بارقة أمل
لم تكن أمُّ النعمان تعرِف أنَّ ولدها اتخذ زوجًا، إلا يوم عاد إليها بعد غيبة دامت سنين يصحبُهُ ذلك الطفل وأمه؛ أما الطفل فقد عرفته، إنَّ فيه مَخَايلَ من أبيه — وإن لم يزل رضيعًا في لفائفه — وإن اسمه عُتبة، أو عُتيبة، وما أحبَّهُ اسمًا إلى قلبها! إنه ليُذكِّرها بعمِّه عُتبة بن عبيد الله الذي ذهب منذ سنين ولم يعُد بعدُ، فلا تدري أفي الأحياء هو أم في الموتى، فليكُن هذا الصبي خَلَفًا من عمه الذي طواه الغيب في ظُلُماته، وذكرى دائمة لأبيه الذي قطعه الغزو عن لِدَاتِه ورماه في البحر والفلوات لا يكاد يستقرُّ في بلدٍ أو يهدأ على ظهر سابحة.
ولم يَنسَ النعمان بن عُبيد الله أنَّ له زوجًا وولدًا، فكان يُلِمُّ بالرقة حينًا بعد حين، كلما وجد فُسحة من الوقت بين صائفتين، فيقيم بين أهله أيامًا قليلة ثم يرحل …
وشبَّ عُتيبة بين فتيان الحي وفتياته، وقد آخى ابن عمه بَشيرًا وأخته نَوَار؛ فكأنما جمعتهم أمومةٌ واحدة وأبوَّة، وكذلك مضت الحياة بهذه الأسرة كما تمضي بكلِّ الأُسر في ذلك البلد، لم يُنكِر أحدٌ من أمرها شيئًا، ولم تُنكِر من أمر نفسها؛ قد غاب رجلها في الغزو والجهاد كما يغيب رجالٌ كُثرٌ في مثل تلك السنين عن زوجاتهم وأهليهم، واحتملت الأسرة غيبته راضية كما تحتمل أُسرٌ كثيرة في مثل تلك السنين غيبة رجالها راضية، بلى، كان في هذه الأسرة رجلان صغيران، هما عُتيبة بن النعمان، وبشير بن عُتبة، ولكنهما طفلان وإن بدا لهما — من مكانتهما في الأسرة — أنهما رَجُلَا الأسرة وعليهما لها مثل تَبِعَات الرجال.
وكانت الصوائف والشواتي ما تزال غادية رائحة بين الثغور في البر والبحر، عليها من أصحاب مسلمة رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لم يخرجوا في هذه الرحلات المتتابعة لاهين ولا هازلين، قد وطَّنُوا أنفسهم على الظَّفر في كل غارة يُغيرونها أو يستشهدوا؛ منهم النعمان بن عبيد الله الرَّقِّي، ومنهم أبو محمد الأنطاكي، ومنهم عبد الوهاب بن بخت؛ ثلاثة ما يزال صدى أسمائهم يتردد في بلاد الروم مُخيفًا مُفزِعًا، يُرعِب الصغير، ويؤرِّق الكبير، ويقضُّ مضاجع النُّوَّام؛ فإن الأمَّ في ثغور الروم ليُذنبُ صغيرها أو يبكي فتُريدُ تأديبه، فتقول له: اسكت أو أدفعك إلى الأنطاكي، أو ابن بخت، أو النعمان! فيكفُّ الصغير عن بكائه ويستغفر من ذنبهَ!
وكانوا يحملون في الحرب سيوفًا بلا أغماد، إذ كانوا لا يخرجون بها من المعركة إلا مُحطَّمة من طول الضِّراب!
وجلس ثلاثتهم ذات ليلة من ليالي العُطلة في بعض مضارب الجُند يَسمُرون، كعادتهم كلما سكن غبارُ الحرب، وأخذوا في لونٍ من ألوان المفاخرة بما أتَوا من أعمال البطولة في حرب الروم، فراحَ كلٌّ منهم يُحصِي ما في جسده من آثار الجراح، لا يكادون يستقصونها إحصاءً وعدًّا، وبدا الأنطاكي أكثرَهم آثارَ جِراح، فقال ابن بخت مُعجبًا: لله ما أبليت يا أبا محمد في سبيل الله، إنك لبطل!
وثارت حميَّتي، فحملتُ فردًا على الجماعة بسيفي المسلول، لم أحفل بما تنال سيوفهم من لحمي، وقصدتُ إلى الأسارى أريد أنْ أُخلِّصهم من أيدي القوم، وتوالت عليَّ الضربات لا أكادُ أحسُّ وقعها على جسدي، وأوشكتُ أنْ أُخلِّص الرجال، بعد أنْ جندلتُ في طريقي إليهم بضعةَ نفر، وهتف أحد الأسارى بصاحبيه: أبشِر عتبة! أبشر سعيد! وهتف آخر منهم — وهو يشير إلى جانبِي فَزِعًا: فديتُك يا بَطَّال … احذر! ونظرتُ إلى حيث كان يُشير؛ فإذا روميٌّ في زي بطريق قد رفع سيفه على رأسي، فهممتُ أنْ أخلى للضربة القاسمة، ولكن سيفه نالني …
ثم كشف أبو محمد عن كتفه؛ فإذا أثر ضربة غائرة في حبل العاتق مما يلي العنق … واستأنف أبو محمد: فذلك أولُ ما سمعتُ كلمة «البطَّال»!
كان النعمان يسمع ذاهلًا، قد اختلجت شفتاهُ وحالَ لونه، فلم يكد يسكُت أبو محمد البطال حتى ابتدره سائلًا في لهفة: وماذا صُنِعَ بالأُسارى؟
– لستُ أدري؛ فقد أعجَلَتنِي ضربة قسطنطين عن تخليصهم، فنجوتُ من الموتِ ولم أكد!
– مَنْ قُسطنطين؟
– ذلك البطريقُ الذي نالني بتلك الضربة، لقد لقيتُه بعدها في بعض الصوائف، وعرفته وعرفني، ولكنه أفلت من يدي …
– والأُسارى؟ …
قال البطَّال مُستَخِفًّا: وما عنايتك هذه بهؤلاء الأُسارى وقد مضى زمان؟ وكم بين العرب والروم من قتلى وأُسارى!
– قد قُلتَ: إنَّ عُتبة كان أحد هؤلاء الثلاثة؟!
– ومن عُتبة هذا؟
– إني لأظنُّه أخي.
– أخاك؟!
– نعم، فقد خرج للغزو منذ ذلك التاريخ فلم يعُد، ولم تكن صوائف ولا شواتٍ يومئذٍ، فقد كان عبد الملك في شُغلٍ عن الصوائف والشواتي بحربِ الخوارِج.
صمت البطال بُرهة وهو يُحدِّق في وجه صاحبيه، ثم قال موافقًا: قد يكون إيَّاه …
وكان عبد الوهاب بن بخت صامتًا، يستمِعُ إلى ما يدور من الحوار بين الرجلين في اهتمام، ثم عقَّبَ: بل إني لأرجو أنْ يكون إيَّاه.
فالتفت إليه النعمان قائلًا وقد شاع في وجهه الأمل: عندكَ ما تقول يا أبا عُبيدة؟
– نعم، فقد كان أحد الثلاثة سعيد بن جُنادة، وقد خَلُصَ بهم الروم إلى البحر، فاحتملوهم أسارى على ظهر سفينة روميَّة، ولكن ابن جُنادة التمس غِرَّةً من القوم، فألقى بنفسه من السفينة بعد ما أبعدت عن الساحل، فبلغ البرَّ سابحًا … وقد لقيتُهُ فحدَّثَنِي …
– بماذا حدَّثَك؟
– قال: إنَّ أحد صاحبيه اسمه عُتبة الرَّقِّي، أليس بلدكَ الرقة؟
– بلى، وماذا قال غير هذا؟
– لم يُحدِّثني عنهما أكثر من ذاك.
– وأين ابن جنادة هذا؟
– مات؟ …
– نعم، وإني لأرجو أنْ يكون أخوك حيًّا فتلقاهُ ويُحدِّثكَ الخبر!
– ليت الأماني تصدُقُ يا أبا عُبيدة!
وخلا النعمان إلى نفسه يُفكِّر في أمره … هل تَصْدُقُ الأماني؟ وهل يرى أخاه حيًّا فيُحدِّثه ويستمِعُ إليه؟ ولكن أين …؟
وهرول عائدًا إلى أبي محمد البطال يستزيده: لقد قلتَ يا أبا محمد: إنَّ البطريق الذي نالك بسيفه اسمه قسطنطين؟
– نعم!
– وإنك لقيته بعدها في بعض المغازي فعرفته وعرفك؟
– نعم!
– أفلستَ تظنُّهُ يعرِف ما آل إليه أمرُ هؤلاء الأسرى؟
– أظن …
– فإني أريد أنْ ألقاه.
– مَنْ؟!
– قسطنطين البطريق.
– أفلست تذكر أين لقيت قسطنطين هذا في الغَزَاة الثانية؟
– لست أذكر.
– ولكنه يعرف بعض أنباء أخي، فأين ألقاه إذن؟
– في بعض المعارك.
– ماذا؟
– أعني لا بد أنك ستلقاه في معركة قابلة، فإنه رجلُ جِلادٍ فيما يبدو، هذا إذ لم يكُن قد مات.
– أتظنُّه مات؟
– وماذا يمنع؟ لقد كان يومَ أنطاكية شيخًا قد جاوز الخمسين، فإن لم يكن قد لقي أجله في بعض المعارك فقد جاوز اليوم سنَّ الموت.
– وا أسفاه!
– تأسفُ على موت عدوِّك وعدوِّ الله!
– بل آسَفُ على أخي، وما غاب عني من خبره.
– إنك لتُسرِفُ في الأمل يا أبا عُتيبة إسرافًا يوشِكُ أنْ يَفُلَّ عزمك عند أول صدمة فيُقطع بك، فهل استيقنت يقينًا لا شُبهة فيه أنَّ ذاك أخوك؟ فكم في العرب من «عتبة»، وكم عربي اسمه «الرَّقِّيُّ» ولم يدخل الرَّقَّةَ أو يرها بعينين، فمن أين لك اليقين بأن ذاك أخوك؟
– إلَّا يكن أخي لأبي وأمي، فإنه أخي في الدين والنسب.
– صدقت، وإنه لأخي كذلك، وأخو كل مسلم وعربي.
– فستحرِص منذ اليوم على ما أحرِص، فتلتمس له أسباب الحُرية؟
– نعم، ولكل عربيٍّ في الأسر، وأطلب ثأر القتلى بكل رأسٍ رأسين.
ودوَّى النفير، فهبَّ المسلمون إلى أسلحتهم، وهبَّ النعمان معهم إلى سلاحه وهو يُلَبِّي: لبيك عتبة، لبيك أبا أيوب، الله أكبر.