دسيسة العِرق …
– والله لا يقع في مثل هذه الغفلة ابن حُرَّة!
– كذلك قال ابن هبيرة قبلَ أن تقع الواقعة، ونرى أنفسنا في هذا القفر لا زاد لنا، وقد أخذَتنا سيوف الروم من كلِّ جانب!
– ذلك الكلب الغادر إليون …
– بل قُل: ذلك الأبله ابن ورد، لقد خدعه ذلك الكافر خديعةً لو كان امرأةً لعِيبَ بها!
– ونال بها إليون عرش قسطنطين!
– ونِلنا بها ما نِلنا من الهوان والضعف والمذلَّة، وما أرانا غدًا إلا هالكين جوعًا وبردًا في هذه القَفْرَة المثلوجة!
– وا أسفا! لقد كان مسلمة — فيما أرى — أسدَّ بني مروان رأيًا وأخبرهم بفنون الحرب!
– وما هي الحرب إلَّا السياسة والتدبير ونصب الفِخَاخ وتوقِّي المهالِك؟
– وإنه لكذلك، لولا ما تدسَّسَ إليه من أمِّه الرومية، فكأنما حنَّ العِرق إلى العِرق فاستنام إلى وعدٍ غادِر.
– أتذكرُ حين أنشد عبدُ الملك بين يدي مسلمةَ وإخوته في حلبة السباق ذات غُدْوَة:
– نعم، وقد تناقلها الناس يومئذٍ وقالوا: ما أنصَفَ عبد الملك مسلمة!
– كأنما كان عبد الملك يرى بظهر الغيب ما نحن فيه اليوم!
– وقد أخذه سُعارُ الغيظ مما ناله، فلم يأذن بالرحيل وتسريح الجُند، كأنما خُيِّلَ إليه — بعد ما كان — أنه مستطيعٌ في هذه الغزاة أن يفتحها!
– بجندٍ قد هزلوا من الجوع، وارتجفوا من البرد، وأُثخِنوا من الرمي!
– قد أبْرَدَ بريدًا إلى سليمان بمرجِ دابِق يطلب مددًا من زاد وعتاد.
– وحتى يبلُغَ البريد ويجيء المدد يصبرُ العرب على الجوع والبرد تحت هذه الأسوار التي لم تزل تُساقِطُ عليهم النيران وتَرِيشُ إليهم السهام؟
– أظننتَ أن نفتح القسطنطينية بلا جَهد؟
– فقد بذلنا من الجهد ما لا قدرة عليه لبشرٍ حتى دانت الثمرة، ثم أفلتها مسلمة بحمقه!
وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك ما يزال منذ عام وعام قبله مُرابِطًا بمرج دابق على الطريق إلى بلاد الروم، قد أقسم لا يبرحُها إلى حاضرته حتى يأتيه بشير الفتح، أو يدركه الأجل …
وكان البريد يتوالى عليه يومًا بعد يوم بما بلغ العربُ من أسباب النصر، وما نال الرومَ من الجهد والإعياء، حتى خُيِّلَ إليه أن ليس بينه وبين ما أراد إلا غلوة سهم، وأنه لولا حرصُ مسلمة على دماء المسلمين أن تُراق لاقتحمها بخيله ورَجِلِهِ، ووطئ بساط قيصر منذ بعيد …
ثم جاء إليه النبأ بما آل إليه الأمر، وما بلغ الروم من العرب بالمكر والخديعة، فحَوْقَل واسترجع وامتلأت نفسه هَمًّا، ولكنه لم ينكص على عقبيه، وأصرَّ على أن يبرَّ قسمه ذاك، فحشد الحشود، وكتَّبَ الكتائِب، وجمع الأزواد، وأعدَّ العتاد، وسيَّرَ ذلك كله إلى مسلمة …
وكان الجوع والبرد قد أضرَّا بالعرب ضررًا بليغًا، حتى التمسوا أقواتهم من ورق الشجر وعُشب البرية ودوابِّ البحر، ولولا أنَّ تراب الأرض لا يُستساغ لسفُّوه سفًّا؛ ليرُدُّوا الجوع عن أنفسهم ويحفظوا أرماقهم!
وكأنما شحذت هذه الخيبة عزيمة مسلمة، فصابر ورابط مقاوِمًا كلَّ ما يكتنفه ويكتنِف أصحابه من الشدة، فلم يفُك الحصار عن المدينة.
•••
وكان سليمان — مما نال مسلمة — في همٍّ دائمٍ بالليل والنهار، وزاده همًّا أنَّ ولده أيوب الذي كان يُرَجِّيه لولاية عهدِه قد احتضره الموت شابًّا في ريعانه، فبكى سليمان وقال: الآن لا يدعون أيوب ولا أبا أيوب!
ثم لم يلبث أن لزِمَ فراشه ودبَّ إليه الموت.
وكان عهده — بعد ولده أيوب — إلى ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان …
•••
وقال الخليفة عمر، وقد جلس في ديوانه: ردُّوا على الشام هذه الفلول المبعثرة في البر والبحر من جيش مسلمة، إنَّ لتلك المدينة موعِدًا لم يَحِن بعد، وإني لأخاف أن يأتي الجوع والبرد عليهم جميعًا فتكون جريرتها على رأسِ عمر!
وخبَّ البريد إلى مسلمة بالنبأ، وسِيقت إليه الركائِبُ في البر والبحر؛ لتحمِل من معه إلى الشام.