» كما سمعتهم يرددون ذلك مرارًا يوم كنت
مقيمًا بينهم أصغي إلى حديثهم، إذا رأيت منهم ميلًا إلى التكلم بالصدق والإخلاص في
القول.»
٥٥
ومما يستحق الذكر هنا ما ذكره سبنسر عن قبيلة بني الحسني، وهي إحدى القبائل النازلة
على
شواطئ النيل الأبيض، قال: «ولبعض نساء العرب من الحرية في مسألة الزواج ما يعسر وجوده
على
ما أظن عند غيرهن من نساء الأرض قاطبة، من ذلك أنه متى أراد أحدهم أن يتزوج ابنة يتفق
أولًا
مع أبويها على ثمنها، أمَّا كمية هذا الثمن فتتوقف على كمية أيام الأسبوع التي تتعهد
الفتاة
أن تحافظ فيها على علاقاتها مع زوجها بكل أمانة، فمتى تم ذلك تتظاهر أمّ الخطيبة بأنها
بعد
التروي وفحص المسألة من جميع أطرافها ومراعاة عواطف العائلة ترى من نفسها عدم المقدرة
على
إجبار بنتها أن تحافظ على عفافها المطلوب من كل زواج أكثر من يومين في الأسبوع، لكنهم
بعد
اللتيا واللتي وكلام طويل عريض يخاله الناظر حاد اللهجة عنيفها، وبعد أن يتعهد أهل العريس
بزيادة الثمن، يتفقون على أن تلتزم الامرأة زوجها أربعة أيام في الأسبوع لا غير، كما
هي
العادة عند أشرف عائلات القبيلة، لكن العروس لا تقيد بشيء في غضون هذه الأيام طبقًا للعوائد
القديمة المتبعة عندهم، بل هي حرة أن تتصرف بنفسها كيفما تشاء، فإن أحبت لزمت عريسها
وبيته
أو لا، فيمكنها أن تتمتع بالحرية التامة وألَّا تتمم شيئًا من واجباتها الزوجية.» ثم
قال
بُعيد ذلك: «لقد شاهدت أن المتزوجين يعدون أنفسهم سعداء إذا أحسُّوا بالتفات ما من طرف
نسائهم في غضون الأيام الحرة، ويرون في ذلك شاهدًا على محبتهن لهم.»
٥٦
ينتج من كل ما ذكر حتى الآن من أمر النكاح عند العرب في الجاهلية أنه لم يكن من سبيل
عندهم إلى معرفة الأب، لا بل لم تكن حاجة إلى ذلك؛ إذ في الأعصر الخالية حين لم يكن الزواج
الشرعي معروفًا كان الولد يتبع أمه ويتعلق بها في جميع أموره، لكن ذلك لم يكن ليمنع الرجل
أن يشعر بميل وحنو إلى الطفل الذي كان هو سبب ظهوره إلى عالم الوجود، ولم يكن محتاجًا
لإظهار هذه العواطف القلبية والميل الغريزي إلى التفكر العميق والتأملات البعيدة، فكان
كلما
قوي فيه فعل ضمير ازداد تعلقًا بالطفل، وهذا على ما نظن ما أولد عند بعض الشعوب المتمسكة
بنكاح الاشتراك عادة تعيين أب اختياري للولد بواسطة بعض إشارات خارجية وعلامات خصوصية،
ولقد
أشار العالم
Bachofen في كتابه المعروف «بالأمومة»
٥٧ إلى بعض أمثال من هذا النوع ترجع إلى الأزمنة الغابرة، وها نحن موردون للبعض
منها تعزيزًا للحقيقة، قال: «نقل نيقولاوس عن الليبورنيين
Liburn ما تعريبه: ونساؤهم مشتركة وهم يربون أولادهم في بيت واحد
حتى السن الخامسة من عمرهم، وفي السنة السادسة يجمعونهم ويقابلونهم مع رجال قبيلتهم،
ثم
المقيمين على شواطئ البحر الأحمر، أخبر عن ذلك هيرودوتس قال: والنساء عندهم مشتركة أيضًا،
وهم يجامعونهن على طريقة وحشية من غير أن يقيموا معهن في بيت واحد، لكنه متى كبر الأولاد
في
بيوت أمهاتهم تجتمع الرجال كل ثلاثة أشهر فيُعطى لكل منهم من شابهه من الأولاد، فيتبناه
ويجعله وريثًا له.» ومن هذا القبيل ما جاء عن الكرمنة الذين يتعاطون نكاح المشاركة أيضًا
من
أنه: «ليس لأحد منهم امرأة معينة، وهم لا يربون من أولاد نكاح المشاركة، وممن جهل والده
إلَّا من تبنوه اعتمادًا على بعض سيمات خارجية.»
٥٨
قد رأينا فيما سبق أن الأم عند قبائل النائر كانت تُلزم ولدها من أرادت من الرجال
في
قبيلتها، وهذه العادة كانت معروفة أيضًا عند العرب كما ورد ذلك في أحاديث البخاري، حيث
قيل
إن القافة كانت تعيِّن لكل ولد والدًا، معتمدة في ذلك على ظواهر خارجية، ولكن مما لا
ريب
فيه أن الوالد الاختياري أندر وجودًا في نكاح الاشتراك منه في تعدد الأزواج القانوني،
وهو
ما كانت تملك فيه بعض الأقارب أو بالأحرى جملة أخوة امرأة واحدة، ولم يكن من الضروري
تعيين
أب للولد، بل كان الأخ الأكبر أو من كانت تنتخبه الامرأة قبلًا يعد غالبًا أبًا للمولود
وإن
لم يكن حقيقة أباه، كما نشاهد ذلك عيانًا في كتاب يوليوس قيصر الذي وصف فيه البريطانيين
القدماء، فقد جاء عنهم أن للعشرة أو الاثني عشر من رجالهم امرأة مشتركة، وأن الأخوة
والأقارب كانوا يتفقون فيما بينهم فيختلفون إلى امرأة واحدة، فإذا وضعت ولدًا انتخبت
من
بينهم والدًا له وهو أول من نزع بكوريتها.
٥٩
ونُقِل عن سكان تيبت المتمسكين بتعدد الأزواج أن انتخاب الامرأة المشتركة متعلق بالأخ
الأكبر وهو يتبنى سائر أولادها.
٦٠ لكن الأمر كان على عكس ذلك عند العرب في الجاهلية كما رأينا ذلك سابقًا، فإن
القافة كانت تعيِّن عندهم أب الولد إن كان في نكاح المشاركة أو في تعدد الأزواج بخلاف
ما
نجده عند القبائل المذكورة آنفًا، حيث الأم كانت تعيِّن أب الولد وليس أحدٌ غيرها.
٦١ أمَّا أن لنظام الأمومة تأثيرًا بيِّنًا على هذه العادة عند العرب القدماء فهذا
مما لا ريب فيه؛ إذ لو كانت هذه العادة موجودة منذ البدء؛ أي لو كان دائمًا للولد أب
حقيقي
أو كان يعين له دائمًا والد ولو بطريقة اصطناعية لصعب علينا إدراك الأسباب التي دعت إلى
حصر
القرابة قديمًا في الأم، إذًا لا بدَّ من التسليم بأن العادة المذكورة ابتدأت تتشكل وتنتشر
بعد ذلك، أي بعد شيوع زواج المشاركة وتعدد الأزواج وظهور أول مبادئ الزواج الفردي بين
المجتمع الإنساني، فلا ريب إذًا في أنه مر على عرب الجاهلية دوح من الزمن لم يكن فيه
للولد
— وذلك إمَّا لشيوع زواج المشاركة بينهم أو لأسباب أخرى نجهلها — أب حقيقي، بل لم يكن
أحد
يتبناه بإحدى الطرق المذكورة، وهو ما أدى إلى شيوع قرابة الأم المطلقة أو نظام الأمومة،
فإن
النائر الذين لا تزال شائعة بينهم عادة تبني الولد المولود من زواج المشاركة لا يعرفون
حتى
اليوم نظام الأبوة، أي إنهم باقون إلى اليوم على نظام الأمومة، كما يظهر ذلك من عوائدهم
وأخلاقهم؛ من ذلك أن حقوق الوراثة لا تزال محصورة في الفرع النسائي وبالأخص في أولاد
الأخت
كما هو مذكور عنهم في بعض التآليف التي جمعها
Bachofen في
كتابه المذكور عند كلامه على نكاح المشاركة عن النائر، قال: «وبعد أن تضع الامرأة حملها
تعيِّن له أبًا يقوم بأوده وتربيته، وذلك بعد أن يكبر النائر ويقوى على المشي، إلَّا
أن
الولد عندهم لا يرث أباه قط، بل ترثه أولاد أخته، فإن لم يكن له أولاد أخت ورثه أقاربه
الأقربون من جدته.»
٦٢
فلا اعتراض إذًا على رأينا الذي قدمناه من أن الأمومة كانت في بادئ الأمر شائعة عند
العرب
القدماء، ولنا على ذلك براهين أخرى عدا عن التي ذكرناها سابقًا، نجتزئ منها بما يأتي؛
تعزيزًا لما توخينا بيانه ودفعًا لما ينتظر من الاعتراضات. من الأدلة الواضحة على شيوع
الأمومة عند العرب قبل استحكام نظام الأبوة عندهم، كلمة بطن التي تستعملها العرب إلى
اليوم
بمعنى العائلة أو القبيلة، فلا ريب أن هذه الكلمة بمعناها الأصلي تشير إلى عقد من الزمن
كانت الامرأة فيه مصدر العائلة ومحورها، والدليل على ذلك أنا نجد هذه الكلمة أو ما يرادفها
عند غير العرب من الشعوب.
ولكي لا نطيل الشرح نختصر هنا على مثل واحد من هذا القبيل أخذناه عن قبائل الأرخبيل
الهندي، أو بالأحرى عن سكان أعالي جزيرة صومترا
٦٣ المتمسكين كما هو معروف بنظام الأمومة، فقد نُقِل عنهم أنهم يطلقون لفظة
Sabuwah pêrut (ومعناها من بطن واحد أو من رحم أم
واحدة)
٦٤ على الجماعة من ذوي القرابة إذا كانوا مقيمين اللهم في بيت واحد ومؤلفين لعائلة
واحدة، وذلك لتسلسلهم من امرأة واحدة هي أم القبيلة، ومن هذا القبيل أيضًا كلمة
Pasaribattangang التي تستعملها قبائل ماكاسل للدلالة
على الأخوة والأخوات أو العائلة على الإطلاق، ومعنى الكلمة حرفيًّا (النابتون من بطن
واحد)،
فيغلب على الظن أن هذه العبارة المجازية ظهرت إلى عالم الوجود يوم كانت الأمومة نظام
العائلة الوحيد، ومن هذا القبيل أيضًا العبارة التي تستعملها قبائل الغور في مينهاسَّا
التابعة لجزائر السلب
Celebes وهي
sanatotoan (مأخوذة من كلمة
to to حليب)، وتعريبها الحرفي الشاربون من حليب واحد، ثم لا بأس هنا من
ذكر قبائل البطاس الذين يطلقون على أعضاء كل عشيرة لفظة (رفقاء
الأم)
Sènnina أو (رفقاء البطن)
Dongan-Sabutuha،
وهذا دليل واضح على شيوع الأمومة عندهم في الأجيال الخالية والانتساب إلى الأم، فلم يبق
مع
كل الأدلة التي أتينا على ذكرها محل للشك في صحة تفسيرنا لكلمة بطن المستعملة عند العرب
بمعنى العائلة، ثم إن من نتائج تمسك إحدى القبائل بنظام الأمومة أن ينتسب الولد إلى أمه
ويسمَّى باسمها وهو ما لا نراه في الأنساب العربية، حيث نرى الولد ينتسب غالبًا إلى أبيه
ويسمَّى باسمه، إلا أن هذا التفاوت الظاهري لا يناقض الحقيقة التي ندافع عنها إذا اعتبرنا
اللهم ما قلناه سابقًا عن علم الأنساب عند العرب ومقدار أهميته التاريخية، فكل منَّا
يعرف
أن شجرات الأنساب ظهرت إلى عالم الوجود يوم كانت الأبوة نظام العائلة الوحيد عند العرب،
ولم
يكن للأمومة اسم يذكر، فأنسابهم إذًا ملفَّقة مغلوطة، وما سبب ذلك إلَّا الأبوة، ولكن
لدينا
بعض شواهد يظهر منها أن الأولاد كانوا ينتسبون إلى أمهاتهم ويسمون بأسمائهن، فقد ذكر
المستشرق الشهير
Nöldeke٦٥ بعض أمثال يؤخذ منها أن هذا الأمر كان شائعًا حتى بين أمراء العرب. وأهم من ذلك
أن جملة قبائل كانت تنتسب إلى أمها دون أبيها كما هو معروف مثلًا عن بني خندف من سلالة
لياس
وامرأته خندف، فقد روى أبو الفداء
٦٦ أن جميع ولد لياس من خندف المذكورة وإليها ينسبون دون أبيهم فيقولون: «بنو خندف
ولا يذكرون لياس بن مضر»، ومثلهم بنو مزينة كانوا ينسبون إلى أمهم مزينة دون أبيهم
عمرو،
٦٧ ومن هذا القبيل أيضًا ما ذكره المقريزي
٦٨ في معرض كلامه على عرب مصر من أن بني عمرو من سلالة عمرو بن سنبيس يلقبون أيضًا
ببني عقدة، وعقدة هذه أم قبيلتهم. هذا ومن لم تكفه الأدلة المذكورة على تمسك العرب بالأمومة
سابقًا نورد له براهين أخرى من شأنها أن تقنعه في صحة هذا الرأي.
إنه لبديهي أن القرابة إذا كانت من طرف الأنثى فقط، أي إذا كان الولد ينتسب إلى أمه
دون
أبيه، فلا صلة قرابة والحالة هذه بين بني العلات (أولاد أب واحد وأمهات متعددة)، ولا
حرج
عليهم أصلًا إذا تزوجوا فيما بينهم وهو الواقع، ولنا على ذلك جملة شواهد نذكر منها ما
يأتي:
جاء عن قبائل الهوفاس في جزيرة ماداغاسكر
٦٩ المتمسكين بنظام الأمومة أنهم يحلون نكاح الأخ لأخته إذا لم يكونا من أم واحدة،
وقد عرف مثل ذلك عن اليونان القدماء كما رأينا سابقًا، فقد روى أفغسطين الطوباوي مسندًا
إلى
بيرو
٧٠ أن سكان أثينا كانوا ينتسبون إلى أمهاتهم، أي إنهم كانوا متمسكين بالأمومة، كما
يؤخذ من بعض نواميس صولون الحكيم التي ترخص زواج الأخ لأخته من أبيه وتمنع ذلك إذا كانت
من
أمه، وأمثال هذا الزواج معروفة عند الشعوب السامية، وهي ولا شك من بقايا تلك الأعصر السالفة
يوم كانت لقرابة الأم أهمية أعظم مما لقرابة الأب، أي يوم كانت الأمومة شائعة بينهم،
وها
نحن موردون بعض هذه البقايا الخفية مبتدئين من العبرانيين. معلوم من التوراة أن سارة
امرأة
إبراهيم كانت أخته من أبيه كما شهد بذلك نفسه يوم قال عنها إنها «بالحقيقة أيضًا أختي
ابنة
أبي غير أنها ليست ابنة أمي» (تك ص٢٠ ع١٢)، وأن ثامار تزوج أمنون لأنها وإن تكن ابنة
داود
لكنها من غير أم كما يظهر من عبارتها الآتية: «والآن كلِّم الملك لأنه لا يمنعني عنك
(ملوك
ص١٣ ع١٣)، وأمثال هذا الزواج عديدة حتى في أيام النبي حزقيال
٧١ بدليل توبيخه لأبناء جنسه على ذلك. أمَّا أن هذا الزواج كان معروفًا عند العرب
أيضًا، فهذه من الأمور المقررة الآن، والدليل على ذلك ما ورد في هذا المعنى في تاريخ
ملوك
الحيرة.
٧٢ وفي حديث عن سكان مدينة مرباط نأتي عليه فيما بعد، حيث جاء أن الأخوة كانوا
يتزوجون شقائقهم من دون مانع، والمراد بالشقائق هنا الأخوات من أب واحد وأمهات مختلفة
(بنات
العلات)، كما نبه على ذلك
R. S. في كتابه المذكور، وأعظم
دليل على ذلك ما لأبناء الأخت من حقوق الميراث، فقد قدمنا أن حقوق الوراثة في الأمومة
تنتقل
عن طريق الأم دون الأب، بمعنى أن الأب لا ترثه أولاده بل أولاد أخته، وأغرب من ذلك أن
الأب
كثيرًا ما كان يفضِّل أولاد أخته على أولاده، لا سيما في وراثة ألقاب الشرف، حتى عند
بعض
الشعوب المتمسكة بغير نظام الأمومة، ولا سبيل إلى إدراك هذا الأمر الغريب إلَّا إذا
اعتبرناه من آثار نظام الأمومة الباقية، وأمثال ذلك كثيرة في تاريخ العرب قبل الإسلام،
فكم
من أمير ورثه في وظيفته ولقبه ابن أخته وليس ابنه، وما على المرتاب إلَّا أن يطالع تاريخ
العرب قبل الإسلام لأبي الفداء.
٧٣ وليس في هذا الأمر شيءٌ من الغرابة إذا اعتبرنا أن حقوق الميراث عند العرب كانت
تتصل إلى الأولاد عن طريق الأم لا غير؛ لأنها كانت تعد محور العائلة وأساسها، ولا سيما
يوم
كان العرب على نكاح المتعة، ويوم لم يكن للأب اسم يذكر؛ ولهذا قيل عن المتعة إنه لا ميراث
فيها، أي لا ميراث عن طريق الأب. إلَّا أنه لم تكن أهمية تذكر لهذه الأمثال المفردة الدالة
على انتساب بعض القبائل إلى أمها دون أبيها، وإلى ترخيص الزواج بين الأخوات التي من رحم
واحد، وحصر الوراثة في أولاد الأخت لو لم يكن معلومًا عندنا أن نكاح المشاركة وتعدد الأزواج
ناتجان عن تمسك العرب قديمًا بنظام الأمومة كما بيَّنَّا ذلك سابقًا، ونبيِّنه الآن معتمدين
على البراهين الآتية.
من المحقق الآن أن العرب كانت قديمًا على النكاح الخارجي، لكنها انتقلت عاجلًا إلى
النكاح
الداخلي، أي إن رجال كل قبيلة أصبحوا يتزوجون في قبيلتهم وليس في قبيلة أخرى، إلَّا أن
هذا
الأمر لم يكن من قبيل القاعدة المطردة؛ إذ منهم من كان يتزوج خارج قبيلته، لكنه والحالة
هذه
كان يلحق غالبًا بامرأته وليس بالعكس، وهي قاعدة مطردة عند بعض القبائل، كما يظهر ذلك
من
حديث ابن بطوطة عند كلامه على نساء مدينة زبيد، حيث قال:
٧٤ «… وللغريب عندهم مزيَّة، ولا يمتنعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا، فإذا
أراد السفر خرجت معه وودعته، وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع
أبوه، ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها، وإذا كان مقيمًا فهي تقنع
منه
بقليل النفقة والكسوة، لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبدًا ولو أُعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه
على أن تخرج عن بلدها لم تفعل.»
ويظهر من كلام السائح
Burton٧٥ أن هذه العادة باقية إلى اليوم عند البدو في جنوب جزيرة العرب، وإليك تعريب ما
قاله عنهم في هذا الصدد: «والمتوحشون منهم لا يمنعون بناتهم من الغريب، لكنهم يحملون
صهرهم
على الإقامة بينهم.» والذي نعرفه أن بقاء الامرأة بعد زواجها في قبيلتها وبين أهلها يعد
من
صفات الأمومة وملحقاتها. وفي هذه الحالة يتبع الولد أمه، كما يؤخذ ذلك من حديث ابن بطوطة
حيث قال: «إن الأم تكفل الولد، وتقوم بما يجب له.»
والذي نستنتجه من هذا الزواج، أي من زواج الامرأة مع رجل غريب أن نظام الأمومة أو
بعضه لا
يزال شائعًا عند بعض قبائل العرب وظاهرًا في بعض عوائد وبقايا ماثلة كادت العوائد الحديثة
تخفيها، فمن هذه الآثار الدارسة اعتقاد العرب بانتقال الصفات الطبيعية من الرجل إلى ابن
أخته، فهم يعتقدون أن الولد يشب على أخلاق خاله دون أخلاق أبيه، كما أشار إلى ذلك السائح
الجرماني
Wetzstein٧٦ بانيًا رأيه على شواهد عديدة، قال: «لم يمض على إقامتي في دمشق مدة طويلة حتى
ابتدأت أدرك ما لعلاقة الخال وابن أخته من الأهمية عند العرب، وأول ما نبَّه أفكاري إلى
هذه
العلاقة ما كنت أسمعه يوميًّا في الأزقة والشوارع من عبارات المدح والذم، كرحم الله خالك
أو
لعنه الله، إلى غير ذلك مما لا يخرج عن هذا المعنى، فكنت كلما رأيت أحدًا يقص على غيره
حكاية حسنة أو سيئة أسمع بعض الحاضرين يردد إحدى العبارات المذكورة، كأن يقول لعنه الله
أو
رحمه، والبعض الآخر يصدق على ذلك مرددًا برزانة كلمة آمين. فلو سألهم أحد من الأجانب
الذين
لم يفقهوا بعدُ معنى هذه العبارات أيصح أن تنسبوا ما فعله حديثًا ابن الأخت إلى خاله
الذي
لا يبعد أن يكون توفي قبل عشرين سنة، لأجابوه بأن ابن الأخت يرث طباع خاله.» ثم استطرد
الكاتب المذكور إلى سرد بعض أمثال وشواهد جمعها في دمشق، وجاءت معززة لهذا الاعتقاد الغريب،
منها أن العرب تعتقد أن الصبي إذا فسد أدبيًّا، فثلثا هذا الفساد من خاله انتقلا إليه
عن
طريق الإرث، والثلث الآخر منه،
٧٧ وهذا ولا شك أصل ظهور أكثر الأمثال التي لا تزال تستعمل إلى اليوم عند العرب،
منها: «قيل للبغل من أبوك قال الفرس خالي»، و«سألته عن أبوه فقال: خالي شعيب»، وأهمها
جميعًا المثل الآتي: «الأصيل يخول»، فمتى أدركنا معنى هذه الأمثال الحقيقي سهل علينا
فهم
عبارة محمد التي قالها لسعد بن أبي وقاص حين قبض على يده وقال شاكرا له خدماته العديدة:
«هذا خالي.»
قد كان في وسعنا أن نأتي على شواهد أخرى للدلالة على ما كانت تنسبه العرب من عظم
الأهمية
لما بين الخال وابن أخته من الرابطة الغريزية، وكيف أنها كانت تفتخر بشرف أخوالها وبالعكس،
كما يستفاد ذلك من كلام عمرو بن الأهتم عن الزبرقان أحد شيوخ العرب المشهورين، حيث أخذه
يذمه للنبي ويصفه بأنه «زَمِن المروءة، ضيِّق العَطن، أحمق الولد، لئيم الخال.»
٧٨ وروى أبو جعفر الطبري عن هشام بن عمرو أحد شيوخ بني تغلب أنه دخل يومًا على
الخليفة المنصور فعرض عليه أخته، فأطرق المنصور وجعل ينكث الأرض بخيزرانة في يده، وقال
اخرج
يأتك أمري … فلما ولى قال يا ربيع (اسم خادمه) لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت
أخته
وهو قوله:
لا تطلبن خئولة في تغلب
فالزنج أكرم منهم أخوالًا
فأخاف أن تلد لي ولدًا فيُعيَّر بهذا البيت.
٧٩ هذا ولا أظن أن أحدًا يستغرب من الشعراء هجوهم للأنساب كما نرى ذلك في الحديث
المذكور، إذ لم يكن هذا بالشيء النادر عند العرب، ومن الذين اشتهروا بهذا النوع الفرزدق
وأشعاره التي هجا فيها جرير أشهر من أن تذكر، ولكن يهمنا منها الشعر الآتي:
شبهت أمك يا جرير فإنها
نزعتك والأم اللئيمة تنزع
٨٠
فيؤخذ من هذه الأمثلة وأشباهها أن العرب كانت تعتقد بصلة داخلية بين الخال وابن أخته،
وأني لا أشك في أن هذا الاعتقاد أثرٌ خفيٌّ من بقايا تلك الأعصر الخالية، حيث كان الولد
يتبع نسب أمه، ولم يكن للأب أهمية تذكر، بل لم تكن بينه وبين أولاده شجنة رحم تجمعه وإياهم،
فكان الخال أقرب شخص إليهم بعد أمهم، فلا عجب والحالة هذه من شيوع هذا الاعتقاد عن العرب،
وكل ذلك من نتائج نظام الأمومة ومتعلقاتها التي لا تزال تبرهن على شيوعها عندهم في
الجاهلية. وقد كان يكفينا ما قدمناه من البراهين الملزمة والأدلة المقنعة، ولكن لدينا
شواهد
أخرى نذكر منها حالة الأرقاء وحقوقهم عند العرب.
إنه لبديهي أن حالة الأولاد في الأمومة تتوقف على حالة أمهم، وهو ما يعبر عنه الفقهاء
بقولهم: الولد يتبع الرحم
partus sequitur ventrem،
والبراهين على ذلك متواترة مقنعة. حدَّث هيرودوتس أبو التاريخ عن اللوسيين ما تعريبه:
«ولهم
عادة غريبة يمتازون بها عن سائر شعوب الأرض، وهي أنهم يُلقبون باسم أمهم دون أبيهم، فلو
سُئل أحدهم من أنت لذكر أولاً اسمه ثم اسم أمه ثم جدته وهكذا إلى آخره بدون أن يخرج عن
نسب
أمه، وأغرب من ذلك أن الامرأة عندهم إذا تزوجت عبدًا عُدَّت أولادها من الأحرار، إمَّا
إذا
كان الزوج حرَّا وامرأته أمة فولدها رقيق ولو كان أبوهم أول شخص في المملكة.» وبعبارة
أخرى
نقول إن حالة الأولاد تتوقف على حالة الأم مما ينتج عنه أن الامرأة كانت أصل ظهور وانتشار
طبقة الأعيان وليس الرجل كما توهم البعض، وهذه القاعدة لا تزال شائعة إلى اليوم بين بعض
البرابرة المتمسكين بنظام الأمومة، فإن ولد الرقيق والحرة حر، وولد الحر والأمة
عبد.»
٨١ ومثل ذلك يقال عن أكثر سكان غربي إفريقيا الذين لا يزالون على نظام الأمومة،
وأول من نبَّه الأفكار إلى هذا الأمر السائح الشهير
Bosman٨٢ عام ١٧٠٣ في كتابه المسمَّى «وصف حديث لخليج غينيا وبلاد العبيد»، حيث قال إن
كلًّا من هؤلاء البرابرة يتزوج على شاكلته، والزواج عندهم سواء، لكن بنت الملك تفضل زواج
الرقيق على الحر بعكس ما هو معروف عن ابن الملك؛ لأنه لما كان من عادة وأحكام سكان هذه
البلاد أن يتبع الأولاد أمهاتهم كانوا في الحالة الأولى أحرارًا وفي الثانية أرقاء بخلاف
ما
نشاهده في نظام الأبوة، حيث الولد يتبع حالة أبيه إلَّا أن تأثير العادة بهذا المقدار
قوي،
حتى إن القاعدة المذكورة — الولد يتبع الرحم — لا تزال إلى اليوم متبعة عند كثير من الشعوب
التي انتقلت من عهد قديم إلى طور الأبوة، وأعظم هذا التأثير ناتج عن انتشار الرق، وآثار
ذلك
باقية في كتب الفقه الجرماني المتعلقة بالأجيال الوسطى، كما نرى ذلك في مجموعة
Grimm٨٣ المسماة «فقه الجرمانيين القديم»، حيث ورد في مادة من دستور فريدريك الأول ما
تعريبه: «إذا تزوج حرٌ أمةً أو بالعكس، فالأولاد في كلتا الحالتين تتبع الأم دون الأب»،
ثم
ذكر بُعيد ذلك أن هذه الأحكام متبعة أيضًا في الدنيمارك «حيث تعد الأولاد أحرارًا إذا
كانت
أمهم حرة لا غير»، والذي نعرفه عن سكان الأرخبيل الهندي ولا سيما عن قبائل البطاس في
صوماطرة المتمسكة بنظام الأبوة، أنهم لا يزالون إلى اليوم على القاعدة المذكورة آنفًا،
فإنهم يعدون ولد الحرة والعبد «الأقفس» حرًّا، وولد الأمة والحر عبدًا، أمَّا أولاد الأرقاء
التابعين لموليين مختلفين فيخصون مولى الأم وليس مولى الأب، وذلك طبقًا للمبدأ المذكور
آنفًا، وأغرب ما نراه عند قبائل البطاس أن الأب الحر لا يقدر أن يجعل ابنه حرًّا إذا
كانت
أمه أمةً ولو كان زواجهما شرعيًّا، وبعكس ذلك الأم الحرة فإن ابنها حر ولو كان زوجها
رقيقًا، فمن أين يا تُرى هذا التفاوت في حقوق الأرقاء وكيف يعبر عنه؟ لا ريب عندي أن
ذلك
بقية من بقايا نظام الأمومة القديم ولا يعبر عنه الأب.
إن ما ذكرناه عن الرق ونتائجه عند قبائل البطاس وغيرهم ينطبق تمامًا على العرب أيضًا،
فمن
يجهل يا ترى أن من حدود الإسلام أن يتبع الولد أمه، فابن الحرة حر وابن الأمة عبد مملوك
لسيدها، ومثل العرب مثل البطاس من أن ولد الرقيقين التابعين لموليين مختلفين يتبع مولى
الأم، كما يؤخذ ذلك من عبارة لابن قاسم الفقيه وهي: «ومَن أصاب أي وطئ أمة غيره بنكاح
أو
زنا وأحبلها فالولد منها مملوك لسيدها.»
٨٤ والمراد هنا بكلمة «مَن» الرقيق وليس الحر؛ إذ لو عَنى صاحب المتن هذا الأخير
لصرح بذلك بما لا يبقى معه محل للالتباس، نعم إن مجمل ما يستفاد من كلام الشارح أن العبارة
يجب على الأقل أن تُحمل على الإطلاق لكنه ذكر بُعيد ذلك أن الولد مملوك لسيد الأمة «لأن
الولد يتبع أمه في الرق والحرية»، فكيفما قلَّبنا العبارة وفسرناها نرجع إلى القاعدة
الأساسية المذكورة، وهي «الولد يتبع الرحم»، وهذه القاعدة لا يهمها إذا كان زوج الأمة
عبدًا
أو حرًّا.
أمَّا أن هذه القاعدة بقية من بقايا نظام الأمومة انتقلت إلى الإسلام من الجاهلية
فهذا لا
يسع أحد الاعتراض عليه بعد الذي قدَّمناه من الأدلة عند كلامنا على الخئولة وأهمية الانتساب
إلى الأم ورفيع منزلتها عندهم يوم كانت الأمومة نظام العائلة الوحيد، فقد تبين من الأمثال
العربية التي جمعها
Freytag
و
Burckhardt٨٥ أن العرب كانوا إذا أرادوا أن يقفوا على حالة المرء يسألونه عن خاله وليس عن
أبيه، ثم رأينا أيضًا أن أصل طبقة الأعيان ومصدرها هي الامرأة وليس الرجل، وآثار ذلك
ظاهرة
حتى في عصر الخلفاء يوم كانت العرب تؤثر نسب الامرأة على نسب الرجل في حفظ شرف العائلة،
إلَّا أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلًا حتى طرأ عليه من الآراء الحديثة ما غيَّره بالكلية
وحمل العرب على التساهل في أمر المحافظة على شرف النسب، كما بيَّن ذلك المستشرق الذائع
الصيت
Von Kremer٨٦ في كتابه المذكور آنفًا، حيث قال إن آراء العرب القديمة عن شرف النسب فقدت
أهميتها وسلطتها على العقول؛ وذلك لأن أفكارهم تغيرت تمامًا يوم صاروا ينسبون أهمية واحدة
في حفظ شرف النسب لأصل الأبوين، فكان من نتائج هذا التغيير التدريجي أن استحال على ابن
الأمة أو الجارية أن يرث عرش الملك حتى في عصر أول خلفاء الإسلام ولو كان أبوه خليفة،
ولقد
حاول أحد خلفاء بني أميَّة أن يجري على عكس ذلك فلم يفلح؛ إذ لما كانت العرب تنظر بعين
الاحتقار إلى أولاد الأمة أصبحت تنسب أهمية عظمى إلى نسب الأم أيضًا.
من المسائل التي لها علاقة بما ذكرناه والتي لا بدَّ لنا من حلها المسألة الآتية:
هل كان
الزواج الخارجي معروفًا عند العرب أم لا؟ كنَّا قدمنا أن الزواج الداخلي قد يحل في الأمومة
محل الزواج الخارجي حتى في الأعصر السالفة، وأمثال ذلك عديدة نقتصر هنا على البعض منها،
إلَّا أنَّا قبل الشروع في ذلك نحب أن ننبه القارئ اللبيب إلى أمر ذي بال وهو أن
R. S. يعتقد أن العرب كانت في بادي الأمر على الزواج
الخارجي، ودليله على ذلك ما قاله الكاتب الإنكليزي لينان المذكور عن أصل هذا الزواج وأسباب
ظهوره، وهو أنه ناتج عن وأد العرب لبناتهم مما قلل في عددهن واضطر الرجال إلى طلبهن في
غير
قبائلهم، نعم لا ننكر أن هذه العادة الشنيعة كانت شائعة بين العرب، فكانوا يئدون بناتهم
بُعيد ظهورهن إلى عالم الوجود بما أمكن من السرعة،
٨٧ وقد ورد في أمثالهم ما يُستفاد من مدحهم لهذه العادة من ذلك قولهم «تقديم الحرم
من النعم» و«دفن البنات من المكرمات»، أمَّا سبب وأدهم لهن فكان إمَّا لخوفهم من لحوق
العار
بهم من أجلهن أو للتخلص من مؤنة تربيتهن.
٨٨
فلما ظهر صاحب الشريعة الإسلامية أمر بتحريم
٨٩ هذه العادة التي بنى عليها
R. S. رأيه في
الزواج الخارجي عند العرب، إلَّا أن ما قاله عن هذه العادة الكاتب
R.
S. الذي اعتمد عليه
Lenan يعسر قبوله
على الإطلاق، وأول ما يُعترض عليه أن وأد البنات لم يقلل من عدد النساء، وإليك بيان ذلك.
يظهر أن
Lenan لم يلتفت حين كتب ما كتبه إلى أمر جدير
بالاعتبار أحر به أن يكون ناموسًا طبيعيًّا لأهميته العمومية، وهو أن عدد البنات كان
دائمًا
ولا يزال إلى اليوم أكثر من عدد الصبيان، وإن يكن ما تقلعه الأرحام سنويًّا من الذكور
أكثر
مما تقلعه من البنات، إلَّا أن إحصاءات الأمم الأوروبية متضافرة على أن عدد ما يُتوفى
سنويًّا من الأطفال الذكور أكثر بما لا يُقاس من عدد البنات، ثم زد على ذلك أن الرجل
في
عنفوان شبابه بل في سائر أطوار حياته أكثر تعرضًا للخطر من الامرأة، وكل ذلك يقلل من
عدد
الذكور ويقربه كثيرًا من عدد البنات، والمعروف من التاريخ والتأملات البسيطة أن الشعوب
الغير متمدنة أقرب إلى هذا الناموس من غيرها؛ إذ لما كانت الأمم المتوحشة في قتال دائم
ونزاع مستمر مع وحوش الأحراش للحصول على أهم ما تحتاج إليه من الطعام واللباس كان عدد
وفيات
الرجال بينها عظيمًا جدًّا بالنسبة إلى عدد وفيات الإناث،
٩٠ فإن صيد الكواسر ودفع العدو كان منوطًا كما هو معروف بالرجال، فلا غرابة
والحالة هذه إذا زاد عدد نساء القبائل المتوحشة على عدد رجالها. وأول ما نستنتجه من هذه
الحقيقة المقررة أن وأد قسم من البنات عند بعض القبائل الغير متمدنة وعدم مس الذكور بضرر
لم
يُحدثا تأثيرًا بيِّنًا على الموازنة بين عدد الذكور والإناث بينها، وأنه وإن كنَّا نشاهد
أحيانًا عكس ذلك عند بعض القبائل، أي زيادة الذكور على الإناث، لكنَّا لم نسمع أبدًا
أن أمة
أو قبيلة شعرت يومًا بنقصان في عدد نسائها، فمن هنا يتبين غلط
Lenan وفساد الأساس الذي بنى عليه رأيه في الزواج
الخارجي. هذا ومع تسليمنا أن ما استنتجه من شيوع الوأد عند بعض القبائل هو حقيقة مقررة،
فلا
تكفي وحدها للتعبير عن انتشار الزواج الخارجي عند بعض القبائل؛ لأنَّا لو فرضنا أن وأد
البنات يؤدي إلى تقليل عدد النساء في إحدى القبائل، وبالتالي إلى الزواج الخارجي لوجب
أن
نقول بأن العادة نفسها تؤدي إلى نفس هذا الأمر عند سائر القبائل أيضًا، وهو ما يجعل الزواج
الخارجي مستحيلًا أو عسرًا على الأقل،
٩١ فكل ذلك يحدو بنا إلى القول إن لشيوع الزواج الخارجي عند العرب أسبابًا غير
التي ذكرها لينان و
R. S. وكيلا نطيل الشرح نقول إن السبب
الحقيقي هو شدة كره العرب لزواج القرابة، والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصى وإليك
بعضها.
قال المستشرق الشهير غولد تسيغير نقلًا عن
R. S. إن من
جملة الأقوال الحكيمة التي أبقاها عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة وصيته لأولاده
وهي:
«لا تتزوجوا في حيِّكم، فإنه يؤدي إلى قبيح البغض،
٩٢ ثم أورد المثل الآتي الذي يستدل منه على عظم كراهية العرب للزواج داخل الحي،
وهو «النزائع لا القرائب».
٩٣ ومما يستحق الذكر هنا أنه حيثما يرد ذكر هذا المثل تراه مسندًا إلى الحديث
الآتي «اغتربوا لا تضووا»، والعرب تعتقد أن أولاد ذوي القرابة تجيء ضعيفة نحيفة، وعليه
فمن
أحب أن يكون نسله قويًّا نجيبًا فلينكح غريبة، كما أن من أراد أن يحصل على أثمار طيبة
من
غصن يطعمه لجذع من غير شجرة.
٩٤ ولم يكن هذا الاعتقاد محصورًا في عرب الجاهلية، بل هو ظاهر في مؤلفات علماء
الفقه الإسلامي، فقد ورد في شرح البيجوري لابن قاسم أنه يستحب عقد الزواج على الغريبات
أو
ذوات القرابة البعيدة؛
٩٥ وذلك لأن أولاد ذوات القرابة نحفاء ضعفاء لضعف الشهوة معهن، إلَّا أن هذا الأمر
يخالف بالظاهر ما هو معروف قديمًا عن العرب من أنهم كانوا يفضلون نكاح بنات العم على
غيرهن،
لكنَّا لو تمعنَّا جيدًا في المسألة لما وجدنا فيها شيئًا من المناقضة؛ لأن كلًا من العرب
كان يلقب محبوبته ببنت عمه وحماه بعمه، وإن لم تكن بين الطرفين شجنة رحم، ولكن ما السبب
في
إطلاق لفظة عم على الحمو وبنت عم على ابنته؟ ذلك ما لا يسعنا فهمه على ما أظن إلَّا إذا
سلمنا بتمسك العرب قديمًا بالأمومة والزواج الخارجي، حيث كان يصح لأولاد الأخوة الذين
نساؤهم من قبائل مختلفة أن يتزوجوا فيما بينهم، وذلك ليس لأنهم يتبعون في هذه الحالة
أمهم؛
بل لأنه لم تكن حقيقة صلة قرابة بينهم كما أشرنا إلى ذلك سابقًا عند كلامنا على الأمومة
ونتائجها، وبيان ذلك أن من تطلبات قرابة الأم النافية لقرابة الأب أن يتبع الولد خاله
وليس
أباه، فإذا كانت هذه حالة الأولاد مع أبيهم فكيف تكون حالتهم مع أعمامهم وأولاد أعمامهم،
فالزواج بين أبناء وبنات العم لم يكن إذًا في ذلك العهد زواج قرابة، فكانوا يقدمون عليه
غير
خائفين من نتائجه الوخيمة.
٩٦ لكنهم لما استعاضوا فيما بعد عن الأمومة بالأبوة تغيرت أفكارهم بخصوص هذا
النكاح، نعم إن الزواج بين أبناء وبنات العام بقي شائعًا في نظام الأبوة أيضًا، لكنه
أصبح
ثمَّ داخليًّا أي زواج قرابة، فلا عجب والحالة هذه إذا أصبحوا يعدونه من النكاحات المضرة
والغير مستحبة كما يستدل على ذلك من قول أعرابي يمدح صاحبه:
ألا فتى نال العلى بهمه
ليس أبوه بابن عم أمه
ترى الرجال تهتدي بأمه
وحُكيَ عن عمر أنه سأل يومًا عن سبب قصور قامات بني قريش فقيل له إن ذلك نتيجة تزوجهم
ببنات أعمامهم، فأمر لوقته بتحريم هذا الزواج، لكن هذه العادة القديمة لا تزال متبعة
إلى
اليوم عند بعض قبائل العرب. كما يستفاد ذلك من أخبار بعض السياح العصريين، فقد ذكر
بوركخارد
٩٧ أن «البدو لا يزالون إلى اليوم متمسكين بالعادة القديمة، وهي أن لأكبر أبناء
العم حق التزوج بابنة عمه، فلا يقدر أبوها أن يمنعها عنه إذا دفع اللهم ثمنها تمامًا،
والثمن الذي يدفعه ابن العم لعمه أقل دائمًا مما يدفعه الغريب.» وقال
Burton٩٨ «إنه يحق لكل بدوي أن يتزوج ابنة عمه قبل أن يبني عليها غيرها من غير ذوي
القرابة، وهذ أصل إطلاقهم مجازًا كلمة بنت العم على الامرأة عمومًا.»
ثم إنه رغمًا عمَّا هو شائع بينهم اليوم مما لنكاح بنات العم من سوء العاقبة، فلا
يزال
هذا الزواج مستحبًّا عندهم ومفضَّلًا على غيره، وكل ذلك يدل على رسوخ هذه العادة في طباعهم،
ولا يعبر عنه إلَّا بوجود الأمومة سابقًا عندهم حين لم يكن يُعدُّ هذا الزواج من زواجات
القرابة، وبالتالي لم يكونوا يعدونه مضرًّا، وفي ذلك شاهد على أن العرب في بادئ الأمر،
أي
في دور الأمومة كانوا يستعملون النكاح الخارجي مما نتج عن الزواج بين أولاد الأعمام وبقاء
هذه العادة حتى في دور الأبوة، إلَّا أن الزواج الخارجي تحول بهذه الطريقة إلى زواج داخلي،
والمعروف عن هذا الزواج الأخير أنه كان مستعملًا عند العرب قبل محمد، فقد ذكر الشهرستاني
أنهم كانوا يخطبون الامرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها، فإن كان قريب القرابة من قومه
قال
لها أبوها أو أخوها إذا حُمِلت إليه: «أيسرت وأذكرت ولا أنثت، جعل الله منك عددًا وعزًّا
وخلدًا، حسِّني خلقك وأكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء. وإذا تزوجت في غربة قال لها: لا
أيسرت
ولا أذكرت، فإنك تدنين البعداء وتلدين الأعداء، حسِّني خلقك وتحببي إلى أحمائك، فإن لهم
عينًا ناظرة عليك وأذنًا سامعة وليكن طيبك الماء.»
٩٩ فيؤخذ من هذا الحديث أن الزواج الداخلي أصبح في دور الأبوة قاعدة مطردة عند
العرب.
ومن الأدلة على أن ذلك الزواج الخارجي عند القبائل المتمسكة بنظام الأبوة أصبح مع
ندوره
يشبه البيع المطلق، وبيان ذلك أن أهل الفتاة وأقاربها صاروا يبيعونها للأجانب بيع السلع
ويقبضون ثمنها بعكس ما هو جار في الزواج الداخلي، نعم لا ننكر أن للمهر دخلًا في هذا
الزواج
أيضًا، إلَّا أن بين المهر والثمن بونًا شاسعًا، كما يُستفاد ذلك مما هو معروف عن العرب
من
أن المهر يخص البنت وليس أبويها أو أقاربها.
وقد حاول البعض أن يبرهن على أن الأمر لم يكن قبلًا على هذه الصورة، وأن العرب قبل
الإسلام كانوا يعدون الزواج من قبيل البيع والشراء، بمعنى أن أبوي الفتاة أو من كان يقوم
مقامهما كان يبيعانها بيع السلع، ويُكرهانها على الاقتران بمن أرادوا لا بمن أرادت، وهذا
وإن صح في بعض الأحيان لكنه لا يصح في الإطلاق، فإن حالة الامرأة في الجاهلية تنفي هذا
الزعم وتناقضه من وجوه، فقد عُرِف عن الامرأة في الجاهلية أنها كانت حرة في اختيار زوجها
بدون أقل معارضة من قبل ذويها، كما نرى ذلك في نكاح المتعة ونكاح الذواق، وكما هو معروف
عن
أم خارجة وغيرها.
وأبعد من ذلك في الدليل على حرية المرأة الجاهلية أنها كانت تعرض أحيانًا يدها على من
تختاره من الرجال كخديجة امرأة النبي وغيرها. وقد حُكيَ عن إسمعيل بن محمد المعروف بالسيد
الحميري من شعراء النصف الأول للجيل الثاني بعد الهجرة «أنه اجتمع في طريقه بامرأة تميمية
إباضية، فأعجبها وقالت: أريد أن أتزوج بك ونحن على ظهر الطريق، قال: يكون كنكاح أم خارجة
قبل حضور ولي ولا شهود، فاستضحكت وقالت: ننظر في هذا، قالت: أفليس التزويج إذا علم انكشف
معه المستور وظهرت خفيات الأمور، قال: أنا أعرض عليك أخرى، قالت: ما هي؟ قال المتعة التي
لا
يعلم بها أحد، قالت: تلك أخت الزنا، قال: أعيذك بالله أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان،
فإن
الله عز وجل قال:
فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن
بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، فقالت: ألا تستخير الله وأقلدك إن كنت صاحب قياس، قال: قد
فعلت، فانصرفت معه وبات معرِّسًا بها وبلغ أهلها من الخوارج أمرها فتوعدوها بالقتال،
وقالوا: تزوجت بكافر فجحدت ذلك، ولم يعلموا بالمتعة، فكانت مرة تختلف إليه على هذا السبيل
من المتعة وتواصله حتى افترقا.
١٠٠ ولا يقل عن ذلك أهمية في بيان حال الامرأة في الجاهلية ما كان لها من حق
الطلاق، فكانت والرجل في هذا الأمر سواء كما هو معروف عن أم خارجة وغيرها.
ذكر صاحب كتاب الأغاني «أن النساء في الجاهلية كن يطلقن رجالهن، وكان طلاقهن أنهن إن
كنَّ
في بيت من شعر حوَّلن الخباء إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب وإن كان بابه قبل
اليمن حولنه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها.» وقد بقيت الامرأة
محافظة على هذه الحرية في أمر الزواج إلى ما بعد الإسلام بمدة، فقد شهد المستشرق
Von Kremer في معرض كلامه عن الخلفاء الراشدين «أن
الامرأة في هذا العصر كانت حرة في اختيار بعلها، وأقوى شاهد على ذلك أن امرأة أحد الخلفاء
تزوجت بعد وفاته رجلًا غيره من غير ذوي اليسار، ولكن من عائلة عريقة في الشرف، فأعطته
كل ما
ورثته عن زوجها الأول من القناطير المقنطرة، لكنها طلقته لما علمت أنه يتردد إلى غيرها
من
الجواري.»
١٠١ وهذا شاهد صريح على ما كان للامرأة في الجاهلية من الحرية مما لا يبقى معه محل
لزواج البيع، لكنهم اعترضوا على هذا الاستنتاج بأمرين أولهما وأهمهما أن الأنثى في الجاهلية
كانت محرومة من حقوق الوراثة، فلم تكن الزوجة ترث أباها لأن بيعها عند الزواج كان يقطع
كل
صلة مع عائلتها ويحرمها الاشتراك فيما لأعضاء عائلتها من الحقوق، فكانت إحدى نتائج زواجها
الضرورية إضاعة حريتها
capitis deminutio، فلم تكن ترث من
زوجها إلَّا الشيء الزهيد.
لكنها لما كانت نوعًا ما سلعة من سلع زوجها الذي اشتراها من أهلها كانت تعد لذلك من
جملة
موروثاته، فكانت إذا مات عنها زوجها — وهذا هو الاعتراض الثاني — تلحق بأحد أقاربه كأخيه
أو
عمه أو ابن أخيه أو من تبناه، وكلا هذين الأمرين المتعلقين بزواج البيع وهما حرمان الامرأة
من الميراث وإلحاقها بأحد أقارب زوجها المتوفى معروفان عند العرب أيضًا، وهو ما يناقض
في
الظاهر ما قررناه سابقًا من عدم شيوع زواج البيع بين العرب وحرية الامرأة عندهم، فلا
بد
والحالة هذه من البحث عن هذا التناقض الظاهري.
نصَّ القرآن (سورة النساء آية ٧) على أن
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا، وزاد المفسِّر أن سبب نزول هذه الآية «أن أوس
١٠٢ بن صامت الأنصاري ممن قتلوا في موقعة أحد التعساء خلف زوجته أم كحَّة وثلاث
بنات، فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن على سنة الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورِّثون النساء
والأطفال، ويقولون إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة.» فجاءت أم كحة إلى النبي وشكت إليه
أمرها فبعث إليهما «لا تفرقا من مال أوس شيئًا، فإن الله قد جعل لهن نصيبًا ولم يبيِّن
حتى
يبيَّن»، فنزلت «يوصيكم الله» الآية، فأعطى أم كحة الثُمن والبنات الثلثين والباقي ابني
العم.
١٠٣ فهل ينتج من هذا الحديث أن النساء كانت محرومة من الميراث «على سنة الجاهلية؟»
كلا لعمري، وأول اعتراض على ذلك نجده في نفس الحديث المذكور، وذلك أنه لو كان من عادات
العرب ألَّا ترث النساء شيئًا لما تجرأت أم كحة أن تشتكي إلى محمد على أولاد عم زوجها،
وأقوى من ذلك في الدلالة على صحة رأينا نفس العبارة التي استعملتها أم كحة حين جاءت تشتكي
إلى النبي، فقد روى الواقدي في كتاب المغازي أنها قالت للنبي «لقد مات بعلي فانتقل الميراث
إلى أخيه، وبقيت بناته بدون مال، ولكن أنى للبنات أن يتزوجن إذا لم يكن لديهن مال.» (انظر
كتاب المغازي، ترجمة وطبع
Wellhausen، صفحة ١٤٧، عربَّناه
حرفيًّا. م).
ثم لو لم يكن للنساء نصيب في الميراث لما كان في وسعهن أن يقدمن شيئًا لبعولهن قبل
الزواج
كما يُستفاد من الحديث المذكور، فلا بد والحالة هذه من التسليم بأن حرمان المرأة في
الجاهلية من الميراث لم يكن قاعدة مطردة، بل إنه طرأ عليهن بعد ذلك، والأدلة على ذلك
أكثر
من أن تُحصى، نجتزئ منها بما يأتي.
كل من طالع الأحاديث الإسلامية يعلم أنَّها متضافرة في الدلالة على استقلال الامرأة،
وتمتعها بتمام الحرية في أول الإسلام، وأن الامرأة لعبت دورًا مهمًّا في المجتمع الإسلامي
لأول عهده، فقد عُرف عن بعضهن أنَّهن ساعدن النبي أكثر من مرة، إن كان بالدينار لسد
احتياجاته الشخصية والعمومية، أو بالنصائح المفيدة المخلصة، وكل منَّا يعرف أن خديجة
قبل أن
يتزوجها النبي كانت تتعاطي حرفة التجارة بنفسها، وتكسب أرباحًا طائلة، فهل يستدل من هذا
على
أن حرمان النساء من الميراث كان «عادة» عند العرب؟ فلا شكَّ أنَّها كانت محصورة في بعض
القبائل لا غير، بل كانت من قبيل الشواذ عندهم وليس من العادات الشاملة لكل القبائل.
بقي علينا الآن أن نبحث عن الاعتراض الثاني المباين في الظاهر لآرائنا السابقة، ألا
وهو
لحوق الأرملة بأحد أقارب زوجها بعد وفاته عنها.
أمَّا أن هذه العادة كانت معروفة عند العرب فهذا ما لا ننكره أصلًا، والدليل على وجودها
عندهم سابقًا نهي القرآن عنها (سورة النساء آية ١٩) حيث جاء:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهًا،
١٠٤ وزاد المفسرون في شرح هذه الآية أن من عادات الجاهلية أن الرجل إذا مات عن
امرأة وله عصبة (أي بنون أو أخوة أو أقارب من صلب واحد) قام من كان أحقهم بها وألقى ثوبه
عليها.
١٠٥ إلَّا أنه من الغلط الفاحش أن نعتبر هذه العادة قاعدة مطردة؛ إذ قد عُرف عن
كثير من نساء الجاهلية أنهن كن بعد وفاة أزواجهن يتصرفن في أعمالهن كيفما شئن ويتزوجن
مَن
أردنه إذا ملن إلى الزواج ثانية، وما على المرتاب إلَّا أن يذكر خديجة
١٠٦ امرأة النبي وحديثها معه. فلم يبق محل للشك في أن العادة المذكورة كانت محصورة
في بعض القبائل لا غير، والدليل على ذلك أقوال كتبة العرب عنها، فقد ذكر الشهرستاني أن
أحق
شخص بامرأة المتوفى ابن زوجها
١٠٧ الأكبر، لكنه نبَّه في المحل ذاته على أن العرب في الجاهلية كانوا يقبحون من
كان يخلف على امرأة أبيه وكانوا يسمُّون من فعل ذلك الظيزن.
١٠٨ وقال آخر إنهم كانوا يسمُّون هذا النكاح نكاح المقت.
١٠٩ فإذا سلَّمنا بذلك، أي بأن العادة المذكورة كانت من الظواهر النادرة المستعملة
عند بعض القبائل فقد زال الخلاف، وتحقق ما قلناه عن نوع الزواج في الجاهلية.
١١٠
خلاصة ما ذكرناه على صفحات هذا الكتيب الأخيرة هو أن نكاح البيع في الجاهلية نشأ في
دور
الأبوة عن الزواج الخارجي، وعكس ذلك نكاح الاختيار فإنه ناتج عن الزواج الداخلي المؤسس
على
اتفاق الطرفين ومحبتهما المتبادلة. فمن هنا يتضح جليًّا أن المهر لم يكن فيما عدا الحالة
الأولى من قبيل الثمن الذي كان ينقده الرجل لأهل امرأته، بل كان في ذلك العهد كما نرى
ذلك
في المتعة ما هو عليه اليوم في الإسلام، أي هدية يقدمها الرجل للامرأة في مقابلة استمتاعه
بها والسلام.