الفصل السادس
ولي العهد
تغيَّر كل شيء في نظر مسلمة منذ ذلك اليوم الذي سابق فيه إخوته في حلبة الخيل بين
يدي
أبيه فسبقوه؛ وكأنه لم يدرِ إلا يومئذٍ أنه ابن جارية … فلتكن أمه تلك من بنات الملوك
أو من
بنات الملائكة، فليست في أعين الناس جميعًا إلا جارية.
ولم يقع في وهم مسلمة قبل ذلك اليوم أنَّ أباه قد يختاره لولاية عهده، ويرشحه للجلوس
على
عرش الخلفاء في دمشق؛ فلو أنَّ أباه اختار غيره من إخوته قبل ذلك اليوم لولاية العهد
لما
ثَقُلَ عليه ذلك ولا التمس السبيل إلى معرفة أسبابه؛ أما اليوم فإن له في نفسه وفي إخوته
رأيًا آخر … فقد وجد نُدْبَةَ في قلبه
١ من حديث أبيه إليه بعد السباق، ومما بلغه من حديث زوجات أبيه بعضهن إلى بعض، ثم
من حديثه إلى أمه، ولكن رأيه ذاك، وما ناله من المساءة في حديث أبيه وحديث زوجات أبيه،
لم
يكن ليُغيِّر موقفه من إخوته شيئًا؛ فليكن العرش والتاج لمن شاء أبوه من إخوته أو من
غير
إخوته، فليس يعنيه ذلك في شيء، إنهم أحوج إلى مسلمة منه إليهم؛ إنه سيف بني عبد الملك،
وحامل رايتهم في الجهاد، وصاحب رأيهم في السلام، رَضُوا أو سخطوا؛ فليستأثروا دونه بعرش
أمية، فإن له عرشًا في قلب كل عربي بين المشرِق والمغرب، وإنه لَيَأْمُلُ فوق ذلك أنْ
يقتعِد عرش جوستنيان في القسطنطينية، ويتخذها دارَ هجرة، فينزل في بلد خُئولته ضيفًا
على
أبي أيوب الأنصاري …
•••
لم يَعُدِ النعمان بن عبيد الله إلى دار أهله في الجزيرة منذ خرج ليطلب ثأر أخيه
عُتبة في
بلاد الروم؛ فقد اتخذ في اللاذقية
٢ أسرة ودارًا يأوي إليها كلما عاد من صائفةٍ أو شاتية؛ وما كان ليأوِي إليها إلا
أيامًا أو أسابيع يعود بعدها إلى ما بدأ، صائفًا أو شاتيًا.
وكان له نِكاية في العدو وصبرٌ على القتال واستماتة في المعركة؛ لا يقتحمها إلا وقد
كَسَرَ جَفْنَ سيفه
٣ فلا يُغْمده إلا في اللبات
٤ والصدور والجنوب، وكان شعاره في الحرب: لبَّيك عتبة! لبيك أبا أيوب!
وكم تعرَّض للشهادة فأخطأته، وعاد مثقلًا بالغنائم وفي كفه سيف بلا جفن يقطر دمًا،
وكم
احتزَّ من رءوس، وبقَرَ من بطون، وشقَّ من مرائِر، ولكنه لم يَنَل مرة واحدة رأس بطريق
من
بطارقة الروم ثأرًا لأخيه …
وتشيعُ بطولة النعمان بين القوم، ويتحدث المُشاة والركبان بأنباء معاركه المُظفَّرة،
حتى
تبلغ تلك الأنباء أمه وعشيرته في أرض الجزيرة، فتدمع عينا العجوز الثكلى، وترفع يديها
إلى
الله ضارعة أنْ يكلأه ويرعاه؛ ليكون خَلَفًا من أبيه وأخيه … وتهمس الشفاه باسمه في ثغور
الروم خائفةً وَجِلَة، فتتعوَّذ منه بالمسيح والعذراء، إنه لينال بالرعب من أعدائه أكثر
مما
ينال بسيفه!
وكان النعمان أثيرًا عند مسلمة
٥ منذ شهد ألوان بطولته، فأدناه منزلة وقرَّبه مجلسًا، وصار له عنده نَفَل
مضاعف
٦ من أسلاب كل معركة.
وعاد النعمان ذات خريف من صائفته؛ ليستقبل ضيفًا جديدًا على الدنيا؛ فقد وُلِدَ له
مولود
ذكر، ها هو ذا يستهِلُّ صارخًا يؤذِن أباه بمقدمِه، ورنَّ صراخه الأعجم في أذن أبيه كأنما
يسمع منه صائحًا يهتف في المعركة: لبيك أبا أيوب! فمال عليه يُقبِّله في المهد وهو يجيب:
لبيك يا عُتبة! وصار اسم ذلك الصبي من يومئذٍ: عُتيبة بن النعمان.
وكأنما خشي النعمان — وقد صار أبًا — أنْ تكون أبوَّته مَجبَنَة مَبخَلَة،
٧ فاحتمل أهله وولده إلى الرقة حيث تقيم أُمُّه وعشيرته، وعاد مُعجلًا إلى الثغر
يتربَّص بالروم في كل صائفة وشاتية، وعاش الصبي بين جدته وبني عمومته، وخفَّ أبوه إلى
الميدان.
•••
المعارك تتوالى بين العرب والروم، والسفن العربية عليها الرايات البيض، تغدو وتروح
في بحر
الروم بين أقريطش
٨ وقبرص وأرواد
٩ وسواحل القسطنطينية، ما أجدر هذا البحر الأبيض أنْ يسمى «بحر العرب»! إنَّ جند
العرب لتحتل شاطئه الأفريقي والأسيوي جميعًا من المضيق إلى المضيق، وما فيه من جزيرة
إلا
ارتفع فيها الأذان ورفرفت عليها الراية العربية، وإن قوات الفتح لتوشك أنْ تثب من شاطئ
إلى
شاطئ، فتبلغ القسطنطينية في الشرق وجزيرة الأندلس في الغرب، ثم تمد مدَّها حتى يلتقي
جناحاها في الأرض الكبيرة
١٠ فلا يكون على شاطئ هذا البحر من فوق ولا من تحت إلا نفوسٌ عربية مؤمنة تعجُّ
بالتكبير والأذان.
•••
«أقيموا المآذن في كل أفق يُذكر عليها اسم الله: الله أكبر …» واستجاب المسلمون للداعي،
وتفرَّقَت جيوش المسلمين في الأرض:
محمد بن القاسم الثقفي
١١ في الهند والسند يكتسِح معاقل الكفر، ويدعو إلى الله عُبَّاد الوثن …
وقُتيبة بن مسلم الباهلي
١٢ في خُرسان وبلاد الترك يُثخِن في الأعداء إثخانًا بليغًا، وينشر اسم الله في
البريَّة الشاسعة بين الصين وجبال القَبج.
١٣
وموسى بن نصير اللَّخمي
١٤ يحاول خطة لم يحاولها عربيٌّ قبله، فيجهز مولاه طارقَ بن زياد لفتح أوروبا
…
ومسلمة بن عبد الملك ومحمد بن مروان
١٥ ومن معهم من أبطال البر والبحر يُضيِّقون الحصار على قصبة بلاد الروم
١٦ فيتهاوى ما يليها من المعاقل معقلًا بعد معقل حتى توشك مدينةُ قُسطنطين الأكبر
أنْ تدين بالولاء والطاعة للخليفة في دمشق.
ولكن الخليفة قد تقدمت به السن، ويوشك أنْ يدركه أجله، وهو لا يريد أنْ يترك هذه الدولة
طعمة للطامعين، يتنازعون حول العرش حتى تذهب ريحهُم، وتقتلعهم العاصفة، فترمي بهم إلى
البادية حيث بدءُوا الزحف منذ بضع وثمانين سنة.
ويرى عبد الملك أنْ يختار ولي عهده ليبايع له قبل أنْ يموت؛ فتخفق القلوب حوله وتطمح
الأعين إليه …
ويرى عبد الملك رؤيا، فيبعث إلى المدينة من يقصُّها على سعيد بن المسيَّب
١٧ يسأله تأويلها، ويقول سعيد لرسول عبد الملك: قل له: إنَّ أربعة من بنيه
سَيَلُون هذا الأمر؛ فليُحسِن إعداد بنيه لاحتمال تبعاتها.
وتشرئِبُّ الأعناق إلى قصر الخلافة، وتصطرع المطامع في نفوس بضعة عشر ولدًا من أبناءِ
عبد
الملك، وفي نفوس بضعَ عشرةَ من زوجاته وأمهاتِ أولاده.
أيجعل العهد لأربعة من ولده؟
ومن يكون هؤلاء الأربعة؟ …
ما أحرى هذا أنْ يُنشيء العداوة والبغضاء بين بني أبٍ واحد، وما يدريه ما ترتيب آجالهم
في
لوح القدر وإن أسنانهم لمتقاربة؟
لا، فليَدَعْ سعيد بن المسيَّب يعبِّر الرؤيا على أيِّ وجهٍ شاء، وليدبِّر هو أمره
على ما
يرى، لقد استأثر الله بالغيب فلم يُطلِع عليه أحدًا من خلقه.
فليولِّ عهده واحدًا وحسب، وليأخذ له البيعة من إخوته؛ فإن ذلك حقيقٌ بأن يُبقِي على
وحدتهم ورأيهم، وليكن وَلِيُّ عهده الوليد …
ولكن أخاه عبد العزيز بن مروان يطمع أنْ ينالها،
١٨ وقد أوصاه به أبوه قبل مصرعه، فما أحراه أنْ يحفظ وَصَاة أبيه في عبد العزيز
ليحفظ بنوه وَصَاتَه؟ …
فلتكن ولاية العهد إذن للوليد بن عبد الملك وعمِّه عبد العزيز بن مروان جميعًا.
ولكن عبد العزيز لا يلبث أنْ يجيء نعيُه من مصر، وتنحلُّ العقدة المستعصية، فيجعل
عبد
الملك عهده من بعده لولديه: الوليد، ثم سليمان، ابني ولَّادة العبسية.
وتتم البيعة للأميرين، ويحلف لهما بنو مروان وبنو أمية جميعًا، ثم تؤخذ لهما البيعة
من
الأمصار …
ويُؤوي عبد الملك إليه أولاده ليقول لهم: «يا بني عبد الملك، أوصيكم بتقوى الله،
فإنها
عصمة باقية، وجُنَّةٌ
١٩ واقية، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير، مع سلامة
الصدور، والأخذ بجميل الأمور، وإياكم والفُرْقَة والخلاف؛ فبهما هلك الأوَّلون، وذلَّ
ذوو
العز المُعظَّمون، وانظروا مسلمة، فاصدروا عن رأيه؛ فإنه بابكم الذي منه تعبرون،
ومِجَنُّكم
٢٠ الذي به تستجنُّون، وكونوا بني أمِّ بررة،
٢١ وإلا دبَّت بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أحرارًا، وللمعروف منارًا …»
ثم يُقبِل على ابنه الوليد، فيقول: «لا ألفِيَنَّك إذا متُّ تعصر عينك وتحنُّ حنين
الأَمَة،
٢٢ ولكن شمِّر وائتَزِر، والبس جلد النمر، ودَلِّني في حفرتي وخلِّنِي وشأني وعليك
شأنك، ثم ادع الناس للبيعة؛ فمن قال هكذا … فقُل بالسيفِ هكذا …»
٢٣
ثم يُغمِض عبد الملك جفنه!