طرق جديدة لرؤية العالم
مقاومة الادعاءات الكبرى
يعتمد جزء كبير من نظريةِ ما بعد الحداثة على الالتزام بموقف متشكك، وتلعب مساهمة الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار في هذا الإطار دورًا محوريًّا؛ إذ زعم في كتابه «حالة ما بعد الحداثة» (الذي نُشِر بالفرنسية عام ١٩٧٩، وبالإنجليزية عام ١٩٨٤) أننا نعيش الآن في حقبة تمر فيها «النصوص السردية الرئيسية» المشرَّعة بأزمة وتشهد تراجعًا. تضم الفلسفات الكبرى، مثل الكانطية والهيجلية والماركسية، تلك النصوص السردية أو تشير إليها ضمنًا؛ إذ تزعم هذه الفلسفات أن التاريخ تقدميٌّ، وأن المعرفة ستحرِّرنا، وأن وحدة خفية تجمع بين جميع أشكال المعرفة. يهاجم ليوتار سرديتين رئيسيتين: السردية التي تدفع بالتحرُّر التدريجي للبشرية — بدءًا من الخلاص المسيحي إلى اليوتوبيا الماركسية — والسردية التي تتناول انتصار العلم. يرى ليوتار أن تلك المعتقدات قد «فقدت مصداقيتها» منذ الحرب العالمية الثانية: «باختصار شديد، أُعرِّف «ما بعد الحداثة» باعتبارها تشكُّكًا موجهًا إلى الادعاءات الكبرى.»
تهدف تلك الادعاءات الكبرى عادةً إلى إضفاء شكل من الشرعية أو السلطة على الممارسات الثقافية. (ومن ثمَّ، فإن إضفاء الشرعية على النظريات الفرويدية أو الماركسية ينبع من زعمها — الذي لم يعد مقبولًا على نطاق واسع حاليًّا — أنها قائمة على مبادئ أو ادعاءات علمية كبرى.) مثال آخر على هذا هو التاريخ المدرسي الذي يروي قصة كتابة «دستور الولايات المتحدة» وإجراءات سَنِّ القوانين اللاحقة على أيدي الآباء المؤسسين. إن هذه الحكاية التاريخية الكبرى، بما تحتويه من «مبادئ مؤسِّسة» دستورية، ما زالت إلى حدٍّ كبير مصدر قلق مستمر في الخلافات الدائرة حاليًّا في الولايات المتحدة حول حدود حرية التعبير، والحق في الإجهاض، وحق المواطنين الأمريكيين العاديين في حمل السلاح. ومثال بسيط آخر على الادعاءات الكبرى هو الإيمان الماركسي بالدور المميز والحتمي للطبقة العاملة (البروليتاريا) — عند تحالفها مع الحزب — في إشعال الثورة ثم في تأسيس المدينة الفاضلة التي من المفترض أن تعقب ذلك، عندما «تتلاشى الدولة». منذ عام ١٩٤٥، طوَّرت حكومات الكثير من الأراضي المستعمَرة سابقًا على نحو مماثل ادعاءات سياسية طامحة إلى الهيمنة حول تاريخ الكفاح القومي. من الصعب تجنُّب تلك الادعاءات، وستجدها لدى جميع الدول القومية تقريبًا.
على الرغم من وجود أسباب ليبرالية ومنطقية تبرر معارضة تلك «الادعاءات الكبرى» (لأنها لا تسمح بأي خلاف حول معناها، وغالبًا ما تؤدي إلى قمع شمولي)، فإن مصداقية زعم ليوتار بتراجع الادعاءات الكبرى في أواخر القرن العشرين تعتمد في النهاية على احتكام إلى الحالة الثقافية السائدة لدى أقلية مثقفة. أما الزعم العام «من منظور علم الاجتماع» بتراجع تلك الادعاءات في عصرنا فيبدو واهيًا إلى حدٍّ كبير — حتى بعد انهيار الماركسية التي ترعاها الدولة في الغرب — بما أن الامتثال إلى معتقدات قومية ودينية شمولية واسعة النطاق يؤدي حاليًّا إلى كثير من القمع والعنف والحرب في أيرلندا الشمالية وصربيا والشرق الأوسط وغيرها من الأماكن. (لكن ما بعد الحداثيين لا يحظون عادةً بمعرفة واسعة بالممارسات السائدة حاليًّا في العلم والدين.) فمن الواضح لأيٍّ من قُراء الصحف أن الرجال والنساء ما زالوا إلى حدٍّ ما مستعدين لقتل بعضهم البعض باسم الادعاءات الكبرى كل يوم، كما يتضح في الفتوى الصادرة ضد سلمان رشدي على سبيل المثال. في الواقع، إن الدافع وراء الثقة الشديدة التي يبديها ما بعد الحداثيين في تحليلهم العدائي للمجتمعات الأوروبية والأمريكية من حولهم في سبعينيات القرن العشرين قد يرجع بالفعل إلى أن تلك المجتمعات لم تمزقها النزاعات بين أيديولوجيات متناقضة. وربما كان التفكير في المزاعم المتعارضة بين الإسلام واليهودية في الشرق الأوسط، أو بين الماركسية والعملية الديمقراطية في أوروبا الشرقية، يقودهم إلى استنتاجات مختلفة. لكن التشكك حيال الارتباط بالادعاءات الكبرى الذي روَّج له ليوتار، وتردَّد صداه لدى دريدا وكثير غيرهما من أتباع ما بعد الحداثة، تمتع بجاذبية كبيرة لدى جيلٍ تَربَّى في الديمقراطيات الغربية؛ إذ تمتع أبناء هذا الجيل بتحرر نسبي من النظام اللاهوتي عبر الوجودية، وتأثروا بالمقاومة ضد الرأسمالية والتحالف العسكري الصناعي عام ١٩٦٨، وتشككوا في الادعاءات «الاستعمارية» الأمريكية، وأهم من ذلك ربما شعروا بالحاجة إلى الهرب من العبارات الأيديولوجية المانوية المبتذلة ذات التأثير المميت التي سادت خلال الحرب الباردة.
بناءً على ذلك، أصبح موقف بعد الحداثيين المبدئي هو التشكك في الادعاءات بوجود أي نوع من التفسير الجامع الشامل. فلم يكن ليوتار هو وحده من رأى أن مهمة المثقفين هي «المقاومة»، حتى إن كانت في وجه «إجماع» «أصبح باليًا ومشكوكًا في قيمته». استجاب ما بعد الحداثيين إلى هذه الرؤية، مدفوعين جزئيًّا بسبب جيد؛ ألا وهو التمكن من الانحياز إلى جانب مَنْ لا «يتلاءمون» مع الأطر العامة — أي التابعين والمهمَّشين — ضد مَنْ يتمتعون بسلطة نشر الادعاءات الكبرى؛ ومن ثمَّ، كان العديد من مثقفي ما بعد الحداثة يعتبرون أنفسهم روَّادًا ومعارضين شجعانًا. وكان هذا مؤشرًا على بداية عصر تعددي؛ حيث إنه — كما سنرى لاحقًا — تعتبر نقاشات العلماء والمؤرخين كذلك مجرد ادعاءات شبه مكتملة تتنافس مع جميع الادعاءات الأخرى لحيازة القبول. لا يملك ما بعد الحداثيين رؤيةً فريدة وموثوقًا بها تتناسب مع العالم، ولا توافقًا محددًا مع الواقع؛ فتلك الأمور لا تزيد عن كونها صورة أخرى من صور الحكايات الخيالية.
بما أن معارضة تلك الادعاءات (ولا سيَّما الأنواع الشمولية أو الاستبدادية) هي بالطبع قضية ليبرالية تقليدية بمعنى الكلمة، فقد انشغل الكثير من كتابات ما بعد الحداثة البارزة بالتعبير عن هذا النوع من الشك لأغراض ليبرالية في الأساس، كما في أعمال إدوارد سعيد على سبيل المثال، الذي حاول في كتابه «الاستشراق» (١٩٧٨) توضيح التأثيرات المشوهة الناتجة عن إسقاط ادعاء الإمبريالية الغربية الكبرى على المجتمعات الشرقية؛ إذ كان الإمبريالي يعتبر نفسه ممثلًا لنظام عقلاني منظَّم، سلمي، ملتزم بالقانون، بينما يعرِّف الشرقيين باعتبارهم نقيض هذا (كما يتضح، على سبيل المثال، في «حالة الاضطراب» التي يكتشفها فورستر في روايته «ممر إلى الهند»)، ويثق بأن تمثيله «لهم» — أي نصَّه السردي عن «الاستشراق» — سيسود؛ ومن ثمَّ، فُرضِت الرؤية الإمبريالية الرئيسية حول التطور التدريجي على ممارسة شرقية محلية — بل «منحرفة» — ليس إلَّا. في هذا الإطار يسير سعيد على خطى فوكو، ومذهب اليوهيمرية لدى الإغريق ولدى نيتشه، في الاعتقاد بأن تلك الادعاءات السياسية الكبرى هي على أحسن تقدير محاولاتٌ تتعمد الغموض لإبقاء بعض الفئات الاجتماعية في موقع السلطة وحرمان الآخرين منها. يلاحظ سعيد أنه عندما مارس فلوبير الجنس مع محظية مصرية — تُدعى كوتشوك هانم — كتب إلى لويز كوليه قائلًا: «المرأة الشرقية ليست سوى آلة، فهي لا تفرق بين رجل وآخر.» ومن خلال تلك الكلمات (وفي رواياته اللاحقة)، قدَّم فلوبير «نموذجًا بالغ التأثير للمرأة الشرقية». لكن داخل نص فلوبير السردي المؤثر، «لا تتحدث (كوتشوك) عن نفسها أبدًا، ولا تعبر عن مشاعرها أو وجودها أو تاريخها.» في وسعنا الآن أن نتخيَّل مدى الاختلاف الأكيد للرواية التي أوردتها للأحداث، لكن إطارَي السرد — لدى كلٍّ من فلوبير وكوتشوك هانم — على ما يبدو غير متكافئين حضاريًّا، ومن هنا ينبع استنتاج ما بعد حداثي نموذجي يدفع باستحالة إيجاد الحقيقة الشاملة وبأن النسبية هي قدرنا.
التفكيكية
إنَّ الثقة التي عبَّر بها ما بعد الحداثيين عن تلك المزاعم تأثرت إلى حدٍّ هائل بقراءة أعمال جاك دريدا الفلسفية، الذي تعكس كتاباتُه الغزيرةُ الشكلَ الأشدَّ تعقيدًا من هذا الموقف «التفكيكي».
يعتمد النقاش المحوري في التفكيكية على مبدأ النسبية؛ أي الرأي القائل بأن الحقيقة في حدِّ ذاتها نسبية؛ إذ تُبنى دومًا حسب وجهات النظر المختلفة والنظم الفكرية المُعِدَّة للشخص الذي يبدي رأيه. من الصعب إذن الزعم بأن التفكيكيين يلتزمون بأي شيء في وضوح الأطروحات الفلسفية. في الواقع، إن محاولة تعريف التفكيكية تتحدى أحد مبادئها الرئيسية؛ وهي إنكار إمكانية الوصول إلى تعريفات حقيقية أو نهائية؛ لأنه حتى أكثر التعريفات المرشحة معقوليةً سوف تستدعي دومًا تلاعبًا تعريفيًّا إضافيًّا باللغة. يرى أتباع المدرسة التفكيكية أن علاقة اللغة بالواقع هي علاقة مجهولة ولا يُعتمَد عليها، بما أن جميع الأنظمة اللغوية ليست إلا بنًى ثقافية لا يعوَّل عليها بطبيعتها.
رغم ذلك التزم دريدا وأتباعه على ما يبدو برأي تاريخي واضح نسبيًّا؛ وهو أن الفلسفة والأدب في التراث الغربي قد افترضا كذبًا لفترة أطول من اللازم أن العلاقة بين اللغة والعالم كانت — على عكس زعم التفكيكين — علاقة راسخة ويُعتمَد عليها (بل علاقة يكفلها الإله في بعض الأديان أيضًا). إن تلك الثقة الزائفة «المتمركزة حول العقل» في اللغة باعتبارها مرآة الطبيعة تنبع من توهُّم أن معنَى أي كلمة يَستمد جذوره من بنية الواقع ذاته؛ ومن ثمَّ يؤدي إلى مثول حقيقة تلك البنية مباشرةً في الذهن، ويصب هذا كله في «حضور ميتافيزيقي» زائف. ذلك هو ادعاء دريدا الكبير، الذي افترض على ما يبدو افتراضًا خاطئًا تمامًا يقضي بأن التراث الفلسفي الميتافيزيقي الغربي يخلو من أي تساؤل حول توافق اللغة مع العالم، رغم أن الفلسفة الاسمية طالما كانت على طرف النقيض من الفلسفة الجوهرية. (في الواقع، حاول فيتجنشتاين — محاولة معروفة — إيجاد علاقة ثابتة تمامًا وجديرة بالثقة بين اللغة والعالم في كتابه «الأطروحة الفلسفية المنطقية» (١٩٢٢)، ثم تبرَّأ تمامًا من موقف الكتاب لصالح نظرية تتمحور حول ألاعيب لغوية قريبة نسبيًّا مما عرضناه، وذلك في كتابه «تحقيقات فلسفية» الذي نُشِر بعد موته عام ١٩٥٣.)
رغم ذلك، حظيت شكوكية دريدا بجاذبية سياسية كبيرة، باعتبارها وصفًا متمردًا لثقافة أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على تلك الادعاءات الزاعمة بوجود «توافق جيد» في العلم وفي التكنولوجيا الرأسمالية السائدة بلا منازع، التي من المفترض أن تتدفق من العلم وتبرِّره. وقد أتاحت لأتباعه مهاجمة مَنْ يؤمنون بأن الفلسفة أو العلم أو الرواية تقدِّم بالفعل تصويرًا دقيقًا للعالم، أو أن السرد التاريخي قد يتسم بالدقة.
اتهم أتباعُ دريدا أهلَ الأدب على وجه الخصوص بالثقة الساذجة فيما يُطلق عليه لدواعي المفارقة «النصوص الواقعية الكلاسيكية»؛ فأولئك الأشخاص فشلوا ببساطة في إدراك طبيعة اللغة التي استقَوا منها ثقتَهم الزائفة.
على سبيل المثال، عند قراءة رواية جورج إليوت «ميدل مارش» (١٨٨٢)، قد يتشكَّل لدينا اعتقاد وهمي (لم يخطر على بال جورج إليوت في الواقع) بأن الكاتِبة تفتح لنا ببساطةٍ نافذةً على الواقع، وأن الخطاب الذي تستخدمه صالح تمامًا لوصف العالم الحقيقي. إن اعتمادنا على سرد إليوت ولغتها يضعنا في موقع مهيمن بل في موقع الإله، ولا سيَّما إذا اعتمدنا على التعميمات التي تطرحها؛ ومن ثمَّ، نظن أننا نعرف الحقيقة عن دوروثيا بروك، بينما ما نعرفه حقًّا هو وصف إليوت لها. وعلى أي حال، ماذا سيحدث عندما نصادف مجازًا لغويًّا؟ هل نعتبره «حقيقيًّا» أيضًا؟ على سبيل المثال، عندما شعرت دوروثيا بالحيرة والضيق من خيبة أملها في زوجها كازابون، رأت أن حياتها: «قد أصبحت على ما يبدو مسرحيةً تنكرية حيث يرتدي الممثلون أزياءً غامضة.» إن هذا المجاز اللغوي أو الاستعارة — بصرف النظر عن مشاكل تفسيرها — لن تصلح إلا في ثقافة لديها القدرة على إدراك ماهية المسرحيات التنكرية ووظائفها بطريقة معينة. إن وصف دوروثيا يصلح فحسب ضمن سياق الخطاب المُدرِك لماهية المسرحيات التنكرية والسائد ضمن مجموعة معينة من الناس؛ ومن ثمَّ يرتبط به.
إذن يرغب أتباع مدرسة ما بعد الحداثة التفكيكية في إبراز الانحراف الذي سيصيب علاقة كانت محل ثقة سابقًا، مثل العلاقة بين اللغة والعالم. وكأنهم يقولون: «إنها ليست سوى استعارة مضللة تضليلًا منهجيًّا عن مسرحية تنكرية.» رغم ذلك، من الواضح منطقيًّا أننا لن نستطيع توضيح «الانحراف» الدائم الذي يصيب اللغة دون أن تكون لدينا «في الوقت نفسه» ثقة خفية ومتناقضة في اللغة؛ إذ كيف يمكننا — من دون مفهوم يقيني إلى حدٍّ ما عن الحقيقة — إظهارُ كون تعبير لغوي معين قد «انحرف» أو سقط في فخ التناقض؟ إنه لغز تعجيزي لأعداء التفكيكية، ومعضلة طويلة الأمد لدى مَنْ يعتنقون مبادئها.
لماذا إذن يرغب التفكيكيون في التشكيك في اعتمادنا على أدباء مثل إليوت، وفي جزء كبير من التراث الفلسفي السابق كذلك؟
أنظمة الرموز
أصرَّ أتباع دريدا على أن جميع الكلمات لا بد أن تُفسَّر فقط من منظور علاقتها بالأنظمة السابقة التي تشارك فيها؛ ومن ثمَّ، أصبحنا جميعًا على أفضل وجه خاضعين لمبدأ النسبية، وأسرى لأنظمة مفاهيمية (غير قابلة للقياس). لا يسعنا سوى «معرفة» ما سمحوا «هم» لنا بمعرفته. وأيًّا كان ما نقوله، فنحن أسرى نظام لغوي لا علاقة له بالواقع الخارجي على النحو الذي نتوقعه؛ لأن كل مصطلح ضمن كل نظام يشير كذلك إلى وجود (أو «أثر» على حد قول دريدا) مصطلحاتٍ أخرى غائبةٍ ضمن النظام أو يعتمد على وجود تلك المصطلحات أو «أثرها». على سبيل المثال، تضم اللغة الإنجليزية مجموعة من الكلمات تعبِّر عن درجات من الغضب، بدءًا من كلمة «منزعج» وانتهاءً ﺑ «يستشيط غضبًا». ولدى اللغة الفرنسية مجموعة كلمات مختلفة خاصة بها للتعبير عن هذا الشعور البشري. تعتمد جميع الكلمات داخل كل مجموعة لغوية بعضها على بعض من أجل تقسيم نطاق «الغضب» لخدمة الناطقين بتلك اللغات. لكن كلا النظامين — الإنجليزي أو الفرنسي — على الرغم من اختلافهما الواضح لن يستطيعا بضمير مستريح زعم أنهما قدَّما في النهاية الرمز الذي يعبر عن «حقيقة» حالات الغضب في العالم. ولا يسع إليوت أن تزعم نجاحها في التعبير رمزيًّا في النهاية عن حقيقة خيبة أمل دوروثيا. وهكذا، يرى أتباع دريدا أن اللغة تقتصر على تحديد الاختلافات الجلية بين المفاهيم؛ أي إنها تكتفي في الواقع ﺑ «إرجاء» — أو تنحية — شركائها داخل النظام لبعض الوقت؛ وعليه، تحدد مفاهيمنا — في رأي أتباع دريدا — «اختلافًا وإرجاءً» (ديفرانس)؛ أي ترجئ المعنى مثلما توضح اختلافه (يتلاعب المصطلح الفرنسي الجديد الذي ابتكره دريدا (ديفرانس) بالكلمتين «اختلاف» و«إرجاء»)؛ فالمعني ينسل إلى الأبد من كلمة إلى أخرى داخل التسلسل اللغوي.
ينطلق دريدا من هذا الشكل المهيب من أشكال النسبية المفاهيمية كي يقترح مناهج تصلح لنقد جميع النظم المفاهيمية حالما ننظر إليها بهذه الطريقة، مقدِّمًا مساهمة رئيسية في الاتجاه ما بعد الحداثي لا تعتمد إلى حدٍّ كبير على «دقة» موقفه الفلسفي أو خصائصه الفلسفية الأخرى؛ فهو يعتبر أن جميع الأنظمة المفاهيمية عرضة ﻟ «تكوين هرمي» زائف ومشوَّه. ولا يقتصر الأمر على كون معرفتنا بالعالم ليست على نفس الدرجة من المباشرة كما يروق لنا أن نعتقد — فهي محمَّلة بالمجازات وتتناسب كليًّا مع نطاق أنظمتنا المفاهيمية ومداها — بل إننا جميعًا نضع ثقة مفرطة في أساليب عمل التصنيفات المركزية داخل تلك الأنظمة كي تنظِّم تجربتنا في الحياة. على سبيل المثال، تعتمد جورج إليوت بوضوح في الفقرة التي أشرت إليها على الفرق الواضح بين «المظهر» و«الحقيقة»، وبين الحالة التي يتصرف فيها الناس «على طبيعتهم» وتلك التي «يؤدون فيها دورًا» ليس إلَّا (كما في المسرحية التنكرية أو في حالة ارتداء زي تنكري).
نحن نميل إلى «أن نفضل» أو أن نعتمد على ما يطلق عليه دريدا «دلالات متسامية» خاصة، مثل «الإله»، و«الواقع»، و«فكرة الإنسان» كي ننظم خطابنا. إن المتضادات المفاهيمية التي نميل إلى استخدامها كي تؤدي هذا الدور التنظيمي — مثل الحديث مقابل الكتابة، الروح مقابل الجسد، المعنى الحرفي مقابل المعنى المجازي، الطبيعي مقابل الثقافي، الذكورة مقابل الأنوثة — تدفعنا إلى فهم العديد من العلاقات الأساسية فهمًا خاطئًّا، أو على الأقل فهمًا راسخًا متصلبًا أكثر من اللازم. نحن نميل على وجه التحديد إلى وضع أحد تلك المصطلحات في مرتبة أعلى من الآخر؛ فمثلًا يُنظَر إلى «المرأة» على أنها أدنى منزلةً من «الرجل» (و«الشرق» أدنى منزلةً من «الغرب»)، لكن إذا تبنينا إطارًا مفاهيميًّا أكثر نسبية، فسندرك أن هذه المصطلحات تعتمد «حقًّا» بعضها على بعض في تعريفها. بالتأكيد، كان لدى أتباع دريدا هَوَسٌ فرويديٌّ تام بفكرة أن المتناقضات الظاهرة يحتاج في الحقيقة بعضُها إلى بعض، ودائمًا ما يشير كلٌّ منها ضمنًا إلى الآخر؛ فالمرء لا يرى نفسه عقلانيًّا، وإمبرياليًّا يسعى إلى تحقيق العدل (مثل شخصية روني فيلدنج في رواية فورستر) «إذا» لم يكن الآخر في الوقت نفسه يُرى إنسانًا شرقيًّا مضطربًا، مراوغًا، وماكرًا (مثل شخصية عزيز). إن الجانب التحرري والإبداعي في هذا النوع من تفكيك المتضادات يعمل على النحو التالي: عندما ننظر إلى أنظمة معينة كهذه الأنظمة — التي تدعي تقديم وصفٍ دقيقٍ للعالم — سيصبح في وسعنا إدراك أن المفاهيم التي «يميِّزها» النظام أو يجعلها محورية، والتدرجات الهرمية التي يستخدمها لترتيبها، أبعد ما تكون عن النسق «الصحيح» القاطع، وتتمتع باستقلال أكبر بمراحل مما كنا نعتقد.
في الواقع، يرى أتباع دريدا أن الكشف عن الاعتماد المتبادَل الخفي لدى تلك الأنظمة سيؤدي إلى «تفكيكها»؛ إذ يمكن هدمها أو عكسها — لتعطي معنًى متناقضًا في أغلب الأحيان — وهكذا تصبح الحقيقة «في الواقع» نوعًا من الوهم، وتصبح القراءة دائمًا شكلًا من أشكال إساءة القراءة، وأهم من ذلك يصبح الفهم في جميع الأحوال نوعًا من سوء الفهم؛ لأنه فهم غير مباشر دومًا، وسيظل أبدًا شكلًا من أشكال التفسير الجزئي، غالبًا ما يستخدم المعنى المجازي بينما يظن أنه يستخدم المعنى الحرفي. إن هذا الاستخدام الرئيسي للتفكيكية بهدف هدم ثقتنا في الأفكار المبتذلة السياسية والأخلاقية والمنطقية هو الأكثر ثورية وتمييزًا لما بعد الحداثة.
يدفع هذا الزعم النسبي أننا حالما نرى أنظمتنا المفاهيمية بهذه الطريقة، سندرك أيضًا أن العالم وأنظمته الاجتماعية وهويته الإنسانية ليست عطايا مهداة، تضمنها بطريقةٍ ما لغة تتوافق مع الواقع، لكنها مفاهيم نخلقها «نحن» في اللغة، على نحو لا يمكن تبريره أبدًا عبر الزعم بأن تلك هي «حقيقة» الأمور. فنحن لا نعيش داخل الواقع بل داخل تصوراتنا له (وهو ما يلخصه أتباع دريدا في الملحوظة الجانبية المشهورة التالية: «لا يوجد شيء خارج النص» باستثناء المزيد من النصوص التي نستخدمها في محاولة وصف أو تحليل ما تدعي النصوص الإشارة إليه).
نستمد من هذا كله الثقة اللازمة للتحرر من الامتثال لأي نظام «مُعطًى»، وكي نؤمن بأن طريقة رؤيتنا للعالم لا يمكن تغييرها فحسب بل يجب تغييرها. قد يصل التفكيكيون والليبراليون والماركسيون إلى شكل من أشكال التحالف ها هنا، فيما يتعلق بإنكار استطاعة أي أيديولوجية مهيمنة أو لغة إمبريالية، تعميمية، كَانْطِيَّة، ما بعد تنويرية؛ وصْفَ حقيقة الأشياء حقًّا.
التلاعب بالنص
حققت التفكيكية (ولا سيَّما كما مارسها النقاد الأدبيون) تأثيرها الثقافي الأقوى عندما رفضت أن تسمح لنشاط فكري أو نص أدبي أو تفسير لهذا النص بالخضوع للتنظيم عبر أي تسلسل هرمي تقليدي من المفاهيم، ولا سيَّما تلك التي قدمنا نماذج لها أعلاه. تمكَّنت التفكيكية من خلال اضطلاعها بتلك المهام من الإخلال بتنظيم النص، والطعن في صحةِ ما اعتبره البعض مجرد تحديدات «اعتباطية» لمعناه؛ لأن مفهوم «الاختلاف والإرجاء» — أو الاعتماد شبه الخفي لمفهوم ما على بقية المفاهيم المرتبطة به — هو مفهوم غير محدود. وهكذا يمكننا التجوُّل عبر صفحات القاموس، سالكين المسارات المتفرعة من كلمة واحدة. إن فكرة المجال اللغوي المتداخل تداخلًا حيويًّا وغير المحدود على الأرجح ساعدت في تكوين تحالف بين النظرية التفكيكية والاتجاهات التجريبية لدى الكثير من كُتَّاب ما بعد الحداثة الطليعيين؛ إذ تأثر «الروائيون الجُدد» في فرنسا وعدد من الكُتَّاب التجريبيين الأمريكيين — أمثال والتر أبيش، ودونالد بارثلماي، وروبرت كوفر، وراي فيديرمان — بتلك الأفكار؛ ومن ثمَّ، أصبحت اللغة وتقاليد النصوص (والصور والموسيقى) أمورًا يمكن التلاعب بها؛ إذ لم يلتزم أولئك الكُتَّاب بمناقشات أو أساليب سردية محدودة، فهُم ليسوا سوى «ناشرين» للمعنى.
أعرف يا شباب ما الذي ستقولونه لاحقًا. ماذا عن التمثيل؟ حقًّا ماذا عنه؟ التمثيل الدقيق والسليم للواقع! إلصاق الكلمات بالأشياء! إلصاق المعنى بالكلمات! (عبَّر/تعبير/معبِّر)، الاستخدام الدقيق لعلم الكتابة من أجل التفرقة بين التحدث والكتابة وبين الصياح والتمتمة!
نعم، أعرف رأيكم في الكتابة وأن هذا السؤال بالنسبة إليكم هو سؤال مهم (محوري)، لكننا قد ناقشنا ذلك كله من قبل وناقشنا أسلوبي على نحو ما (بل على النحو المنطقي إذا كان ذلك يرضيكم). أنا لا أبالي البتة ﺑ «نظام الأشياء» لأني لا أحكي، لا أسرد، لا أتلو بترتيب كي أخلق نظامًا، بل العكس!
على العكس، ما أفعله يتعلق بمشكلة القراءة أو الاستماع، ولا يتعلق بالكتابة! أنا أتحدث إلى الحواس ولا أحاول أن يبدو كلامي منطقيًّا بأي شكل من الأشكال. إن مجالي هو الهُراء، مجالي هو ما فوق القص! بعبارة أخرى أنا أشق طريقي نحو استحالة القراءة، نحو القراءة الحرَّة، نحو القراءة الهذيانية، بطريقة ما أُفضِّل القراءة بوصفها انتهاكًا صارخًا للسلام، كأن يُقبَض عليك متلبسًا بالجريمة: بالجُرم المشهود! أنا لا أضيِّع وقتي في التفاهات!
لكنْ حسنًا، سأتوقف عن هذا الكلام الفارغ (مسافة مفردة، مسافة مزدوجة، مسافة ثلاثية) وجميع هذا اللغو المطبعي. في الحقيقة، الأمر يصيبني بالاشمئزاز بقدرِ ما يصيبك، لكن في بعض الأحيان يصبح التحدث عن تلك الأشياء (أو حتى الكتابة عنها) أمرًا ضروريًّا، لا لسبب سوى أن نتمكن من تحديد المشكلة بدقة.
موت المؤلف
يظل العنصر الأهم هو أن يتصرف القارئ أو المستمع أو المشاهد المشارك في التعبير عن هذا التلاعب اللغوي أو تفسيره بمعزل عن أيٍّ من النوايا المفترضة لدى المؤلف. إن الاهتمام بالمؤلف سيؤدي إلى منح امتياز للطرف الخطأ؛ إذ إن اعتبار المؤلف مصدرًا لمعنى النص، أو صاحب سلطة تحديد معناه، يضرب مثالًا واضحًا على التفضيل (المتركز حول العقل) لمجموعة بعينها من المعاني. فلماذا لا تتولَّد تلك المعاني من القارئ بقدرِ ما تتولَّد من المؤلف؟ ومن ثمَّ، لا ينبغي الوثوق في غرض المؤلف (أو غرض التاريخ) بقدرٍ يفوق الوثوق في مذهب الواقعية؛ ومن ثمَّ، نشأ مفهوم جديد للنص باعتباره «تلاعبًا حرًّا بالرموز داخل اللغة». إن هذا الإعلان عن «موت المؤلف» — ولا سيَّما من جانب بارت وفوكو — يعكس أيضًا الميزة السياسية؛ وهي القضاء على المؤلف باعتباره المالك الرأسمالي البرجوازي الذي يسوِّق معانيه.
نحن ندرك الآن أن النص ليس مجرد سلسلة من الكلمات تعبِّر عن معنًى «لاهوتي» واحد (أي «رسالة المؤلف/الإله») لكنه فضاء متعدد الأبعاد؛ حيث تمتزج مجموعة متنوعة من الكتابات — لا يوجد بينها نص أصلي — وتتصادم … إن الأدب يتمكَّن من خلال رفضه تخصيص معنًى نهائي «خفي» إلى النص (وإلى العالم باعتباره نصًّا) من تحرير ما قد يُطلق عليه نشاط معادٍ للَّاهوتية، وهو نشاط ثوري حقًّا بما أن رفض تحديد المعنى يعني في النهاية رفض الإله والأقنوم المرتبط به؛ ألا وهو المنطق، والعلم، والقانون.
وهكذا تحرر النص — الذي تكوَّن في الحقيقة على يد القارئ — وطبقت عليه قواعد الديمقراطية كي يلهو به الخيال كما يشاء. وأصبحت المعاني ملكية خاصة لمن يفسرها، له مطلق الحرية في التلاعب بها تلاعبًا تفكيكيًّا؛ إذ كان يُعتقد أن محاولة تحديد معنى نص أو أي نظام سميوطيقي لأغراض معينة خطأٌ فلسفيٌّ ورجعية سياسية على حدٍّ سواء؛ ومن ثمَّ، أصبحت جميع النصوص الآن حرَّة في الغوص — بصحبة معانيها العامة أو الأدبية أو اللغوية — في بحر «التناص»؛ حيث لم تعد الفروق المقبولة بينها في السابق مهمة إلا فيما ندر، وينبغي النظر إليها إجمالًا على أنها أشكال بلاغية متناثرة هزلية (تشبه إلى حدٍّ ما محاضرات دريدا نفسه، التي أصبحت عبارة عن حوارات ذاتية طويلة وحرَّة تفتقد التركيز والنظام). وأصبح يُنظر إلى السعي من أجل إيجاد التأكيدات اللفظية على أنه تصرُّف رجعي في مضامينه، كالحال مع الإجماع الملفق حول النظام السياسي القائم.
المجاز
إنَّ مصداقية هذه النظرة التي ترى النصوص أشكالًا من التلاعب البلاغي (القابل للتفكيك) — بصرف النظر عن مدى صدق نيتها — تستمد دعمًا كبيرًا من الأطروحة الموروثة من نيتشه ومن قراءة أعمال أفلاطون، التي تزعم أن ما يبدو حرفيًّا في ثنايا اللغة (بما فيها الأجزاء الأكثر «واقعية» من روايات جورج إليوت) هو في الحقيقة مجازي. من الممكن قراءة الفلسفة والتاريخ (وهما مجالان لم يعد أيٌّ منهما يتميز بكونه خطابًا حرفيًّا أو صادقًا) وكأنهما أعمال أدبية والعكس صحيح. لا حاجة لنا بعد الآن إلى الإيمان بما هو حرفيٌّ (باعتباره شكلًا ما من أشكال اللغة يشير إلى الواقع على نحو لا التباس فيه)؛ لأن كل ما يمكن اعتباره حرفيًّا قد يتضح كونه مجازيًّا عند تحليله بدقة أكبر.
لاقت هذه النظرة إلى اللغة بوجه عام قبولًا متناميًا لدى الكثير من علماء اللغويات، لا سيَّما تحت قيادة جورج لاكوف ومارك جونسون المثيرة للجدل، فهما يُقرَّان بتأثير دريدا على رؤيتهما التي تقضي بخضوع اللغة اليومية بأكملها لتنظيم المجاز، حتى إنهما يميلان كذلك إلى الدفع بأن النظرة «الموضوعية» فلسفيًّا للعالم هي نظرة واهية. حاولت تلك الفرضيات اللغوية إظهار أن عمليات التفكير اليومية لدينا تعتمد في الواقع على أنظمة مفاهيمية متشابكة قائمة على المجازات، التي لا يمكن اختزالها بأي صورة من الصور إلى لغة «أكثر حَرفية»؛ ومن ثمَّ من غير المرجَّح للغاية أن تتوافق توافقًا بسيطًا أو منهجيًّا بعضها مع بعض.
كانت الآثار الأخلاقية والسياسية التي ترتبت على هذا النوع من التحليل هي ما أثارت اهتمام بعد الحداثيين بوجه عام؛ فقد أكَّد التفكيكيون على أن جميع أنظمة التفكير، بمجرد أن نعتبرها مجازية، تؤدي لا محالة إلى تناقضات أو مفارقات أو مآزق أو «حالات ارتباك» حسب تعبير دريدا (وهو مصطلح بلاغي يعني سؤالًا ارتيابيًّا). يرجع ذلك إلى اعتقاد أتباع دريدا أن الخصائص المجازية داخل أي نظام لغوي ستضمن دومًا فشل اللغة فعليًّا في التحكم في الموضوع الذي تدعي توضيحه (أو السيطرة عليه).
جذبت تلك المناقشات عددًا ضخمًا للغاية من النقاد الأدبيين في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وحتى الآن؛ إذ إن هذا النوع من التفكيكية يعكس استراتيجية طليعية، متشككة، كاشفة للتناقض، في وسعها تقويض أسس أي نص وهدمه وتعريته، وتجاوزه، و«عكس تأثيره». وعلاوة على ذلك، فإنها تعبِّر عن تضمينات سياسية مثيرة، بما أنها أظهرت تفوُّق «رؤية التفكيكيين الثاقبة» التي مكَّنتهم من إدراك «جهل» النص غير المتعمَّد بالتناقضات التي يرمز لها. إن تفكيك قصيدة أو نص أو حوار يعني إبراز تشكيكه (فعليًّا) بشأن الفلسفة التي (يبدو أنه) يؤكد عليها أو المتناقضات الهرمية التي يعتمد عليها صراحةً. ويأتي تأثير التفكيكية الأقوى عندما تعكس التناقضات التي كشفت عنها بهذه الطريقة أهمية أخلاقية أو سياسية.
فيما يلي مثال تقريبي على إحدى المعالجات التفكيكية، استنادًا إلى جزء من قصيدة كتبها الشاعر تنيسون في شبابه عن:
٢
إنَّ الهدف من القصيدة هو المدح — باستخدام لغة دينية مَمْجُوجة — لكن الموضوعات التي اختارها تنيسون لتعزيز تلك الاستراتيجيات قد تعتبر مستهجنة ضمن سياقنا التاريخي الحالي. فسيزعم التفكيكيون أن عدم ملاءمة تلك المواضيع لإدراكنا للواقع (أو بالأحرى عدم ملاءمتها مع عُرف المجتمع وسياساته) تنبع من حقيقة أنها تعتمد فعليًّا على الخيال؛ أي على علاقة مضطربة بين الحرفي والمجازي في القصيدة. وإذا نظرنا بدقة إلى القصيدة، فسنجد أنها تكشف في ثناياها عن ارتباك حيال الميزات التي تروِّج لها؛ ومن ثمَّ، سوف تنهار القصيدة.
إن الهيمنة المستهجنة بشدة، التي يفرضها الرجال على النساء (التي أصبحت مقبولة بالنسبة إلى الرجال على الأقل)، تتخفى تحت الادعاء بأن النساء في مقدروهن حقًّا «السيطرة» على الرجال، لكن بطرق مقبولة أخلاقيًّا فقط. تتمتع النساء بالفضيلة، بينما يتمتع الرجال بالقوة. لكن الفضيلة — ولا سيَّما النوع الغريب المنكر للذات الذي يمتدحه تنيسون — ليست قوة على الإطلاق؛ فهي مسموح بظهورها في سياق مجازي فحسب (لا في سياق واقعي فعلي، مثل الزواج) حيث النساء مغلوبات على أمرهن، ومن هنا يأتي الاقتران غير الملائم بين «الزوجة الكاملة والمرأة الوديعة الصافية». وعلاوةً على ذلك، لا تستطيع إيزابيل استخدام ذكائها إلَّا «بديهيًّا»، عند التفريق بين الخطأ والجُرم (مما يدعم التناقض القديم الذي يزعم أن النساء يعتمدْن على الحَدْس بينما يعتمد الرجال على العقل). أما إذا خذلها حدْسها، فإنها تحمل معها «وصايا الزواج» التي تشبه وصايا النبي موسى لتكون بمنزلة مفكرة تذكِّرها بمهامها، وهي فوق ذلك «منقوشة» على «صفحة قلبها الأبيض» النقية والفارغة. فحتى قلبها أبيض اللون فارغ بلا دماء، إنها بالفعل «صفحة بيضاء» صالحة لإسقاط الخيالات الذكورية. وحتى الحب الذي تشعر به تقتصر مهمته على توليد «الضوء لقراءة تلك القوانين». أما أسلحتها الوحيدة لمواجهة «الحزن»، فهي الدماثة والشجاعة التي تخفِّف الطاعةُ من حدَّتها إلى حدٍّ كبير. لا تسعى إيزابيل إلى «التسلُّط» لكنها في الوقت نفسه أشبه بإلهة؛ إذ لا ضرر من نوع من العبادة لا يتحدى الاختلافات الجنسية تحديًا مباشرًا. لدواعي المفارقة، تضع قصيدة تنيسون إيزابيل في مرتبة أدنى بينما تكيل لها المديح؛ مما يساهم في تفكيكها.
عندما تزعم التفكيكية أن اللغة قد تؤدي إلى تضليلنا على هذا النحو، وأن «الواقع» لا يمكن أبدًا ترويضه تمامًا أو على نحو مقنع، فإنها ترفض قبول احتمالية وجود أي «واقعية» تدعمها أدلة في النصوص التي تهاجمها. ذلك الهجوم على الواقعية يلعب — دون ريب — دورًا محوريًّا في جميع أشكال النشاط ما بعد الحداثي. لكن عندما ترفض ما بعد الحداثة الاندماج في أي نظام قائم، أو تقديم أي توضيح لواحد من تلك النظم إلا عبر أسلوب مراوغ أو هزلي، فإن عليها كذلك إنكار إمكانية اقتراح نظام خاص بها، دون أن تتنكر لفرضياتها الرئيسية. من هنا، ينبع الاتهام الذي كثيرًا ما يُوجَّه إلى أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيين، الذي يزعم أنهم مجرد متشككين عاجزين عن اتباع أي التزامات سياسية أو أخلاقية. وغالبًا ما يورِّط التفكيكيون أنفسهم — حسب افتراضاتهم — في حالة دائمة من نكص الصفات؛ إذ تبدو الكثير من الأعمال النقدية التفكيكية الآن (مثل كتاب «الناقوس» لجيوفري هارتمان، وكثير من أعمال بول دو مان وهيليس ميلر) منغمسةً داخل ذاتها ومنشغلة بها، ولا تلتزم في النهاية بأي مفاهيم ذات أهمية.
إنَّ تلك الأمثلة الأقوى حجةً على التفسير التفكيكي تُبرز فعليًّا وعلى نحو تلقائي هذا النكوصَ الهزلي الذي يهدف إلى دعم أطروحة لم تتعرض للنقد، على الأقل في الوقت الحالي. لن يستطيع التفكيكيون المخلصون الهرب أبدًا من الاتهام الذي يزعم أن عملهم على أحسن تقدير شكلٌ من النقد البراجماتي لمعتقداتنا، وأنه في النهاية لا يخرج عن نفس الاتجاه الفلسفي القديم الذي يلفت الانتباه، لا إلى حقيقة أن المرء إذا ناقض نفسه فإنه لم يقل شيئًا ذا معنًى (فذلك بالنسبة إلى التفكيكيين زعم مرتبط أكثر من اللازم بمنطق واقعي تقليدي ينطق بالحقيقة)، بل إلى أن المرء إذا ناقض نفسه، فإنه يفتح الباب أمام شتى أنواع سبل الاستقصاء المثيرة للاهتمام. وفي نهاية المطاف — حسب رؤيتهم — سنفعل كلنا حتمًا نفس الشيء، وردُّ الفعل الوحيد المحتمل على ذلك هو أن نقوم بحركة أخرى في اللعبة، لا أن نستبعد بجرأة شديدة بعض الحركات باعتبارها غير شرعية ليس إلا. إن التفكيكية التقليدية ليست نظرية قابلة للاختبار أكثر من كونها «مشروعًا» مستمرًّا.
الشكوكية والأيديولوجية
إن التفكيكية — على قدر تعمقها الأكاديمي وانشغالها بذاتها في معظم الأحيان — دعمت توجهًا عامًّا نحو المبادئ النسبية في ثقافة ما بعد الحداثة؛ إذ تركت أتباع ما بعد الحداثة غير مهتمين إلى حدٍّ كبير بالتأكيد والإثبات التجريبي في العلوم. وغالبًا ما اعتبروا ذلك منهجًا ملوثًا جرَّاء ارتباطه بالتحالف الصناعي العسكري وباستخدام العقلانية التكنولوجية الجامدة من أجل تحقيق السيطرة الاجتماعية … إلى آخره. ويبدو كذلك أن أتباع ليوتار ودريدا نزعوا إلى الإيمان ﺑ «القصص» بدلًا من النظريات القابلة للاختبار. إن أتباع ما بعد الحداثة — بعدما تخلوا عن إيمانهم بكلٍّ من الفلسفة والتاريخ والعلم التقليدي («الواقعي») تحت تأثير الفكر الفرنسي — تحولوا أكثر فأكثر إلى واضعي نظريات تفسِّر آليات العمل (الخادعة) داخل «الثقافة»؛ ومن ثمَّ فإن معظم الأمثلة التي أعرضها هنا على تطبيق الأفكار السياسية والفلسفية لما بعد الحداثة مستقاةٌ من الفنون.
انتهى عهد الضمانات الغيبية للحقيقة، فلا مكان لقابلية القياس وسط الصراع الأليم بين ألاعيب اللغة، ولا لمعايير تحدد حقيقةً تتجاوز النقاشات المحلية، بل لا يوجد سوى الصراع اللانهائي بين ادعاءات محلية تتنافس فيما بينها على حيازة الشرعية.
من ثمَّ، تنغمس ما بعد الحداثة في نظرية معرفية انتقادية إلى حدٍّ بعيد، تُعادي أيَّ مذهب سياسي أو فلسفي شامل، وتعارض بشدة تلك «الأيديولوجيات المهيمنة» التي تساعد في الحفاظ على الوضع القائم.
رغم ذلك، دمج الكثير من أتباع ما بعد الحداثة أسلوب دريدا النقدي ضمن أيديولوجية هدامة ذات إطار بنَّاء؛ إذ رأوا أن إبراز إخلاص بعض الأفراد غير المتعمَّد لموقف متناقض (مثل موقف تنيسون) يشبه إلى حدٍّ كبير ما انشغل به ماركس وفرويد؛ إذ ادعى ماركس أن العمال يعيشون في حالة من «الوعي الزائف»، فهم يقبلون النظرية البرجوازية التي تزعم أنهم يقدمون جهدهم «طوعًا» إلى السوق كأفراد مستقلين، لكنهم في الحقيقة أسرى نظم محددة اقتصاديًّا تعادي طبقتهم. كان المنظِّرون الماركسيون في تلك الحقبة يعرفون ذلك يقينًا (بعيدًا تمامًا عن مصطلحات فلسفة دريدا) باسم «علاقات القوة الحقيقية». وبالمثل، قد يزعم أتباع المدرسة الفرويدية أن الصراع بين الأنا العليا (التي تلتزم بالمعتقدات المقبولة اجتماعيًّا) ورغبات اللاوعي السرية أو المكبوتة (حيال التعبير الجنسي على سبيل المثال) سيؤدي حتمًا إلى تناقضات داخلية، يمكن قراءتها من منظور دريدا. وهكذا، لدواعي المفارقة، ربط العديد من أتباع ما بعد الحداثة أنفسهم بأيديولوجيتين محل جدل شديد وذواتَي طبيعة شمولية لا محالة، من القرن التاسع عشر، في خضم تركيزهم على مفهوم التناقض الخفي.
بالطبع، يمكننا إبراز تلك التناقضات الداخلية الهادمة للأيديولوجية دون أن نزعم في الوقت نفسه أن لدينا حلًّا بديلًا وشاملًا لمشكلات المجتمع. وفي وسع المرء تحليل المتناقضات كي يشير إلى وجود توتر اجتماعي دون أن يطرح ضمنيًّا حلًّا ماركسيًّا أو فرويديًّا عامًّا؛ وذلك عبر دعم الأطروحة التي عرضناها آنفًا، التي تزعم أننا حال نظرنا إلى جميع الأنظمة اللغوية سنجدها تحتوي على تناقضات؛ لأنها في الأساس أنظمة مجازية. وكما هو متوقَّع، أُعجِب النقاد الأدبيون والثقافيون بهذا الجانب من حركةِ ما بعد الحداثة أيَّما إعجاب؛ إذ في وسعهم الانكباب على دراسة أي نوع من المواد، وليس فقط تلك النصوص — ولا سيَّما القصائد، أو الحقب التاريخية، مثل الحقبة الرومانسية — التي تتجلي تناقضاتها للعيان. وكان من السهل تطبيق الأساليب التفكيكية في الفلسفة على المناهج الهادمة للمجاز والملاحقة للتناقضات في النظرية الأدبية، التي غالبًا ما يعطي لها أولئك النقاد أهمية زائفة ومُدَّعاة؛ ففي أعمال دو مان وهيليس ميلير وغيرهما من أتباع دريدا المتمركزين في جامعة ييل، نجد اهتمامًا كبيرًا ومفعمًا بالحيوية ﺑ «فن الجدال» المحبط للذات في الأعمال الأدبية وغيرها من الأعمال، ولا سيَّما عبر تحليل مجازاتها الخفية، على النحو الموضَّح أعلاه؛ ومن ثمَّ، كان يُنظر إلى الأعمال الأدبية على أنها تعاني عجزًا حتميًّا نابعًا من المعاني الضمنية المتناقضة داخل المجاز؛ مما أسفر عن أهم ما في الموضوع؛ وهو تجريدها من أي علاقة جادة بالتاريخ ومن أي مزاعم مؤكَّدة حول قضايا الحقيقة التجريبية. وبهذه الطريقة، أدت الفلسفة الكامنة خلف التفكيكية إلى توسُّع هائل في الاهتمام بالنظرية الأدبية، التي أضحت قضاياها تهيمن على مدارس كاملة في النقد الأدبي.
أفلامًا ما بعد حداثية صميمة، من حيث تصورها لذاتها باعتبارها نصًّا خالصًا، أو عملية إنتاج صور غير ذات محتوًى حقيقي، وهي — من هذا المنظور — شكل خارجي محض أو سطحية مجردة. إن هذه القناعة هي التي تفسِّر الانعكاسَ المميز لأفلام جودار، وتصميمَها على استخدام الصور استخدامًا معاديًا لذاتها كي تدمِّر الوضع الملزم أو الثابت لأي تصور.
إنَّ هذا الإدراك ما بعد الحداثي ﻟ «العمل الفني كنص» — وإن كان فيلمًا أو لوحة أو عرض أزياء — يَعتبر أي إنتاج ثقافي بارز متصلًا بجميع الاستخدامات الأخرى للُّغة الطبيعية؛ ومن ثمَّ تجنب أي تفضيل «جمالي» للعمل الفني المستقل وتنظيمه المتكامل؛ إذ كان يعتبر ذلك أحد الأخطاء الحداثية النموذجية. وزعم في سياق بديل أن العمل الفني تجمعه صلة بجميع النصوص الأخرى؛ لذا، فرضت تفكيكيةُ ما بعد الحداثة تطابقًا جديدًا بين الخطاب الفلسفي (وهو مجال اختصاصي للغاية، يعود مرة تلو الأخرى إلى نفس المشكلات، ويقتلع جذور التناقض) وخطاب العمل الفني، وبالتأكيد جميع الخطابات الأخرى داخل المجتمع.
بالنظر إلى القيود القاسية المفروضة على احتمالية بلوغ الوحدة المميزة للحُجة المتماسكة، والشك الكبير الذي تصاعد حيال ما يمكن اعتباره اعتمادًا خفيًّا لدى أي عمل أو نص على النصوص السابقة له، أصبح من المعتقد أن أي نص — بدءًا من الفلسفة وحتى الصحف — يتضمن تكرارًا استحواذيًّا أو «تناصًّا». وكما هو الحال في الفلسفة — التي طالما انشغلت منذ عصر أفلاطون بنفس المشكلات القديمة — ستعيد الرواية حتمًا إنتاج نفس المواقف والأفكار السابقة وأساليب الوصف التقليدية إلى آخره، فليست رواية جويس «يوليسيس» — باعتبارها عملًا حداثيًّا غير مباشر عن قصد — هي الرواية الوحيدة التي استطاعت تحقيق هذا؛ فحسَب تعبير إمبرتو إيكو — وهو منظِّر ما بعد حداثي بارز — في روايته ما بعد الحداثية «اسم الوردة» التي حققت رواجًا مذهلًا: «تتحدث الكتب دومًا عن كتب أخرى، وكل قصة تحكي قصة رُويَت بالفعل.» تفرغ هذه الرؤية في نهاية المطاف إلى نوع من المثالية النصية؛ لأن جميع النصوص يُنظر إليها باعتبارها تشير على الدوام إلى نصوص أخرى، «عوضًا عن الإشارة إلى أي واقع خارجي.» ولن يستطيع أيُّ نص في النهاية أن يثبت على الإطلاق أيَّ شيء عن العالم خارجه، ولن يصل أبدًا إلى نقطة سكون، بل يكتفي فقط — حسب مصطلح دريدا — بنشر تنويعاتٍ مستندة على أفكار أو مفاهيم قائمة بالفعل.
إعادة كتابة التاريخ
كما أكدتُ سابقًا، أسفر هذا الحراك كله عن زج الواقعية بجميع أنواعها في قفص الاتهام؛ فمحاولة تقديم أي شكل من أشكال الواقعية كانت تئول في النهاية إلى خطأ فلسفي؛ ومن ثمَّ تصبح محاولة كتابة التاريخ من وجهة النظر التجريبية أو الوضعية المهيمنة حتى الآن محكومًا عليها بالفشل. ومن جديد، يميل فكرُ ما بعد الحداثة — عبر تحليل كل شيء باعتباره نصًّا وبلاغة — إلى دفع المجالات الفكرية التي ما زالت مستقلة حتى الآن نحو الأدب، فالتاريخ ليس سوى سرد آخر، لا تتميز تراكيبه النموذجية عن التراكيب الروائية، ويرزح تحت أَسْر أساطيره ومجازاته وقوالبه النمطية الخاصة غير المحققة (التي غالبًا ما تُستخدم بلا وعي). أما مصادره — مهما بدت حيادية أو قائمة على أدلة — فليست في النهاية سوى سلسة أخرى مترابطة من النصوص القابلة للتفسير بعدة طرق، وحتى تفسيراته السببية في وسعنا إثبات كونها مستقاة من حبكات خيالية معروفة، تكررها تلك التفسيرات بالتبعية.
إن الادعاءات التاريخية … هي روايات شفهية، تضم محتويات مختلقة بقدرِ ما هي مكتشَفة، ولدى صياغاتها قواسم مشتركة مع نظيراتها في الأدب أكثر مما بينها وبين نظيراتها في العلوم.
تحكي جميع كتب التاريخ قصة، قد يؤدي أبسط ما بها من أدلة أو حقائق — مثل القول بأن «نابليون كان قصيرًا» أو أن «أنف كليوباترا كان جميلًا وذا طول مثالي» — إلى تفسيرات لا نهائية محل خلاف بطبيعتها، وتشكِّل بدورها مزاعم تدعي الحقيقة مثل: «ومن ثمَّ، كان نابليون يعوِّض عن قِصره بالعدوانية، وكانت لكليوباترا جاذبية لا تقاوم!» وستحتل تلك الأحكام بدورها مكانًا في ادعاءات تقليدية أكبر، غالبًا ما تفسَّر فيها انتصارات نابليون — على سبيل المثال — باعتبارها تجليات لشخصيته لا للظروف الاقتصادية الكامنة وراء الأحداث، أو تصبح جاذبية كليوباترا الجنسية المذهلة هي الدافع وراء هروب أنطونيو من معركة أكتيوم، كما اعتقد شكسبير على ما يبدو مقتديًا ببلوتارخ. لا يهم هنا إن كان راوي القصة مؤرخًا عظيمًا أو ويليام شكسبير، فكلاهما يركِّزان على شكلٍ أو نوع سردي عند إخبارنا بقصتهما، سيستعيرانه من تقاليد رواية القصة المتاحة في ذلك الوقت. تعرض بعض كتب التاريخ المتأثرة بأفكار ما بعد الحداثة — مثل كتاب سيمون شاما «المواطنون: تاريخ الثورة الفرنسية»، (١٩٨٩) وكتاب أورلاندو فيجيز «مأساة شعب: الثورة الروسية ١٨٩١–١٩٢١»، (١٩٩٦) — هذه الوظيفةَ السرديةَ عرضًا واضحًا تمامًا؛ فنحن نتبع إحدى القصص، لكن ليس بوسع أي مؤرخٍ كان زَعْم أن هذه القصة هي «القصة الوحيدة»، حتى وإن كان ذلك ما يهدف إليه. وبصرف النظر عن أي عامل آخر، فإن العلاقة بين «المُختلَق» أو «المُجمَّع» وبين «المُكتشَف» أو «الظاهِر» ستظل دومًا محل خلاف وخاضعة للتفسير. ينطبق هذا قطعًا على الحالات المعقدة التي تثير لدينا أكبر قدر من الاهتمام، فالادعاءات البسيطة للغاية — التي توضح أن العلاقة بين الواقع والقصة المسرودة قد «لا تقبل الجدل» في بعض الأحيان — لن تساعدنا كثيرًا في تطوير فهمنا للممارسات الثقافية التي تحكم كتابة نوع التاريخ ذي الأهمية في هذا العالم، كالذي يدعم فهمنا لعلاقة الكتابة التاريخية الأمريكية بالمعتقدات السائدة حول الحرب الباردة، أو بتاريخ الخلاف والمعارضة لدى اليسار، أو بما إذا كان آل روزنبِرج مذنبين، أو بما أدى إلى إطلاق الرصاص على كينيدي في تكساس. وقد أسهب المؤرخون النِّسْويون في توضيح الانتقاء الثقافي (من هذا المنظور) الملحوظ لدى معظم الروايات التاريخية.
وعلاوة على ذلك — وعلى أبسط المستويات — سيستخدم الروائي والمؤرخ لغة تعج بالمجازات أو الاستعارات، التي ستبين لنا كذلك مدى بُعد التاريخ عن الاهتمام بالحقائق الحَرفية المجردة. إن القضية هنا لا تقتصر على العلاقات السببية داخل الحبكة التاريخية فحسب، بل تمتد لتشمل جميع المسارات التقليدية وغير التقليدية نسبيًّا في اللغة التي ورثناها.
وانطلاقًا من هذه النقطة — حسب رؤية ما بعد الحداثة — من المتوقع أن تلقى بعض خصائص التاريخ الأخرى مصيرًا مماثلًا؛ فبالتأكيد إذا كانت احتماليةُ وجود تاريخ واقعي في حد ذاتها احتماليةً مرفوضة، وإذا كانت الحقائق ستُعتبر على الدوام مجرد أمور تربطها علاقة نسبية مع المسلَّمات النظرية التي تشكِّلها والتفسيرات التي تُطرح بناءً عليها، وإذا كانت الأدلة سيُنظر لها دومًا في إطار علاقتها بعملية بناء السياق المناسب لها، فحتى التناول الشديد الجدية للأدلة التاريخية أو «المصادر الأولية» الذي يبدو بعيدًا عن السرد سيحمل حتمًا مسلَّمات سردية؛ ومن ثمَّ، سيتخذ التاريخ في الأساس شكلًا أسطوريًّا يكشف عن ذاته متجليًا في الأدب ويقدم البنية المفاهيمية الأساسية للتاريخ. وإذا سلَّمنا بأن استخدام تلك البِنى التأويلية الأساسية أمرًا حتميًّا، فإن نسبية ما بعد الحداثة تصبح هي القاعدة؛ إذ من الواضح أن تلك البِنى المتبارية المستقاة من الأسطورة ينافس بعضها بعضًا. وإذا أنكرنا وجود طريق مباشر لمعرفة الماضي، فإننا لا نملك سوى قصص متنافسة، أضفى عليها المؤرخون ترابطًا منطقيًّا بطرق مختلفة؛ ومن ثمَّ يصير الماضي ليس أكثر مما يحاول المؤرخون — الذين نعتمد عليهم لأسباب ثقافية متنوعة — زعمه. وعلاوةً على ذلك — وفقًا للكثير من أتباع ما بعد الحداثة — فإن البِنى السردية التي يفضِّلها المؤرخون ستحمل حتمًا تضمينات أيديولوجية أو فلسفية قد تثير استهجانًا؛ كأن تعكس مثلًا اعتقادًا برجوازيًّا مستحدثًا للغاية بأهمية العامل البشري المستقل عوضًا عن النظم الاقتصادية الكامنة، كما يتضح في الأمثلة التي استشهدنا بها سابقًا.
لكن ماذا إذن عن تمييزنا لما هو حقيقي، وموثوق به، وتُحتمَل صحته عندما نقرأ التاريخ؟ حتى أتباع الفلسفة التجديدية المنتمين انتماءً واعيًّا إلى الفكر ما بعد الحداثي يحاولون مساعدتنا في تشكيل معتقدات «أفضل» حيال ما يظنون أنه حدث بالفعل. ويوجد بالفعل ما قد نطلق عليه بوجه عام سردًا يقدم وصفًا ملائمًا، كذلك من الممكن تحقيق قدر كبير من التوافق بين اللغة والواقع؛ فلا أحد تقريبًا يؤيد طمس ما يُسلَّم بكونه دليلًا، وفي الواقع، ليس للمؤرخين مطلق الحرية في اختلاق الأشياء، وهو ما أثبته الجدل المثار حول «منكري الهولوكوست». ولكن، لا يتمتع الروائيون الواقعيون بدورهم عندئذٍ بِحُرية كبيرة في اختلاق الحوادث، فلا بد لهم من معرفة الكثير مما يعرفه المؤرخ، وأكثر من ذلك. إن نسبية ما بعد الحداثة لا تعني بالضرورة أن «كل شيء مسموحٌ به»، أو أن الأدب والروايات المبنية على أشخاص وأحداث تاريخية لا تختلف عن التاريخ. لكن ما تقصده حقًّا هو تنبيهنا إلى أن نراعي قدرًا أكبر من الوعي المتشكك ونتخذ موقفًا أكثر نسبية — وأكثر يقظة — تجاه الافتراضات النظرية التي تدعم الادعاءات التي يطرحها جميع المؤرخين، سواء كانوا يعتبرون أنفسهم تجريبيين أم تفكيكيين أم «تاريخيين جُدد ينتمون إلى ما بعد الحداثة».
ينطبق ذلك بالقدر نفسه على مؤرخي ما بعد الحداثة مثلما ينطبق على المؤرخين التقليديين؛ على سبيل المثال (كما ورد في كتاب ريتشارد إيفانز «دفاع عن التاريخ»، انظر مراجع الكتاب)، عندما هاجمت ديان بوركيس وصف كيث توماس للساحرات باعتبارهن في أغلب الأحيان نساءً متسولات لا حول لهن ولا قوة، زعمت أنه يكرر ببساطة «أسطورة تمكين»؛ حيث «تستند هوية الرجال التاريخية إلى انعدام حيلة النساء وصمتهن.» رد ريتشارد إيفانز — داعمًا توماس — عليها زاعمًا أن «النساء الفقيرات العجزة غير المتزوجات اتُّهمن غالبًا بممارسة السحر؛ لأنهن — على العكس تمامًا من التزام الصمت — كنَّ يَلْعَنَّ أولئك الرجال الذين رفضوا إعطاءهن الصدقات.» يبدو هنا وكأن مزاعم توماس التجريبية تصادمت ببساطة مع قاعدة السرد التاريخي المحورية المنافسة التي تتبناها بوركيس، والتي تقضي بوجوب استخدام السرد التاريخي من أجل دعم المفاهيم الحديثة حول تمكين المرأة.
إنَّ تطابقًا دقيقًا بين السرد وبين «الماضي» أمر مستحيل؛ إذ يمكننا وصف «نفس» الحدث بطرق كثيرة ومختلفة، فضلًا عن أن مَدخلنا إلى الأدلة دائمًا ما يكون عبر وسيط، ولا يوجد شيء واضح ببساطة؛ فلطالما وُجدت أجزاء مفقودة وفجوات وتحيزات ينبغي التعامل معها. مع ذلك، ما زال بإمكان الادعاءات التوافق مع الأدلة «المفسَّرة»، وما زال في وسع الأدلة الجديدة إسقاط تلك الادعاءات. وعلاوة على ذلك، لا تلائم جميع أشكال السرد الأدبي الأحداث والحقب التاريخية بنفس الدرجة؛ فكما يوضح مانزلو، لن تحظى انتفاضة جيتو وارسو التي وقعت عام ١٩٤٤ بسرد ملائم — ومن ثمَّ بتفسير جيد — إذا اعتبرت رواية غرامية أو مسرحية هزلية أو تراجيدية. إن أفضل ما نستطيع تحقيقه هو النقاش حول طبيعة الأحداث السابقة ومعناها، ويزعم ما بعد الحداثيين (وآخرون كُثُر) أنه ينبغي إبقاء هذا النقاش صريحًا ودقيقًا قدر الإمكان؛ فالعاقبة المترتبة على عدم مراعاة الانتباه هي احتمال ظهور «رواية رسمية» تتحول إلى الرواية الحقيقية والنهائية حول الماضي في أعيننا؛ ومن ثم، قد تتمكن كذلك من تكوين جزء من «أيديولوجية مهيمنة» غير عادلة — نظرًا لتشوهها الواضح — داخل المجتمع المتلقي لها، كما حدث على ما يبدو لكلٍّ من الطرفين الأمريكي والسوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة. في هذا الإطار، لا يختلف المؤرخون التفكيكيون عن بقية المؤرخين إلا في الميل إلى إبداء القلق علنًا حيال صعوبات وظيفتهم، أثناء الكتابة.
الهجوم على العِلم
عبَّر أتباع ما بعد الحداثة عن أشد مواقفهم السياسية تطرفًا (وأكثر الإشكاليات المرتبطة بهم وضوحًا) عندما هاجموا مزاعم العلم الموضوعية؛ فمن الواضح أن العلماء يعتبرون أنفسهم مشاركين في وضع نظرية موحَّدة أو «حكاية كبرى» حول الموضوع الذي يدرسونه، ويعتقدون أنهم يحاولون إكمال صورة تصف ما يحدث حقًّا «في الواقع» (رغم أن هذه الصيغة تعتمد أيضًا على نموذج مجازي مضلل على نحو واضح). فهل يمكننا التقاط «صورة» لثقب أسود أو المسافة النونية الرباعية الأبعاد؟
وهكذا أصبحت مزاعم العلم موضع شك. لكن مَنْ يقدر الآن حقًّا على إنكار «الادعاء الكبير» للتطور، باستثناء مَنْ يرزحون تحت سيطرة ادعاء رئيسي أقل معقولية بمراحل مثل نظرية الخَلْق؟ ومَنْ يرغب في إنكار صحة مبادئ الفيزياء الأساسية؟ الإجابة هي «عدد مِن أتباع ما بعد الحداثة»، بناءً على أسباب سياسية من بينها أن منطق التفكير العلمي الهرمي بطبيعته منطق خاضع مرفوض. فلننظر — على سبيل المثال — إلى الادعاء (العبثي) الذي طرحه برونو لاتور حول كون نظرية النسبية لأينشتاين «إسهامًا في علم اجتماع التفويض» بما أنها تتضمن تخيل كاتب البحث العلمي — أي أينشتاين — أنه أرسل مراقبين لتسجيل قياسات موقوتة للأحداث، التي تعرضها النظرية بعد ذلك باعتبارها ترتبط فيما بينها بعلاقة نسبية؛ إذ يرى لاتور على ما يبدو أن في وسع المفاهيم الاجتماعية شرح القواعد العلمية الأساسية.
إنَّ العلماء — حسبما يعتقد معظمنا — هم العالمون حقًّا بحقيقة الأشياء؛ فهُم مَنْ يكشفون طبيعة الطبيعة، ومعرفتُهم بالقوانين السببية تمكِّننا من التوصل إلى اختراعات تُحدِث فارقًا، مثل الرقاقات الإلكترونية الفائقة الصغر، فضلًا عن أن قواعدهم المعيارية فيما يتعلق بالأدلة والتدقيق والإجماع العام — التي تتحكم في النهاية في النماذج أو الأطر المفاهيمية التي يستعينون بها في عملهم — هي (أو ينبغي أن تكون) أفضل ما نعرفه (أفضل بكثير — على سبيل المثال — من تلك المعايير السائدة بين علماء الاقتصاد). تلك باختصار هي معايير الحصول على جائزة نوبل.
- (١)
قدرتهم على تقديم وصف وتحليل موضوعي وصادق — ومن ثمَّ صالح للتطبيق الشامل — للواقع الفيزيائي المحيط بنا.
- (٢)
اعتبارهم أن التحقيق العلمي الذي يقومون به مسعًى نزيهٌ لاكتشاف حقائق حول عالم الواقع، يمكن تطبيقها تطبيقًا عالميًّا؛ أي إنها صحيحة في كل مكان، ومستقلة تمامًا عن أي قيود ثقافية محلية، ومستقلة على وجه التحديد عن أيٍّ من الدوافع الأيديولوجية أو الأخلاقية الخفية نوعًا ما، التي ربما أوحت إليهم باكتشافاتهم.
يرى أتباع ما بعد الحداثة — النسبيين إلى حدٍّ كبير — أن العلماء لا يسعهم التمتع بتلك الامتيازات؛ فهم لا يروجون إلا ﻟ «قصة واحدة بين قصص كثيرة»، فضلًا عن أن حُججهم لا يمكن الاستدلال عليها؛ فهم لا «يكتشفون» طبيعة الواقع بقدرِ ما «يصوغونها»؛ ومن ثمَّ فإن عملهم معرَّض لشتى أنواع التحيزات والمجازات الخفية التي شهدنا كيف كشف عنها التحليل ما بعد الحداثي في الفلسفة واللغة العادية المألوفة. كذلك ينبغي ألا تكتفي الأسئلة الرئيسية المطروحة حول العلم بالتركيز على مزاعمه المبالَغ فيها (والمتمركزة حول اللغة) بامتلاك الحقيقة، بل ينبغي أن تركز أيضًا على الأسئلة السياسية التي تثيرها مكانته وتطبيقه المؤسسي، اللذان تشكِّلهما المخططات الأيديولوجية لدى النُّخب المهيمنة. تعكس هذه الرؤية صورة متطرفة من النسبية التي واجهناها من قبل؛ إذ إن الهجوم على العلم لا ينصبُّ فقط على التفسيرات الفلسفية للعالم — التي طالما ظلَّت محل نزاع — بل يشمل كذلك التحليلات المثبتة تجريبيًّا حول طبيعة العالم (سواء في مجال الطب وتطوير الكمبيوتر أو في علم الطيران وصناعة القنابل) التي نجحت في إثبات «صحتها» على ما يبدو.
سنحتاج عند دراسة هذا الهجوم ما بعد الحداثي إلى مراعاة الفصل قدر الإمكان بين القضية المعرفية والقضية الأيديولوجية لدواعي الوضوح. وبالطبع، فإن النقطة التي يرغب من أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيون وأتباعهم في إثباتها هي أن هاتين القضيتين — من منظورهم — لا يمكن الفَصْل بينهما على الإطلاق. لكني أرفض ببساطة افتراض كونهم على حق؛ فمن الواضح تمامًا وقطعًا أن «دوافع» الاكتشاف العلمي وعواقبه عرضة للنقد السياسي والأخلاقي، وهو أمر ليس بجديد، فالكثير ممن عملوا في مشروع صنع القنبلة الذرية — لا سيَّما روبرت أوبنهايمر — كانوا يدركون ذلك تمام الإدراك. أما ميكانيكا الكَم والهندسة الوراثية ومعلوماتنا العلمية حول المناخ العالمي، فتربطها بالتأكيد علاقات مختلفة إلى حدٍّ مثير للاهتمام مع تمويل الأهداف العسكرية والسياسية الغربية ومساعي تحقيقها. لكننا نستطيع قبول تلك الأحكام السياقية دون أن نزعم بناءً عليها فشل أنشطة العلماء الرئيسية، بطريقة أو أخرى، في الوصول إلى أكثر طريقة مضمونة في وسعنا استخدامها لتحليل الطبيعة. يوجد قطعًا شيء عجيب للغاية في الاعتقاد بأن أنشطة العلماء أثناء البحث — على سبيل المثال — عن قوانين سببية أو نظرية موحَّدة، أو عند التساؤل عما إذا كانت الذرات تذعن حقًّا لقوانين ميكانيكا الكَم؛ هي بطريقةٍ ما أنشطة «برجوازية بطبيعتها»، أو «ذات توجه أوروبي»، أو «ذكورية»، أو حتى «مُشبَّعة بالروح العسكرية».
يرجع هذا — على الأقل جزئيًّا — إلى أن حقائق العلم تبدو في واقع الأمر حقائق قاطعة لدى الاشتراكيين، والأفريقيين، والنِّسويين، والعلماء دُعاة السلام على حدٍّ سواء (رغم أن بعض الأفراد في تلك الفئات ينكرون ذلك)، على عكس حقائق السياسة أو الدين؛ إذ لا يقبل العلماء التجريبيون سوى الحقائق التي تتسم بإمكانية التطبيق الشامل، مثل أن الأسبرين يجدي في جميع الحالات، فتلك إحدى الحقائق التي لا يقبلون النظر إليها من منظور نسبي (سياسيًّا أو ثقافيًّا). وعلى الرغم من أن في وسع أي عالِم ذَكَرَ حالات أدى فيها الضغط السياسي إلى أبحاث علمية عديمة الفائدة (مثلما حدث عندما فرض الاتحاد السوفييتي وجهة نظره الرسمية في علم وراثة النباتات، والتي عرفت باسم الليسينكووية)، وأخرى مفيدة (كما حدث في أثناء دراسة مرض الإيدز)؛ فإن نتائج تلك الأبحاث ستظل على المدى الطويل محصورة ضمن جماعة العلماء فحسب إذا التزموا بالاختبارات المعتادة، المنفصلة عن أي سياق سياسي.
يقوِّض أستاذا الفيزياء، آلان سوكال وجان بريكمو، مزاعمَ نقاد علمِ ما بعد الحداثة؛ حيث يشيرون إلى أنهم غالبًا ما يُبدون فشلًا ذريعًا في فهم مزاعم العلم التجريبية وطرق تطبيق المصطلحات النظرية الرئيسية، وكثيرًا ما يستبدلونها — عندما يطبقون أنماط الفكر العلمية على العالم السياسي — بعدد كبير من المجازات المضللة والغامضة والمتحيزة. يترتب على ذلك — حسب كلمات سوكال وبريكمو — «غموض وحيرة، ولغة مبهمة عن قصد، وتفكير مشوَّش، وإساءة استخدام للمفاهيم العلمية.» على سبيل المثال، يزعم جان بودريار أن في حرب الخليج «أصبح فضاء الحدث فضاءً فوقيًّا ذا انكسارات ضوئية متعددة، وأصبح «مجال الحرب دون شك نطاقًا لا إقليديًّا».» يعلِّق سوكال وبريكمو على هذا زاعميْن أن مفهوم «الفضاء الفوقي» المطروح هنا «لا يوجد ببساطة في الفيزياء أو الرياضيات»، وأنه لا جدوى من التساؤل عن ماهية مجال الحرب الإقليدي، فضلًا عن وضع نظرية تفسِّر نوع الفضاء الذي «اختلقه» بودريار توًّا عن طريق فهمه الخاطئ للمصطلحات العلمية وسوء استخدامه لها.
إذن أحد ردود العلماء على أتباع ما بعد الحداثة تسلِّم بأنهم قد يُبدون اهتمامًا ذا قيمة حقيقية في مجالات علم الاجتماع وتسييس العلم، لكنهم ببساطة لا يفهمون آليات عملها الفعلية وطبيعة الحقائق التي تحاول تلك المجالات إثباتها فهمًا جيدًا. يتشابه هذا الرد اللاذع مع مأخذ الفلاسفة المنتمين للاتجاه الأنجلو أمريكي على بَعد الحداثيين، الذي يزعم عدم فهمهم كذلك لآليات عمل الفلسفة المتمركزة حول اللغة وإنجازاتها، وأن هذا قد يرجع إلى أن معظم مُنظِّري ما بعد الحداثة المرموقين لا يهتمون كثيرًا على ما يبدو بإجراء حوار بنَّاء مع أحد باستثناء بعضهم البعض؛ إذ إن تلهُّفهم على اتخاذ المواقف التي تبدو «مقبولة اجتماعيًّا وثقافيًّا» قد أدى بهم غالبًا إلى التعبير عن أوصاف غاية في الغرابة وقائمة على معلومات خاطئة — إن لم تكن متحيزة اجتماعيًّا وثقافيًّا — لما يقوم به العلماء. تتمحور كتب سوكال وغيره حول هذه الفكرة الرئيسية (لا سيَّما بعدما اكتشف سوكال عام ١٩٩٤ تقريرًا ملفقًا حول نشاطه العلمي — يعج بالأخطاء العلمية الفادحة والاستنتاجات المتناقضة — منشورًا في مجلةٍ ما بعد حداثية تدعى «سوشال تيكست»).
إنَّ الكثير من هجمات أتباع ما بعد الحداثة على العلم — التي تحاول إظهار السمات السياسية المتأصلة في النشاط العلمي الغربي التجريبي — ليست مبنية على معلومات خاطئة فحسب، بل تتَّسم بنوع غريب من إساءة الفهم؛ إذ تكتفي عادةً بفرض مجازات أو مقارنات على الاكتشافات العلمية حتى تبدو كأنها — تحت تأثير التحليل التفكيكي الموضَّح أعلاه — تتضمن تصريحًا أو موقفًا سياسيًّا ما غير ذي صلة تمامًا وفعليًّا بالحقائق التي تحاول تلك الاكتشافات إثباتها.
نذكر هنا — على سبيل المثال — مقال عالِمة الأجناس البشرية إيميلي مارتن «البويضة والحيوان المنوي» الذي كثيرًا ما يشار إليه، والذي يزعم أن «صورة البويضة والحيوان المنوي المستخدمة في التقارير الشائعة والعلمية على حدٍّ سواء عن علم الأحياء التناسلي؛ تعتمد على قوالب نمطية تلعب دورًا حيويًّا في تعريفاتنا الثقافية للذكر والأنثى.» «لا تشير تلك القوالب النمطية إلى أن العمليات البيولوجية لدى النساء تقل في قيمتها عن مثيلتها لدى الرجال فحسب، بل تشير كذلك إلى كون النساء أدنى قيمة من الرجال.» يؤكِّد ذلك النوع من الأدبيات على مفهوم البويضة الأنثوية «السلبية» و«البريئة والخجولة» في مقابل الحيوان المنوي الذكوري «المسيطر» و«النشط»، وبالتأكيد تستخدم بعض تقارير المقررات الدراسية هذا التشبيه المتحيِّز بالفعل. لا تنتهي القضية عند هذا الحد، بل يتصور النقاد ما بعد الحداثيين أن هؤلاء العلماء الذكوريين — نتيجة لافتراضاتهم الذاتية التي أفسدتها التأثيرات السياسية — قد أخطئوا فَهْم القواعد العلمية التي تحدد العلاقة بين البويضة والحيوان المنوي؛ حيث يسود الآن الاعتقاد بأن البويضة (الأنثوية) هي التي تنشط و«تقبض على الحيوان المنوي (الذكوري)» (الذي سبح مسافة طويلة قبل حدوث ذلك). لكن، تُرى هل تسببت الافتراضات الأيديولوجية الذكورية حول تفوق الذكر وعدوانيته في تعطيل هذه الرؤية الجديدة أو الحيلولة دون ظهورها بالفعل؟ هل يُعقَل — عند وصف النشاط العلمي — أن نزعم أن مثل تلك الافتراضات قد تؤدي إلى مثل هذا النوع من التعطيل؟ (لا يعني ذلك إنكار أن الانشغال بالذَّكر قد أسفر بالتأكيد عن تعطيل دراسةِ علم وظائف الأعضاء الأنثوي دراسةً دقيقة.)
يعكس هذا المثال قضيتين؛ تتمحور القضية الأولى حول الارتباطات المجازية بين الأوصاف المتنوعة للبويضة والحيوان المنوي وبين قوالب النوع الاجتماعي النمطية. على سبيل المثال، يبني سكوت جيلبرت على هذه الارتباطات ليكتب (بأسلوب مبتذل) عن «التخصيب كنوع من الاغتصاب الجماعي العسكري؛ فالبويضة هي العاهرة التي تجذب الجنود مثل المغناطيس»، وهلم جرًّا. لكن هذا الارتباط في جميع الأحوال ليس سوى مبالغة فجة؛ فمثل تلك التعبيرات لا تظهر في الواقع في الدراسات العلمية الجادة حول هذا الموضوع. فضلًا عن أن هذا التفسير المجازي بالكامل — الذي يتوافق تمامًا رغم ذلك مع اهتمامات أتباع ما بعد الحداثة — يبدو في رأيي تافهًا وسخيفًا نسبيًّا، وبلا أفق؛ لأن أيَّ شخص يرغب في تعميم أيٍّ من الرؤيتين حول العلاقات بين الحيوان المنوي والبويضة، كي يبرر أو يفسر طبيعة أي تفاعلات أوسع نطاقًا بين الذكر والأنثى، سيطرح بالتأكيد قاعدة تبسيطية مضحكة مثل: «لطالما كان الوضع هكذا منذ مرحلة البويضة والحيوان المنوي!» إن مثل هذا الزعم يُغفِل إلى حدٍّ كبير القضية المتعلقة بإمكانية تعديل العلاقات الأنثوية الذكورية، فضلًا عن طرحه استنتاجًا ضمنيًّا آخر أكثر ضررًا بمراحل حول العلم يدَّعي أنه أخفق في مراعاة الموضوعية في هذه الحالة، وأن الاكتشاف «الجديد» صحَّح التحيز الذكوري في الأبحاث العلمية. لكن من الكذب البيِّن الزعم بأن العلماء الذكور ظلوا يتجاهلون دور البويضة الأنثوية الفعَّال إلى أن استحثهم النسويون على الاعتراف به، كما يوضح بول جروس. فقد أشار عالِم الأحياء جست عام ١٩١٩ (الذي استَشهد كذلك ببحث علمي صادر عام ١٨٧٨) أن البويضة «تقبض على» الحيوان المنوي أو «تبتلعه»، ويضيف جروس أن وجهة النظر تلك كانت شائعة في المقررات الدراسية منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدًا.
تخضع مجادلات ما بعد الحداثة المتطرفة تلك لهجوم شديد حاليًّا، لكنها غيَّرت إلى حدٍّ كبير الطريقة التي يُنظَر بها إلى المجالات العلمية في الثقافة الأوروبية والأمريكية، لتصبح أكثر تشكُّكًا وتسييسًا.
غنيٌّ عن القول بالطبع أن التاريخ وكتابة الروايات وصناعة الأفلام والعلم وإعداد التقارير الإخبارية «الواقعية»، استمرت على نفس النهج في عصر نظريةِ ما بعد الحداثة؛ إذ تمتعت بمستوًى عالٍ من القبول العام؛ ومن ثمَّ لا بد أن الكثير مِمَّنْ جذبتهم النظرية والفن ما بعد الحداثي قد وجدوا أنفسهم عالقين بين عالَمَين معرفيين متناقضين.
إنَّ هذه المعركة بين أتباع ما بعد الحداثة وغيرهم في مجالات الفلسفة والنظرية وبين التاريخ والعلم، تتمحور في الأساس حول مزاعم التوحيد في مواجهة الأقوال المتناقضة، والتضاد بين البناء التعاوني والتفكيك الفردي. إلا أن كلًّا من الجانبين يحتاج الآخر؛ إذ عارض بعد الحداثيين بناءً على أسس تحررية جميعَ التفسيرات الشمولية (حتى وإن أعادوا الاعتراف بها على نحو مستتر عن طريق الترويج لنقاشات تتعاطف مع تلك التي طرحها فرويد وماركس)، وكان لنقدهم السلبي المعارِض ما بعد الحداثي — كما سنرى لاحقًا — تأثير تحرري هائل في كثير من جوانبه، لا سيَّما على النساء والأقليات الثقافية والكثير من الاتجاهات الفنية الطليعية. الأقرب إلى الواقع أن أفكار فنانٍ ما قد يُنظَر إليها بوصفها ضربًا من «العبث»، لكن الأمر لا ينطبق على أفكار المؤرخين والعلماء، وبالتأكيد المحامين، الذين لا يسعهم مطلقًا تطبيق شكوكية ما بعد الحداثة على قانون الإثبات، أو على فكرة أن المحاكم أُنشئت بطريقة أو بأخرى كي تحدد حقيقةَ أو أرجحيةَ روايتين مختلفتين لما حدث بالفعل.
طُبقت أساليب ما بعد الحداثة النقدية تطبيقًا أكثر نجاحًا بمراحل على المشكلات الاجتماعية والأخلاقية؛ إذ أدت — على سبيل المثال — إلى «هدم» «الادعاء الكبير» لسلطة الرجال ومقاومة النساء لهيمنتها. وسأنتقل الآن إلى تلك القضايا السياسية والأخلاقية.