تميمة روميَّة!
لم تكن سبيكةُ قد نضجت نضج الأنثى، ولا رشدَت رُشدَ العقل يوم احتملها النعمان سبيَّة، ولكنها إلى ذلك كانت مُدرِكةً واعِية؛ فقد عَلِمَت منذ اللحظة الأولى أنَّ ذلك آخرُ العهد بأهلِها ووطنها، فلن تراهم، ولن يروها أبدًا، أليست تعلم عِلمَ الناس مما يدور حولهم من أحاديث؛ أنَّ أختًا لها قد احتملها الغُزاة منذ بضع وعشرين سنة فذهبت ولم تَعُد، قد غاب أثرُها، وضاع خبرها؛ فلا يكاد يذكرها أحد إلَّا أبوها المرزَّأ، وأمُّها الثكلى، وكانت أختها — إلى ذلك — فتاة ناضجة رشيدة تملك أسباب الحيلة!
بلى، وقد مضت بضعٌ وعشرون سنة أخرى منذ احتُمِلَتْ هي إلى بلاد العرب، فهل يذكرها اليوم أحدٌ من أهلِها؟ … وإنها لتملك اليوم حُريتها، ولكنها لا تحاول أنْ تعود ولا تريد؛ فقد انقطع ما بينها وبين الماضي فلا تمتُّ إليه بسبب، إنها اليوم امرأة عربية مسلمة، تمتُّ إلى هذه الجماعة التي تعيش بينها بأسبابٍ كثيرة، وتربطها إلى ما حولها — ومن حولها — عواطِفُ شتَّى، أمَّا تلك التي احتُمِلَت من بلادها منذ بضع وعشرين سنةً فكانت فتاة لا عربيةٌ ولا مسلمةٌ ولا أُمًّا …
ذلك هو شعورها منذ سنين، فما بالها ما تزال — حينًا بعد حين — تفيء إلى ركنٍ من دارها فتفُضُّ خَتْمَ حقيبتها، فتنثر ما فيها من مُخلَّفات ذلك الماضي تتملَّاهُ وتشمُّه وتمسح به عينيها، ثم تبكي ما شاءت؟ …
وما بالُها ما تزال كلما سمعت ناعيًا ينعَى حبيبًا إلى أهله رفرفَتْ بجناحٍ، وجاوزت المكانَ والزمان إلى حيث كانت تعيش في بلدٍ بعيد بين إخوتها وأخواتها، تريد أنْ تحصيهم عدًّا وتتصفَّحَهم فردًا فردًا؟
وما بالها ما تزال تستطلِع طِلْعَ كل قادم من سفر، وكل عائد من غَزاة، وكل مُبحِرٍ في صائفة؟
وما بالُها — مع ذلك — قد طابت نفسًا بخروج ولدها لحرب الروم؟
ما بالها قد شحذَت له أمضى سيوفِ أبيه حَدًّا، وأومضها صفحة؟
وما بالها قد رضيَت له نوار زوجًا يَمهَرُها رأس بطريق من بطارقة الروم؟
ثم ما بالها قد دفعت إليه — حين مسيرِه — تلك التميمةَ التي كانت قِلادةَ صدرها صبيَّة، ليُحرِزَها فتُحرِزَه … وتلك الجوهرة التي كانت زينة مَفْرِقها طفلة، ليذكُرَهَا بها وتذكُرَه؟ …
أبِوَعْيٍ دفعت إليه ذينك الأثرين، أم دفعتهما بلا وعي ولا إرادة؟
وكيف تُحرِز مسلمًا تميمةُ روميٍّ لا يؤمن بدين محمد؟
وكيف تُذكِّره إيَّاها جوهرة لم يرها في مفرقها قط؟
أما تزال نفسها تُنازِعُها إلى دينٍ ووطنٍ غير هذين الدين والوطن؟
•••
وعَبَرَ على الطريق — وهي في خلوتها تلك إلى أشجانها — حادٍ يُنشِد:
فهتفَت بلا وعي: ردُّوه عليَّ!
ثم أخفَت وجهها في راحتيها وأجهشَت باكية.
وكان عتيبة في تلك اللحظة خاليًا بنفسه كذلك في خيمةٍ من خيام الجُند، يُقَلِّبُ بين يديه قلادة وجوهرة، ولكنه لا يذكر من أمر صاحبتهما شيئًا؛ فقد كان خياله مُفعمًا بصورة أخرى قد ملكت عليه حسَّه ونفسَه، وفاضت معانيها شِعرًا على لسانه ودموعًا في عينيه …
أتُرى نوار تذكره الساعة كما يذكرها؟ وهل يعود إليها كما أمَّلَت، قد حصَّلَ لها مهرًا وأدرك ثأرًا ووفَى بنذر، فيضع بين يديها تاج بطريق وسَلَبَه، ويسألها الوفاء بما وعدت؟
ولم يجد عتيبة جوابًا سريعًا لسؤاله؛ فقد مَثَلَ بباب الخيمة في — تلك اللحظة — حرسِيٌّ من حاشية مسلمة يدعوه إلى لقاء الأمير، وأعجله الطلبُ عن حفظ ما كان في يده من خَرَزَاتِ أمِّه، فمضى إلى لقاء الأمير وما تزال في يده …
وهشَّ الأمير للقائه، وبسط له وجهه ومجلسه، وغدا عليه يسأله عن حاله وخبره وأهله، وأقبل عليه الفتى يجيبه عما يسأل منبسِطًا غير متكلِّف، ويده تعبثُ بما استند إليه من الطنافِس المثمَّنَة في مجلس الأمير، وأفلت شيءٌ كان في يده فتدحرجَ على البساط، فأدركه في حركةٍ سريعةٍ قبل أن يبعد …
قال الأمير متلطِّفًا: ما هذا في يدك يا عتيبة؟
– خَرَزَة دفعتها إليَّ أمي، ترجو أنْ تكون لي تميمةً وحِرزًا …
ثم أنغص الأمير رأسه وتزاحمَت على عينيه صورٌ شتَّى …
ولم يطل بالفتى مجلسُه، فنهض إلى خيمته والأمير يُشيِّعهُ بعينين فيهما إشفاقٌ وحبٌّ ورحمة!