نداء الدم
– يوشك حديث الراهب أنْ يكون حقًّا!
وطوَّحَ الخيالُ لنعمان إلى مرامي بعيدة، وطوَّفَ حالِمًا بين ما يعرف من ثغور الروم يتحسَّسُ آثار أخيه، ثم آب من رحلته تلك مكدود الذهن، ضيِّق النفس، خائر العزيمة، لقد كان قبل اليوم يُجاهِد مُستميتًا ليُدرِك ثأرًا أو يظفر بالشهادة، أما اليوم فإن له هدفًا آخر … ليس في نفسه اليوم إلا صورة أخيه الذي يزعم أنه لم يزل حيًّا في الأسر عند بعض بطارقة الروم، وليس له أمنيةٌ إلا أنْ يصل إليه فيستنقذه فيرده إلى أمه وزوجه وولده!
وعاد يذكر أخاه عتبة … وتخيَّل كأنما لقيه بعد أين، فاعتنقا، وتذاكرا الماضي طويلًا، واصطحبا على الطريق إلى الرَّقَّة، حيث يقيم بشير ونوار وعتيبة وجدتهم العجوز وامرأتان أُخريان قد فارقهما زوجاهما منذ بعيد، فلا هما زوجتان ولا أرملتان! …
ويرى عتبة بن عبيد الله ابنته نوار، عروسًا فاتنة ضاحكة السن أبدًا، فيسأل: من هذه؟ فيَضُمُّها عتيبة بن النعمان إليه ويقول: هذه لي.
•••
ومن أجل ذلك أيضًا كتم النعمان بن عبيد الله عن أمه وأهله أمرَ امرأته سبيكة، فلم يُحدِّثهم أنها أمُّ ولد، كانت نصيبه من الفيء في بعض الغزوات، فحازها في داره حتى نَضِجَتْ نَضْجَ الأنثى، وأحكمت العربية لسانًا، وتشرَّبَت الإسلام دينًا، فاتخذها أمَّ ولد، ثم ترَقَّى بها درجة فجعلها زوجًا، ثم حملها إلى أهله لا يدرون من أمرِها إلا أنها أم عتيبة بن النعمان!
ويفِد النعمان إلى الرَّقَّة زائِرًا ذات مرة — كبعض عادته — بعد غيبة طويلة، فتلقاه زوجهُ طيبة النفس راضية، قد افترَّ ثغرُها عن ابتسامة، تُعبِّرُ عن مدى شوقها إليه وسرورها بمقدمه، ولكنه يرى وجنتيها قد ازدادتا شحوبًا، وعينيها قد بَدَتَا أكثر زُرقةً وعُمقًا، ويرى على تَينِكَ الشفتين الرقيقتين كلماتٍ تختلجُ يُجاذبها الحياء منه والحفاظُ على مودَّته أن تلفِظها، ويسألها النعمان عما بها فلا تجيب، ولكنها ما تكاد تسمع صوته الحانِي حتى تستحيلَ تلك الاختلاجةُ دموعًا تنحدِرُ على الوجنتين الشاحبتين، ويدنو منها النعمان، فيمسح على شعرها بيده، ويعيد سؤاله متلطِّفًا، فتجيبه: ليس يخفى عليَّ يا نعمان — ولا يطيب لي أنْ أُنكِر — أنني جارِيَتُك.
– بل زوجتي وأمُّ ولدي يا سبيكة.
– نعم، أم ولدك التي أكرمتها بنسبك فسميتها زوجًا.
– بل أنتِ أكرمتِينِي يا سبيكة بَدِيًّا بما أسبغتِ عليَّ من حنانكِ وعطفكِ، ثم أكرمتِينِي ثانيةً حين ولدتِ لي عُتيبة هذا الذي أرجو أنْ يكون قرَّةُ عينٍ لي ولكِ، وما زلتِ تُكرمينني بما تحفظين من غيبي وتحدبين على أهلي وترعين ولدي راضية صابرة على مُرِّ الفراق وشظف العيش.
– ولكن أمك لا ترضى يا نعمان.
– أمي؟!
– وزوج أخيك أيضًا، وولدك عتيبة!
– ماذا؟ … قد علمتُ من علم الناس أنَّ الحماة والسِّلفة لا ترضيان أبدًا عن الكنَّة … ولكن ما شأن ولدنا عتيبة؟!
– إنه مثلهما يُنكِر على أمه أنها ليست عربية.
– ومن أنبأه؟
– لم يُنبئه أحد!
– فماذا قال إذن؟
– جاءني ذات يوم يسألني: إلى أيِّ عرب اللاذقية تنتسبين يا أمُّ؟
– فكيف كان جوابكِ؟
– قلت له: إنَّ أباك يعرف، ولم أزِد، فقد خنقتني العَبْرة، ففررتُ من بين يديه إلى خَلْوتي.
– أفهذا ما تقولين إنه يُنكره عليكِ؟
– نعم!
– لقد أسأتِ الفهم يا سبيكة.
– بل قُل: يا سَبِيَّة!
– أوَّه!
– لست أريد مساءتك يا نعمان.
– ولم يُرِد عُتيبة مساءتَكِ.
– ففيم كان سؤاله ذاك عن نسبي؟
– تلك عادة عربية: أنْ يفخر الأبناء بما يمتُّون من نسبِ الآباءِ والأمهات.
– وكيف كنتَ تراني أجيب؟
ونفرت سبيكة مبتعدة، وعضَّت على شفتها، ثم أرسلت عينيها وقالت، وقد سترت وجهَهَا بكفَّيها وبدنها يختلج كلُّه: وكذلك أنت يا نعمان ما تزال تقولها!
قال وقد زحف إليها حتى لاصقَها ثانيةً: فماذا كنتِ تريدين أنْ أقول إذن؟
– لا شيء!
– ولكن كلَّ مسئول لا بد أنْ يجيب.
قالت وقد شرعت عينيها وبرق فيهما بريقٌ عجيب: قل إنك ولدتَني ولادةً ثانية ثم اتخذتني زوجًا!
– وإذن فأنا أبوكِ وزوجكِ؟
– نعم.
– ولكنكِ أنتِ ولدتيني كذلك ثم ولدتِ لي!
– إذن فأنا أمُّكَ وزوجك؟
– نعم!
– وأمك؟
– إنَّ لكل رجل أُمَّين وأبوين.
– ولكل امرأة …!
– فمن أمكِ الثانية إذن؟
– أمُّك!
– ولكنكِ تكرهينها يا سبيكة فيما أرى!
– بل هي تكرهني.
– وهل تكره الأم ابنتها؟
– نعم، حين تكون كنَّة لها، فتغلبها على أمومة ولدها.
– فهل أيقنتِ إذن أنكِ قد غلبتيها على أمومتي؟ …
– أيقنت.
قال وقد مدَّ إليها يدًا يُعابثها: فإن طفلكِ الكبير … جائعٌ يا أم.
فابتعدت عنه مُعجلة وهي تقول: صَهْ، فإن عتيبة قادم.
وسمع وقع أقدامه في الفناء، ثم دخل، فألقى بنفسه بين ذراعَي أبيه …
لم يعُد عُتيبة صبيًّا، فقد شبَّ ونما واخضرَّ شاربه، وكان قويًّا عريض الألواح مفتولَ الساعِد خَشِنَ الكف، ولكن في خديه شحوبًا، وفي عينيه زُرقة وعُمق، ولصوته نبرٌ عذب، من يراه ويرى هذين الرجل والمرأة لا يشكُّ للنظرة الأولى أنهما زوجان قد أنجبا، فإن فيه من كِليهما وليس لأحدهما من صاحبه شيء …
ورأى عُتيبة فرصةً سانحةً ليتحدَّث إلى أبيه في أمرٍ يشغله منذ بعيد، ثم استحيا … فآثر السكوت حتى يُرَوِّي في الأمر فيعرف من أين يبدأ …
ولكن الرجل الكهل لم يكن من الغفلة بحيث يغيبُ عنه معنى تلك اللمحات الغامضة والإشارات المكبوتة التي بَدَت من ولده حين أخذا في الحديث عن بعض ما كان هنا وهنالك في أثناء تلك الغيبة الطويلة …
– إنَّ عتيبة قد بلغ مبلغَ الرجال يا سبيكة.
– نعم!
– ويرى من حقِّه أنْ يؤوي إليه زوجة.
– نعم!
– وتغلبكِ على أمومته أمٌّ أخرى …
– تخفُّ تبعاتي إذن.
– أتؤمنين بما تقولين يا سبيكة؟
– كلَّ الإيمان.
– وإذا لم يجد عندها ما يلتمسُ كلُّ رجل في امرأته من حنان الأمومة وعطف الزوجة وإيثار الحب؟ …
– لن يفتقِد عُتيبة عند زوجِه شيئًا من ذلك.
– تعرفينها إذن؟
– نعم!
– حدَّثَكِ بخبرها؟
– حدَّثتني عيناه دون لسانه.
– أهي نَوَارُ بنت عمه؟
– من حدَّثَك؟
– حدثتني عيناه كذلك.
– وبماذا أجبته؟
– غضضتُ طرفي، واصطنعت الغفلة.
– ولِمَه؟
– أردتُ أن أستنبيء عينيها قبل أنْ آخذ في الحديث معه.
– ولكن عينيها لا تتحدثان إلى أحدٍ بشيء!
– فكيف عرفتِ إذن أنها تحبه؟
– إنَّ عيون النساء أَقْدَر على الغوص في أعماق النفوس والكشف عن خَبِيئاتها!
– وغاصت عيناكِ في أعماقِها وكشفتا عن خبيئتها؟
– ورأيت صورته في أعمق الأغوار من قلبها، ولكنَّ إطارًا أسود يُمسكها ويُلقِي عليها ظلًّا كريهًا.
– لستُ أفهم ما تعنين يا سبيكة!
– ومن أنبأها أنَّ عُتيبة يَمُتُّ إلى الروم؟
– لم يُنبئها أحد!
– فكيف عرفتِ إذن؟
– ذاك يوم جاء يسألني عن نسبي.
– قد وَهِمْتِ يا سبيكة.
– وشيء آخر …
– ماذا؟
– كلمة لا أقولها …
– بل قُوليها …
– لقد حدَّثَتنِي أمها ذات يوم أنها لن تُزوِّج فتاتها إلا فتًى يمهَرُهَا تاجَ بطريقٍ رومي!
– ما أرخصه مَهْرًا!
– يقتله ويحملُ إليها تاجَه.
– فهمت.
– ويسوق إليها مع هذا المهر جاريةً من بنات البطارقة.
– وفيمَ هذا الغُلُو؟
– تريد أنْ تثأر لأبيها.
– ولكن أباها لم يَمُت!
– ماذا قلت؟
لم يكن النعمان يريد أنْ يُفضِي إلى أحدٍ بذلك السر، فإنه لم يَطِب له عيش منذ حَمَلَه، وليس يريد أنْ يشقَّ على أحبَّائه بتحميلهم من ذلك ما لا يحتمِل هو، ثم إنَّ أمر أخيه لم يزل حدسًا لا يعرف آخرته؛ أإلى لقاء سعيد؟ أم إلى خيبة أشدَّ مرارة من ذلك الحاضر المُر؟ فلم تكد تجري على لسانه تلك العبارة، وتتبعها امرأته بالسؤال حتى فاء إلى نفسه واستدرك: أعني أنَّ أباها لا يُعرَف أين ذهب، فمن أين لها أنَّ الروم قتلته؟
– كيف تزعم!
– ولكن هذا الزعم لن يحول بين قلبين تعارفا، فائتلفا فأضمر كلٌّ منهما لصاحبه مثل ما يُضمِر لنفسه.
– وذلك المَهْر؟
•••
لم يودِّع النعمانُ زوجته وولده في هذه المرة قلقًا حيران، قد توزَّعَته التبِعات؛ فقد خلَّفَ على أهله في هذه المرة رجلين يقومان بأمرهم، هما عتيبة ابنه، وبشير ابن أخيه، وقد كشف لزوجه عن ذات صدره في أمور لم يكشف لها عن مثلها من قبل، وتحدث إلى أمه وامرأة أخيه وولديها أحاديث ذات بال في شئونٍ شتَّى، لم يُصرِّح بكلِّ ما في نفسه، ولكنه مهَّد تمهيدًا لبعض الأمر، ووضع في الأرض الطيبة بذرةً يرجو لها النماء … ثم وثب إلى ظهر فرسه ومضى …