فلسفة العصور الوسطى
تمهيد
لبِثَت الفلسفة في مرحلتها الأولى اليونانية نحوًا من ألف سنة، تبدأ بطاليس سنة ٦٢٤ق.م، وتنتهي بنهاية القرن الخامس بعد ميلاد المسيح. وفي نهاية هذه المرحلة كان صَوت المسيحية قد دوَّى في أرجاء أوروبا. فبدأ الفكر الإنساني — وقد اصطبغ بذلك الدين المسيحي الجديد — شوطًا جديدًا، امتدَّ نحوًا من ألف سنةٍ أخرى، كانت مهمَّة الفلسفة خلالها أن تؤيد بالدليل العقلي ما سلَّمَت به النفوس بالإيمان تسليمًا لا يقبل ريبةً ولا شكًّا.
وهكذا أصبحتِ الفلسفة تابعةً للعقيدة، وأصبح العقل عونًا لها.
ومما جعل للكنيسة في تلك العصور هذه المنزلة المُمتازة أنها كانت القوة الوحيدة التي استطاعتْ أن تثبُت لغزواتِ أمم الشمال المُتبربرة التي قوَّضت الدولة الرومانية؛ فقد كانت هذه الدولة عاجزة من الوجهة السياسية، لا تقوى على حماية نفسها من برابرة الشمال، وكانت الحضارة العلمية على أيدي أولئك الغُزاة، خصوصًا إذا علمنا أن تلك الحضارة كانت في نفسها مُنحلَّة القوى، مقوَّضة الدعائم، وكانت الحياة الفكرية بأسرها، تُوشِك أن تندكَّ على أيدي هؤلاء الفاتحين السُّذَّج الجُفاة، لو لم تكن هنالك تلك القوة الروحية التي اضطرت هؤلاء الغُزاة إلى التسليم بها، والدخول في دينها، والتي عرفت كيف تُنقذ هيكل المدنية، وتصونه خلال هاتيك القرون، تلك كانت قوة الكنيسة المسيحية التي قامت بما لم تستطِع أن تقوم به الدولة.
فمن جانب الدين وحدَه، وعلى يدِ الكنيسة وحدَها اتَّصل العالم الجديد بعِلم القدماء، والنتيجة الطبيعية لهذا ألَّا تعرِض الكنيسة على الناس من الفلسفة القديمة إلا ما كان مُتفقًا مع تعاليم النصرانية، أما ما عدا هذا — وخصوصًا ما يُعارض النصرانية — فقد كان يُنبَذ نبذًا. وبذلك ظلَّت الفلسفة الغربية خادمةً للدين جملة قرون، وكان غرَضُها الأول تأييد العقائد الدينية، وتحديدها، وتنظيمها، وإظهار أنَّ تلك العقائد التي نزلت من السماء تتَّفق أيضًا مع العقل.
وممَّا يحسُن ذِكره أن تلك العصور الوسطى حين تلفَّتت إلى الوراء لتأخُذ من القدماء ما أخذته من علمٍ وفلسفة، قد سارت في نفس الطريق التي سلكها الأقدمون، ولكن في اتجاهٍ عكسي؛ أي إنها بدأت السير من آخر الطريق إلى أوَّله؛ فقد بدأ اليونان بحوثهم العلمية مَدفوعين بلذَّة البحث مُولَعين بجمال المعرفة في ذاتها، فلمَّا قطعوا في الدراسة العلمية شوطًا بعيدًا أخذ العلم يتحول إلى خدمة الحياة العملية، وأصبح البحث الفلسفي وسيلةً تستخدم للوصول إلى غايةٍ وراءه، هي معرفة قواعد الأخلاق والبرهنة على تعاليم الدين. أما العصور الوسطى فقد بدأت السير من هذه المرحلة الأخيرة، أعني أنها بدأت بالبحث عن المعرفة لا لِذاتها، بل لخدمة العقائد الدينية، ولكن بمُضيِّ الزمان تولَّدت في النفوس لذَّة المعرفة لِذاتها، وأخذت تلك اللذَّة العلمية تتَّسع وتتمكن، حتى انتهى العلم آخر الأمر إلى الاستقلال بنفسه، وإلى مُعارضة العقيدة الدينية نفسها أحيانًا، وقد كان أول الأمر وسيلة من وسائلها.
وتقع فلسفة العصور الوسطى في عهدَين؛ أولهما: يُسمَّى «عصر آباء الكنيسة»، وليس للفلسفة فيه من الشأن إلا القليل، والثاني: يُسمَّى «العصر المدرسي»؛ لأن التعليم كان يقوم به جماعة من الرهبان في «مدارس الكنائس»، وقد أنشأ شارلمان كثيرًا من هذه المدارس في جميع أنحاء فرنسا، وكان مُدرِّسوها من رجال الكنيسة الذين حاولوا أن يُلبِسوا أغراض الكنيسة لباسًا فلسفيًّا. ويمتدُّ هذا العصر المدرسي إلى قيام النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر.
(١) عصر آباء الكنيسة Patristic Period
(١-١) نظرية المعرفة
أيقن أوغسطين بوجود الله والروح والإدراك العقلي، لم يُخالجه في ذلك شك، فلئن جاز للإنسان أن يرتابَ فيما تأتي به الحواسُّ من ألوان المعرفة، فليس يجوز له أن يشكَّ في إدراك العقل؛ لأنه حقٌّ ويقين ليس إلى الشك فيه من سبيل. والشك مهما اتسعت دائرته لا يتناول شعور الإنسان بإحساسه الباطني. ويُشير أوغسطين إلى أن الإحساس بالشيء الخارجي والشكَّ فيه يتضمَّن حتمًا اليقين بوجود الذات؛ لأني إذا كنتُ شاكًّا فإني بهذا الشكِّ أعلم أنني موجود، ومعنى ذلك أنَّ الشك نفسه يتضمَّن إثبات وجود الكائن الشاعر وجودًا لا يتطرَّق إليه الخطأ؛ لأني إذا كنتُ شاكًّا في كل شيء، فلن أخطئ في وجودي؛ إذ لا بدَّ لكي أخطئ أن أكون موجودًا.
(١-٢) كيف خلق الله الكون؟
اتَّجهت إرادة الله منذ الأزل إلى خلق العالم، فأخرجه من العدم إخراجًا، وأنشأه إنشاءً بعد أن لم يكن شيئًا. فلم يكن إلى جانب الله شيء من مادةٍ يصوغ منها الكون الذي يريد، ولكنه خلقَه خلقًا دون أن ينبثِق منه، وقد بدأ الخلق المادي حين بدأ الزمان، أما الله نفسه فليس له زمان ولا مكان، وقد تمَّ خلق العالم على دهورٍ مُتتابِعة، وليست ستة الأيام التي قال موسى: «إن الخلق قد تمَّ فيها.» إلا درجات مُتعاقبة من الكمال تتابعَت على الكون في مسيره.
ولله قوة مُطلقة تسيطر على الوجود بأسره فلا يحدُّها شيء، وهو فعَّالٌ لِما يُريد، لا يخرج شيء عن إرادته؛ وإذن فهو العِلة لكل ما يقع في أنحاء الكون من أحداث، ولكن فيما يقع شرٌّ ورذيلة، أفيكون الله يومًا مصدرًا للرذيلة والشر؟ كلا إنَّ ما ترى من الشرِّ إنْ هو في حقيقة الأمر إلَّا امتناع للخير، أي إنه ليس شيئًا إيجابيًّا في ذاته له حقيقة واقعة، بل هو نقص في كمال الشيء، وبُعد عن مرتبة الخير الإلهي، ويريد له الله أن يدأب في سيرِه صُعُدًا حتى يبلغ الكمال، فلكل شيءٍ عند الله حِكمة وغرَض، وليس في الوجود شيءٌ يكون في حساب الله تافهًا أو حقيرًا.
(١-٣) تحليل الروح
لم يذهب أوغسطين إلى ما ذهبَ إليه بعض الأقدمين من أن البدَن سِجن قد زُجَّت الروح في غياهِبه وغُلَّت بأغلاله، كذلك لم يَرَ ما ارتآه بعض الفلاسفة من أنَّ الروح قد انبثقَتْ من الله انبثاقًا، إنما يُقرِّر أنها قد بدأت في الزمان — أي إنها أزلية — ولكنها مع ذلك خالدة إلى الأبد، وهي ليست مُركَّبة وليست مادة، وليس لها امتداد في المكان، ويختلف جوهرها عن جوهر البدَن، ولو أنهما يعيشان في ودٍّ وانسجام. وإنما جاء خلود الروح واستعصاؤها على الفناء من أنها تحمِل في طيَّاتها حقيقة خالدة. أليس الروح والعقل شيئًا واحدًا؟ ثم أليست مبادئ العقل خالدة ثابتة؟ ففيمَ القول إذن بفناء الروح؟ إنه لَمِن الخطأ أن يُقال إنها تحتوي الحياة؛ لأنها هي الحياة نفسها، وتنقسِم ملكات الروح قِسمَين: مرتبة سُفلى تشمل الإدراكات الحسِّية والشهوة والتخيُّل وذاكرة الحس، ومرتبة عُليا فيها الذكاء والإرادة والذاكرة العقلية. والإرادة هي التي تُحرِّك العقل نحوَ العمل، وتدفع العقيدة إلى الرضا بما يعمل.
(١-٤) الأخلاق
ليس من سبيل إلى الخير الأسمى، إلى الاتحاد بالله بواسطة التأمُّل، ويستحيل أن يتمَّ هذا الاتحاد في الحياة الدنيا، فهو مُدَّخر للحياة الآخرة، وواجب الإنسان في حياته أن يسير وفق القانون الإلهي تمهيدًا لتلك السعادة الكبرى، وحسْب الإنسان تلك السعادة الموعودة حافزًا يحمِلُه على الخير والفضيلة، وإن أقوى ما يدفع الإنسان إلى الفضيلة والخير هو الحُب: حب الله، وحب الإنسان، فمن حُب الإنسان للإنسان ينشأ في قلبه الإحسان، والإحسان أساس الحِكمة والشجاعة والعدل. وأما حُب الله فهو الينبوع الدافق الذي يَستقي منه الإنسان حُبَّه لنفسه وحُبه للناس على السواء. ويذهب أوغسطين إلى أن هناك طائفتَين من الناس: أهل «مدينة الله» وهم قوم أراد لهم الله أن يعيشوا في نعيمٍ خالدٍ مُقيم، وأهل «الدنيا»، وأولئك هم أصحاب الرذيلة والشر الذين كتَب عليهم ربُّهم البؤس والشقاء.
(٢) العصر المدرسي Scholastic Period
كانت أوربا خلال القرون الوسطى تتوزَّعها دُويلات صغيرة تتولَّاها حكوماتٌ واهنة ضعيفة، لا تنفكُّ شاكية السلاح يقاتل بعضها بعضًا لِما أكل نفوسهم من حقد، وما ران على قلوبهم من فساد، وكانت تلك الدويلات كلها خاضعةً للحكومة الرومانية التي تبسُط عليها سلطانها ما وسِعها ذلك؛ إذ القوة الفعلية لم تكن حينئذٍ سياسية تصدُر عن الدولة، بل كانت دينيةً تملك زمامها الكنيسة. فلها الكلمة العُليا إذا حزب الأمر، ولها القول الفصل إن قامت بين الناس خصومة أو نزاع. وأسرفت الكنيسة في نفوذها إسرافًا أفسد الحياة وأصاب الفكر بالعُقم والجمود، وتحكَّمت في العقول حتى سحقَتْ كل ضربٍ من ضروب الحياة والنشاط، فلم تكن أوروبا في القرن العاشر إلَّا ظلامًا دامسًا تغلغلت فيه الجهالة، ونفثت في الرءوس ما شاءت من خُرافات. فلمَّا أن جاء القرن الحادي عشر أخذت تنقشِع تلك السحابة المُعتمة بعض الشيء بما ظهر من كنوز العلم التي كانت لا تزال دفينةً في مكامنها في اليونان، فأزيل عنها ما غشِيَها من غبار حينما أعادت الحروب الصليبية ما كان وَهَن بين الإمبراطورية الغربية والإمبراطورية الشرقية من صِلات، فبدَّد بريقها شيئًا من ظلام القرن العاشر، وكأنما شاء الله أن تتناصَر العوامل، وتتضافر الأسباب في وقتٍ واحد؛ لكي تُزحزح عن صدر أوروبا ذلك الكابوس الجاثم، فأرسل عليها الغرب — حيث الدولة العربية تزهو في إسبانيا وتزدهر — قبسًا من علمٍ فاضت به مجامعهم، وجاشت به صدورهم، فانبعث إلى قلب أوروبا وشحَذَ منها الفكر الفلسفي وأنهضه، حتى دبَّت فيه قوة وحياة، فكان من مظهره هذا الذي ندعوه «الفلسفة المدرسية»، على أنها لم تكن مدرسة فلسفية مُتماسكة، كمدرسة أفلاطون مثلًا، إنما هي جهود فلسفية مبعثرة بذلها «المدرسيون» وهم رجال الدين الذين أخذوا بزمام الفلسفة فأناخُوها في حظيرة الكنيسة وحدَها؛ لكي يستخدموها في شئون الدين، لعلَّهم يجدون فيها لعقيدتهم سَندًا من المنطق، ودعامةً من العقل.
قال «هِجِل» في كتابه المُسمَّى «محاضرات في تاريخ الفلسفة»: «إنَّ الفلسفة المدرسية لم تكن مذهبًا محدودًا كمذهب الأفلاطونيين أو الشُّكَّاك، بل كانت مجرَّد اسم مُبهم يُطلق على كل مباحث المسيحيين الفلسفية في أكثر من خمسمائة عام. فليست الفلسفة في العصر المدرسي إلا لاهوتًا ولا اللاهوت إلا فلسفة، والفيلسوف المدرسي هو من يبحث في اللاهوت بحثًا علميًّا مُنظمًا.»
ولعلك تُلاحظ أن هاتَين الشُّعبتَين قد استمدَّتا أصل مذهبهما من أرسطو وأفلاطون؛ فمن مذهب أفلاطون في المُثُل أخذ الواقعيون ما ذهبوا إليه، ومن إنكار أرسطو للمُثل استقى الاسميُّون تعاليمهم، وكانت الكنيسة أمْيَلَ إلى المذهب الواقعي وطبَّقَته على بعض تعاليمها كالتثليث.
ولقد تنازع هذان المذهبان وتصارعا، وكانت الحرب بينهما سجالًا، فانتصرَتِ الواقعية المُتأثِّرة بأفلاطون في الصدر الأول من العصر المدرسي، وانتصرتِ الاسمية المُتأثِّرة بأرسطو في العصر الثاني.
(٣) العصر المدرسي الأفلاطوني
كان للفلسفة الأفلاطونية السيطرة والسيادة في الشطر الأول من العصور الوسطى، فهي الينبوع الذي كان يَستقي منه المفكرون آراءهم، والأساس الذي يقيمون عليه مذاهبهم، وإن كانت دائرة الفكر إذ ذاك محصورةً ضيقة لا تُنتج إلا أتفَهَ الثمرات، ولكنَّ دولتَين من الدول الأوروبية قد امتازتا بعض الشيء في ذلك العهد المُظلم العقيم، هما إيطاليا وإنجلترا، فنبغ فيهما أعلام ذاع صِيتهم في الناس ودوَّت بذكرهم الجامعات.
(٣-١) فكرة الله
يعتقد إريجينا أنَّ الله هو بدء الأشياء ونهايتها، وأنه روح خالصة مجرَّدة لا تحدُّها حدود، ولا تُميزها صفات، وقد اتخذ الله هذا العالم وسيلةً يبدو بها ويُعرَف. أما ما ترى في الكون من قوَّة وضوء وعقل إلى آخر ما يحوي الوجود بين دفَّتَيه من أشياء، فقد انبثق من الله انبثاقًا، ولا بدَّ أن ينتهي المسير بهذه المخلوقات كليًّا إلى حدٍّ تبلغ عنده الغاية المنشودة، فتعود إلى الاتحاد بالله من جديد. وينزِع إريجينا في كتابه «تقسيم الطبيعة» نزعةً قوية إلى وحدة الوجود، فيُقرِّر في غير لبسٍ أن الله ومخلوقاته، وهذا العالم الذي هو وسيلة ظهوره كل أولئك شيءٌ واحد، وأن كلَّ محاولة لفصل الله عن مخلوقاته باطلة، إلا أن تكون على سبيل المجاز.
وكَشْفُ الله عن نفسه إنما يتمُّ على درجاتٍ مُتتابعة: فمن الله ينبثِق أولًا العالم العقلي، وهو الجانب من الكون الذي يخلق، وله في الوقت نفسه مقدرة الخلق. ونعني به الكليات، ومنها ينشأ عالم الظواهر الحسِّية، وهي أحطُّ أنواع الحقيقة لقلة ما يتحقَّق فيها من صفاتٍ كلية.
(٣-٢) نظرية المعرفة
يسلك «سكوتس» في نظرية المعرفة نفس الطريق التي سلكَها في شرْح الخَلْق بانبثاق الأشياء من الله، ثم عودتها إليه مرة ثانية، فيرى أنَّ المعرفة يجِب أن تبتدئ من أعلى إلى أسفل، فتبتدئ بالكليات إلى أن تصِل إلى الأشياء الحِسِّية، ثم تعود فتعلو صاعدةً حتى تبلُغ أوْجَها في معرفة الله، فإذا ما بلغتِ الروح تلك المرتبة السامية الرفيعة استطاعت بالتأمُّل أن تتَّحِد بالله، وهي غاية تستعصي على الحواسِّ والعقل جميعًا، ولا تُتاح إلا بالتأمُّل وحدَه، وقد تستطيع الروح باتحادها بالله أن تعرِف نفسها معرفةً عميقة، ولكنه يستحيل عليها أن تُدرك كُنهَها إدراكًا تامًّا كاملًا وهي على قيد الحياة. ويذهب «سكوتس» إلى أنَّ الفلسفة الحقَّة والدين الحق شيءٌ واحد؛ لأنَّ العقيدة مرحلة من مراحل الحياة العقلية.
(٣-٣) البرهان على وجود الله
ويرد بعض النقاد على «أنسلم» بأنه قد برهن فقط على أنه إذا تصوَّر الإنسان الله كاملًا كمالًا مُطلقًا لزِم أن يكون الله موجودًا حقيقة؛ لأنَّ عدم وجوده نقْص في الكمال، ولكن «أنسِلم» لم يُبرهن على أن العقل مُضطرٌّ إلى تصوُّر هذه الفكرة الكاملة اضطرارًا.
ثم استطرد «أنسِلم» فتصدَّى للإجابة على أعوَص المسائل وأشدِّها تعقُّدًا في النصرانية وهي: لماذا صار الله إنسانًا في شخص المسيح؟ وجوابه الذي تقدَّم به هو أنَّ تجسُّد الله في الإنسان لم يكن عنه محيص؛ لأن خطيئة الإنسان التي اقترفَها في حقِّ الله مُعتديًا بها على جلاله وعظمته قد بلغَتْ من الفداحة حدًّا عجز معه الإنسان أن يُكفِّر عنها بنفسه، فشاءت رحمة الله أن تغفر لهذا الإنسان الخاطئ العاجز، فتجسَّد في إنسانٍ هو المسيح، وكفَّر عن ذنبه ليكون التكفير منه عظيمًا يتناسَب مع فداحة الخطيئة الأولى.
وقف أبيلارد موقفًا وسَطًا بين المذهب الواقعي والمذهب الاسمي، وقرَّر أنَّ الكلي ليس له وجود مُنفصل عن الجزئيات، بل هو حالٌّ فيه لا باعتباره جوهرًا واحدًا مُمثَّلًا في الأفراد، ولكن باعتباره حقائق مُتعدِّدة بتعدُّد الأفراد. وقد أنكر أن يكون الكُلِّي مجرَّد اسم، بلى هو يحمِل من المعاني ما يستمدُّه من المقارنة بين ما تأتينا به الحواسُّ من إدراكاتٍ جزئية.
ولعلَّ أبرزَ جوانب أبيلارد هو تلك النزعة القوية الجريئة نحو تحرير العقل من ربقةِ العقيدة، فزعم أنَّ العقيدة لا تستطيع أن تحيا حياةً مدعمة قوية بغير عِلم ومعرفة، وقد أهاب بقومِه أن يتَّخِذوا من العقل دليلًا أهدى دليل، فليتركوا زمام أمرِهم في يدِه يسير بهم أنَّى شاء، دون أن يحدُّوا منه أو يُقاوموه، حتى لو ذهب بهم إلى مُعارضة الكنيسة نفسها.
كذلك كان له في التفكير عن المسيح رأي شذَّ به عن التقليد المعروف، فقد سخِر من الفكرة الشائعة حينئذٍ بأن عفو الله ورحمته لا يكونان إلا بهذه الآلام المُبرِّحة التي تعرَّض لها ابنه المسيح، فليست حياة المسيح ومَوته وما لاقى في ذلك من تعذيبٍ سبيلًا لاسترضاء الله، واستنزال عفوِه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسَرُ من ذلك وأقرب، إنما لاقى المسيح ما لاقى إعلانًا لِما يُكنُّه قلبه من حُب الله، عسى أن يُثير في الناس عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فيُعيدهم إلى طاعة الله.
أما برنارد هذا فلا يتطلَّب من الإنسان إلا الورع والتقوى، وهو لا يُحارب في تحصيل العلم والمعرفة، ولكن على أن يكون الشعور هو السبيل إليها. ويرى برنارد أنَّ هناك طرقًا ثلاثًا للوصول إلى الحقيقة الإلهية: الأولى بواسطة العقل، وذلك مُستحيل ما دام الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فهي فوق مقدوره ومُستطاعه. والثانية هي الظن، ولكن ذلك حدْس لا يُغني عن اليقين. والثالثة هي العقيدة، وهي وسط بين العقل والرأي، فهي تنبُع من القلب والإرادة معًا، وفي مُكنتها أن تتنبَّأ بالعلم الذي سيتَّضِح للعقل في نهاية الأمر.
ومهما يكن من أمر برنارد، فقد كان عبقريًّا مُمتازًا آتاه الله كثيرًا من المواهب، فكان غزير العِلم، طلقَ اللسان قويَّ البيان، ثم كان فوق ذلك كله تقيًّا ورعًا، فمن أجل ذلك كله كان شخصيةً بارزة في تاريخ الفكر في العصور الوسطى.
(٤) العصر المدرسي الأرسططاليسي
ليست الفلسفة واللاهوت نقيضَين، ولكنهما في حقيقة الأمر خطوتَين متتابعتَين تُكمل إحداهما الأخرى في تحصيل المعرفة؛ فإنَّ الإنسان يبدأ في تحصيلها باستخدام ملكاته العقلية، ثم يتناول هذا الذي حصَّل فيُمحِّصه بالعقيدة والإلهام، حتى يبلغ به درجةً بعيدة من الكمال واليقين. فليس للإنسان مَحيص عن الوحي يُكمل به قواه الطبيعية الناقصة العاجزة بذاتها عن الوصول إلى الحقائق العُليا.
يرى أكويناس أنَّ الإنسان قد استقى عِلمه عن العالم من مصدرَين: هما العقل والوحي، أما إنتاج العقل فقد بلَغَ الذروة في مؤلَّفات أرسطو، ثم جاء الكتاب المقدَّس بوحيٍ من الله عن الموضوعات التي استعصَتْ على عقول البشر، وحسْبُ الإنسان أن يقرأ ما كتبَه أرسطو وما هو مسطور في الكتب المقدسة ليعلم كل ما هو جدير بالمعرفة.
كان أكويناس مُؤمنًا بكلِّ تعاليم الكنيسة، وكل ما قصد إليه من أبحاثه أن يجد أساسًا عقليًّا لعقائده، وبعبارةٍ أخرى كانت مهمَّتُه أن يُبين العلاقة بين الوحي والعِلم، أو بين الوحي والعقيدة، فكان موقفه في النصرانية موقف الغزالي في الإسلام، وقد ذهب إلى أنَّ العقل والعقيدة يرمِيان إلى غرَضٍ واحد، غير أنَّ كلًّا منهما يسلك طريقًا خاصَّة به، فشأن العلم دراسة ظواهر الكون مُستعينًا بما يستمدُّه من حواسِّه، أعني أنه يعتمد في تحصيل العلم على التجربة الحِسِّية، وعن هذا الطريق — طريق الحواس — يستطيع الإنسان أن يصل إلى معرفة الله وخيره وإرادته وقوته، ولكنه بعدُ معرفة محدودة، ولا بدَّ لها من وحيٍ يُكملها، فبالوَحي يعلم الإنسان ما هو فوق تلك المعرفة التي جاءته من العالم المحسوس، وعلى الوحي تقوم العقيدة التي يجب التسليم بها كما ينبغي أن نُسلِّم بما يُثبته العقل. وإذن فليس العقل والعقيدة ضِدَّين، بل يستحيل أن يكونا كذلك؛ لأن ربَّ الطبيعة هو نفسه ربُّ الوحي وكل ما هنالك من فرق أنَّ العقل وسيلة معرفة الجانب المادي، وأما الوحي فيُعيننا على إدراك الله، باعتباره كائنًا روحيًّا، فالعقل والعقيدة ضروريَّان للإنسان لتتمَّ معرفته وتكمل. غير أنَّ أكويناس يضع العقل في المرتبة الثانية من العقيدة؛ لأنها تسمو على العقل وتفوقُه من أجل أنها تُدرك المعرفة الروحية التي يعجز العقل عن الوصول إليها عجزًا تامًّا.
هكذا نشأ مذهب العصور الوسطى في وسائل المعرفة؛ العقل والوحي، أي العلم والعقيدة. وبناء على هذا المذهب كما صاغَه توماس أكويناس في شكله الأخير، يمكن للإنسان أن يصل إلى الحقائق البسيطة بإحدى طريقَين مُختلفَتين كل الاختلاف؛ بمتابعة البحث العلمي والفلسفي من جهة، وبالرجوع إلى التعاليم المقدسة من جهةٍ أخرى، ومن أمثلة هذه الحقائق البسيطة، وجود الله ووحدانيته وخلود الروح، والحقائق البارزة في نظرية بطليموس عن الكون، وإذن فيمكن للعقيدة والعِلم إلى هذا الحدِّ أن يسيرا جنبًا إلى جنب، أما بقية الطريق فيجب أن تسير فيها العقيدة وحدَها، فلا يُمكننا أن نعلم شيئًا عن تثليث الله، وعن نظرية الخلق، وعن نهاية الحياة الدُّنيا، وعن الخطة التي رسمَها الله للخلاص، إلا بالرجوع إلى الكتاب المقدس. ولو سمِع أرسطو بكل هذه الآراء لعدَّها من الخُرافات، ولكنها كانت في نظر علماء القرون الوسطى حقائق لا تقلُّ عما كان يستطيع العلم أن يُبرهن على صحته؛ لأن الإنسان قد وصل إليها بطريقةٍ هو أشدُّ وثوقًا بها من طريقة العلم.
ويذهب أكويناس إلى أنَّ الله موجود في كل مكان، فهو حالٌّ في كل شيءٍ من غير أن يكون جزءًا من جوهره، وقد تمَّ خلق العالم بإرادة من الله، واحتفاظ الله بالكون ورعايته لنظامه عبارة عن خلقٍ مُستمرٍّ مُتصل، ولكن إذا كان الله هو خالق الكون، وهو القوة التي توجِّه الإرادة البشرية، فليس هو الذي خلق البشر. ويرى أكويناس ما ارتآه أوغسطين من قبل، من أن الرذيلة فضيلة سالبة، وبعبارةٍ أخرى إنَّ الشر خَير لم ينضج، وقد سمح الله بوجود الشرِّ من أجل الخير، ولكنه لم يُرِدْه.
أما موضوع الخلاف بين هاتين المدرستَين فكان هذا: أيهما أشرف مقامًا بين قوى النفس: الإرادة أم العقل؟ أما التوماسيُّون فقد رفعوا من شأن العقل وأحلُّوه منزلةً فوق منزلة الإرادة، وذهب السكوتيون إلى عكس ذلك، فوضعوا الإرادة فوق العقل، وحجَّة التوماسيِّين في تفضيل العقل أن العقل لا يقتصِر على فهم فكرة الخير فحسب، ولكنه فوق ذلك يعرِف ما هو الخير في كل حالةٍ من الحالات، وبتلك المعرفة لناحية الخير يستطيع أن يوجِّه الإرادة في طريقها. إنَّ الإرادة تُجاهد في عمل ما تعلَم أنه الخير، وإذن فهي مُعتمدة على عِلم الخير، أي على العقل؛ لأنه أداة العلم، ولكن مُعارضيهم ينكرون هذا القول إنكارًا؛ لأنه لو صحَّ لذهبت عن الإنسان كل مسئولية أخلاقية، ولكان مُجبرًا؛ لأنَّ الإرادة على هذه الحال تكون خاضعة للعقل، لا تملك من أمرها شيئًا. إنَّ المسئولية الأخلاقية أساسُها أنَّ العقل لا يستطيع أن يضطر الإرادة أو يُجبرها على هذا السلوك أو ذاك، ومهمة العقل لا يجوز أن تزيد على أن يعرض أمام الإرادة حالاتٍ مختلفة، ولها أن تختار من بينها ما تشاء.
ولم يقتصِر الخلاف بين المدرستَين في موضوع الإرادة والعقل على الدائرة السيكولوجية في الإنسان، ولكنه اتَّسع حتى شمل الله، وأصبح الخلاف أيهما أقدم وآصَل، إرادة الله أم عقله، وفي ذلك يعترِف توماس أكويناس وأتباعه بحقيقة الإرادة الإلهية، ولكنهم يعتبرونها نتيجة ضرورية لازمة للعقل الإلهي، إنَّ الله لا يخلُق إلا ما يعلم بحِكمته أنه الخير، أي أن علقه يُفكر أولًا، والإرادة تعمل ثانيًا، وإذن فالإرادة الإلهية يحدُوها ويُسيرها العقل الإلهي. أما دَنْس سكوتس وشيعتُه، فيرَون في هذا المنظر تحديدًا لقوة الله التي يجب أن تكون مُطلقة من كل قيد، وأن يكون سُلطانها مُطلقًا لا يقِف دونه شيء. إن الله حين خلق العالم لم يخلُقه إلَّا بإرادته وحدَها، وكان يستطيع أن يخلُقه في أية صورةٍ شاء، وفي إمكانه اختيار هذه الصورة أو تلك، لا يُملى عليه شيء خارج إرادته.
ثم لم يقِف اختلاف المدرستَين عند ذلك، بل تعدَّاه أيضًا إلى الأخلاق، فالمدرستان مُتَّفقتان على أن القانون الأخلاقي مفروض على الناس من الله فرضًا، ولكن التوماسيين يذهبون إلى أنَّ الله قد أمر بالخير لأنه خير، وهو خير لأنَّ حِكمته ارتأت ذلك، في حين يرى السكوتيون أن الخير قد أصبح خيرًا لأنَّ الله قد أراد له أن يكون كذلك، فقبل أن يأمر به الله لم يكن الخير خيرًا، ثم اكتسب خيريَّتَه بعد إرادة الله، ومعنى ذلك أنَّ التوماسيين يرَون أن الواجب أو الأخلاق نظام مُعيَّن يمكن للعقل أن يُدرِك أسُسه وقواعده. أما السكوتيون فيذهبون إلى نقيض ذلك؛ حيث يقرِّرون أن العقل عاجز كلَّ العجْز عن تحصيل عِلم الخير؛ لأن معرفته لا يمكن أن تكون إلا بالوحي والإلهام.
وهذا بعَينه ما كان من الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في القرن الثاني الهجري وعبَّروا عنه بالحُسن والقُبح، هل حُسن الأشياء وقُبحها ذاتيَّان يمكن العقل إدراكهما أو هما شرعِيَّان لا يُدرَكان إلا بالشرع؟
•••
(٥) نهضة الفلسفة
نهض الإنسان من رقْدته وحطَّم أغلاله التي غُلَّ بها طوال العصور الوسطى، وأطلق فِكره حرًّا يستطلع أسرار الطبيعة، ويستجلي أوجه الحياة؛ لعلَّه يجد نفسه، ويُحقق وجودَه بعد أن أنفق قرونًا وهو همل، لا يُحسُّه الوجود، ولا يكاد يُحس الوجود. فتعدَّدت نواحي النشاط في الإنسان، وتنوَّعت ألوان تفكيره، وأخذ يتعقَّب المعرفة وينشدُها لا من أجل الكنيسة ورجالها، ولكن ليظفَر بالمعرفة لذاتها.
ولم تكن هذه النهضة الفكرية حادثةً مُباغتة جاءت عرضًا بغَير تمهيد، إنما هي نتيجة طبيعية لثلاث حركاتٍ كُبرى شهدتها أوروبا وهي: بعْث الآداب القديمة، والإصلاح الدِّيني، ونشأة العلوم الطبيعية. وليست هذه الشُّعَب الثلاث في حقيقة الأمر إلا مظاهر مختلفة لنهضةٍ واحدة شملت أوروبا بأسرها، فبعثَتْها بعثًا جديدًا.
(١) أما النهضة الأدبية فهي ثورة جارِفة عنيفة قصدَت إلى تحرير الحياة مما أصابها إبَّان العصور المُظلمة من عُقمٍ وجمود، وأرادت أن تُنهض العقل من عثاره، وأن تنفخ فيه روح الحُرية والحياة والنشاط، فالتمَسَت له غذاءً في آداب اليونان والرومان، وانكبَّ الناس عليها انكبابًا واستوعبوها دراسةً وبحثًا.
(٢) وساير النهضة الأدبية في خطاها حركة إصلاح في الدين نبتَت بذورها في ألمانيا، ثم ذاعت منها في سائر الأرجاء، وانتهت بالناس إلى الثورة على الكنيسة وسُلطتها، ووجوب حُرية الفرد واستقلاله في الرأي، وأن يتَّصِل بالله اتصالًا مباشرًا، فلا يحتاج في توبتِه إلى وساطة راهبٍ أو قسِّيس. فلم تعُد بالناس حاجة إلى رجال الدين يتوسَّطون بينهم وبين ربِّهم ما دام الإنجيل قد تُرجِم إلى لُغاتهم التي يفهمونها، وما دامت المطبعة التي كان قد تمَّ كشفُها حديثًا تعمل على نشْر كتاب الله وذيوعه نشرًا استطاع معه الزارع الحقير أن يقرأ بنفسه الإنجيل، وأن يستوعِبَه ويحتكِم إليه.
أينع العلم وازدهر، وأنتج طائفةً قيمة من النظريات الجديدة والمُخترعات — كالطباعة، والبوصلة، والمِجهر — فكانت أكبر عون للإنسان على إزاحة نَير الفلسفة المدرسية عن عاتقه المكدود، واتَّخَذ العصر الجديد أساسًا جديدًا للبحث هو «التجربة» والملاحظة، وقد كان «ديكارت» و«بيكون» أول من صاح بالناس هذه الصَّيحة التي جذبَتْ أنظارهم إلى ملاحظة الطبيعة، ونبَّهَت أذهانهم إلى اتخاذ «التجربة» وسيلةً للبحث والتحقيق، فلا ينبغي للإنسان أن يقبل شيئًا ممَّا يُفرَض عليه دون أن يخبُرَه بمِخبار العقل ويتثبَّتْ بالتجربة. وكان طبيعيًّا أن يتنازَع الدين الذي يأمُر الإنسان بالتسليم، والفلسفة التي أصبحت لا تقنَع بغير التجربة، ولكنه نزاع لم يدُم طويلًا؛ إذ تركت الفلسفة للاهوت عِلم الغيب وشئون اليوم الآخر غير المحسوس؛ لأنَّ ذلك خارج عن نطاق بحثها، وقصرَتْ مجهودها على هذه الطبيعة وحدَها. فإن كان عمل الدين أن يتحدَّث عن الغَيب كما يبدو في كتابه المقدس، فإن عمل الفلسفة أن تدرُس كيف يتجلَّى الله في الطبيعة المحسوسة، وهكذا بدأت العلوم الطبيعية صوفية النزعة مُتأثِّرة بالأفلاطونية الحديثة، فهي العالم كله وحدة إلهية، أو هو كائن حيٌّ عظيم، الله مبدؤه ومُنتهاه.
(٥-١) برونو (١٥٤٨–١٦٠٠م)
قرأ برونو فيما قرأ ما كتَبه كوبرنيك في الفلك، فألفاه يميل في جُملة رأيه إلى اعتبار الكون محدودًا في مكان، فلم يُرضِه منه هذا الرأي، ونهض من فوره ينشُر في الناس مذهبه الفلسفي الذي أساسه أنَّ المكان لا نهائي، وتتحرَّك فيه أجرام لا عدد لها ولا حصر، وما دام في الكون عدد عديد من الشموس، يدور حولها من الكواكب ملايين وملايين، وكلها يتألَّف من نفس المادة التي تتكوَّن منها هذه الأرض التي نعيش فوق ظهرها، فمن الخطل أن يحسَب الإنسان أن هذه الأرض، أو هذه الشمس للكون الذي يستحيل عقلًا على أن يكون له حدود ينتهي عندها، هذا وإنَّ الكون وحدة مُتَّصِلة لا تنفصل فيها أرض عن سماء، كما ذهب الظنُّ بالناس طوال القرون الوسطى، فكل شيء في الكون وحدة مُتصل بكلِّ شيء ونفس القوة التي تعمل هنا هي القوة التي تُشرِف هناك.
إذن فهذا الكون اللانهائي المُتَّحِد تُشرف عليه قوة لا نهائية واحدة لا تختلف في مكانٍ عنها في مكانٍ آخر، ومجموع هذا الكون بكلِّ ما فيه هو الله، فالله هو مصدر كلِّ شيءٍ وسبب كل شيء. الله هو الكون وهو في الوقت مُنشِئه ومُكوِّنه، وكل شيء في الوجود — إنسانًا وغير إنسان — مرآة صافية مجلوَّة تنعكِس فيها صور العالم بعُنصرَيه: عنصر العقل وعنصر المادة، وكل ذرَّة بالغةً ما بلغَت من الدقَّة والصِّغر تُمثل الله، وتعلن عن وجوده بظهوره فيها، وهي جسدية وروحية في آنٍ واحد — لأنها صورة من الله — وإذن فهي خالدة تستعصي على الفناء، وكلُّ شيءٍ في الوجود يتبع في سَيره ومسلكه قانونه الخاص به، وهو في نفس الوقت يسير وفق قانونٍ عام ينتظم العالَم بأسره، كما يدور الكوكب حول محوره وحول الشمس في وقتٍ واحد.
العالم كله كائن حي، تتغلغل الروح العالمية في كلِّ جزءٍ منه. ويُنكر برونو أشدَّ الإنكار أن يكون جزء واحد في الوجود بغَير روحٍ وحياة وإحساس، ولا شكَّ أن هناك ينبوعًا فيَّاضًا تتدفَّق منه الألوان المختلفة من المخلوقات، كما تنبعِث الأشعَّة من الشمس، وإليه تعود كلها مرة ثانية، فالله كلٌّ مُمثَّلٌ في الأجزاء، هو حالٌّ في نجم النبات الضئيل وهو في حبَّة الرمل الصغيرة، بل وفي الهباءة السابحة في شعاع الشمس، حلوله في الكون كله باعتباره وحدةً مُتصلة لا مُتناهية.
فليست طبيعة العالم في رأي برونو إلا هذا الاتِّساق المُنسجِم بين أجزائه، والانسجام هو أخصُّ خصائص الكون، ومن يستطيع أن يُدرك هذا الاتساق بين أجزاء الكون، وأن يفهمه على وجهه الصحيح، تلاشَتْ أمام عينَيه عيوب الأجزاء التفصيلية في جمال «الكل»، وإنَّ من يشكو من قُبح العالم أو نقصِه لَعاجِز أن يسموَ بنفسه، بحيث يرى «الكل» في انسجامه واتِّساقه. والعالم كامِل لأنه هو حياة الله، فلا يجوز أن يشوبَه شيءٌ من نقْص. وواجب الفلسفة وغايتها ينحصران في كشف هذا الانسجام التامِّ بين المادة والصورة، وينبغي ألا تكون عبادة الفيلسوف وديانته إلا في تسريح الطرف في جمال الطبيعة الخلَّاب، فاعبد الله بالنظر في هذا الكون الذي ترى.
(٥-٢) بُوْهَمه Böhme (١٥٧٥–١٦٢٤م)
ولد من أبوين فقيرَين، وكان في طفولته يرعى الماشية، فلمَّا شبَّ صار حذَّاء يُصلح النعال البالية، ولكنه امتاز منذ صِباه بالتواضُع والتقوى وخشية الله، وكان لا يقرأ من اللُّغات إلا لغة قومِه، ولم يكن يُطالع من الكتب إلا الإنجيل، وقليلًا من كتُب المُعاصرين والأسلاف، كان بينهما ما كتبَه كوبرنيك في نظام الكون، فذهب معه إلى ما ذهب إليه من استحالة أن تكون الأرض أو أن يكون الإنسان مركزًا لهذا الكون العظيم، فليس الإنسان في مُحيط الوجود إلَّا قطرة يسيرة.
وقد خالف بوهمه أولئك الذين يزعمون أنَّ طبيعة الله وحدة مُتشابهة لا يداخلها شيءٌ من تبايُنٍ أو خلاف، ويرى أنَّ الله هو أساس التنوُّع والاختلاف بين أنواع المخلوقات المُتضاربة المتنافِرة، فالوحدة الإلهية فيها عنصران مُتضادَّان مُختلفان، وكل شيء في الوجود له ضِدٌّ ونقيض، ولمَّا كان الله هو عِلة كل شيء، لزِم أن يكون في طبيعته هذان الجانبان المُتناقضان، ففيه الشر إلى جانب الخير، ولكنه شرٌّ وُجِد ليكشف عن الخير كما يكشف الإناء المُعتم ضوء الشمس اللامع، فبغير الشر يستحيل أن يكون هنالك في الوجود حركة أو حياة؛ إذ كانت تنطمس معالم الأشياء التي تُميِّز بعضها من بعض، وكان يستحيل الكون كلُّه إلى وحدة مُتشابهة رتيبة.
وهذا التضادُّ بين عنصري الله قد جعلا منه المجرَّد والمحسوس في وقتٍ معًا، ولولا تلك الإثنية في طبيعة الله لما خُلق هذا العالم المادي الذي نعيش فيه.
(٥-٣) مونتاني Montaigne (١٥٣٣–١٥٩٢م)
نظر مونتاني فإذا بالحواسِّ مخطئة فيما تنقل إلى صاحبها من ألوان المعرفة، فهي لا تبعَث على اليقين، ولا تُقدِّم إلينا من الحقائق ما نقطع بصحَّته ونركن إليه ركونًا مُطمئنًا، وهي عاجزة أن تكشف لنا عن طبيعة الكون عجزًا يكاد يكون تامًّا، وليس في مَقدور الإنسان أن يصِل عن طريقها إلى قانون طبيعي يتفق على صحَّته الناس جميعًا. فلكلِّ فرد نظرة إلى العالم بغَير أن تُسفِر هذه النظرات المختلفة عن معرفةٍ يقينية يُقرُّها الجميع، هذا وليس العقل البشري بأحسن من الحواسِّ حالًا، فهو ضعيف أعمى، وعلمه خدَّاع يعتمِد على التقليد، وإذن فليس حقيقًا أن يُتَّخذ سبيلًا إلى المعرفة المؤكدة الثابتة.
الحواسُّ مخطئة والعقل خدَّاع، فلا مَحيص للإنسان عن الشكِّ والارتياب، وأقلُّ ما يتمتع به الشاكُّ الحرية المُطلقة من قيود التقاليد. وهكذا كان مونتاني داعيةً إلى الشكِّ بين قومه، فلكل إنسانٍ الحق في أن يفكر لنفسه، وأن يتَّخِذ من نفسه حَكمًا لنفسه، لا سُلطان عليه ولا رقيب.
وجاء فردريك الثاني سنة ١٢١٥م، واتَّصل بالمُسلمين اتصالًا وثيقًا في صقلية وفي الشام في حروبه الصليبية، واقتبس كثيرًا من آرائهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد وصفَه المؤرخون بأنه كان يُعجَب بفلاسفة المسلمين، وكان يعرِف اللغة العربية، ويستطيع أن يقرأ بها الكتُب الفلسفية في مصادرها الأصلية. وأنشأ سنة ١٢٢٤م مَجمعًا في نابلي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعِبرية لنشرِها في أوروبا. وبفضل فردريك ذهب «ميكائيل سكوت» إلى طليطلة، وترجَم شروح ابن رشد على أرسطو، وقبل ذلك كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتُب ابن سينا، واستُعمِلت في باريس حول سنة ١٢٠٠م.
وفي القرن الثالث عشر كانت كلُّ كتب ابن رشد تقريبًا قد تُرجِمت إلى اللاتينية ما عدا كتبًا قليلة، منها: كتاب تهافُت التهافُت الذي ردَّ به على تهافُت الفلاسفة للغزالي، فقد تُرجِمت في القرن الرابع عشر.
وكان أهم مركز لتعاليم ابن رشد في جامعة بولونيا وجامعة بادوا Padua في إيطاليا، ومنهما انتشرت هذه الثقافة في إيطاليا الشمالية الشرقية إلى القرن السابع عشر، واستمرَّت كتُب ابن سينا في الطب سائدةً إلى ما بعد هذا العصر.
ورجال النهضة الحديثة الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية كانوا يدرسون على هذه الكتب، أو يتتلمذون لمن درَسوا عليها، فروجر بيكون الذي سبق أهل زمنه في معارفه وطريقة بحثِه أخذ ثقافته العلمية من الأندلس، ودرس فلسفة ابن رُشد، والقسم الخاص من كتابه في البصريات Optics مُستمدٌّ ومُساير لكتاب ابن الهيثم في هذا الموضوع نفسه.
وطالما ارتفعت شكوى رجال الدين المسيحيين في الأندلس من أن المسيحيين يدرسون عِلم العرَب المسلمين، وعابوا مطران إشبيلية؛ لأنه درس فلسفة الكافرين؛ يعنون المُسلمين. وعلى كل حال، فجُملة الأمر ما لخَّصه الأستاذ لِكي Lecky خير تلخيصٍ إذ قال:
«لم تبدأ النهضة الفكرية في أوروبا إلَّا بعد أن انتقل التعليم من الأديرة إلى الجامعات، وإلا بعدَ أن حطَّمَت العلوم الإسلامية، والأفكار اليونانية، والاستقلال الصناعي، سُلطان الكنيسة.»