لبَّيكَ أبا أيوب!
وبلغ دمشق، ولكنه لم يَرَ أمه؛ فقد وَدَّعَت أمُّه دمشق وتركت دنياها جميعًا قبل أن يعود مسلمة ولدها من حجَّته!
وقعد مسلمة أيامًا يتقبل العزاء؛ ولكنه لم ينسَ منذ أول لحظة هبط فيها الحاضرة أنَّ عليه حقًّا لرفيقه الذي خلَّفه تحت الجنادل في صعيد مكة؛ فأرسل رسولًا إلى ولده عتيبة في الرقة، وأرسل معه لأسرة الشهيد مالًا وأحمالًا …
•••
كانت جيوش الفتح قد بلغت شأوًا بعيدًا في الشرق والغرب: قد قوَّض جيش المغرِب عرش الإسبان، وحاز الأندلس من أطرافها، وأخذ يتهيَّأ للزحف شرقًا نحو بلاد إفرنسة، وما يليها من أرض الروم.
وبلغت جيوشُ المشرِق قَزْوِينَ، ونفذت إلى شواطيء بحر بُنطش.
واتخذ أسطولُ العرب قواعد في ثغور بحر الروم يتهيَّأ منها للوثبة؛ وما تزال بعض سفنه تغدو وتروح على بحر بُنطش وخليج القسطنطينية، فتصيب من ثغور الروم غنائم وأسرى وسبايا؛ وما تنفكُّ قُوَّات الفدائيين من العرب المتطوِّعَة تُغير على أطراف بلاد الروم تُشَعِّث فيها، وتدكُّ حصونها، وتنشر بين أهلها الرعب والفزع …
قال قسطنطين بطريق أبيدوس: بعضَ هذا أيها الأمير؛ فوالله لا ينالون منَّا منالًا وفينا عِرق ينبِض؛ فإلَّا يكن دفاعنا عن أرضنا وديارنا وحُرياتنا، فليكن دفاعنا عن الصليب وتمثال العذراء.
قال قسطنطين مُغضبًا: أَلِي يُقال هذا؟ وما رأيتُ بطريقًا من البطارقة قد حَمَلَ بعضَ ما حملتُ من عبء الدفاع عن ذلك الثغر؛ فإن كانت بنتاي قد سُبِيَتَا واحدةً بعد واحدة فما قصَّرتُ في الدفاع، ولا عجزتُ عن الثأر؛ وما طَرَقَ العدوُّ أبيدوس مرة إلا خلَّف نصف جنده على ثراها صرعى، أو أُسارَى مُقرَّنين في الأصفاد؛ ووالله ما يخدم أهلي — منذ بعيدٍ — إلا الأسارى من سادة العرب!
وكأنما أجدَّ هذا الحديث ذكرى أليمة لقسطنطين، ومسَّ عاطفتَه حديثُ بنتيه، فغلبه مدمعُه …
وتتابعت غاراتُ العرب — بعد ذلك — على هذا الحصن الصغير كلَّ صائفة وكل شاتية، ولكن قسطنطين لم يُقَصِّر في الدفاع مرة …
ثم كانت غارةٌ من تلك الغارات الباغتة، أثخن فيها العرب في الروم إثخانًا شديدًا، واحتملوا أسارى وسبايا؛ وكان من بين السبايا ابنةٌ أخرى لقسطنطين، لم تنضج نضج الأنثى، ولكنها جاوزت حدَّ الطفولة … وافتلذ العربُ فلذةً أخرى من كبِد البطريق المرزَّأ …
هل كان البطريق قسطنطين يجاهد العرب منذ ذلك اليوم ثأرًا لابنتيه السبيتين، أو ثأرًا لوطنه، وكفاحًا عن أمجاد قومه؟
من يدري؟ ولكنه — على أيِّ حاليه — لم يكفَّ عن النضال.
وهذا القائد ميناس يُعيِّرُهُ بسبي ابنتيه، ويوشك أن يتهمه في وطنيته وفي شجاعته ومُصابرته، فيدافع دفاع الغضبان، ثم لا يلبث أن يغلبه الدمع.
وابنتاه … أين هما اليوم؟
أحظيَّتان في بعض بيوت الأمراء والسادة، أم جاريتان مُمتَهَنَتَان في بعض بيوت الرِّعاع والسوقة؟
أوَلَدَتا لبعض العرب جُندًا يُشهِرون السيوف في وجوه بني الخال والخالة من سادة الروم؛ أم آثرتا الموت على ذُلِّ الإسار أو آثرهما الموت؟
أتذكرانه كما يذكرهما ويذكرهما معه الإخوة والأخواتُ وبنو الأعمام والعمَّات، أم استبدلتا في العرب أهلًا بأهل؟ وباعتا بالسيد والولد الأبَ والأمَّ والإخوة والأخوات؟
في أيِّ البلاد تعيشان؟ أو في أيِّ الأرضِ سُوِّيَ عليهما التراب؟
ابنتا البطريق المُعَظَّم، جاريتان قد انقطعت بينه وبينهما الأسباب؛ فيا له من الفجيعة في ابنتيه، ويا له من بذاءةِ بعض قومه!
قال أنسطاثيوس الصالح: هوِّن عليك يا قسطنطين؛ فقد عَلِمَ — والله — كل رومي في هذه البلاد بَلاءَكَ في جهاد العرب؛ فلا عليك من قولٍ لم تحمل عليه إلا الغيرة.
•••
وبُويع أنسطاثيوسُ قيصرًا؛ فراح يحاول ما يحاول لتدبير أمر البلاد وتنظيم قوات الدفاع، ولكن غارات العرب المتتابعة لم تَدَعْ له فرصة للتدبير ولا لتنظيم قوات الدفاع؛ فنالوا منه ولم ينل منهم، وتوالت هزائمه في البر والبحر، فاعتزل العرش إلى بعض الأديار حزينًا أسوان، يلتمس في الصلاة والدعاء بعض السُّلوان.
ووثب إلى العرش سوقيٌّ آخرُ كان جابيًا للخَرَاج في بعض الأقاليم؛ فلم تكن حال البلاد في عهده خيرًا منها في عهد أسلافه، واضطرب به الأمر وأحاطت به الأحداث …
وكان العرب — وقتئذٍ — يتأهَّبون للغارة الكبرى تحت راية مسلمة …
•••
كان سليمان بن عبد الملك في بستانه، قد رمى نفسه على الرمل بلا وِطاء يَبْتَرِدُ من حرِّ ذلك النهار، وإلى جانبه زِنبيلان قد مُلِئَا بيضًا وتينًا، فهو يمدُّ يده إلى زِنبيل بعد زنبيل، يأخذ من هذا ومن ذاك بيضةً وتينةً بعد بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين وما شَبِعَ، ثم ألزق بطنه بالرَّمل، وهو يقول: ما أحبَّ إليَّ هذه المنامة وأبْرَدَها في هذا اليوم القائِظ!
واعتدل سليمان في مجلسة، وأقبل على الجدي المشوي فأتى عليه، ومال على الدجاجتين يأخذ برجلِ واحدة بعد واحدة، فيُلقِي عظامها نقيَّة، ثم جعل يقلع الحريرة بيده، ويشرب ويتجشَّأ كأنما يصيح في جُبٍّ، فلما فرغ من ذلك مال على القدور الثمانين يكشف عن أغطيتها قدرًا بعد قدر، فيأكل من كلٍّ منها لقمةً أو لقمتين أو ثلاثًا … ثم مسح يديه واستلقى …
قال له مسلمة: أمتعك الله يا أمير المؤمنين، وأمتع بك! …
– وَيْكَ يا مسلمة، فهل عندك من جديد؟
– نعم، فإن هذه الروم على ما ترى من الضعف، واحتلاف الأمر، وهوان المنزلة، ولم يبقَ ثغرٌ من ثغورهم مما يلي بلادنا إلا وطئه جُندُ العرب وجاسوا خلاله، ولا حِصن من حصونهم إلا شَعَّثنَاهُ، حتى تطامن من شموخ، واستُبيح بعد مَنَعَة؛ وإني أرى الأوان قد آن يا أمير المؤمنين للضربة التي تدكُّ حصونهم وأسوارهم، وتبيح أرضهم وحريمهم، وتُعلِي كلمة الله في تلك الأرض الكافرة.
– وعتادك وجندك؟
– على الأُهبة يا أمير المؤمنين، عشرون ومائة ألف في البر، ومثلها في البحر.
– وسفن الغزو؟
– ثمانمائة وألف سفينة تُطاوِدُ الموجَ ولا تنطاد فوقها السحب!
– والنار الروميَّة يا مسلمة؟
– لن تنال منا مَنَالًا يا أمير المؤمنين، أو توهِن لنا عزيمة.
– وتلك الأسوار المُمَلَّسَة لا يقف عليها الذَّرُّ، الشامخة قد ركبتها السحب؟
– سيفتحون لنا الأبواب طائعين حين يضرُّ بهم الحصار، فلا تكون أسوارهم هذه إلا سجنًا لهم لا يملكون مُنصرفًا عنه.
– ولكن الحصار لا يضرُّ بهم من قريب يا مسلمة، وعندهم من الزاد والأقوات، ومما تمدُّهم به أمم النصرانية في الأرض الكبيرة، وما يعاونهم به البلغار من غلَّات بلادهم؛ ما يطول معه الأمد!
– سنصابرهم حتى ينفد المذخور، ويَنْكل الصَّبور، ويتسلَّل الجبان، ويسأم الأعوان، وينقطع المدد.
– وشتاؤهم الذي يُجمِّد الأطراف، ويوجِب الكِنَّ؟
– سنبني حول الأسوار بيوتًا كبيوتهم، ومصانع خيرًا من مصانعهم، ونتخذها دار إقامة حتى يفتح الله علينا، وتسقط في أيدينا مدينة قسطنطين.
– وطعام الجيش وزاده، والطريق إليكم طويل، والبر مُوحِش والبحر هائِج؟
– سيكون لنا هناك زرع وضرع ومرعًى وماشية.
– أراك يا مسلمة تحاول عظيمًا من الأمر!
– كلُّ عظيم يا أمير المؤمنين، فأنت أعظم منه!
– ولكن الدولة عربيةٌ يا أبا أيوب.
– وأنت مسلمة بن عبد الملك.
– قد سمعتهم يمزحون فيقولون: إنه أحقُّ بعرش كسرى.
– ها أنت ذا قد قلتها يا أبا أيوب.
– أمتعك الله به يا أمير المؤمنين، حتى تُبايِع له بالعهد من بَعدك، إنَّ أيوب ابن أمير المؤمنين لريحانةُ هذا البيت، وإني لأرجو أن يكون له شأن في غده.
– طاب فألك يا أبا سعيد!
– طابت نفسي والله لحديثك هذا يا أبا سعيد، وإني لأرجو أن يكون ما قلت، فخذ في أسبابك منذ اليوم، والله معك.