على شاطئ البرزخ
قال الفتى الروميُّ لصاحبه، وهما جالسان على رأس الحصن المشرف على مضيق كليبولي: هل علمت يا لوكاسُ ما أعدَّ العرب من عُدَّة لحربنا في البر والبحر؟
– ومن أين لي العلم بذلك يا موريس؟ وماذا يُجدِي عليَّ أن أعلم، وإني وإيَّاك هنا في وجه الغارة الأولى، ليس معنا قوةٌ تُغنِي غناءً، أو تدفع بلاءً!
– لقد جاء العرب يا لوكاس في ثمانمائة وألف سفينة، على كل سفينة مائةُ جندي، وزحفتْ على البر قوَّاتٌ تفوت الحصر؛ فهل يطمع قومنا في النصر، وليس على فم الخليج إلا بضعُ مئات من الجند في بضعة حصون على الشاطئين؟
– وإنهم يا موريس لعماليق أشِدَّاء، وقد تحصَّنوا من الموت بما لا أدري من التمائِم؛ فإن الرجل منهم ليخوض المعركة قد حطَّمَ غمد سيفه، وألقى تُرْسه، فما يزال يُخْلِي الطريق لنفسه بما يُجندِلُ من الأبطال حواليه حتى يبلغ حيث أراد، لا يعنيه حين يبلغ أسَلِمَتْ نفسه أم جاءه أجله حيث بلغ!
– وإنَّ لهم يا أخي — إلى ذلك — صيحاتٍ مُفزِعَة، يهتفون فيها باسم ذلك الشيخ الذي اتخذوا له قبرًا تحت سور القسطنطينية منذ خمسين سنة، فما يزالون يَفِدُون إلى قبره ذاك كلَّ صائفة يتبرَّكُون به ويعاهدونه عهدًا …
– قد كان ذلك القبر شؤمًا علينا منذ ثَوَى فيه شيخهم ذاك، فهم ما يزالون يطرُقُوننا من يومئذٍ فيصيبون منا في ذهابهم إليه، وفي عودتهم منه، ولا أدري كيف لم يهدم قيصرُ هذا القبر ويُعَفِّي أثره؛ حتى لا يظلَّ هدفًا يطِئون بلادنا في الطريق إليه ذهابًا وجَيئَةً.
– قد همَّ بذلك قسطنطين بوغانات ثم أمسك؛ فقد جاءه الوعيد من ملك العرب أنه إن فعلها استباح العرب مثل ذلك في بلادهم، فلا يتركون لنا ثمَّة بَيعَة ولا صومعة إلا هدموها.
– ولكن ما ينالُنا من غارة هؤلاء الطُرَّاق أسوأ أثرًا فينا مما أوعد به ملكُ العرب، فقد انحسرت النصرانية عن بلاد العرب، فلم يبقَ ثَمَّةَ إلا فلولٌ لا تُساوِي ما نتعرَّض له من الشرِّ ببقاء ذلك القبر!
– أفلست تعلم يا لوكاس أن دفين ذلك القبر من أصحاب نبيِّهِم، وأنَّ له عندهم مقامًا قد يحمل على الشر الفظيع أن يناله أحدٌ بمهانة!
– وأيُّ شرِّ أفظع مما ينالنا منهم يا موريس، صائفين وشاتين؟
– أنت لا تعرف العربَ يا لوكاس.
– وتعرفهم أنت يا موريس؟
– قد عرفتُ من أخبارهم ما لو عرفتَه لكفَفْت!
– أتراهُم مَرَدَةً يقذفون من أفواههم اللهبَ المحرِق؟ ويُحرِّكُون العاصفة الجائحة؟ ويقتحمون الأسوار بغير أجنحة؟
– أراك تسخر يا لوكاس! فهل سمعت عن بشرٍ يُفطِرُ بحَمَل، ويتغدَّى بجَمَل، ويتفكَّهُ بمائة رُمَّانة، فإذا قام من قيلولته دعا بطعام العصر؟ …
– بل أنت الذي يسخر يا موريس!
– ما أحراهم بأن يأكلونا إذن؟
– إنهم لا يأكلون لحوم الموتى!
– يموتون إذن تحت أسوار القسطنطينية جُوعًا؛ فليس هنا ما يكفيهم من الطعام إذا أرادوا حصارَ المدينة.
– أرأيتَ الجاموس الأسوَد؟
– أيَّ جاموس؟
– نوع من الحيوان كالفِيَلَة، لا يقطع السكين في جلده، يطأُ بحافِر، وينطح بقرن، وينظر بعينين ليس فيهما بياض، وما يزال يجترُّ كالمِعْزَى …
– وما أنا وذاك؟
– لقد جلبوا منه آلافًا فسمَّنُوها في مُرُوج الشام، ثم ساقوها معهم إلى الميدان.
– يريدون أن يحاربونا بالجاموس؟
– لست أمزح يا لوكاس!
– فماذا إذن؟
– يتَّخِذون من لحومها وألبانها طعامًا.
– ومن أين لهم هذا الجاموس؟
– جلبوه من الهند.
– وأين هم من الهند؟!
– إنَّ الهند قد صارت منذ بعيد — يا أبلَهُ — تحت حكم العرب.
– قد غَلَبَ العرب إذن يا موريس وملكوا حاضرة قُسطنطين.
– أراك قد انهزمت من أول جولة يا لوكاس!
– وماذا تُجدِي المقاومة؟
– لو كان العرب يحاربوننا بهذه الروح ما انتصروا قَطُّ في معركة.
– تريد أن أقاوِم بلا رجاء؟
– نعم، حتى تموت.
– ويُكتَب في لوحٍ على قبري: مات منتصِرًا؟ …
– ليس ذلك هو كل شئ؛ إنَّ الحياة المجيدة لا تُوهَبُ للجبناء.
– لستُ جبانًا.
– معذرةً … لم أقصد إساءتك.
– فما قصدتَ إذن؟
– إنَّ الذي يكافح عن حقِّه حتى يموت يهبُ حياةً لكثيرين من ورائِه؛ لأن كل طعنة تناله كانت مُسَدَّدَة إلى واحدٍ ممن خَلْفَه، فلقي عدة طعنات عن عدة أحياء، ومات موتةً واحدة، فقد ربحَتْ صفقتُه إذن!
– وما النتيجة؟
– أراك لم تفهم بعد!
– ولا أظن أحدًا يفهمُ أنَّ الموت صفقةٌ رابحة.
– زِن حياتَك بحياةِ الجماعة.
– وهل ترى الجماعة تستطيع أنْ ترُدَّني إلى الحياة إذا فاضت نفسي؟
– ولكنك باستماتتك تستطيع أنْ ترُدَّ الجماعة إلى الحياة!
– منطقٌ غير مفهوم!
– ولكنه بعضُ إيمان العرب!
– حمقَى!
– ولكنهم انتصروا بحماقتهم هذه يا لوكاس، وذَلَّ الروم!