وفاءٌ بذمة …
لو لم يَسبق الأجل إلى ورد أمِّ مسلمة لقرَّت اليوم عينًا؛ فسيبلغ مسلمة عرشَ قيصر، ويطأ بساطه، ويلبس تاجه، وتدين له تلك البلاد جميعًا بالطاعة والولاء؛ ولكنه يتلفَّتُ حواليه فلا يرى أمه، ولا تراه أمُّه، لقد فرغت من الدنيا قبل أن تكتحِل عيناها برؤية ولدها مسلمة في الموضع الذي كانت تأمُلُ أن تراه فيه …
ولكن صورةٌ أخرى تتراءى لعينيه الساعة: صورة فتًى عربي في وجهه شحوب، وفي عينيه زُرقة وعُمق، ولصوته نبرٌ عذب، فيه مخايل من صديقٍ له قد مات منذ قريب، وغيَّبَته الصفائحُ في البلد المحرَّم … وإلى جانبه امرأةٌ مُنتَقِبةٌ شابَّة تجول عيناها وراء سترٍ شفيف، تُجِدُّ لها نظراتُها ذكرى، فلا يكاد يكف عن النظر إليها، ولا يُخجِله من ذلك أنَّ ولدها الشاب إلى جانبها، وأنها أرملةُ صديقٍ قد مات منذ قريب …
تلك الصورة قد رآها ذات مرة في الحُلم، كأنْ قد أبصرها بعينين، ثم سمع صديقه يقصُّها عليه — كما رآها — فوعاها بأذنين، وها هي ذي تتخايلُ لعينيه الساعةَ يَقظان، فكأنما هي صورة في إطارٍ ما تزال تقع عليها العينُ مرة بعد مرة، فلا تُنكِر من ملامحها شيئًا!
وتحضُرُه إلى جانب هذه الصورة ذكرياتٌ أخرى وصورٌ شتَّى وأحاديث متباينة، فلا يكاد معها يحقق أمرًا مما يَرِدُ على خاطره!
لقد كان لأمِّه معه ذات يوم حديثٌ ما يزال صداه في نفسه؛ فإنه ليذكره كلما خطرت القسطنطينية في باله، أو أزمع مع الروم حربًا …
وكان له ولصاحبه النعمان حديثٌ آخر مع الراهب الشيخ، في الدير المنفرد في أرض البلقاء، ما يزال صداه يمتزِج بصدى حديثه إلى أمه …
وتلك الرؤيا …
ثلاثُ صور تتزاحم وتلتحِم وتتماسُّ أُطُرها، فلا يَبِين منظر من منظر، ولكن وراء اجتماعها صورة أخرى لم تَرَها عيناه بعد … فلعله يراها أو يرى تأويلها حين يدخل القسطنطينية ظافرًا على حصانه!
إنَّ الحقيقة الناصعة التي يَنشُدُها من وراء هذه المُعَمَّيَات قد تمزَّقَت الصحيفة التي تقصُّ خبرها، فشطرٌ منها في القسطنطينية، وشطرٌ في يده، فإذا لم يوافق هنالك شطرَ الصحيفة التي يجد فيها تمام ما يعلم فلا بد أنه واجدُه عند الذين يتوارثون عِلم الملاحِم من رُهبان القسطنطينية.
•••
وكان عتيبة بن النعمان في لهو الشباب، حين جاءه نعيُ أبيه، فغمَّهُ ذلك غمًّا ردَّهُ في الشباب إلى الكهولة.
وبكت الأم العجوز ما شاءت أن تبكي، فذكرته وذكرت أباه وذكرت أخاه عُتبة، ثم فاءت إلى الصبر والرضا بقضاء الله، راجية في حفيديها بشير وعتيبة ما كانت ترجو عند ولديها اللذين مضيا، وخلَّفاها في وحدتها هذه الموحشة تجترُّ ذكرياتها السعيدة والمؤلمة وأحزانها المتعاقبة.
وبكت زوجُه حتى غارت عيناها وزادت نحولًا وشحوبًا، وضاعف الحزن انقباضها عمن معها في الدار، فانطوت على ما في نفسها من آلامٍ يعرف منها من يعرف طرفًا، ولكن سائرها لم يطَّلِع على غيبه أحد!
وبكت نوار؛ فقد كان النعمان أباها وعمَّها جميعًا، وقد حمل على كتفيه عبء الثأر لأبيها، فلم يزل ينشدهُ في كل مَهْلَكة حتى أدركه أجله، ثم إنه إلى ذلك كله أبو عتيبة، وحَسْبُها ذلك سببًا إلى الحزن لا تغيض مدامعُه …
وسَفَرَتْ نوار عن وجهها منذ جاءها النبأ بمصرع عمها، فقالت لصاحبها: قد مات أبوك يا عتيبة، وعليه نذرٌ لم يتهيَّأ له الوفاء به.
– نعم، الثأر لأبيكِ برأس بطريق من بطارقة الروم، أو الثَّوَاءُ تحت أسوار القسطنطينية في ضيافة أبي أيوب.
– وتريد وفاء بهذا النذر يا عتيبة؟
وتضرَّجَت وجنتاها، وقد فهِمَت ما يعنيه، فقالت وقد غضَّت من بصرها: الثأر أولًا يا عتيبة.
وساءها أن يُعيِّرَها بأخيها وضعفِ همته وإيثاره الدِّعَة، ولكنها لم تغضب، فقد سرَّها أن يكون عتيبة بحيث أراد أن يصف نفسه، فقالت: النذر والثأر جميعًا يا عتيبة، فذلك ميراثُ أبيك.
– أكذلك أنت يا عتيبة؟
– بل اسأليني يا نوار: أكذلك أنا في نفسكَ يا عتيبة؟
– وتكتم عني؟
– بل أنتِ تعرفين، وتُصرِّين — مع ذلك — على الكتمان.
– ألم تكن تعلم …؟
– كنت أعلم عِلم نفسي يا أُخيَّة، وأهابُكِ أن أسألكِ عن علمِ نفسِكِ.
– فقد علمتَ اليوم.
– وقد علِمتِ أنتِ يا نوار.
– ليتني لم أعلم.
– هل ساءكِ إذن أن تعرفي أنني أحبُّكِ؟!
– بل ساءني أن أعلم ذلك حين أنتَ على أهبة الرحيل عنا يا عتيبة.
– ولكنكِ أنتِ التي تريد أن أرحل؛ لأُدرِكَ ثأرًا وأوفي نذرًا و…
– وماذا يا عتيبة؟
– وأجمع مهرًا يا نوار!
– ولكن بقاءك أحبُّ إليَّ.
– قد أخذ أبوك بوِتْرِه، وقتل بأخيه رجالًا، وأطاح برأسٍ رءوسًا.
– ولكنه لم يحمِل إليكِ رأسَ بطريق وتاجه.
– ولكني أخاف عليك يا عتيبة.
– فلستُ إذن أهلًا لحبِّكِ يا نوار.
•••
ثم انقلب عتيبة إلى حيث كانت أمه سبيكة: أمي.
– ولدي عتيبة!
– إنني ذاهبٌ.
– إلى أين يا عتيبة؟
– إلى حيث ذهب عمِّي وأبي.
– ولِمَنْ تدع أمَّك يا عتيبة؟
– تعالي معي — إن شئتِ — فلن تقعد بي أمومتُكِ عن الجهاد!
– ولكن الأمهات لا يصحبن أبناءهن إلى الحرب!
– زوجات لأزواجهن، وأخواتٌ لإخوتهن، يدفعنهم بحرارة الحب إلى الاستبسال في النضال ليكسبوا الحظوة عندهن، وما أنا وذاك يا عتيبة، وقد جاوزتُ تلك المنزلة؛ فليس إليَّ مشتاقٌ ولا وامق؟
– تُعوِّقينني إذن؟
– ولِمه؟
– لأنكِ … لستُ أدري!
– بل تدري شيئًا تحاول كتمانه؟
– فَلِمَ تُعوِّقينني إذن؟
– لأنني أمُّك.
– وكل هؤلاء المجاهدين لا أمهات لهم؟
– ولأنني في هذا الحي من العرب لا عم لي ولا خال.
– أراكِ لا تُحاولين الكتمان.
– ماذا تعني يا عتيبة؟
– أنتِ تكرهين أن أشرع في وجه الروم سيفًا!
– ولِمَهْ؟
– لأن لكِ في الروم عمًّا وخالًا.
– إنني أمُّكَ يا عتيبة.
– قد علمتُ.
– وذلك كلُّ نسبي.
– وترضَيْنَ أن تنتسبي إلى جبان لا يخفُّ لثأر عمه، ونذرِ أبيه؟
– ومهر امرأته! …
– قد عرفتِ إذن؟
– ومن أجل هذا منعتُكَ يا عتيبة.
– من أجل أنكِ لا تحبين نوار!
– بل إنني أحبها، وأرى ولدي بها أسعد زوج.
– ومن أجل ذلك تَحُولين بيني وبينها!
– بل أحول بينك وبين اقتحام المخاطِر من أجل امرأة، ليست هذه هي البطولة.
– فما البطولة إذن فيما تَرَين؟
– ألَّا تطيع فيما تكره امرأةً تحبها، وأعلى من ذلك مرتبة في البطولة أن تَقسُرها على طاعتك.
– ولكنني لم أُطِعها!
– ففيمَ خروجُك إلى الحرب إذن؟
– وفاءٌ بنذر، وإدراكًا لثأر …
– وطاعةً أمر …
– بل عصيانًا …
– لأمري؟
– لأمر نوار.
– كيف؟
– لقد منعتني من أن أخرج فعصيت.
– وَيْ!
– وقَسَرْتُها على طاعتي.
– لقد كان لك — إذن — معها شأنٌ يا عتيبة!
– نعم، وسأعصيكِ كما عصيتُها.
– تعصيني؟
– نعم، وأقسركِ على طاعتي.
– وتقسرني أيضًا؟
– نعم؛ لأنني أحبكِ يا أم.
– إنك لبطلٌ يا عتيبة.
– لأنكِ أنتِ ولدتِيني يا أُمَّاه.
– بل؛ لأن أباك النعمان.
وشرقت سبيكة بدمعها، فأخفت رأسها في صدر عتيبة وأجهشت باكية.