الفصل الأول
حديث القاصِّ١
فرغ الناس في مسجد الرقَّة
٢ من صلاة العشاء الآخرة، فتنفَّلوا
٣ ما طاب لهم التنفُّل، ثم دَلَفُوا
٤ إلى حيث كان أبو داود الحِمْصِيُّ مستندًا إلى سارية من سوارِي المسجد، يقصُّ
القَصص، ويُرغِّب في الجهاد، ويروي من أنباء المغازي والفتوح ما يُحمِّس الجبان، ويشدُّ
العزم، ويستلبُ ألباب الشيوخ وقلوب الشباب …
وكان أبو داود هذا قاصًّا واسعَ الرواية، عذبَ الحديث، لطيفَ الإشارة، قد تتبَّع أنباء
المغازي والفُتوح منذ أول عهد العرب بالفتح، فأتقنها حفظًا وروايةً، وتمثيلًا بالقول
والإشارة ونَبْرِ الصوت، حتى ليحسبُ كلُّ من سمعه يقصُّ أنه شهِد بعينيه، وشارك بسيفه
في كل
معركة من معارك الفتح، فلم يتخلَّف عن واحدة!
وكان رجلًا في الأربعين، لم يطعن في السن، ولم تُثقِل كاهله السنون، قصيرًا بطينًا
مُعتجِر العمامة، قد أرسل لحيةً تضرب أطرافُها على بطنه، فما يراه أحد في منظره ذاك،
ويستمِع إلى حديثه مُسنِدًا إلى الرواة من أبطال الفتح، إلَّا ظنَّه شيخًا عميقَ الجِذر،
بعيدَ المولد والدار، إلَّا تكن له صحبةٌ أو هجرة، فإنه لا بُدَّ قد عاصَرَ وغَزَا واستظلَّ
في معارك الفتح بلواء الفوج الأول!
وكان عظيمَ القدرِ عند أمراء بني أمية في الشام، فهو جليسهم وجارهم ما أقام بدمشق،
فإذا
بدت له الرحلة إلى أيِّ بلد من بلاد الإسلام، لم تزل صِلاتُهم وعطاياهم تَرِدُ عليه حيث
كان، على أنَّ أمير المؤمنين عبد الملك
٥ كان أكثرهم عطفًا عليه وصِلاتٍ إليه، وكان يقول له: لسنا نحاول اصطناعك بهذا يا
أبا داود، بل أنت اصطنعتنا بخالص ولائك وكريم بلائك؛ لنُصرة بني مروان …
•••
وتكامَلَت الحلقة، وأخذ أبو داودَ يتنقل بالناس في قصصه من فن إلى فن، ومن وادٍ إلى
واد،
فهو حينًا في البر، وحينًا في البحر، وطورًا على ظهر البادية، وتارة في ظل حصن من حصون
الروم، في المغرب أو في المشرق، وآونة في سهول الجزيرة، وفيافي العراق يصف كيد
الخوارِج
٦ وتطاحُن الفِرَق … ثم قال:
٧
ضَلَّ من فتنتْه دنياه عن دينه، وشغلته أولاه عن آخرته، وأزلَّه الشيطان فأذلَّه،
وأطعمه السلطان فأضرعه! …
٨ ألا إنَّ قومًا في بعض الأمصار — غفر الله لهم — قد زُيِّن لهم الباطل،
فشرعوا سيوفهم لحرب أمير المؤمنين، يأبَون — بزعمهم — أنْ تكون
هِرَقْلِيَّة
٩ يتوارثها خلفٌ عن سلف، فهلَّا شرعوا سيوفهم هذه لحرب هرقل، ودكِّ معاقل
الكفر في بلاده، ونشر دين الله في الأرض …
وصمت أبو داود برهة، ثم رفع عينيه يجول بهما فيمن حوله، وهو يخلل لحيته بأصابعه،
ثم
استأنف حديثه:
حدثنا نصر بن عوانة — وكان في جيش عقبة بن نافع
١٠ بالمغرب — قال: لقد رأيت عقبة، وقد بلغ بجيشه شاطيء الأقيانوس
الأخضر،
١١ فيدفع حصانه إلى البحر، ويقول بحماسة: اللهم ربَّ محمدٍ، لولا أني لا
أعلم وراء هذا البحر يابسة، لاقتحمتُ هذا الهول المائج؛ لأنشر اسمك المجيد في أقصى
حدود الدنيا!
رحم الله عقبة، وأين مثل عقبة؟! فإن قسطنطين بن هرقل ما يزال وراء هذه الحدود
المتاخمة، يتهدد أصحابنا بالغارة بعد الغارة برًّا وبحرًا، فهلَّا خرجنا إليه؛
لننشر اسم الله المجيد في أقصى بلاد الروم! ضلَّ من جعل إلهه هواه! ألا إنه لولا
ابن هرقل على هذه التخوم لما صارت — بزعمهم — هِرَقْلِيَّة.
وتلبَّث القاص برهة أخرى، ثم استأنف:
لقد كان معاوية،
١٢ وكان ابنه يزيد،
١٣ وكان مروان،
١٤ ثم كان أمير المؤمنين عبد الملك … كأنما لم تمضِ تلك السنون، وكأني أرى
الساعة، وأسمع تكبير جند الشام يقودهم يزيد بن أمير المؤمنين،
١٥ وفيهم ابن عباس،
١٦ وابن عمر،
١٧ وابن الزبير،
١٨ وأبو أيوب الأنصاري
١٩ جار رسول الله، ومُضيفه في دار هجرته، قد ركبوا في عشرات الآلاف من
الجند، تُقِلُّهُم سبعمائة وألف سفينة، قد صنعها معاوية بعينيه من أرْز هذه الغابات
الكثيفة في جبال لبنان،
٢٠ ثم أرسلها في البحر لحرب الروم، تغزو بلادهم، وتدكُّ حصونهم، وتملك
جزائرهم في البحر، وتأخذ عليهم طريقهم في البر، وتطوِّق مدينتهم هذه التي بناها
قسطنطين الأول،
٢١ واتخذها قاعدة لملكه، فما يزالون على حصارها سنين ذات عدد، لا يصدر
منها ولا يرد إليها، حتى يبلغ الجهد بقسطنطين وأهل ملَّته ما يبلغ، فيعطِي الجزية
صاغِرًا … ويعود المسلمون ظافرين، لم يتخلف من رؤسائهم غير أبي أيوب، قد دُفِن عند
سور القسطنطينية كما وعده رسول الله!
٢٢
ردَّ الله غربتك يا أبا أيوب! مُضيف رسول الله أول هجرته إلى المدينة، قد
ثوى
٢٣ تحت أسوار القسطنطينية ضيفًا على أهل الكفر!
يا أبناء المهاجرين من ضيوف أبي أيوب، يا أبناء الأنصار من صحابته، إنَّ أبا أيوب
لم يزل كريمًا كعهدكم به، فهاجروا إليه يُضيِّفْكُم في داره الجديدة، كما ضيَّف
نبيكم محمدًا منذ سنين سلفت.
٢٤
هتف عتبة بن عبيد الله، وقد مسَّ حديثُ الشيخ شغاف قلبه: لبَّيك أبا أيوب.
فضجَّ المجلس وراءه بالتلبية …
•••
ذلك شأن القاص أبي داود، وذلك شأن الناس معه؛ ما يزال يتنقل بين الأمصار، يدعو إلى
الجماعة،
٢٥ أو يدعو إلى جهاد أهل الشرك، فيستجيب له من يستجيب، ويُلبِّي من يلبِّي.
ولكن الفتنة التي نشبت بين أهل القرآن منذ سنين لم تُطفأ بعد؛ فما يزال في كل بلد
داعٍ
يدعو لنفسه، ويؤازره من المسلمين طائفة، فأمير المؤمنين في الحجاز وما والاها عبد الله
بن
الزبير، وأمير المؤمنين في الشام عبد الملك بن مروان، وما يزال في الجزيرة والكوفة، وما
وراءها من أرض المشرق داعٍ أو دعاة، يهتفون باسم أمير من بني علي بن أبي طالب،
٢٦ وفي دمشق نفسها لم يزل واحد أو أكثر من السفيانية
٢٧ أو غيرهم من فروع بني أمية، ينفس
٢٨ على بني مروان أنْ تكون الخلافة فيهم … وعبد الملك يحاول أنْ يوطِّيء لنفسه بين
هذه الزعازع،
٢٩ فما ينفكُّ متنقِّلًا على رأس جيشه من مصر إلى مصر،
٣٠ مكافحًا صابرًا قد استحلَّ سفك الدم في سبيل توطيد العرش، وتوطئة الأكناف لبني
مروان، وكان قبل أنْ يليها شيخًا من أهل الرأي
٣١ لا يكاد يفارق مسجد رسول الله في المدينة، أو يدعُ المصحف!
وحلَّت سنة ٧٠ من الهجرة، وما تزال الفتنة ناشبة، وكان الروم قد انحسروا عن أرض المشرِق،
فليس لهم في الشام باع ولا ذراع، ولكنهم منذ جَلَوا عن أرض المشرق، لم تزل أنفسهم تُنازعهم
إلى استرداد ما فقدوا من تلك الأرض الواسعة الخصبة، فكأنما انتهزوا هذه الفتنة الناشبة،
فسيَّروا جيوشهم إلى أنطاكية
٣٢ فحاصروها، ثم وضعوا أقدامهم وأوغلوا في البلاد.