التمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وقعت حوادث هذه القصة خلال النصف الثاني من القرن الأول بعد الهجرة، والحكم يومئذٍ لبني أمية، ودمشق عاصمة الدولة العربية العُظمى، وجيوشُ الفتح توغل في الشرق والغرب والشمال والجنوب، والرُّقعة العربية تنبسطُ كل يوم أميالًا وفراسخ، والإمبراطورياتُ العريقة تتهاوى إمبراطورية بعد إمبراطورية، والأباطرة المُتألِّهُون يخرُّون للأذقان سُجَّدًا؛ إذ لا يستطيعون عن أنفسهم، ولا عمن حولهم دفاعًا ولا مقاومة …
وكانت الخطة العربية يومئذٍ أنْ يصير هذا البحر المتوسط بيننا وبين أوروبا — وكان اسمه يومذاك بحر الروم — أنْ يصير بحر العرب، ليس على شواطئه الفوقانية ولا التحتانية إلَّا بلاد عربية يرتفع فيها الأذان وتُقام الصلوات.
وكان الجيش الزاحِف في شمال إفريقية قد فتح مصر، وبرقة وما يليهما من بلاد المغرب حتى بلغ شاطيء المحيط الأطلسي — وهو يومئذٍ آخر الدنيا من جهة الغرب — فأخذ يتطلع إلى الشمال يريد أنْ يثب إلى أوروبا من نحو المَضيق — مضيق جبل طارق — لينساب من شبه جزيرة أيبريا إلى أرض إفرنسة ورومية.
وكانت جيوش عربية أُخرى في المشرق قد طهَّرت ثغور الشام من بقايا الروم، وأبطلت مقاومتهم، ثم مضت زاحفة، فاخترقت شبه جزيرة الأناضول، وعسكرت تحت أسوار بيزنطة — القُسطنطينية — عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، تريد أنْ تثب إليها فتملكها، في الوقت الذي تثب فيه جيوش المغرب إلى شبه جزيرة أيبريا، ثم يمضي الجيشان مشرِّقين ومغرِّبين، حتى يلتقيا في الأرض الكبيرة، أرض رومية، عاصمة الدولة الرومانية الغربية، وبذلك تخلص أوروبا للعرب، ويصير بحر الروم بحيرة عربية، فليس ثمة إسبانيا، ولا إفرنسة، ولا الإمبراطورية الرومانية …
وكانت الخطة ماضية إلى غايتها بلا رَيْث، فما تزال الأنباء تتوالى على عاصمة العرب، كل مشرق صبح ومغرب شمس، بما أفاء الله عليهم من الفتح والنصر في كل جبهة من جبهات القتال، فملك العرب شبه جزيرة الأندلس، وأزالوا عنها مُلك إسبانيا والبرتغال، ووثبوا إلى فرنسا، فاحتلوا من جنوبها بلادًا على الشاطيء، وجهروا فيها بالأذان وأقاموا الصلوات …
وأحرزت جيوش المشرق على الروم نصرًا بعد نصر، فاخترقت شبه جزيرة الأناضول، ونفدت منها إلى البحر الأسود، فعسكرت على شواطئه، وصارت القسطنطينية على مرمى السهم …
وجاءت الأنباء من تركستان والعجم، ومن الهند والصين، ومن بلاد الحبش والزنج، بما فتح الله على العرب من تلك الأصقاع البعيدة الشاسعة المترامية الأطراف.
كل ذلك ولم يمضِ على العرب منذ هاجروا بدينهم إلى الله، غير بضع عشرات من السنين لا تبلغ تمام القرن.
وكان لهذه الفتوح آثارها في المجتمع العربي بدمشق وغير دمشق من العواصم العربية، فتفتحت عيون العرب على ألوان من الترف وفنون من الحضارة لم يكن لهم بها عهد …
وكان من آثارها أنْ كثر الأُسارى والسَّبايا في أيدي المقاتلين العرب، فانتقلوا بهم إلى الحواضر العربية، فمنهم من والى العرب وآمن بدينهم، واندمج في المجتمع العربي، وعاش بين العرب مولًى من مواليهم ينتسب إليهم ولا يُحسب منهم، ومنهم من انتقل من أيدي المقاتلين إلى سوق الرقيق، يشتريه من يشتري للعمل والمهنة، أو للتكثُّر بالأتباع …
وكان من أولئك الأسارى بعض أبناء السادة والقادة والأُمراء في بلادهم، وكان لهم ثقافة ومهارات وفنون، فبرزوا في المجتمع العربي بفنونهم ومهاراتهم وثقافتهم، وذاع لهم جاه وصيت، واكتسبوا مالًا وحظوة، ولكنهم لم يبلغوا في المجتمع العربي لعهد الدولة الأموية منزلة العربي الأصيل؛ إذ كانت تلك الدولة تؤمن بالعِرْق والنسب.
وكان بين السَّبايا من بنات الأمم المغلوبة ذوات ثقافة وفنون ومهارات كذلك، أو ذوات ملاحة ودلال وفتنة، أو ذوات حسب ونسب ومجد؛ فأغرى كل أولئك — أو بعضُه — رجالًا من العرب باتخاذ زوجات منهن أو وصائف وحظايا …
وكثُرت الزوجات والحظايا من بنات الفُرس والروم والتُّرك والإسبان والصقالبة، وغيرهم في بيوت أمراء العرب، وفي بيوت السوقة كذلك، وولدن لهم بنين وبنات من ذوي النجابة والفطنة والعزم، أو من ذوات الحُسن المطَعَّم، وكان أولادهن هؤلاء من قومهم في منزلة وُسطى بين منزلة العرب الخُلَّص ومنزلة الموالي؛ إذ كانوا هُجناء قد اختلط في أعراقهم دمٌ عربيٌّ بدمٍ غير عربي.
•••
كذلك كان المجتمع العربي في السنين التي وقعت فيها حوادث هذه القصة، وتلك كانت سِماته وملامحه العامة …
وتبدأ القصة في مسجد «الرَّقَّة» — وهي بلد من بلاد الجزيرة على شاطيء الفُرات — حيث جلس قاصٌّ من قُصَّاص الدولة إلى سارية من سواري المسجد، يتحدث إلى أهل حلقته حديثًا يشوِّقُهُم به إلى الجهاد، ويُرَغِّبهم فيه، ويُحبِّب إليهم أنْ ينتظموا في صفوف الجيوش الغازية في الشرق أو في الغرب …
وكان لمثل هذا القاص في عهد الدولة الأموية شأن وأثر، فهي قد ابتدعت هذه الوظيفة، واختارت لها طائفة من العارفين بالسِّيَر وأخبار المغازي والفتوح، تأجرهم على ما يقصُّون من قصص في مساجد الأمصار، بقدر ما يتركون من أثر في سامعيهم؛ ليُسارعوا إلى التطوع في الجيوش الغازية، أو يكونوا حزبًا للخليفة، فكان أولئك القُصَّاص يقومون في وقتهم ذاك بمثل مهمة صحف الدعاية، ومكاتب الاستعلامات في هذه الأيام …
ولعل الدولة الأموية بابتداعها لهذه الوظيفة، كانت أسبق الدول إلى الأخذ بهذا المذهب، الذي يهدف إلى توثيق صلة الحكومة بالجماهير، وكسب تأييدهم فيما تحاول من تدبير سياسي في الداخل أو في الخارج، وهو مذهب له اليوم في السياسات العامة شأن كبير، ولعلها — إلى ذلك — كانت أول دولة عرفت أثر القصص في النفوذ إلى نفوس الجماهير، فاستخدمت هؤلاء القُصاص؛ لتنفذ بهم إليها، إذ كانت تشعر أنها بإزاء منافسة قوية على العرش، يحمل رايتها بنو هاشم، من آل أبي طالب وآل العباس، الأحِبَّاء إلى قلوب الجماهير لقرابتهم القريبة من النبي …
على أنَّ أحاديث هؤلاء القُصاص في حلقاتهم تلك لم تكن قصصًا بالمعنى الفني، الذي نفهمه في هذه الأيام من كلمة «قَصص»، وإنما هي أخبار وروايات تتداعى لمناسباتها، وتتساوق لإحداث الانفعال والتحميس والسموِّ بالروح المعنوية للشعب، ولكنها برغم ذلك نوع من القَصص على غير قاعدة من قواعد ذلك الفن …
•••
وتمضي القصة من حيث بدأت في حلقة ذلك القاص بمسجد الرَّقَّة، حتى تنتهي إلى غاية من غايات كل قصة، تتفاعل فيها نفوس البشر بالعواطف المتناقضة التي تُنشئها في نفوس أبطالها ظروف المجتمع الذي يعيشون فيه …
وقد عرفنا في بعض ما مضى من هذا التمهيد بعض ملامح هذا المجتمع، الذي وقعت فيه حوادث هذه القصة …
المجتمع الذي ينتظم عربًا خالصي النسب، قد جعلهم دستور الحكم طبقة فوق الناس، ومواليَ ليس لهم في العرب نسب، ولكن لهم على كل عربي حق الولاء، ولهم في نفوسهم ذكريات عميقة لماضٍ بعيد، وهُجناء يمتُّون إلى العرب بنسب، وإلى عدوِّ العرب بنسب، فلهم أسرة هنا وأسرة هنالك، والحرب لم تزل ناشبة بين الأسرتين … وفي كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث، التي ينتظمها المجتمع رجال ونساء … رجال من طبقات ثلاث، ونساء من طبقات ثلاث كذلك، وللمجتمع الذي يعيشون فيه دستور، وللعواطف الإنسانية دستور آخر فوق دساتير الناس …
بهذه العواطف المتناقضة تفاعلت حوادث هذه القصة، ورجُلها الأول هو مَسلمة بن عبد الملك، أبوه الخليفة عبد الملك بن مروان، ولدتْه له سبيَّة من سبايا الروم، فلما كبر حمل راية العرب في وجه الروم، وتحت رايته هذه رجال من الطبقات الثلاث، ووراء كل رجل منهم امرأة؛ زوجة أو أم، من إحدى طبقات ثلاث كذلك، وفي قلب كل أمٍّ أو زوجة منهن ذكريات قديمة، وعواطف جديدة، وآمال مرتقبة …
ذلك هو الجو الإنساني لهذه القصة، ولست أريد أنْ أصفه أكثر مما وصفت؛ لتبقى للقصة قوة التشويق، أما جوُّها التاريخي فيصف خُطا العرب في زحفهم إلى القسطنطينية — عاصمة الروم — في القرن الأول، وهم قد بلغوا في زحفهم ذاك مبلغًا، كان خليقًا بأن ينتهي بنصرٍ عظيم، ولكنهم تراجعوا والثمرة دانية، فلماذا؟ … ولكني لا أريد كذلك أنْ أجيب الآن؛ لتبقى للقصة كذلك قوة التشويق …
أما بعد، فإن في هذه القصة صورة من كفاح العرب في تاريخٍ مضى؛ لتبليغ رسالة، وتحقيق سيادة، وإنهم ليكافحون اليوم كفاحًا من نوعٍ آخر؛ لتبليغ رسالة، وتحقيق سيادة، وردِّ عُدوان، فما أحراهم في مرحلة كفاحهم الحاضر أنْ يتدبروا بعض ما مضى من فصول ذلك التاريخ …