الفصل الثالث
ابنة البطريق
لم يَطب الرومُ نفسًا بسياسة القيصر جوستنيان الثاني، ونقموا منه
١ أنْ ضيَّع عليهم الفرصة المتاحة لاسترداد سواحل الشام في سنة ٧٠ للهجرة، بعدما
وطئتها أقدامهم، وقاربوا أنْ يملكوها ويُوغِلوا في بلاد العرب، لا يكاد يدافعهم أحدٌ
من جند
الخليفة المنهوك القوة في قمع الفتن الناشبة في الأمصار الإسلامية، لقد كان عبد الملك
أعرف
بنفس هذا القيصر وأسدَّ منه سياسة، فطلب إليه الصلحَ على مالٍ يؤديه إلى الروم كلَّ جمعة،
فتحلَّب لُعابُ القيصر إلى ذهب بني مروان، وأجاب الخليفة إلى ما طلب، ولكنه لم يَنْعَمْ
بهذا السَّلْم الذهبِّي طويلًا، فما هو إلَّا أنْ فرغ عبد الملك مما كان فيه حتى منع
القيصرَ ما كان يؤدِّي إليه من مال، وجَهَّزَ الجندَ في البر والبحر صائفة وشاتية للغارة
على الثُّغور الرومية …
وكان قادةُ جيش الروم أشدَّ سخطًا على القيصر لهذه الخيبة، فثاروا به وقبضوا عليه،
فجدعوا
أنفه
٢ ونفوه إلى بلاد القريم، ثم راحوا يتنازعون العرش فيما بينهم، فيلونه قائدًا بعد
قائد، وقيصرهم في منفاه مجدوع الأنف، منكسر النفس، لا يكاد يملك لنفسه أمرًا، والصوائف
العربية ما تزال تُغير على الثغور والسواحل، فتصيب من الروم مقاتلَ، وتحمل أُسارى وسبايا
ووِلْدانًا …
٣
وكان البطريق قسطنطين على ثغرٍ من تلك الثغور التي تُشرف على الخليج مما يلي القسطنطينية،
ما يزال يستقبل كل صيفٍ غُزاة من العرب يُناوشهم ويُناوشونه، فينال منهم حينًا وينالون
منه،
ويصيب منهم أسرى وقتلى ويصيبون، وكان له عند العرب تِرَات
٤ وتاريخ بعيد، وقد اصطنع في الحرب خُطة عربية، فهو يخرج إلى لقائهم — حين يخرج —
ومعه نساؤه وراء الصفوف، يهزِجْنَ بالأغاني للتحميس، ويضربن الفارِّين في وجوههم بالعُمُد،
أو يَحصِبنَهم بالحصى؛ ليردُدنَهم إلى الحرب،
٥ وقد أيقن قُسطنطين البطريق أنه إلَّا يدفع عن نفسه وعن ثغره، فلن يدفع عنه أحدٌ
من الروم الذين توزَّعَتْهُم المطامع، وفَتَّ في أعضادهم ما لَقُوا من الهزائم المتوالية
في
حرب العرب، وعلى هذا اليقين رابَطَ في ذلك الثغر مدافعًا شديد العزم والقوة سنين
طويلة.
وفجأتهم ذات مساءٍ سَريَّةٌ من سرايا العرب،
٦ قد هبطت في جُنْح الليل على الساحِل، ثم أوغلت حتى طرقت القومَ في بيوتهم على
حين غفلة، فأعجلتهم عن أخذ الأهبة، والتحموا أجسادًا لأجساد، يتجالدون بالسيوف أو يتصارعون
بالأيدي، لا يكادون يتعارفون في ظلام الليل إلَّا بالتكبير والتلبية،
٧ وكان شعار المسلمين يومئذٍ: الله أكبر، لبيك أبا أيوب.
ووقف قسطنطين في وسط الملحمة يرطن بالروميَّة، وهو يُجيل سيفًا في يمينه، له في الظلام
بريقٌ يُومض، وبَصُرَ به النعمانُ بن عبيد الله في غَبْشة الليل ولم يَكَدْ، فنَهَدَ
إليه
وهو يقول وسيفهُ في يده: إني لأرجو أنْ أبرَّ بك قسمي — أيُّها البطريق — فأثأر لأخي
أو
أنال الشهادة.
ثم عطف عليه بالسيف، فأفلت منه قسطنطينُ واحتَوَشَتْه داره،
٨ واقتحم النعمان وراءه، فتهارب الصبيانُ والنساء بين يديه ولم ينل
منالًا.
وتشتَّت شملُ أصحاب قسطنطين، وذهبوا في الأرض فارِّين لا يَلوُون على شيء، قد خلَّفوا
متاعهم وسلاحهم، وتخلَّف عنهم بعضُ النساء والصبيان، فسيقوا إلى مَضْرِب الأمير، وعاد
النعمانُ بن عبيد الله إلى صحابته؛ ليقاسمهم ما أفاء الله عليهم
٩ في هذه الغارة المظفَّرة، فلم يكن نصيبه من ذلك إلَّا فتاة من بناتهم، لم
تَنْضَجْ نضج الأنثى، ولكنها جاوزت حد الطفولة
١٠ … وكان عليها مُطْرَفُ خَز،
١١ وقد تدلَّت على صدرها قلادة من ياقوت، ولمعت في مَفرِقِها جوهرة،
١٢ فقال النعمان: إلَّا تَكنُ هذه بنت البطريق، فإن لأبيها بين القوم
شأنًا.
ثم مال إليها يُداعبها، ويسألها عن شأنها وشأن أبيها فلم تُجِب بلسان، ولو أنها أجابت
لما
أبانت، فليست تعرفُ إلَّا الروميَّة، وليس يعرف النعمانُ إلَّا العربية …
واستقلَّ الغزاة سفينتهم قبل أنْ ينبثق الفجر، وأداروا شراعها نحو الغرب، ثم انحدروا
نحو
الجنوب، يلتمسون ثغرًا من ثغور المسلمين يأوون إليه، وكلهم فَرحٌ بما أفاء الله عليه
من
السلامة والغنيمة والظفر بالعدو.