الفصل الثاني
عهد ونذر
كان النعمان بن عبيد الله يدندن بيتًا من الشعر:
أرُوحُ إلى القُصَّاص كلَّ عشيَّةٍ
أُرَجِّي ثواب الله في عدد الخُطَا
حين ابتدره أخوه عتبة: قد مسَّ والله حديثُ أبي داود القاص شغاف نفسي، وما أرى هذه
الفتنة
الناشبة في الأمصار إلَّا كيدًا من الشيطان؛ لتفريق الجماعة، وصدع الجبهة، والتمكين
للمشركين كي ينالوا منَّا منالهم، وإنَّ هؤلاء الخوارج ليزعمون أنهم يَدْعون إلى الله،
ويَغْفلون عما وراء ذلك العصيان من تفريق الكلمة ووَهَن المسلمين، ولو أنَّ هذه الجموع
المسلمة التي تُساق كل يوم إلى المذابح بالأيدي المسلمة، قد سِيقتْ صوائفَ وشواتي
١ إلى بلاد الروم، لرجوت أنْ تكون القسطنطينية بأيدينا، وينزل المسلمون ضيوفًا
على أبي أيوب …
٢
ثم استطرد قائلًا في عزم: وإني قد رأيت يا نعمان رأيًا أرجو أنْ تمضي فيه معي …
قال النعمان مستدركًا: دَعْ عنك ما رأيت يا أخي، وأعِد عليَّ ما قلت: أزعمتَ — وَيْحَكَ
—
أنَّ ابن مروان أحقُّ بها من عِتْرَة محمد،
٣ ومن ابن ذات النطاقين؟
٤ لقد مات أبوك إذن على ضلال يا عتبة،
٥ فقد علمتَ ما أبلى أبوك يوم الجمل،
٦ وفي حرب صِفِّين،
٧ ومعركة الطَّف،
٨ فلم يقعد عن الحرب حتى استُشهِد مع المختار ابن أبي عبيد طلبًا لثأر
الحُسين،
٩ أفهذا تعني حين تذكرُ صَدع الجبهة ووَهَن المسلمين؟…
صمت عُتبة برهة مفكِّرًا، ثم رفع رأسه يقول: ما هذا عَنَيْتُ يا أخي، ولقد اجتهد
أبي ما
اجتهد لصلاح هذه الأمة، حتى ذهب إلى ربه راضيًا مرضيًّا، وإني لأرجو أنْ يقبل الله
شهادته،
١٠ ولكن نفسي لا تطيب بأن أحارب إخواني في الدين، وأدع هؤلاء الروم حتى يطئوا من
بلادنا كلَّ موطئ، ويسترِقُّوا
١١ الحرائر والولدان من نسائنا وبنينا، فسأطلب منذ الغد إلى مسلمة بن عبد
الملك
١٢ أنْ يُغزيني في صائفته، لعلي أنْ أدرك نصرًا أو أجاوِر أبا أيوب.
•••
ولكن مسلمة بن عبد الملك لم يخرج في هذا الموسم لحرب الروم صائفًا ولا شاتيًا، فقد
كان
عبد الملك من أصالة الرأي وحسن التدبير، بحيث رأى مُصَانَعَة
١٣ جوستنيان الثاني قيصر الروم خيرًا له في هذه الفترة التي تعصف فيها العواصف
بالدولة الإسلامية، فصالحه على أنْ يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار؛ ليفرُغ لتدمير قوة
ابن
الزبير، ويحطم الخوارج، ويردَّ كيدَ ابن عمه عمرو بن سعيد …
١٤
وهدأت أمواج البحر، وسكن غبار البادية،
١٥ ولكن عتبة بن عبيد الله لم يَعُدْ إلى داره بالرقَّة منذ كان ذلك الحديث بينه
وبين أخيه النعمان، ولم يقف له أحد على خبر.
وطال الانتظار بأهله حتى آب كل غائب، ولكنه لم يَؤُب، وهدأت الفتنُ في الدولة الإسلامية
أو كادت، وانقضى أمر ابن الزبير، واغتيل عمرو بن سعيد منافسُ عبد الملك على عرش بني مروان،
واستتبَّ لهم المُلك، وعادت الصوائف والشواتي تغدو وتروح في البر والبحر، تغزو بلاد الروم
فتصيب منها ما تصيب ثم تئوب، ولم يَؤُب عتبة بن عبيد الله!
وقال جيرانه وأهله: يرحمه الله، لقد آثر جوارَ أبي أيوب المِضياف، فمات غازيًا في
بلاد
الروم.
وبكت أمه ما شاءت، ثم فاءت
١٦ إلى الرضا بقضاء الله.
وخلعت امرأته أحمرَها وأبيضَها ولبست الحداد، ولزمت دارها ترأَم
١٧ طفلًا في حِجرها، وطفلة في بطنها.
وقال أخوه النعمان لنفسه متأسِّيًا:
١٨ نِعم العزاء الصبرُ في الغازي الشهيد الغريب المُطْفِل.
١٩
وأقسم لا يدعُ السيفَ حتى يلحق بأخيه أو يُدرك ثأره، ولا يكون ثأره إلَّا بطريقًا
من
بطارقة الروم.
٢٠
وأخذ النعمان أهبته منذ ذلك اليوم للبر بما أقسم.
وتتابعت الصوائف والشواتي في البر والبحر لغزو الروم، فلم يتخلف النعمانُ بن عبيد
الله في
صيفٍ ولا شتاء عن دعوة الجهاد.