ثقافة ما بعد الحداثة
تتسم العلاقة بين المناخ الفكري الموضح في الفصول السابقة وبين الإبداع الفني بالتعقيد. فكما هو متوقع، انجذب كثير ممن اعتبروا أعمالهم الفنية مبتكرة أو طليعية — لكن ليس جميعهم — إلى التحدي النقدي الجديد الذي تطرحه الموضوعات الرئيسية في الفِكر ما بعد الحداثي. لكن علينا أن نضع نُصب أعيننا أن المبدعين قد لا يحتاجون إلى فَهْمٍ أكاديمي أو فلسفي عميق لتلك الموضوعات. وفي وسعهم كذلك استقاء «أفكارهم الجديدة» من الحوار والكتابات الصحفية التي غالبًا ما تعرض تلك القضايا، والتي أحيانًا ما يسيئون فهمها أو يستوعبونها على نحو ناقص أو مبالغ فيه. لكن تلك هي الطريقة التي تنتشر بها الأفكار المهمة — مثل الفيروسات — في المجتمع.
يطرحوا التساؤلات حول قواعد الرسم أو السرد التي تعلَّموها ممَّن سبقوهم. وسرعان ما ستبدو لهم تلك القواعد وسيلة للخداع والإغواء والطمأنة، وهكذا، من المستحيل أن يروها «حقيقية».
بالتأكيد، من الطبيعي أن يرى الكثير من معلِّقي ما بعد الحداثة (مثل أندرياس هويسن) أن الوظيفة «الحقيقية» للحركة الفنية الطليعية هي النقد بالمعنى ما بعد الحداثي؛ إذ ينبغي عليها أن تهاجم المؤسسات الفنية البرجوازية؛ ومن ثمَّ تولي وجهها نحو المستقبل (ربما مستقبل أفضل). بالطبع، لا ينطبق هذا المفهوم بأي حال على جميع الحركات الطليعية في عصرنا أو قبله؛ إذ يطرح منهجًا سياسيًّا لا يتضمن — على سبيل المثال — مفهوم المعماري تشارلز جنكِس وزملائه عمَّا بعد الحداثة (فهم يطرحون رؤية شديدة الغرابة لها مقارنةً بما يطرحه هذا الكتاب)، وهو الذي يتضح في تأييدهم لارتداد محافِظ لما يعترفون بكونه محاكاة ساخرة للواقعية الكلاسيكية الجديدة في مجالَي الرسم والعمارة.
وهكذا يتردد صدى المبادئ التي ناقشناها آنفًا في فنِّ ما بعد الحداثة بطرق متنوعة للغاية وغير مباشرة عادةً، فهو يقاوم رواية الحداثة الكبرى، وسلطة الفن الرفيع التي تستقيها الحداثة نفسها من الماضي، وينشغل بلغته الخاصة. لا يهتم فن ما بعد الحداثة في أغلب الأحيان بالعلاقة بين الأنواع الفنية المصنَّفة سابقًا كأنواع «رفيعة المستوى» أو «منخفضة المستوى» — كما يتضح، على سبيل المثال، في سيمفونيتَي «انخفاض» (١٩٩٢) و«أبطال» (١٩٩٧) للملحن فيليب جلاس، المستوحاتين من ألبومات ديفيد بوي وبراين إينو الغنائية — وقد يبدو في كثير من الأحيان تافهًا أو شعبيًّا أو مبتذلًا إلى حدٍّ كبير؛ فالتحالف مع الثقافة الشعبية — حسب رؤية ما بعد الحداثة — يتسم بطابع معارض معادٍ للنخبة وللتدرج الهرمي، ويبث الفوضى في السرد — كما نرى على سبيل المثال في رسومات إريك فيشل وديفيد سال الرمزية — لأن من السهل للغاية على السرد المتماسِك أن يتَّحد برواية كبرى. (لذلك، فإن رسَّامين مثل أنسليم كيفير — ممن يكرسون أنفسهم لإضفاء طابع فخم على الأعمال الفنية من خلال ربطها «ربطًا عميقًا» بالتاريخ والأسطورة — هم أبعد ما يكونون عن اتجاهِ ما بعد الحداثة السائد.) يهتم جزءٌ كبير من فنِّ ما بعد الحداثة بأشكال الهوية والسلوك التي هُمِّشت حتى الآن. وهو ما نجده في الأعمال الفنية النسوية الجادة للفنانة ماري كيلي — التي وثَّقت علاقتها بطفلها الوليد في عمل بعنوان «وثيقة ما بعد الوضع» (١٩٧٣–١٩٧٩)، (وتكشف كلمة «وثيقة» هنا عن طبيعة العمل الفني باعتباره نصًّا ذا مغزًى سياسي لا صورة مصمَّمة شكليًّا كي تبعث متعةً بصرية) — وكذلك في عروض المغنية مادونا على المسرح وكتابها «الجنس» (١٩٩٢)، الذي طرح علاقة مختلفة تمامًا بمفهوم اللذة، وكان صادمًا للكثير من أتباع الحركة النسوية لما وصفه من الخضوع «المسرحي» للمؤلفة للممارسات السادية المازوخية باعتبارها «ضحية» للرجال.
يظهر هذا الموقف النقدي غالبًا — كما سنرى لاحقًا — في شكل معارضات ومحاكيات ساخرة، ومفارقات. ومن هنا، ينبع — على سبيل المثال — عمل جيف كونز الفني الهابط «مكنسة هوفر الكهربائية الجديدة ذات الغطاء القابل للطي» (١٩٨٠) الذي لا يزيد في الواقع عن آلة تنظيف متوافرة في الأسواق، موضوعة فوق مصابيح فلورية في صندوق من الزجاج الصناعي. يقدم العمل محاكاة ساخرة للأغراض المصنوعة آليًّا التي عرضها الفنان دوشامب؛ لأنه بالتأكيد يعرض غرضًا استهلاكيًّا «مرغوبًا فيه» (لا مجرد مبولة أو عجلة دراجة). لكن الجاذبية الاقتصادية لهذا الغرض تختلط على نحو واسع بجاذبيته الجمالية الزائفة التي تضعها في موضع السخرية، بما أنه قد أصبح الآن «عملًا فنيًّا» يُعرض في متحف لا منتج معبأ في صندوق كرتوني جاهز للبيع. أما عمل جيف كونز الفني «مكنسة هوفر الرباعية الانثناء الجديدة»، فيضاعف هذا التأثير أربع مرات.
إنَّ هدف الكثير من الأعمال المنتمية للفنون الطليعية لا يختلف في كثير من الأحيان عن الهدف الحداثي التقليدي — ألا وهو كسر الشعور بالألفة — لكن تحت مظلة نظرية معرفية ما بعد حداثية أكثر تطرفًا. فالهدف — في عصر ما بعد دريدا وفوكو وبارت، ممن اكتسحت صيغ مشوشة متنوعة من أفكارهم تصريحات الفنانين منذ سبعينيات القرن العشرين — هو منع المستهلك بصفته تابعًا من الشعور ﺑ «الاطمئنان» في العالم؛ إذ سيؤدي ذلك إلى تكيف نفعي محافِظ معه ليس إلا.
إنَّ التساؤل عن «مدى محاكاة كل شيء للواقع» لَأمرٌ غريب ومربك. هل يتوقع المرء أن تكون تجربته في بلد أجنبي «عمومًا» أكثر شبهًا بالفن لا بالحياة؛ ومن ثمَّ تبدو بعيدة عن الواقع، وغير حقيقية؟ أم إننا لا نراها فنًّا بقدرِ ما نراها عبر التحيزات النمطية والسياسية المشئومة؟ يطرح أبيش أسئلة ملتوية مميزة، مثل «هل هذا هو لون ألمانيا الحقيقي؟» فذلك سؤال غريب؛ إذ هل يمكن وصف الألوان بكونها حقيقية؟ ففي الرسومات والصور الفوتوغرافية وكتب التلوين (كل الأشياء التي تشغل بال أبيش بدرجة كبيرة) قد تشبه الألوان الواقع أو تتفق معه، لكن ذلك لا يحدث إلا عندما تظهر في نسخة أو تقليد للعمل الأصلي فقط. وبالطبع، تظل المفارقة الكبرى هي أن اللون هو أحد الأشياء التي تستعصي على الوصف عبر نصٍّ أدبي، فوصفنا له لن يكفي.
يجعلنا أبيش ندرك عبر ذلك الأسلوب أننا نملأ الفجوات في النص بأحكامنا المسبَّقة (أو بمشاعر الذنب)، على سبيل المثال عندما يلمح أن الألمان ربما «شتَّت انتباههم لون شيء آخر.» أيُّ لون يا تُرى، لون الأزياء الموحَّدة الرمادية أو البنية؟ ومن خلال وضع عام ١٩٢٣ (العادي) بجوار عامَي ١٩٣٣ و١٩٤٣، فإن النص يشير إلينا نحن، وكما يتضح في النهاية، ﻓ «نحن» تشير إلى متحدثي الإنجليزية.
يمكن اكتشاف المعنى، ظلال المعنى وطبقاته، في مكونات الصورة: البذلة الواسعة الانتشار المصنوعة من قماش الجبردين، والوشاح المزركش، والمنديل الحريري الأبيض الظاهر في جيب صدر السترة التي يرتديها، الكلب شناوتسر الألماني الذي يسيل لعابه، البنطلون الجلدي الأسود، الحذاء الطويل العالي الكعبين، شعر جيزيلا الأشقر المصفَّف للخلف، في تصفيفة تعكس نعومة وجاذبية جنسية حادة، وتُبرز وجهها العظمي الجميل الشاحب، السيارة اللامعة وكراسيها الجلدية الحمراء، وأخيرًا النوافذ الفرنسية المفتوحة جزئيًّا في الدور الأرضي التي تكشف لمحات رأسية من الحياة داخل المنزل؛ كل هذا يوضح الكفاءة الألمانية الجديدة ويعكس إحساسًا بالرضا والاكتمال. الأمر واضح تمامًا … إنها غريزة الجمع بين «الإتقان» و«التهديد» المتأصلة في الطبقة العليا والطبقة الوسطى العليا الألمانية.
نَصًّا يفرض حالة من الضياع، نصًّا مزعجًا (ربما إلى درجة الملل الأكيد)، نصًّا يزعزع افتراضات القارئ التاريخية، والثقافية، والنفسية ومدى اتساق أذواقه وقِيَمه وذكرياته أو ذكرياتها، ويخلق أزمة في علاقته أو علاقتها مع اللغة.
رواية ما بعد الحداثة
كما يتضح في المثال المقتبس من رواية أبيش، أدَّى الاتحاد الشديد الأهمية بين أفكار ما بعد الحداثة والثقافة الفنية — في أوروبا والولايات المتحدة — إلى نقد نسبي متشكِّك ومستمر لدعاوي محاكاة الواقع أو الواقعية في الفنون؛ إذ ساعدت شكوك ما بعد الحداثة الفلسفية حيال العلاقة الوصفية الدقيقة بين اللغة والعالَم في ظهور نوع من الفن — بدءًا من «الرواية الفرنسية الجديدة» وانتهاءً بأدب الواقعية السحرية — يعتمد على خلق كل أشكال العلاقات الفوضوية المحفِّزة بين الواقع والخيال. وبناءً على ذلك، يزعم برايان ماكهال أن الأسلوب «المهيمن» على أدب ما بعد الحداثة يتضمن شكًّا وجوديًّا حيال الطبيعة المتناقضة للعالَم الذي يعرضه النص، ويشير إلى أعمال بيكيت وروب جريه وفوينتيس ونابوكوف وكوفر وبنشن لدعم وجهة نظره.
إنَّ تقلُّبَ «العالم» الخيالي الذي نجد أنفسنا داخله وصعوبة إدراكنا له بأي طريقة موثوقة سمةٌ جلية في الكثير من روايات ما بعد الحداثة، فكل شيء يقف حجر عثرة في سبيل تحقيق ذلك؛ بدءًا من التناقض المنطقي البسيط في أعمال روب جريه، مرورًا بجنون الارتياب المميِّز لأعمال بنشن، وانتهاءً بروايات بارتلمي الخيالية الهزلية والقصص البوليسية المغلَّفة داخل قصص بوليسية أخرى كما في أعمال بول أوستر. ففي تلك الأعمال، تتناقض الحقائق البسيطة في عالم الرواية، وقد لا نجد مركزًا إدراكيًّا يُعتمَد عليه، ويشتهر الراوي — مثل أويديبا ماس في رواية بنشن «مزاد على مجموعة الطوابع رقم ٤٩» — في بعض الأحيان بارتباكه أو بجنونه؛ أي يعاني من تلك الحالة العقلية الغامضة التي تؤثر على عدد لا بأس به من أبطال ما بعد الحداثة.
كذلك تؤدي الشخصيات الدرامية — التي قد تجد طريقها إلى النص من التاريخ أو من أعمال أدبية أخرى كذلك — إلى ترسيخ حالة من اللايقين الوجودي؛ ومن ثمَّ نجد الرئيس ريتشارد نيكسون يحاول إغراء الجاسوسة السوفييتية إثيل روزينبرج في الليلة التي تسبق إعدامها في رواية كوفر «الحرق في ميدان عامٍّ» (١٩٧٧)؛ وفي رواية «راجتايم» (١٩٧٥) ينطلق فرويد ويونج في رحلة عبر نفق الحب في مدينة ملاهٍ أمريكية؛ بينما في قصة «المسيح يعظ هينلي ريجاتا» من مجموعة جاي دافينبورت القصصية «أناشيد الرُّعاة» (١٩٨١)، يقف كلٌّ من بيرتي ووستر (شخصية خيالية تنتمي لروايات الكاتِب البريطاني بي جي ودهاوس)، والشاعر الفرنسي مالارميه، والرسَّام راءول دوفي (الذي أتي كي يرسم الأحداث وتكاد تدهسه سيارة من طراز جاجوار إكس كيه إي) جنبًا إلى جنب على ضفة النهر.
تعكس أعمال ما بعد الحداثة المماثلة تناقضًا شديدًا مع الأعمال الأدبية الحداثية، بما فيها الأعمال الأشد تعقيدًا التي تتبع أسلوب فوكنر أو جويس وتكاد تراعي دومًا «قواعد اللعب النظيف» فيما يتعلق بعلاقة النص بعالم ممكن (تاريخيًّا)؛ بحيث يتمكَّن القارئ المثقف في جميع الأحوال تقريبًا من إعادة تشكيل حلٍّ للغز أو استخدام سجل زمني متسق قائم على السبب والنتيجة استخدامًا ذكيًّا. لكن تلك بالضبط هي السمات التي يراعي أدبُ ما بعد الحداثة تفكيكَها؛ فمن خلال عرض مواجهة بين عالم النص وعالمنا، يحقق أدب ما بعد الحداثة انتصارًا تشككيًّا مقلقًا على إحساسنا بالواقع؛ ومن ثمَّ على ادعاءات التاريخ المقبولة. وقد أدى ذلك إلى ظهور عدد من الأعمال الفنية التي تنتمي إلى نوع «القص الماورائي التأريخي» ما بعد الحداثي. يمزج هذا النوع الأدبي بين الموضوعات الخيالية والتاريخية، ويلمِّح ضمنيًّا أو يصرح بنقدٍ ما بعد حداثي للقواعد الواقعية التي تحكم علاقة الأدب بالتاريخ، كما عرضنا لدى هايدن وايت وغيره في السابق.
أحد أشهر تلك الأعمال التي تتلاعب بمفهوم التاريخ كرواية وما يتصل به من مفارقات ترتبط بالماضي؛ هي رواية جون فاولز «عشيقة الملازم الفرنسي» (١٩٦٩)، وهي قصة حب تدور أحداثها حول شاب مؤمن بالمبادئ الداروينية يدعى تشارلز، وخطيبته التقليدية إرينستينا، وامرأة شابة تجذب انتباه البطل تدعى سارة وودروف. لا تتضمن الرواية تعقيبًا ساخرًا من «المؤلف» على الأحداث المصوَّرة فحسب (فالمؤلف يعرف داروين لكن بطله ما زال في بدايات اكتشاف التطور، ويدرك المؤلف كذلك أن بطلته لديها إيمان أوَّلي بالفلسفة الوجودية، لكنها لا تدرك ذلك بالطبع؛ إذ تلجأ في النهاية إلى بيت الرسَّام روزيتي في منطقة تشيلسي هربًا من حبكة فاولز)، بل تضم كذلك كشفًا متعمدًا لمناورات المؤلف؛ إذ يعرض تعليقًا ما بعد حداثيٍّ على العصر الفيكتوري — يتضمن على سبيل المثال الاتجاهات الفيكتورية حيال الجنس — وعلى حبكة روايته التي تضاهي حبكات الروايات الفيكتورية — لا سيما روايات توماس هاردي — أو تعرض محاكاة ساخرة لها.
هذه القصة التي أرويها كلُّها من وحي الخيال. تلك الشخصيات التي ابتدعتها لم توجد قط خارج عقلي. إذا كنت قد تظاهرت حتى الآن أنني على علم بما يدور في عقول شخصياتي وبأعمق أفكارهم، فذلك يرجع إلى أني أكتب (بنفس الطريقة التي استوليت بها على بعض الكلمات وانتحلت طريقة للسرد) وفقًا للأسلوب السائد عالميًّا في زمن قصتي الذي يضع الروائي في مرتبة تجاور مرتبة الإله، ومع أنه قد لا يتمتع بمعرفة كلية، فإنه يحاول التظاهر بذلك. لكني أعيش في عصر آلان روب جريه رولان بارت؛ ومن ثمَّ إذا كان ما أكتبه رواية فمن المستحيل أن تتفق مع مفهوم الرواية الحديثة.
إذن ربما أكتب الآن سيرة ذاتية في شكل رواية، ربما أعيش الآن في منزل من المنازل التي استخدمتها في الأحداث الخيالية، ربما كان تشارلز هو أنا متنكِّرًا. ربما كان الأمر كله لعبة. يوجد في الحياة نساء عصريات مثل سارة، لكني لم أفهمهن قط. أو ربما أحاول تقديم كتابٍ يضم مجموعة من المقالات متنكرٍ في شكل رواية.
يؤدي هذا الأسلوب إجمالًا إلى شتى أنواع المفارقات الجادة التي تنبع من الشخصيات التي تظن أنها حرة بينما نراها نحن في ضوء معرفتنا السابقة خاضعة إلى حدٍّ كبير لوجهات النظر (وبالطبع إلى الخطابات) السائدة في عصرها. تعكس الرواية قدرًا كبيرًا من الوعي الذاتي والانعكاسية والنسبية والشكوكية يلبي رغبات أي قارئ ما بعد حداثي؛ ففي وسعنا كقُراء أن نتوحَّد مع الشخصيات ونتعاطف معها (كما يحدث عادةً في الروايات الواقعية)، وفي الوقت نفسه نرى الشخصيات من الخارج ونحكم عليها (من وجهة نظر معاصرة ساخرة غير ملائمة). وفي نهاية الرواية، يطرح «المؤلف» — ناظرًا إلى بطله الجالِس في عربة قطار — على القارئ نهايتين مختلفتين.
على سبيل المثال، كان ثمة حيوان كسلان يتمتع بهدوء غير مسبوق — كان مخلوقًا رائعًا بشهادتي الشخصية — ما إن نزلَ إلى قاعدة الشجرة التي يسكنها حتى جرفته أمواج الانتقام الإلهي العظيمة، فلم تُبقِ له أثرًا على وجه البسيطة. بمَ تُسمي ذلك، انتقاءً طبيعيًّا؟ عن نفسي، أعتبره نقصًا في الكفاءة الاحترافية.
إنَّ قملة الخشب تمثِّل العامل، وهي صوت المقهورين الذي ينتقد الرؤساء وخطابهم المهيمن وظواهر أخرى كثيرة في هذا الكتاب المذهل في إبداعه. فنوح وعائلته لا يمانعون تناول الأنواع الحية الغريبة على سطح هذا «المقهى العائم» (أو «سفينة الفضاء التي تدعى الأرض»). وسرعان ما تبدو السفينة أشبه — على الأرجح — بمعسكر اعتقال؛ حيث يُكنُّ سام إعجابًا ﺑ «فكرة نقاء الأعراق». يتداخل كلٌّ من الإنجيل والأسطورة والتاريخ والعلم ومجالات أخرى كثيرة في مسارات تهكمية ساخرة غير مرتَّبة زمنيًّا ضمن ما يبدو لنا هجومًا شديدًا على الإنجيل أو الأسطورة أو السياسة، حال اعْتُبرَ أيٌّ منها تفسيرات أيديولوجية. تتسم بقية الفصول في الرواية بنفس درجة التعقيد وتطرح ملخصًا بارعًا لآراء ما بعد الحداثة حول التاريخ، لكن (كما في أعمال أبيش) دون إضفاء هيبة «النظرية» عليها بالطبع.
لا تلمِّح فحسب إلى أن كتابة التاريخ لا تختلف عن كتابة الروايات — حيث تُرتَّب الأحداث ترتيبًا خياليًّا كي تكوِّن نموذجًا للعالم — بل إن التاريخ في حد ذاته يمتلئ مثل الأدب بحبكات مترابطة تتفاعل على ما يبدو بمعزل عن التخطيط البشري.
في هذه الحالات، يسمح الكتَّاب للسرد الخيالي — حسب مبادئ الشكوكية الفلسفية التي لخَّصناها سابقًا — بفرض سيطرته؛ لأنه يؤمن بأن التاريخ — كما عرضنا سابقًا — مجرد قصة أخرى خاضعة لرغباتنا وتحيزاتنا النمطية، وتُشكَّل حتمًا — على يد بارنيز متقمصًا شخصية قملة الخشب أو فاولز لاعبًا دور المؤلف/النبيل الفيكتوري — وفقًا لقوالب الحبكات الخيالية السائدة داخل المجتمع المنبثقة عنه.
ليس من المستغرب إذن أن تحمل الرواية قدرًا غير متكافئ من عبء الانتماء إلى فِكر «ما بعد الحداثة»، بما أن «خطاباتها» المعتادة حتى الآن — فيما يخص علاقة المؤلف بالنص، وما تتسم به من عملية خلق ليبرالية أو «فردية برجوازية» لشخصيات موحَّدة، وعلاقتها بالحقيقة التاريخية — تجعلها عُرضة لنقدِ ما بعد الحداثة في الكثير من أجزائها. فقد انتقلنا من الحِرفية والتحكم في الشكل الروائي، واحترام الاستقلالية والفردية، وادعاءات القدرة التفسيرية التاريخية التي تميِّز الرواية الحداثية — ويتجلى جميعها على سبيل المثال في كتابات جويس عن مدينة دبلن أو كتابات فوكنر عن الجنوب الأمريكي — إلى وصف هزلي مفكَّك ومراوغ، يتسم بالوعي الذاتي، ويتعمَّد تقديم وصف زائف في كثير من الأحيان لشخصيات قد توجد على عدة مستويات في آنٍ واحد، بحيث تفتقد أيَّ شكل من أشكال الاتساق النفسي المعقول. لا تحاول رواية ما بعد الحداثة خلق وهم واقعي مؤكَّد، بل تفتح أبوابها لشتى أنواع الحِيَل الخادعة؛ كالتلاعب السردي، والقوالب النمطية، والتفسيرات المتعددة بكل ما تستدعيه من التناقض وعدم الاتساق اللذين يشغلان مكانة رئيسية في فِكر ما بعد الحداثة. إن التنظير الداخلي في تلك الروايات واستعدادها لكشف أساليبها الشكلية للقارئ هي سمات ما بعد حداثية نموذجية لا نجدها في الرواية فحسب، بل أيضًا في الأفلام، مثل اقتباس جودار لأسلوب بريخت من خلال إقحام لافتات إرشادية أو نص داخل الفيلم، وكذلك في الفنون المرئية التي غالبًا ما كانت «تتمحور حول ذاتها» في هذه الحقبة.
موسيقى ما بعد الحداثة
لا يفرد هذا الكتاب الكثير من صفحاته للموسيقى، وهو ما يرجع جزئيًّا إلى تخلي الكثير من المؤلفين الموسيقيين بالفعل — قبل الحقبة التي نتناولها بزمن طويل — عن الأعراف السابقة الشبيهة بما هاجمته حركة ما بعد الحداثة؛ إذ نبذوا — على سبيل المثال — الترتيب السردي اللحني التقليدي في العمل الموسيقي، ونزعوا كذلك إلى رفض تأثير المفكرين السابقين (المهيمنين) مِمَّن سعَوا إلى تنظيم المقطوعة الموسيقية تنظيمًا كليًّا؛ بدءًا من شونبرج وأسلوب الاثنتي عشرة نغمة، وانتهاءً بأسلوب المجموعات المنظمة كليًّا الذي نادى به بوليز وغيره في فترة الستينيات من القرن العشرين. فلم يَعُد الالتزام بتلك الأساليب الشكلية الحداثية يسيطر على الاهتمام. بالطبع، نزع الكثير من المؤلفين الموسيقيين قبل ذلك إلى ترك المواصفات النظرية، التي تميِّز الأساليب الجذابة، تملي أوامرها على أعمالهم. لكن مع أواخر الستينيات، تخلى الكثير من المؤلفين الموسيقيين عن حلم التنظيم الدقيق نظريًّا للنغمات، وتبنَّوا نِطاقًا كاملًا من الاستراتيجيات التي تتوافق مع تعددية فِكر ما بعد الحداثة، حتى وإن لم تكن مصدر إلهام كبيرًا لهم.
رغم ذلك، توجد بعض الألحان التي تتشابه تشابهًا كبيرًا إلى حدٍّ ما مع غيرها من أعمال ما بعد الحداثة الفنية، أو تلك الأعمال التي تأثرت بها. على سبيل المثال، توظِّف الحركة الثانية من مقطوعة «سيمفونية» (١٩٦٨) للمؤلف الموسيقي لوتشيانو بيريو الادعاء الأكبر المتمثل في الجزء المحوري من اللحن الموسيقي المرح في سيمفونية مالر الثانية — الذي يتحكم تقريبًا في الحركة الإيقاعية للسيمفونية — لكنها تحلِّله أو تفكِّكه بعد ذلك في أجزائها التالية. بالإضافة إلى ذلك، جمع بيريو اقتباساتٍ من شتى أنواع المصادر الموسيقية — أجزاءً من ألحان باخ وشونبرج وديبوسي («مقطوعة البحر»)، ورافيل («رقصة الفالس») وغيرها — فيما يشبه كولاجًا ساخرًا يعج بالتداخل النصي، ثم مزج ذلك مع أداء لسطور مقتبسة من رواية بيكيت «اللامُسمَّى»، وشعارات من «أحداث مايو ١٩٦٨» في فرنسا، واقتباسات من ليفي شتراوس ومارتن لوثر كينج وغيرهما. (وقد أضاف فيما بعد حركة خامسة إلى السيمفونية بهدف تقديم تعليق فوقي ما بعد حداثي نموذجي يتسم بالوعي الذاتي على الحركات السابقة.) وفي وسع المرء الجزم بأن مقطوعته «الأنشودة ١» (١٩٧٢) تجسِّد تيار الوعي لدى مغنية الأوبرا التي تنشدها كما تُنشد الملاحم؛ إذ تعج بأجزاء متناثرة من مجموعة الأدوار التي أدَّتها على المسرح؛ مما يوضِّح أن ذاتيتها قد شُيِّدت أو «شُكِّلت» جزئيًّا على يد المجتمع من خلال النصوص الموسيقية التي تتردد في عقلها.
نلاحظ كذلك هذا الكولاج الانتقائي المتناص من الاقتباسات — الذي يذكِّرنا من خلال افتقاره للتسلسل المنطقي بالكثير من لوحات ما بعد الحداثة (مثل أعمال سال أو شنوبل) — في أعمال ألفريد شنيتكه وتورو تاكيميتسو (كما نجد في مقطوعته «اقتباسات من حلم» المتأثرة بأسلوب ديبوسي) والكثير غيرهم. تعكس فنون الكولاج المتعدد الأساليب لدى شنيتكه استخدامًا لا مباليًا للمصادر الموسيقية «الراقية» و«المبتذلة»؛ ومن ثمَّ يتضمن عمله الموسيقي «الكونشيرتو الكبير رقم ١» (١٩٧٧) — حسب وصف مقدمة المقطوعة الموسيقية — «صيغًا وأشكالًا من موسيقى الباروك، وكروماتية حرة، وفواصل مفرطة الصغر، إلى جانب موسيقى رائجة مبتذلة تقتحم المقطوعة وكأنها قادمة من خارجها محدثةً تأثيرًا هدَّامًا.»
لكن معظم الإنتاج الموسيقي في هذه الفترة يضم أعمالًا تَدين بالفضل — على نحو معقَّد — إلى الماضي، أو تتنافس معه مباشرةً، أو تتبع أسلوبًا تعدديًّا يهدف إلى دمج الأساليب المتاحة، لكن هذا يعكس رغم ذلك الطابعَ المستقل تمامًا الذي يميز الموسيقى الكلاسيكية التقليدية، كما نجد — على سبيل المثال — في مقطوعة ليجيتي الرائعة «كونشيرتو الكمان» (١٩٩٠ / ١٩٩٢). لقد قدَّم المؤلفون الموسيقيون المعاصرون إبداعًا رائعًا في مجال ابتكار لغات جديدة (مثل استخدام ليجيتي المتتابعات الإيقاعية المتعددة الأوزان البالغة التعقيد، واستغلال النشاز الناتج عن النغمات التوافقية الطبيعية وغيرها من الأساليب). إنَّ السبب الرئيسي في بُعد هذا النوع من الموسيقى التجريبية الأصيلة عن مفهوم ما بعد الحداثة يكمن في صعوبة تأليف موسيقى دون أن تؤدي الكلمات دور النص أو تنقل تلك الرسائل المفاهيمية المتناقضة الحاسمة التي نجدها في الأشكال الأخرى من فن ما بعد الحداثة. أما استثناءات هذه القاعدة — مثل مقطوعة البيانو الصامتة الشهيرة للمؤلف الموسيقي كاديج، التي تحمل عنوان «٤ دقائق و٣٣ ثانية» (١٩٥٢) — فهي تثبتها ليس إلا، ولم تستمر طويلًا في قاعات الحفلات وحلَّ محلها الفن الأدائي في المعارض الفنية. فمن الصعب للغاية أن تولِّد الموسيقى وحدها أي نوع من التأثير السياسي إلا من خلال جدلية الارتباط المجازي الشديدة الالتباس لدى المُستمِع، كما يتضح في المجادلات العقيمة حول وجود تعبيرات ساخرة معادية لستالين في سيمفونيات شوستاكوفيتش.
إنَّ الأوبرا والموسيقى الغنائية هي المجالات التي قد نتوقع اقترابها نسبيًّا من التزامات ما بعد الحداثة، لكن حتى هنا نلاحظ على ما يبدو إخلاصًا لعالم مستقر نسبيًّا ووجوديًّا يتسم بالترابط المنطقي، كما يتضح — على سبيل المثال — في أوبرا «يوناني» (١٩٨٨) للموسيقار تيرنيدج، أو «قناع أورفيوس» (١٩٧٣–١٩٨٣) للموسيقار بيرتويسل، أو «أحمر خدود» (١٩٩٤-١٩٩٥) للموسيقار أديس، أو «نيكسون في الصين» (١٩٨٧) للموسيقار آدامز. تختلف تلك الأمثلة اختلافًا كبيرًا عن النصوص السردية الخيالية التي عرضناها سابقًا. يُستثنى من هذا الاتجاه أوبرا «أينشتاين على الشاطئ» (١٩٧٦) للمؤلف الموسيقي فيليب جلاس — وهي عمل مشترك مع الفنان التبسيطي روبرت ويلسون — وتخلو من أي شكل من أشكال السرد المترابط منطقيًّا. تتوافق المبادئ السياسية داخل الكثير من المؤلفات الموسيقية في هذه الحقبة مع التصورات اليسارية لما بعد الحداثة، كما نجد — على سبيل المثال — في أعمال المؤلِّفيْن نونو وهينزي، لكن لا يبدو عمومًا أن أيًّا من المؤلفين الموسيقيين الكبار قد احتاج إلى تبني أيٍّ من التعهدات التي يتجلى انتماؤها لنظرية ما بعد الحداثة. إن أقصى ما يستطيع المرء قوله هو أن المؤلفين الموسيقيين — مثل أتباع ما بعد الحداثة — كانوا مهووسين غالبًا بطبيعة اللغة ووظيفتها، وما تحتويه من تفكك واستغلال للتناقضات النغمية-الحرة، وبِنًى خفية تتحكم فيها الأعراف تحكمًا كليًّا، وبطرق استخدام هذه اللغة لتفكيك الأنماط والعمليات السابقة.
لكن هذه الأمثلة تجمعها علاقة فضفاضة بالتفكيكية حسب مفهومها في نظرية ما بعد الحداثة؛ ففي وسع المرء أن يزعم (كما فعل الكثيرون) أن المدرسة التكعيبية «فككت» المدرسة الانطباعية وما بعد الانطباعية. لكن هذه العبارة ليست سوى مقارنة ولا تدَّعي أي معرفة بالنيات التاريخية لدى بيكاسو وبراك. لم ينشغل سوى عدد قليل من المؤلفين الموسيقيين في هذه الحقبة بمعايرة مَنْ سبقوهم ﺑ «تناقضاتهم الداخلية». وحتى بيير بوليز — الذي ندَّد بالماضي قبل ذلك في عبارته «لقد مات شونبرج» — يقود حاليًّا أوركسترا فيينا الموسيقية مقدِّمًا ألحان بروكنر. وعلى أقل تقدير، تجنبت الكثير من المؤلفات الموسيقية منذ عام ١٩٧٠ — لا سيَّما من خلال استعدادها الاستثنائي لمزج أساليب المؤلفين الموسيقيين الشباب — بعضًا من المعارك الجَدلية التي سادت في الماضي، والتي وَضعت شونبرج في مواجهة سترافينسكي، والموسيقى التسلسلية النظرية في مواجهة الموسيقى العفوية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وفي هذا الصدد، فإنها تدين بالكثير إلى مناخ الأفكار الذي خلقته حركة ما بعد الحداثة.
الفن والنظرية
كما حاولتُ أن أوضح، فإن الاتحاد بين الفن والنظرية هو الدليل الأبرز على تأثير ما بعد الحداثة، وهو ما يطوِّر — في هذا السياق — الخط النظري («العلم»، القاعدة الفنية أو «القانون») الذي يتمتع بالفعل بتأثير كبير ويوجد في أجزاء من الحداثة العليا، كما نلاحظ في مدرسة باوهاوس الفنية، وموسيقى الاثنتي عشرة نغمة، وأعمال المعماري لو كوربوزييه، وحتى في الحركة السريالية وإن كان على نحو أقل دقة وأقل التزامًا بالأسس العلمية بمراحل. قدَّمت نظرية ما بعد الحداثة فيضًا من الأعمال الفنية التي يتمتع مبدعوها ونقَّادها بوعي ذاتي عميق حيال علاقتهم باللغة عمومًا، وبلغات الفن المقبولة في السابق تحديدًا. ومع نشأة ما بعد الحداثة الأكاديمية والتأثير المتزايد للمواقف السياسية في فترة الستينيات من القرن العشرين (ظهر كلاهما، في الواقع، بعدما أرست الحركة الطليعية التجريبية في فترةِ ما بعد الحرب العديدَ من الأساليب الجديدة في مجالات الفنون)؛ أبدى كثير من الفنانين تركيزًا ملحوظًا على موقفهم النظري والسياسي، وطالبوا القارئ والمُشاهِد بأن يعي لغة معرفة ما بعد الحداثة، التي كثيرًا ما دعت الحاجة إليها كي تضيف الأعمال الفنية البسيطة والمملة غالبًا، وتُكمِلها وتخلع عليها هالة نقدية زائفة، مثلما رأينا في كومة الطوب التي بدأنا بها الكتاب.
إنَّ الكثير من الأعمال الحداثية كان يهدف إلى بلوغ نوع من الاستقلال الواضح (على سبيل المثال، كل ما تحتاجه لفهم مجموعة قصائد «الرباعيات الأربع» على وجه التحديد للشاعر تي إس إليوت هو الانكباب على معانيها الداخلية … والتمتع بأكبر قدر ممكن من المعرفة «الحياتية»، بما في ذلك المعرفة باللاهوت والتاريخ)، لكن أعمال ما بعد الحداثة لا تكتمل دون المناقشات النقدية التي يفترض أن تحيط بها. ويعتبر هذا «الانعكاس الذاتي التصوري» في أغلب الأحيان علامة على الانتماء إلى فِكر ما بعد الحداثة؛ إذ يرى بعد الحداثيين أن الإبداع الفني يستلزم قدرًا كبيرًا من الوعي الذاتي النقدي يتجاوز مدرسة الحداثة (وهو الرأي الذي أدى — رغم ذلك — إلى بدايات هذا التزاوج المنذِر بكارثة بين الفن والنخبوية الأكاديمية). ومن ثمَّ، يتواطأ كلٌّ من الفنان والناقِد من أجل المطالبة بالعلاقة «السليمة» بين العمل والفكرة، كما يعرضها الفنان، وكما يستجيب لها الجمهور.
المذهب التصوري
نستطيع الآن أن ندرك تأثير تلك الأفكار إذا ضربنا مثلًا عليها، وهو تفسير بول كراوزر ما بعد الحداثي النموذجي لِلَوحة مالكوم مورلي الزيتية العملاقة التي تصوِّر بطاقة بريدية تحمل صورة السفينة إس إس أمستردام أمام مدينة روتردام (١٩٦٦).
اختار مورلي بطاقة بريدية، ثم عكسها وعرضها على شاشة، وغطى صورتها بشبكة ثم نقلها مقلوبة بمقياس رسم كبير للغاية يضم حتى الهوامش البيضاء للبطاقة البريدية. يزعم كراوزر أن هذا العمل «فوق الواقعي» هو «ممارسة نقدية تلقي الضوء على الفن باعتباره نشاطًا «ثقافيًّا رفيعًا» وتخيِّب تلك التوقعات واضعة إياها في موضع الشك.» (تخيِّب اللوحة بالفعل أي توقعات بتعقيد فني رفيع المستوى.) فهي «تخاطب … الخطاب المشرِّع الذي يُبَرَّر الفن وفقًا له على أنه سبيل للرقي والتقدم.» أي إنها تثير بعض الشكوك التي تحمل طابع فوكو، رغم أن المقصد الحقيقي من فعل «المخاطبة» هنا يظل غامضًا، كما هو الحال في معظم استخدامات ما بعد الحداثة لهذا المصطلح. إن «الرقي والتقدم» هما بالتأكيد من الأنواع «الخاطئة» من القيم التي ينبغي توقعها في هذا السياق. لكن ذلك النقد قد يظل واهيًا رغم ذلك، فلا أحد سيعتقد على أي حال أن سفينة مورلي تدعم قيم الرقي والتقدم. يواصل كراوزر نقده مضيفًا: «في حالة مورلي، يبدو البُعد النقدي وكأنه مرسوم داخل اللوحة إذا جاز التعبير.» لكن عبارة «إذا جاز التعبير» الماكرة هنا تخفي نوعًا من الاستحالة: فمن الواضح أن ما يطرح «النقد» في الواقع هو «تعليق الناقد» لا اللوحة ذاتها. ثم يمضي زاعمًا أن «ما [نجده في هذه اللوحة] ليس نوعًا من «نقيض الفن» الخارجي، بقدر ما هو نوع من الفن الذي يستوعب داخله معضلات وَضْعه الثقافي الاجتماعي ويبديها للعيان.» ويضيف كراوزر أن أعمال فنانين مثل أودري فلاك وتشاك كلوز ودواين هانسون تعكس بُعدًا مماثلًا، لكن أعمال الواقعية التصورية لفنانين مثل جون سالت وريتشارد إستيس، التي تتشابه ظاهريًّا مع هذه الأعمال، ليست سوى «أعمال فنية مبدعة» و«تكوينات مبهرة جماليًّا»؛ أي إنه يعني — على ما يبدو — أن هذين الفنَّانيْن ينتجان لوحات ممتعة بأسلوب تقليدي نوعًا ما (وكانت بالفعل كذلك نظرًا لمزاياها وبراعتها الشكلية العظيمة).
يزعم كراوزر أن تركيز هذين الفنانين على تلك السمات أدى — على نحو يدعو للأسى — إلى «إعادة مصادرة أعمال مورلي وغيره من المجددين ضمن الخطاب المشرَّع» الذي يحيط بتلك القيم. ويستهجن كراوزر «محاكاتهما المبهرجة للواقع» و«جاذبيتهما التسويقية الساحقة»، ومن ثم انجذابهما نحو «التحيزات التقليدية»؛ ومن ثمَّ، فإن عمل إستيس في محاكياته لشكل الصور الفوتوغرافية لا يحقق سوى «إشباع الطلب على الابتكار والتوجهات اللاتقليدية غير المتوقعة الذي خلَّفته الحداثة»؛ إذ يُنظر إلى تقدير السمات «الجمالية» أو «الفنية البارعة» على أنه نشاط رجعي من الناحية السياسية؛ لأنه يتيح لنا الدفاع عن «متعة» جمالية حداثية إلى حدٍّ ما في التركيب الشكلي الذي يرفضه كراوزر بوضوح. بالطبع، يهاجم كراوزر — مثل كثير من أتباع ما بعد الحداثة — الفنانين عندما تعكس أعمالهم تلك السمات الحداثية، التي لا تتصف ﺑ «التقدمية»؛ لأنها لا تنتقد «الخطابات المشرِّعة» مثل خطابات الحداثة. لكن ماذا عن «الخطاب المشرِّع» الذي يتبناه كراوزر نفسه؟ هل من الممكن أن نفسر أعمال إستيس على أنها نقد تقدمي لهذا الخطاب؟ لكن أعمال أولئك الفنانين لا تضيِّع في الواقع وقتًا كبيرًا في نقد أشكال الفن الأخرى صراحةً أو ضمنًا.
وهكذا، يرى كراوزر أن مورلي «فنان يلعب دورًا محوريًّا في استيعاب التحوُّل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة»، فهو (وينضم إليه في ذلك — على نحو مثير للدهشة — الرسَّام والنحَّات كيفير) يتمتع بالفضائل المعادية للحداثة؛ ألا وهي ابتكار «شكل جديد من أشكال الفن»، و«تجسيد شكل من الشكوكية حيال إمكانية تقديم فن راقٍ.» من ثمَّ، «ومن خلال استيعاب هذه الشكوكية داخليًّا وتحويلها إلى فكرة رئيسية داخل الممارسة الفنية، تضفي النزعة فوق الواقعية «النقدية» على الفن بُعدًا «تفكيكيًّا»»؛ ومن ثم، يُصنَّف هذا الفن دون شك ضمن فنون ما بعد الحداثة، ويستند هذا الحكم إلى «طبيعته المتشكِّكة».
إن أولئك الذين قدموا فنًّا تصوريًّا اعتُبروا بلا جدالٍ الحُماةَ المخلصين لمعتقدِ ما بعد الحداثة التنظيري، رغم أن فكرهم غالبًا ما يعوزه الإتقان حسب المعايير العقلانية الطبيعية، ورغم أن «النظرية» قد تَحْرم الفنان في كثير من الأحيان من سعة الخيال وتمنعه من إبداء إيحاءات مجازية. في وسع المرء تقييم تلك الأعمال الفنية بسرعة نسبية، لكن لن يسعه الهرب (بسرعة كبيرة) من الهُراء النظري الذي يوظِّفه الناقِد الراغب في إعطاء «ثقل» لهذا العمل وإضفاء أهمية عليه. إن لوحة مورلي تُنسَب إلى فِكر ما بعد الحداثة، وساعدت بالتأكيد في إثارة هذا النوع من الفكر من واقع ما لديها من وعي ذاتي بنظرية الفن؛ فليس المهم العمل في حد ذاته، بل العمليات التصورية التي تكمن وراءه. ففي أثناء ذلك، ابتعد العمل عن الأنشطة المعتادة لدى المؤسسات الفنية، التي من بينها أنشطة بيع المعروضات. على سبيل المثال، كان معرض روبرت باري في صالة عرض آرت آند بروجيكت في أمستردام عام ١٩٦٩ خاليًا من المعروضات، واقتصر المعرض على لافتة وضعها الفنان على مدخل الصالة كتب عليها: «المعرض مغلق طوال مدة العرض!»
إحدى النتائج المترتبة على هذا الفن التصوري هي فقدان الإحساس بالتعقيد الفني؛ إذ غالبًا ما نبذ أولئك الفنانون الوصف التفصيلي الثري الناتج عن المحاكاة التقليدية، بالإضافة إلى العلاقات الشكلية الجذابة المميزة للفن الحداثي. وقد يؤدي هذا الاتجاه المعادي للحداثة إلى ضحالة متعمَّدة، كما في الكثير من الأعمال الفنية التبسيطية، في الموسيقى والرسم كذلك.
يزعم مايكل فريد أن عملًا تبسيطيًّا حرفيًّا مجردًا لا يمكن أن يثير اهتمام المُشاهِد إلا في حالة عرضه عرضًا مسرحيًّا في صالة عرض فني؛ وهو ما يؤدي إلى مقارنته بالنموذج الحداثي، الذي يتضمن استغراق المُشاهِد في التكوين الشكلي والتعقيد الذي يتسم به العمل، وهي مقارنة ليست لصالحه بكل تأكيد؛ فأحد النموذجين يتطلب تفاعلًا، بينما يتطلب الآخر تأملًا للعلاقات الداخلية. يرى فِريد أن الفنانين التبسيطين ليسوا سوى فنانين حِرفيين يعتمدون على وعينا الذاتي كمشاهدين بعناصر العمل الفني، بينما في الأسلوب الداخلي الحداثي، ننسى أنفسنا مع استغراقنا في العمل الفني؛ ومن ثمَّ يقع هذا «الأداء المسرحي» على طرف النقيض من الحداثة. باختصار فَجٍّ، نحن نستمتع باستكشاف العلاقات الداخلية في عمل نحتي للفنان أنتوني كارو، لكن عملًا للفنان روبرت موريس عبارة عن كومة من اللَّباد لا يتيح مثل هذه الفرصة، بل «يطرح أسئلة متشكِّكة» عوضًا عن ذلك.
ج: بالطبع لا، إنه لم يعد كوبًا من الماء بعد الآن. لقد غيَّرتُ مادته الفعلية، ولم يعد وصف كوب الماء وصفًا دقيقًا الآن. يمكنك وصفه بأي وصف تحب، لكن ذلك لن يغيِّر من حقيقة أنه شجرة بلوط …
إذا كنت قد فهمت مجرد جزء صغير جدًّا من النظرية التي يناقشها هذا الكتاب، فربما تستوعب بعضًا من النقاط التافهة للغاية التي تحيط باعتباطية التسمية، وبوظيفة المعرض الفني، وبمَزحة ارتفاع الرَّف، بل قد تشعر أيضًا بالقليل من الرهبة المنبعثة من مفهوم القربان المقدس في اللاهوت الكاثوليكي (الذي استوحى منه الفنان هذا العمل). كلها نقاط ضحلة، تتسم بوعي ذاتي بالغ وبطابع ثقافي ظاهري، وتتمحور حول المظهر الخارجي، إلى جانب كونها «تطرح أسئلة متشككة»، وذلك هو كل ما في الأمر! ففي النهاية، ومن منظور الخمسة والعشرين عامًا الأخيرة وما بعدها، هو مجرد كوب لا يعتمد — كما يزعم فِريد — إلا على عرضه المسرحي داخل مؤسسة المعارض الفنية وعلى استعداد مؤرخي الفن أمثالي إلى الإشارة إليه في كتابٍ كهذا، حتى وإن كان بوصفه مثالًا بشعًا ليس إلا. لكنه ليس مثالًا منفردًا على الإطلاق، بل يجسِّد بأغبى طريقة ممكنة الانتشارَ غير العادي لنزعةِ ما بعد الحداثة، التي تؤمن بأن تلميحًا إلى «النظرية» مع القليل من «التشكك» يكفي لإنتاج عمل فني، متدني الأهمية بالفعل. يرى جودفري — الذي اقتبست منه الاستبيان وصاحب كتاب «الفن التصوري» — أنه «تركيب نقي، وبسيط، وأنيق»، لكنه بالكاد تركيب نقي وبسيط وأنيق على طريقة نحَّاتين مثل آرتشيبنكو أو برانكوشي أو ديفيد سميث، أو أي عدد من النحَّاتين الحداثيين، لكنه من ناحية أخرى (عودة إلى مفهوم الأداء المسرحي لدى فِريد) ليس تمثالًا بالمعنى الحرفي للكلمة، رغم أنه قد يشبه التمثال، بل هو «تركيب» مثل الرفوف سهلة التركيب في حمام أيٍّ منا.
برزت كذلك النزعة التبسيطية في الموسيقى كردِّ فعل تجاه الحداثة (لكنها أنتجت أعمالًا فنية أفضل بكثير). يتشابه التبسيط هنا مع نظيره في الفنون المرئية باعتباره رد فعل ضد التعقيد الشكلي وتصريحًا بأن الهوس (التكعيبي، المتبني أسلوب الاثنتي عشرة نغمة) بتطوير لغة الفن أصبح سمةً تخص القيم النخبوية السائدة في الماضي، ويؤدي إلى تغريب تلك الجماهير التي يتوق بعد الحداثيين إلى مخاطبتها. إنَّ الموسيقى التبسيطية التي قدَّمها كلٌّ من رايلي ورايش وجلاس ونايمان وفيتكين — والتطورات اللاحقة التي أدخلها جون آدامز ومايكل تورك على هذا الأسلوب — تجعل الحد الفاصل بين الموسيقى الرفيعة المستوى والموسيقى المبتذلة بلا معنًى. تعتمد هذه الموسيقى عادةً على أنماط إيقاعية متكررة تخلو من تعقيدات اللغة والتطوير النغمي المرتبط بالموسيقى الحداثية المتأخرة لدى المؤلفين الموسيقيين خلال فترة الخمسينيات أمثال بوليز وهينزي وشتوكهاوزن. بالتأكيد رأى الكثيرون في المجال الموسيقي أن الموسيقى التبسيطية أَتْفهُ وأبسط من أن تُؤخَذ بجدية؛ فقد اعتمدت نماذجها الأولى اعتمادًا كبيرًا على التكرار الذي يأسر المستمِع أو يحفِّزه على التأمل (لا سيَّما في أعمال رايش المتأثرة بموسيقى الزن البوذية)، وغالبًا ما اتسمت عناصرها الرئيسية بالبساطة الشديدة وبالبُعد عن الأصالة (إذ كانت تتبنى منهج التناص فحسب)، وتميَّزت بإيقاع ثابت، ورغم تعقدها الإيقاعي البالغ كانت على ما يبدو ينقصها الإحساس الشخصي.
بينما أكتب هذا المقطوعة تَعَلَّمتْ آلاتُ البيانو وصفاراتُ الإنذار الأنثويةُ بأصواتها التي تشبه هديل الحمام، وأبواقُ قصر فاهالا النحاسية، والطبولُ النحاسية القارعة، والثالوثُ المسيحيُّ، بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من النغمات المنخفضة؛ التخلِّيَ عن صراعاتها والتعايش بعضها مع بعض.
المابعدية والنضوب الثقافي
لذا طالبت العديد من أساليب فن ما بعد الحداثة الابتكارية — من خلال الفنانين والمؤسسة النقدية — بتفسيراتٍ تعتمد على تلك المفاهيم النظرية البارزة مثل الانعكاسية، التي تنبع من وعي الفنان الذاتي بالمنهج والأيديولوجية الفنية، الذي يتضمن تحويل العمل إلى نقد موجَّه إلى القيود المسيطرة سابقًا على النوع الفني، ومن ثم إلى القيود السياسية كذلك، حسبما يرى نقاد ما بعد الحداثة. أحد الأمثلة الممتازة على الوعي بهذه العلاقة «المابعدية» مع الحداثة نجده في عمل جيف وول الذي قدَّمه عام ١٩٧٩ بعنوان «صورة للنساء»، ويعرض محاكاة بارعة للمنظور غير المباشر في لوحة مانيه «حانة في فولي برجير». يظهر وول في الصورة — بينما يمسك في إحدى يديه زر الكاميرا — محدِّقًا في انعكاس في المرآة لفتاة تتخذ نفس وضع ساقية البار في لوحة مانيه. لا يؤدي هذا فحسب إلى تولُّد علاقة معقدة وجذابة بين الشخصيتين في الصورة، بل يطرح كذلك تنويعًا شديد الذكاء على مراوغة «النظرة الذكورية» حسب تحليل النقَّاد النِّسْويين في هذه الفترة.
علاوة على ذلك، أدى هذا الوعي الذاتي الهائل إلى فكرة أن فنان ما بعد الحداثة المرئي يأتي بالفعل «بعد» الحداثة، نظرًا إلى عبء التاريخ الماضي (فضلًا عن تعهداته السياسية والأخلاقية النازعة إلى التقليد التي أصبحت موضع شبهة حاليًّا) والمعتقدات الجديدة المرتبطة بالتناص التي ناقشناها سابقًا؛ إذ كُتِب على أعماله أن تصبح تكرارًا (أو «إعادة كتابة» أو «اقتباسًا») مثل أعمال الكتَّاب، فهي حتمًا نسيج متناص من الاقتباسات والاستعارات من الماضي، تشير إلى أعمال أخرى لا إلى أي واقع خارجي. ومن ثمَّ، أصبحت المفاهيم الطليعية النموذجية التي اتَّسمت بقدر كبير من الفردية وتمتعت بالتقدير في السابق عرضةً للهجوم. فكثير من فن ما بعد الحداثة المرئي يبدو سهل التكرار ويتسم بالسطحية والافتقار المُتعمَّد إلى العمق، وهو ما يتضح سريعًا إذا قارنا — مثلما فعل جيمسون — لوحة أندي وارهول «أحذية بلمعان الماس» بِلَوحة «حذاء الفلاح» لفان جوخ التي تعكس (من منظور هايدجر) معرفة عميقة وكاشِفة بالعالم الذي تنتمي إليه. يرى الكثير أن عمل ما بعد الحداثة الفني هو في جميع الأحوال عمل هجين، ومختلط أسلوبيًّا، ويدين للأعمال السابقة نظرًا لمحاكاته لها.
إظهار التصوير الفوتوغرافي دومًا باعتباره «إعادة» تقديم لشيء شُوهِد دائمًا من قبل. إنَّ صورهم مختلسة ومُصادرة ومستولًى عليها و«مسروقة». وفي أعمالهم، لا يمكن تحديد الأصل، فهو مؤجَّل دومًا، وحتى الذات التي قد تولِّد عملًا أصليًّا تُعرض كنسخة في حد ذاتها.
إنَّ فعل الوصف … لا ينطلق من اللغة إلى المشار إليه، بل ينطلق من رمز إلى آخر؛ ومن ثمَّ، فالواقعية ليست نقلًا لما هو حقيقي، بل نَسخًا لنُسخة (موصوفة) … إذ تنسخ (الواقعية) ما هو منسوخ بالفعل عبر محاكاة إضافية.
أعمال ليفين قد تُعتبر كذلك هجومًا جذريًّا على مفاهيم الاقتناء والتملك الرأسمالية، وكذلك على الدمج الأبوي بين التأليف وإقرار الذكورة المكتفية ذاتيًّا.
لكن ما الداعي لاستخدام كلمة «جذريًّا» هنا؟ فتعبيرات مثل «مجازيًّا» أو «فلسفيًّا زائفًا» أو «ذا عمق مصطنع» قد تقدم أوصافًا أفضل.
لقد ساعد الهجوم على الأصالة، إلى جانب الميل إلى اعتبار الفنِّ شكلًا من أشكال إعادة التقديم لأشياء موجودة بالفعل — ضمن خطاب يعيد تصنيع نفسه — على تدعيم فكرة أولئك المتشككين فيما بعد الحداثة عن كون الفن المرتبط بها يحمل طابعًا مبالغًا فيه من «المابعدية» المطلقة. ألا يحتمل أن ما يتسم به من تناصٍّ هو دليل على النضوب الثقافي الناتج عن الفشل في مواجهة التحدي الطليعي الذي يتطلب تقديم عمل مختلف اختلافًا إبداعيًّا في أعقاب ملحمة الحداثة التجريبية؟ أم لعله يرجع إلى إخفاق سياسي وأخلاقي في الاهتمام بما هو حقيقي في المجتمع؟
عمارة ما بعد الحداثة
يمكننا على الأرجح ملاحظة هذا النوع من الاقتباس المختلط في أوضح صُوَره من خلال العلاقة بين عمارة ما بعد الحداثة والعمارة الحداثية ذات الطابع البطولي السابق لها؛ فإحدى السمات التي تميِّز معظم أعمال ما بعد الحداثة هي طابعها الهجين المقتبَس عن غيرها، وهو ما يتضح بدرجة كبيرة في الكتاب العظيم التأثير «التعلم من فيجاس» (١٩٧٢) لروبرت فينتوري، وزوجته دينيس سكوت براون، وستيفن آيزيناور، الذي يمتدح الطراز المعماري لمدينة لاس فيجاس وشارع الفنادق بها؛ نظرًا لتعدد مستوياتهما، واستخدامهما للمواد الشائعة، وعدم مبالاتهما بمفهوم الوحدة. يتأمل فينتوري تجربة الفُرجة على الشارع أثناء القيادة؛ حيث «لا بد أن تعمل العين المتحركة داخل الجسم أثناء تحركه على التقاط مجموعة متنوعة من الطُّرُز المعمارية المتغيرة والمتجاورة وتفسيرها.» كذلك يزعم المعماري جينكس — في كتابه ذي التأثير المماثل «لغة معمار ما بعد الحداثة» (١٩٧٧) — أنه لا بد من السماح «للرموز» في المباني (يستخدم جينكس لغة علم الرموز) بالدخول في صراع تهكمي بين «المعاني المزدوجة» على نحو يشبه إلى حدٍّ ما موسيقى جون آدامز التي ناقشناها سابقًا.
على الرغم من سيطرة العناصر الكلاسيكية، فإنهما يكسران قواعد الأسلوب الكلاسيكي بطرق متعددة السمات، وذلك على سبيل المثال من خلال التعامل الأسلوبي مع الأعمدة الجدارية المزخرفة، أو فتحات المداخل والنوافذ، وأرصفة التحميل غير الكلاسيكية على الإطلاق والمقتطعة من ارتفاع المبنى على نحو يشبه أبواب الكراجات؛ مما يضعف الشعور بالتأثير الكلاسيكي ويناقض المنطق المعماري الذي يبرز جليًّا في نواحٍ أخرى. فكل تفصيلة كلاسيكية أو عنصر وافر التكرار يقابله عنصر آخر يضعف الأسس الكلاسيكية أو يناقضها؛ إذ يرى فينتوري وسكوت براون أن التنوع الاجتماعي والثقافي المعاصِر يستدعي معمارًا غامضًا وزاخرًا بالتفاصيل لا واضحًا ونقيًّا.
يؤمن المعماريون أمثال فينتوري بأن لغة المعمار الحداثي، التي تبني الشكل على أساس الوظيفة، هي لغة شديدة التزمُّت؛ ومن ثمَّ يجب عليها إفساح المجال أمام ما ينتجه التباين والتناقض من حراكٍ وإثارة لا شك فيها. إن عملًا من هذا الطراز يفكك ذاته بسهولة.
رغم ذلك، قد تتحول تلك التأثيرات المزدوجة المعنى من مزج محفِّز ومُرضٍ في النهاية بين التقنيات الأسلوبية — كما نرى في المعرض الوطني وفي معرض ولاية شتوتجارت الجديد الذي صمَّمه ستيرلينج — إلى ابتذال رخيص أقل تعقيدًا بمراحل. وذلك رأيي على أي حال في تصميمات مثل مجمع «مساحات أبراكساس» السكني، للمعماري ريكاردو بوفيل الذي يحاكي الطراز المعماري الكلاسيكي، مقدِّمًا ما يُطلق عليه «قصر فيرساي شعبي» في مدينة مارن لا فاليه (١٩٧٨–١٩٨٢).
البناء بأكمله يحمل طابعًا متكلفًا ومتضخمًا إلى حدٍّ بالغ التنافر والغرابة؛ فالواجهات التي يكاد يغلب عليها الطابع السيريالي — بأعمدتها المهيبة — تخفي وراءها مجمَّعات سكنية حديثة تثقل عاتقها الزخارف الباروكية الخرسانية. يعكس المبنى طرازًا معماريًّا ضخمًا وفاشيًا يحاكي أساليب معمارية أخرى، ومن المُدهش (أو ربما من المتوقع) أن الكثير من أعمال بوفيل قد راقت للسلطات المحلية في فرنسا. تتجلى الثنائيات الضدية بحق في هذا النموذج، لكن الإطار الإنساني وراحة الإنسان وكرامته لا تلقى هنا سوى أقل عناية كما كان حالها في النموذج النقيض؛ أي في التصميمات الحداثية المتقشفة والأقل قيمة للمعماري لو كوربوزييه.
الخطاب والسلطة
شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تسييسًا متزايدًا لحركة ما بعد الحداثة الطليعية؛ فمعظم الفنانين كان لديهم تصور ما عن العلاقة بين الخطاب والسلطة من منظور فوكو، وطالما جاء هذا التصور في صورة وعي بطرق تَوافُق — أو عدم تَوافق — «رسائل» أو دلالات الأعمال الفنية مع المؤسسات المكرَّسة لتدعيمها. أدى هذا إلى نقد ظاهرة اعتماد الفن على «التحالف بين المعارض الفنية والمتاحف» (على غرار «التحالف الصناعي العسكري»). تتمحور الفكرة هنا حول كون المتحف — بوصفه أشبه بمعبد علماني — «يضفي الشرعية» على العمل الفني من خلال الخطاب شبه الديني الذي يتبناه أُمناؤه والنقَّاد/المعلقون التابعون لهم. لكن طريقة اختيارهم لمجموعة الفنانين وكتابتهم لكتيبات المعارض التعريفية هي ما يهم فعليًّا، وكان استعدادهم للسماح بدخول هذا النقد العدائي إلى المؤسسة في هذه الفترة يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدرع الفكرية التي توفرها النظرية الأكاديمية.
ومن هنا، ظهر مفهوم العمل الفني بوصفه نقدًا للمؤسسة وبدأ استخدامه في هذا السياق، رغم أن ذلك سرعان ما اكتسب الطابع المبتذل نسبيًّا لمحاولة إقناع من اقتنعوا بالفعل. من بين تلك «المساعي النقدية» قدَّم مايكل أشير ما يعد أكثرها افتقارًا للخيال؛ ففي عام ١٩٧٣ استخدم جهازًا يطلق دفقات من الرمال لهدم حائط في معرض توزيلي الفني في ميلان، وهكذا تمكَّن من هدم «العمل الفني» و«المعرض» كلٍّ منهما فوق الآخر؛ «كي يكشف في الحال تواطؤهما والسلطةَ الجبارة وغير المعترف بها عادةً، التي يكتسبها المعرض عبر إخفاء كونه مؤسسة ثقافية تتمتع بالهيمنة (وتفرضها)»، وهو ما تَحقق ببساطة — حسب المفترض — لأنه حالما نسف حائط المعرض الفني كشف عن المكاتب الإدارية القابعة خلفه.
قد تتسم بعض أعمال هانز هاكه المهتمة بالتحالف بين المعرض والمتحف بقدرٍ أكبر من الذكاء؛ فقد تخصص هانز — ضمن عدة تخصصات — في توثيق القيمة الاقتصادية للأعمال الفنية. يتكوَّن أحد أعماله الفنية (١٩٧٥) من نسخة لوحة «عارضات» للفنان سورا بجوار أربعة عشر لوحة مرتَّبة ترتيبًا زمنيًّا، تتضمن كلٌّ منها صورة صغيرة مطبوعة لكلِّ مالك من ملَّاك اللوحة المتعاقبين وسيرة ذاتية قصيرة.
في ظل مناخ متطرف، لا غرابة في أن تؤدي التناقضات الرئيسية، التي شكَّلت المحيط الاجتماعي في عصر الرأسمالية المتأخرة، إلى تحفيز إنتاج الفن النقدي.
لماذا تعتبر هذه الصورة أو تلك ذات مغزًى؟ وكيف استطاعت التعبير عن هذا المغزى؟ لماذا يتطلب مجتمعٌ ما صورًا معينة في أوقات معينة؟ لماذا تظهر الأنواع الفنية في مجال التصوير الفوتوغرافي؟ لماذا تُعتبر صور معينة ذات قيمة جمالية، وكيف يحدث هذا؟ لماذا يقدِّم المصورون — على نحو يتجاوز براعتهم التقنية أو بصيرتهم الإبداعية — صورًا تحمل رسالة عن العالم الاجتماعي؟ ما المعاني السياسية المرتبطة بالتصوير الفوتوغرافي؟ مَنْ يتحكم في آلية التصوير الفوتوغرافي في المجتمع المعاصر؟
طُرحت هذه الأسئلة المهمة ذاتها على جميع أنواع الفنون؛ على الرواية والشعر والمقطوعات الموسيقية. فقد أبدى النقاد عداءهم لظاهرة افتقار فن الماضي إلى البصيرة (بصيرتهم) السياسية، وهو ما شجَّع المبدعين في مجال الإعلام على إنتاج كمٍّ كبير من الفن القَلِق نسبيًّا «الصائب من المنظور السياسي»، الذي انحاز إما علنًا وإما عبر تضميناتٍ نظرية إلى القضايا السياسية التي يتجلَّى نُبلها للجميع. ولم يقتصروا على مهاجمة فكرة الفن باعتباره أحد المقتنيات الممتعة والباهظة الثمن لدى «البرجوازيين» الأثرياء (على سبيل المثال، من خلال تقديم أعمال بسيطة ورخيصة وقبيحة «تتحدى السوق»، وتنتمي للأسلوب التصوري)، بل قدَّموا كذلك فنًّا يتوافق مع المبدأ الأخلاقي الموضَّح بالأعلى ويدعم النِّسوية، أو المجموعات الهامشية، أو الهويات المعلنة والقائمة على النوع والميول الجنسية والأصول العِرقية.
إنَّ الكثير من الأعمال الفنية السياسية في حقبة الحداثة — وبالتأكيد تلك التي أنتجتها الأنظمة الشمولية — كانت أعمالًا واقعية إلى حدِّ الملل، وخاضعة خضوعًا بالغ الوضوح لأيديولوجيات كُلية. لكنَّ الفن السياسي في عصر ما بعد الحداثة — بوصفه مكرسًا فعليًّا لمفاهيم «الاختلاف» و«التشكيك» وغيرها من المفاهيم المشابهة — هو بالقطع فن «طليعي» على نحو يجسِّد الخلاف والانشقاق لا المطالبة بالتضامن الجماعي. بهذه الطريقة، حوَّلت ما بعد الحداثة المناشدة الأخلاقية بالاعتراف باستقلال «الآخر» إلى تصريحات مفكَّكة للغاية حول التهميش والاختلاف، و«تفكيك» للاتجاهات المهيمنة، وهجمات على الأحكام النمطية، وغيرها. كثيرًا ما تحدَّى فنانو ما بعد الحداثة تلك القوالب النمطية عن طريق تقديمها في شكل محاكاة ساخرة، كما نجد — على سبيل المثال — في الصور العارية التي التقطتها ليندا بنجليس لنفسها، من بينها صورة لها (١٩٧٤) في وضعية مثيرة جنسيًّا، ترتدي فيها نظارات داكنة اللون وتمسك بيدها قضيبًا اصطناعيًّا ضخمًا ذا طرفين. تهدف الصورة على الأرجح إلى تقديم محاكاة ساخرة — مصطنعة ومتهكمة — لقوالب الإعلام النمطية، لكنها كذلك «تستخدم» تلك القوالب، مثلها مثل العديد من الأعمال الفنية من هذا النوع. فتلك الصورة هي صورة مثيرة جنسيًّا جذابة في أعين الرجال. نلاحظ هذا التأثير المزدوج ذاته في المحاكيات الأدبية الساخرة، كما في الكتابة التي تدمج الأسلوب الإباحي في إطار هزلي مستغلةً القوالب النمطية، والتي نجدها في الروايات التجريبية؛ بدءًا من «بيت الموعد» لروب جرييه (١٩٦٥)، وانتهاءً ﺑ «حفلة جيرالد» (١٩٨٦) لروبرت كوفر.
تعرض الأعمال النسوية التالية الأمثلة الرئيسية التي سأقدمها في هذا السياق؛ لأنها غالبًا ما تتمتع بميزتين متناقضتين إلى حدٍّ ما؛ ألا وهما الانغماس في نظرية ما بعد الحداثة، وتبنِّي الأهداف الأخلاقية الواضحة نسبيًّا ضمن موضوعها. في بدايات هذه الحقبة، كان الكثير من هذه الأعمال الفنية مجرد تصريحات سياسية بسيطة، مثل قصيدة «انتظار» لفيث وايلدنج (١٩٧٢)، وهي مقطوعة أدائية حيث تجلس وايلدنج على كرسي وتسرد الأحداث التي تنتظر المرأة حدوثها، أو «أبجدية المطبخ» لمارثا روزلر (١٩٧٥)، وهو مقطع فيديو يصورها بينما تُسمِّع الأبجدية، وتعطي مثالًا على كل حرف عبر أدوات المطبخ موضِّحة كيفية استخدامها، لكن تضطر في نهاية المطاف إلى التلويح بالسكين في الهواء راسمة بقية الحروف الأبجدية.
هُوجِمت الكثير من الأعمال الفنية النسوية التي أُنتِجت لاحقًا في أوائل السبعينيات نظرًا لأسلوبها المستقى من «الفلسفة الجوهرية»؛ أي بسبب تقديمها افتراضات حول الاختلافات بين الجنسين تتجاهل التركيز ما بعد الحداثي على ما تتسم به الهوية من طبيعة أكثر سيولة وخاضعة للتشكيل الاجتماعي. يطرح عمل «حفل العشاء» لجودي شيكاجو وأخريات (١٩٧٣–١٩٧٩) مثالًا جيدًا على ذلك؛ إذ تضمَّن العمل طاولة مثلثة مفرغة من المنتصف تضم ٣٩ مكانًا مجهزًا بأدوات المائدة. يحوي كل مكان طبقًا صينيًّا خزفيًّا معقد التكوين، وغطاءً طويلًا مطرزًا، وكأسًا خزفيَّة، وسكينًا، وشوكة، ومِلعَقة، ويعكس صورة رمزية لنساء بارزات في التاريخ أو الأساطير. صُمِّمت الأطباق على شكل مهبل (يشبه شكل الفراشة)، بينما تتكون الأرضية من ٢٣٠٠ بلاطة تحمل ٩٩٩ اسمًا إضافيًّا. ساهمت أربعمائة امرأة في صنع هذا العمل، وقد أصبح يحتل موقعًا مركزيًّا في تاريخ الفن النسوي. يرمز العمل بدقة إلى الطموح النسوي نحو الاسترداد التاريخي، ويتحدى كذلك هيكل الآلهة (البانثيون) الخاضِع للهيمنة الذكورية من خلال تقديم بديل. لكن تصميمه وأسلوبه الهابط فنيًّا أدى في رأي البعض إلى إضعاف أهدافه الأكثر جدية. أوَليس من المزعج تقديم تلك النظرة المنتمية إلى «الفلسفة الجوهرية» التي تسمح لمجاز يعتمد على صورة عضو المرأة التناسلي بأن يرمز إلى النساء؟
دافع البعضُ لاحقًا عن استخدام هذا المجاز باعتباره ردًّا على التصورات الفرويدية الشائعة للنساء بوصفهن «يفتقرن» إلى القضيب وما يتصل به من دلالات قوية (وهو تصوُّر يقدم في حد ذاته افتراضات فاسدة ومعادية للمرأة إلى حدٍّ مذهل، استقاها فرويد على ما يبدو من شوبنهاور وغيره حول انعدام أهمية الاستجابات الجنسية الأنثوية في جوهرها). بينما رأى آخرون أنه يختزل النساء إلى حدٍّ كبير في تكوينهن البيولوجي. يعتمد اختيار رد الفعل هنا اعتمادًا واضحًا على المعركة التي تخوضها، ولا يتعلق كثيرًا بمزايا «حفل العشاء» باعتباره هيكلًا للآلهة.
يتضمن [العرض] وقوفها عارية أمام الجمهور بينما تُخرج تدريجيًّا من مهبلها لفافة ورقية تقرأ منها تقريرًا ساخرًا حول اجتماع مع «مخرج بنيوي» انتقد أفلامها لما فيها من «اضطراب شخصي» و«سطوة للمشاعر». من جانب، يتناول أداء شنيمان مفهوم استيعاب النقد داخليًّا، لكنه قد يدعم كذلك اهتمامًا نسويًّا «جوهريًّا» بالكتابة النسائية؛ إذ اقترحت هذه الصيغة من النظرية النسوية الفرنسية — التي تبنتها كاتِبات مثل هيلين سيكسو — أن تستخدم النساء «لغة» تسبق الطور الأوديبي (ومن ثمَّ، تعادي الذكورية ضمنيًّا) وتعتمد على نبضات الجسد.
تدين أعمال سيندي شيرمان اللاحقة بالفضل إلى الفن الشعبي لكنها تتمتع بتأثير أقل مباشرة، على سبيل المثال يتسم عملها الفني المعروف باسم «#٢٢٨» (١٩٩٠) — وهو عبارة عن محاكاة فوتوغرافية ضخمة وهابطة فنيًّا لشخصية جوديث التوراتية — بطابعه الشعبي بل وبأسلوبه السينمائي. يقدِّم العمل محاكاة ساخرة للَّوحات الزيتية الضخمة التي جسَّدت هذا الحدث في عصر النهضة، والتي كانت تعبِّر بالطبع (باستثناء اللوحات الرائعة للرسَّامة أرتميزيا جينتيليسكي) عن «ثقافة الرجال الرفيعة المستوى»، وبالتأكيد عن بعضٍ من مخاوفهم حيال فقدان رجولتهم كذلك. صرَّحت شيرمان بأنها أرادت تقديم عمل «في وسع أي شخص عاديٍّ الإعجابُ به … كنت أرغب في محاكاة شيء من الثقافة وفي السخرية منها في الوقت ذاته.» يرى نِسْويُّو ما بعد الحداثة أن عملًا مثل هذا «يطرح قضايا»، حول موضوعات مثل «التنكر وهوية الأنثى، والقوالب النمطية النسوية في التصوير المرئي، والمُشاهد المتأثِّر بالمفاهيم الجنسانية، وجسد الأنثى والفيتيشية، ومنظور الرجل، ومنظور الأنثى … إلى آخره»، على حدِّ قول وود. (لكن بالنسبة إلى الآخرين مِمَّنْ لا يتبنون النظرية التي تنتج مثل هذا النوع من التفسيرات، فقد يتمتع العمل بتأثير أقل بكثير.)
من ناحية أخرى، تتسم أعمال باربارا كروجر الفوتوغرافية بتعقيد أكثر نسبيًّا وميلًا أوضح إلى الجانب النظري؛ فهي تقتطع صورًا من المجلات، ثم تكبِّرها وتقصها وتصلها ببعضها ببعض، مضيفةً إليها نصوصًا، بأشكال تعكس خبرتها كمصمِّمة مجلات. وتُصوَّر تلك الصور التي أُجري لها مونتاج فوتوغرافي كوحدة متكاملة وتُحاط بإطار أحمر اللون (يشبه المستخدم في أعمال الفنان رودشينكه). تقدم الصور محاكاة ساخرة للإعلانات، تهدف إلى التحريض على نقد «العلاقات بين التصميم التجاري وتشكيل الثقافة لحياة الأفراد»، حسبما وضَّحت كروجر لمجلة «ذا نيويورك تايمز». فهي تساعدنا في فهم آلية عمل الصور داخل المجتمع — من خلال تقديم نقد نسوي للتصوير — لأنها صور للنساء كما شكَّلهن الإعلام الخاضِع للسيطرة الذكورية، الذي يحدد كيف ترى النساء أنفسهن. تهدف الأعمال المماثلة إلى فضح القوالب النمطية التي تُخلِّد توازن القوى السائد بين النساء والرجال. وفي أثناء ذلك تتحدى «نظرة الذَّكر» الفعالة، وتسعى إلى تمكين نظرة الأنثى التي ما زالت سلبية حتى الآن. يتجسَّد هذا في صورة أخرى من صور كروجر («بلا عنوان»، ١٩٨١) تصوِّر من منظور جانبي تمثالًا نصفيًّا كلاسيكيًّا لامرأة، وتحمل عبارة «نظرتك ترتطم بجانب وجهي». تعكس العبارة غموضًا متعمَّدًا؛ إذ تثير أسئلةً مثل نظرة مَنْ؟ نظرة أي رجل؟ ولماذا «ترتطم»؟ وهل هو موجَّه ضد النظرة الدينية المقدسة، الكلاسيكية، والذكورية للمرأة، كما يعبر عنها التمثال؟ وغيرها من الأسئلة. كذلك تساعد النصوص المضافة إلى صور أخرى في تفكيك الادعاءات المرتبطة بالنزعة الاستهلاكية، في الإطار البسيط الذي يركِّز على «إظهار التناقضات»، كما نجد — على سبيل المثال — في صور «ابتعني وسأغير حياتك» (١٩٨٤) أو «أنا أتسوق إذن أنا موجود» (١٩٨٧).
رغم ذلك، أشار البعض إلى أن صور كروجر تقع في حد ذاتها فريسة لتناقضاتها (وفقًا لعدد من وجهات النظر النسوية)؛ لأنها تتمتع بنفس جاذبية الإعلانات التي تقدم محاكاة ساخرة لها. ونتيجةً لذلك، انتُقدت الصور لفشلها في التمتع بتأثير سياسي كافٍ. أهي نقد للمشهد الاستهلاكي أم جزء منه؟ وعلاوة على ذلك، تعكس الصور نوعًا من الإبداع الشكلي الحداثي العتيق؛ ومن ثمَّ انتُقدت كروجر على «الجمال التصويري» لأعمالها، فضلًا عن عرضها لتلك الأعمال في معرض فني تجاري.
إنَّ الخيارات المتاحة هنا كما اقترحتُ في السابق تنحصر في أحد أمرين: إما الاندماج في الخطابات المهيمنة ومحاولة تعديلها من الداخل، وإما قبول التهميش علنًا ثم محاولة زحزحة الأطراف إلى أن تحتل موقع المركز.
الفن والسياسة
إحدى وظائف النقد الأخرى حاليًّا هي دعم ونشر الوعي بتلك الممارسات الفنية المقاوِمة والمعارَضة التي يطورها حاليًّا فنانون من خارج منظور السوق المهيمن والاهتمام المؤسسي.
لكن هذا وحده لن يكفي؛ فالعمل الفني بمفرده — سواء على الحائط أو في معرض فني أو حتى في الهواء الطلق كما في «فن الأرض» أو «فن الموقع» — لا يقدم فعليًّا مشاركة متميزة في الجدل السياسي (ومن ثم، لا يشكِّل حليفًا جيدًا حقًّا للنقاد). يرجع ذلك إلى أن الجدل — على عكس ما يُروَّج له دعائيًّا — يتطلب طرفين قادرين على تقديم مبررات مفصَّلة وواضحة لمواقفهما لا طرفًا واحدًا، وما يحقق تقدمًا فعليًّا هو التفاوض حول أوجه النزاع لا الاكتفاء بإطلاق الشعارات المفاهيمية. وهكذا، قد يزعم المرء أن كروجر ظلت مرتبطة بالأولويات البرجوازية بقدر ما ظلت دعوتها مقتصرة في الواقع على التمكين الفردي، وأن ذلك الجزء من العمل الفني المقبول ثقافيًّا واجتماعيًّا — كما في أعمال هاكه — يكتفي فقط بتذكيرنا بوجود أشخاص صالحين وآخرين فاسدين — رغم أنه يبدو وكأنه «يخاطب» القضايا الأكبر مثل السيطرة السياسية والعدالة الاجتماعية — وأنَّ بعضًا من الفاسدين هم ذكور أو تجَّار فن، أو تجَّار عقارات، أو مديرو شركات ضخمة، أو تجَّار سلاح … إلى آخره.
يعتمد هذا كله بالطبع على فكرتك عن الموقع الذي يحقق أكبر فائدة للجدل والنشاط السياسي. بالنسبة إلى بعض فَنَّانِي ما بعد الحداثة ومُنظِّريها (وبعض النسويين مِمَّن يزعمون أن «الشخصي هو السياسي»)، يمكن تحقيق تلك الفائدة في «أي مكان». لكنَّ الفنانين المنتمين للفن المرئي نادرًا ما «يقدِّمون معلومات» إلى الناس عن السياسة عن طريق الإدلاء ﺑ «تصريحات» سياسية (رغم أن بوسعهم ذلك)، وعادةً ما يعبِّرون صراحةً أو ضمنًا عن أفكار بسيطة للغاية لِمَن اقتنعوا بها بالفعل، فأعمالهم لا تتسم على الإطلاق بالتعقيد الذي يبرز في هذا السياق حتى في الأعمال الجماعية الأشهر من الفن السياسي، التي تتميز بوجود حوار فعلي، مثل فيلم سبيلبرج «قائمة شيندلر». إذا كان العمل السياسي يعتمد على الإقناع البلاغي، فإن فنون ما بعد الحداثة المرئية قد عجزت على نحو لافت للنظر عن تقديم هذا الإقناع، باستثناء بعض الأحيان التي تحقق فيها هذا الإقناع نتيجة استخدام الأساليب الدعائية القديمة المستهلكة التي تُقحِم المعلومات في عقولنا من خلال وسائل أولية تعتمد على المحاكاة، حتى لو غلفتها السخرية من آنٍ لآخر. لا يملُّ نقَّاد ما بعد الحداثة الماركسيون من إخبارنا بأن الفن الواقعي الذي يعبر عن موقف نقدي معين تجاه الواقع هو الأفضل في الإطار التقدمي الفعال؛ وذلك تحديدًا لأن في وسعه تزويدنا إلى حدٍّ ما بالمعلومات إلى جانب محاولة إقناعنا. لكن تلك الأساليب المكشوفة — كما شهدنا من قبل — لا تحتكم إلى معايير ما بعد الحداثة فيما يخص آليات التصوير الفني في هذه الحقبة.
استحقاقات الفنان أو الفنانة لا تقترن بجنسه، أو أيديولوجيته، أو ميله الجنسي، أو لون بشرته، أو وضعه الصحي، كما أن تناول إحدى القضايا لا يعني بالضرورة مخاطبة الجمهور … إن الفن السياسي الذي نشهده حاليًّا في أمريكا ليس سوى سلسلة طويلة من محاولات إقناع مَن اقتنعوا بالفعل.
كان هيوز مُحِقًّا أيضًا عندما أشار إلى أن مشكلة الكثير من تلك الأعمال الفنية السياسية هي افتقارها فعليًّا إلى الأفكار الجيدة؛ إذ غالبًا ما تتضمن أفكارًا تافهة أو ساذجة لا تثير لدى أيٍّ منَّا عمليات تفكير معقدة أو خارجة عن المألوف إلى حدٍّ كبير. على سبيل المثال، «عمل الفنانة جيسيكا دايموند الذي يتكون من علامة يساوي تلغيها علامة تقاطع، ومكتوب تحتها بخط خفيف «غير متساوٍ تمامًا». أيُّ شخص يظن أن هذا الشكل البياني قد يساهم بأي أفكار جديدة تدعم فهم المرء لقضية الامتيازات في الولايات المتحدة لمجرد احتلال مساحة على حائط في أحد المتاحف ليس سوى واهم.» فعلى أفضل الأحوال، يقتصر ذلك النوع من الفن «في الأساس على تناول فكرة عادية إن لم تكن بديهية — مثل «العنصرية سلوك خاطئ» … — ثم تشفيرها على نحو غاية في الالتواء بحيث يشعر المُشاهِد عندما يتمكَّن من ترجمتها ببريق الانضمام إلى ما نطلق عليه «خطاب» عالم الفن» (روبرت هيوز، في العمل المُستشهَد به).
قد ينتقد العمل الفني المجتمع ومؤسساته، وينتهي به الحال رغم ذلك معروضًا في ذلك المجتمع، ومبيعًا لتاجر، ومكتسبًا شرعيته غالبًا من آراء مؤسسة فنية تابعة للطبقة الوسطى. فذلك النقد المجتمعي لم يمنع عرضًا قدمه جيلبرت سيلفرمان بقيمة ٩٠ ألف دولار مقابل عمل من أعمال هاكه — يُدعى «دُهن اجتماعي» — على الرغم من أن العمل يهزأ بالشخصيات البارزة في عالم السياسة والأعمال من خلال اقتباس أقوالهم التي تدافع عن الفنون باعتبارها «مُشحِّمات اجتماعية» ووضعها على لوحات معدنية منفصلة. لا ينطوي الأمر على مفارقة مثلما يبدو؛ فالمجتمعات الليبرالية قضت ما يزيد عن قرن من الزمان في استيعاب الأعمال الفنية التي تعاديها. وبوجه عام، ومع بعض الاستثناءات الشهيرة، لا تُخضِع تلك المجتمعاتُ الفنانين للرقابة أو تعمل على الحد من تأثيرهم، بل تحمي حقَّهم في التعبير. (رغم أن الأعضاء غير الليبراليين في المجتمعات الليبرالية يحاولون الإطاحة بهذه الفرضية، كما حدث في فضيحة مايبلثورب، عندما أُثير النقاش حول التمويل الفيدرالي الذي قُدِّم لمعرض ضمَّ بعضًا من صوره التي تتناول العلاقات السادية المازوخية بين المثليين.)
مع ذلك، ما تزال البِنى الاجتماعية والقانونية الأساسية في تلك المجتمعات التي أتناولها هنا ليبرالية دون شك. حتى وإن كانت المؤسسة هي التي تدَّعي الشرعية أولًا لا العمل الفني، فإن ما يهم عقب ذلك هي القيمة التي يحظى بها مُشاهِد العمل الفني الفردي على المدى الطويل، التي تتجاوز «البيان» الصادر عن عرض فنيٍّ ما. لا يوجد ما هو أقدم ولا أكثر مللًا من الأخبار النسوية والتصوُّرية التي شهدناها في بضعة العقود الأخيرة؛ فغالبًا ما يبدو عمل ما بعد الحداثة العقائدي الواضح أكاديميًّا إلى حدٍّ تعجيزي في هذا الإطار. يوجد اختلاف كبير بين ما بعد الحداثة المذهبية وهذا النوع من الفن المعاصر الذي في وسعه تقديم محفِّز فكري يمتد لفترة أطول مما يدرك الكثير من نقَّاد ما بعد الحداثة على ما يبدو. بالطبع، يجب على الأعمال الفنية «إثارة الشكوك»، أليس هذا ما فعله المسرح التراجيدي بَدءًا من «أنتجوني» وانتهاءً ﺑ «هيدا جابلر»؟ لكنها في حاجة إلى تحقيق ذلك بطرق أكثر تعقيدًا وثباتًا مما نلاحظه في أحدث أعمال ما بعد الحداثة الفنية.
إنَّ نظرية ما بعد الحداثة التي تبناها الكثير في الحركة الفنية الطليعية كانت نسخة من الفلسفة — وسياستها وتاريخها — التي وضَّحتُها في الفصول السابقة. تدعو هذه النظرية إلى الهجوم على الامتياز وشروطه المرتَّبة هرميًّا — ومن بينها الشكلية المرتبطة بالحداثة — وهدمهما، وإلى الارتياب في السرد المنظَّم وفي المركز، وفي الشروط المتعالية لتحقيق القيمة. تَوجَّب كذلك الشك في صدارة الحضارة الغربية (وأي تنظيم مميَّز يرجع إليها). في أغلب الأحيان، كان الهدف من ذلك يستحق الإعجاب من الزاوية الأخلاقية، وهو النظر بعين الاعتبار إلى المهمشين والمقموعين والمستبعدين والدفع بهدم القيم المهيمنة أو عكسها. كان ذلك بالتأكيد دافعًا ليبراليًّا تقليديًّا، لكنه برز تحت رعاية نظرية متزعزعة. على سبيل المثال، من غير الواضح إن كان عمل تفكيكي حقيقي مثل كتابات دريدا يمكن أن يتبنى أيًّا مما قد يعتبر موقفًا سياسيًّا فعالًا وثابتًا، على الرغم من أفكار دريدا الأخيرة.
وقعت الفنون المرئية كذلك أسيرة الفِكر التناقضي الذي يزعم أن «كل شيء» هو نص محتمَل. وهيمنت هذه النظرة التي تحوِّل العالم إلى نص — كما هو معتاد في كتابات دريدا وبارت — على الفرضية الدافعة بأن جميع أشكال التفكير لغوية نوعًا ما؛ مما أدى إلى استبعاد جزء كبير من استجابتنا غير اللغوية للفن في الماضي — مثل الاستمتاع ببساطة بملمس اللوحة أو ألوانها أو علاقتها الشكلية — إما باعتبارها تأثيرات جانبية منبوذة لمبدأ المتعة المرتبط بالحداثة الشكلية البالية، وإما طلبًا للتحرير والخلاص من خلال تقديم شكل من أشكال الارتباط اللفظي المفاهيمي النظري المناسبة. وهكذا، أصبح من المحتَّم اعتبار كل شيء — بدءًا من الأثاث وحتى الملابس والمباني — جزءًا من «لغة» يمكن تقصِّي بِنيتها الاجتماعية، ثم إبراز قابليتها لنوع من التعطيل أو الإلغاء، بعيدًا عن التنظيم الهرمي المشبوه الذي حظيت به في المجتمع «البرجوازي». وإذا كان كل شيء هو جزء من اللغة، وإذا كانت اللغة تنتثر ببساطة، وإذا كانت خطابات الفن — مثلها مثل خطابات الطب والقانون وعلم العقوبات وغيرها — تتجاوز الفرد؛ فإن مفاهيم التأليف والإبداع والأصالة هي أيضًا موضع ريبة ولا يمكن اعتبارها «مميَّزة».
انتشر هذا الميل ذو التأثير الديمقراطي السخي، الذي رأى أن القارئ والطالب يسبحان في نفس الفضاء اللغوي الذي يسبح فيه الكتَّاب الروائيون العظماء. ومن ثمَّ، فَهُم بالمثل في موقف يتيح لهم الهيمنة على النص من خلال التفسير. ولدواعي المفارقة، فقد اضطلع بهذا الدور عددٌ من النقَّاد الثقافيين ذوي الطابع الخاص الذين يتميزون بتسلطهم الشديد وبارتفاع رواتبهم. وهكذا، أصبح تفسير العمل الفني من خلال المزاج الفردي، أو التجربة التي أنتجته، أو جانب الواقع الذي حاول نقله؛ اتجاهًا باليًا.
تنبع من هنا — على سبيل المثال — هجمات ما بعد الحداثة على الرسم «التعبيري الجديد» الذي برز في ثمانينيات القرن العشرين. وهو خلاف يستحق التحليل هنا؛ لأنه يوضح وجود اتجاهات مُنافِسة فعَّالة لما بعد الحداثة، وأن عددًا من أبرز أتباع ما بعد الحداثة هاجموا تلك الاتجاهات مستخدمين مصطلحات سياسية واضحة، فلم يكتفوا بنعت الرسم التعبيري الجديد في ألمانيا والولايات المتحدة بأنه معبر «تصويريًّا» وذو تأثير عاطفي واضح، بل زعموا أنه «فضَّل» المفهوم الهرمي العتيق الطراز لفن الرسم في حد ذاته.
كان من الواضح تمامًا أن الفنانين التعبيريين الجُدد الأمريكيين — مثل جوليان شنوبل وديفيد سال وإريك فيشل — اتحدوا أو تشابهوا مع الفنانين الأوروبيين أمثال ساندرو كيا وفرانشيسكو كليمنته وجيورج بازليتس ويورج إيمندورف وأنسيلم كيفير وبي إيه آر بينك مِمَّن ينتمون بوضوح إلى التعبيرية الألمانية الحداثية. وزِدْ على ذلك أن أولئك الفنانين وسَّعوا هذا الاتجاه التعبيري بدلًا من هدمه أو محاكاته محاكاةً ساخرة أو «نقده». وفي أثناء ذلك، أعادوا إلى الفن السمات الحسية والشعورية التي تعرضت للإقصاء بسبب تزمُّت نظرية ما بعد الحداثة. يمكننا اعتبار فيشل — على سبيل المثال — رسَّامًا رمزيًّا تعبيريًّا، بناءً على أسس نفسية لا تدين بشيء إلى ما بعد الحداثة، حتى وإن كانت نفسية شخصياته المشوهة نسبيًّا واغترابها الظاهري تدين على نحو واضح بشيء لمناخ أفكار ما بعد الحداثة الأكثر شمولًا والمتمحور حول السرد. وعلى نحو مماثل، يمكن اعتبار رسَّامين مثل جنيفر بارتليت وروبرت كولسكوت ونيكولاس أفريكانو وإليزابيث موري يُحيُّون الاتجاهات الماضية في الرسم الحداثي؛ فقد أجازوا لأنفسهم مخاطر المنافسة مع الماضي وتوسيع اتجاهاته على نحو أكثر مباشرةً، على سبيل المثال قد يرى البعض بارتليت خليفة مونيه.
يقع على طرف النقيض من الأعمال الفنية التي أُنتِجت في الستينيات والسبعينيات … والتي سعت إلى تحدي أساطير الفن الراقي وإعلان أن الفن — مثله مثل كل أشكال الاجتهادات الأخرى — مرهون بالعالم التاريخي الحقيقي.
علاوة على ذلك، هاجم كريمب في هذا السياق «أسطورة الإنسان وأيديولوجية الإنسانية التي تدعمه»؛ لأنهما «مفاهيم تساند الثقافة البرجوازية المهيمنة. وتمثل في حد ذاتها علامات على الأيديولوجية البرجوازية.» ومن ثمَّ، هُوجِم الرسم التعبيري الجديد على موقفه المتحفِّظ من الناحية السياسية؛ لأن الفنانين يجب ألا يشيِّدوا عوالم بديلة ممتعة في الأعمال الفنية، بل عليهم طرح تساؤلات حول الطريقة التي شكَّلهم بها العالم وخطاباته، ويُفضَّل أن يتوصلوا إلى استنتاج يفيد بأنه شكَّلهم في صورة ضحايا. حظي نقَّاد ما بعد الحداثة بأهمية تفوق أهمية الفن أو الفنانين؛ حيث إنهم انشغلوا بما بدا لهم مقبولًا على المستوى السياسي أو المؤسسي، مع أن أي شخص لديه إدراك ينبغي أن يرى بوضوح ما تتسم به الأساليب الأكاديمية الأولية التي كانوا يستخدمونها من بساطة شديدة في الواقع، وسهولة التوصل إليها إذا ما تمتع المرء بتعليم جيد وبمستوًى معين من الإقناع البلاغي. وهي متطلبات تقل بمراحل عن مستوى الموهبة الذي كان مطلوبًا لإنتاج أي نوع من الأعمال الفنية في الحقبة السابقة، لكن هدفها الرئيسي هو تأسيس معارضة نقدية، تدعمها النظرية الحالية. يمكن اعتبار قدر كبير من نقد ما بعد الحداثة انتقامًا سياسيًّا توجِّهه الأكاديمية نحو أساليب الفن الرئيسية ووسائل إمتاعه؛ ومن ثم، يمكن اعتباره أيضًا — كما سأزعم فيما بعد — دفاعًا عن أسلوب محدود للغاية داخل الفنون الأدبية والموسيقية والمرئية المتنوعة تنوعًا استثنائيًّا في هذه الفترة، وسأتناول هذا السياق الأشمل في الفصل التالي.