الفلسفة الحديثة
رأيْنا أن وجهة الفكر في القرون الوسطى كانت دينيةً محضة، وكان الدِّين هو الذي يُحدد أغراض العِلم ويسنُّ نظم البحث، وكان البحث الفلسفي إنما يدور حول الآخِرة وعالم الغيب، حتى إذا كانت عوامل النهضة والإحياء دعا داعي الثورة والانقلاب، فاشتدَّ الهَياج على النظام الموجود، والمبادئ القائمة، وزاد سُخط الناس على ما لدَيهم من عقائد عتيقة، فأُعلنت الحربُ على كل نوع من أنواع السلطات، وطُولِب بحرية الفكر، وأصبح الحق في نظر الناس ليس ما اعتُبَر حقًّا منذ قرون، ولا ما قال عليه فلان إنه حقٌّ سواء كان القائل أرسطو أو غيره، إنما الحقُّ ما بُرهِنَ لي عليه، واقتنعتُ بكونه حقًّا، وبدَتْ طلائع الفلسفة الحديثة التي كانت في أول عهدها أميَلَ إلى الاتجاه نحو الطبيعة، وانصرف الفكر الحديث — بدافع الروح اليونانية — إلى الطبيعة وعلومها ينظُر نظرًا غير مُتحيِّز، وقَوِيَت الرغبة في تعرُّف العالم من جديد.
هذا ولم تكن الفلسفة الحديثة طبيعية فحسْب، بل كانت فردية كذلك؛ فقد كان من خواصِّها لفْت عقل الفرد وتحريره من رِقِّ رجال الكنيسة، وكان من أغراض الحركة الحديثة تقرير حقِّ الأفراد في الحكم على الأشياء، فلكلِّ فردٍ أن يبحث وينتقِد غير مُقيدٍ ذلك بأية سلطة خارجية. ومعنى هذا كله أن النهضة الفكرية قرَّرت أن يكون لعقل الفرد القول الفصل، وعلى هذا الأساس قامت الفلسفة الحديثة، وكان أول من حمَل لواءها «بيكون» و«ديكارت».
اتفق هذان الفيلسوفان في الغرَض، ولكنهما اختلفا في الوسيلة المؤدِّية إليه، فبينا يذهب بيكون إلى أنَّ المصدر الوحيد للحقائق هو ملاحظة العالم الخارجي وتجربة ظواهره، إذا بديكارت يعترف بأن يكون العقل مَعِينًا تتدفَّق منه المعرفة إلى جانب العالَم الخارجي الذي ينتقل إلينا عِلمه بالحواس، وكان بذلك بيكون مُؤسِّس الفلسفة التجريبية، كما كان ديكارت واضع الأساس لفلسفة عقلية جديدة.
(١) المذهب الواقعي في إنجلترا
(١-١) فْرَنْسِس بِيكُون Francis Bacon
شهدت إنجلترا في القرن السادس عشر عصرًا ذهبيًّا زاهرًا بلَغ أوْجَهُ في عصر الملكة إليصابات، إذ لم تكد تُستكشَف القارة الأمريكية حتى تحوَّل مجرى التجارة من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، فارتفع شأن الأمم المُتاخمة لذلك المحيط — إسبانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا — وتبوَّأت في عالم التجارة والمال تلك المكانة الرفيعة التي كانت تنعَم بها إيطاليا من قبل، حينما كانت القارة الأوروبية تتَّخِذ منها ثغرًا يبادل التجارة بينها وبين الشرق.
انتقلت التجارة من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، فانتقلت معها النهضة من فلورنسا وروما وميلان والبندقية إلى مدريد وباريس وأمستردام ولندن، ثم لم تكَدْ تتحطم القوة البحرية الإسبانية سنة ١٥٨٨م حتى تخلَّصت إنجلترا من أقوى منافسيها، فاتَّسع نطاق التجارة الإنجليزية اتساعًا فسيحًا، وخفقَتْ أعلامها على مُتون البحار من أقصى الأرض إلى أقصاها، وأخذت مُدنها تعجُّ بالصناعة وتزخَر، وبدأ ملَّاحوها يطوفون حول الأرض روَّادًا كاشفين. وقد شاء الله ألا يكون نهوض الأمة الإنجليزية في عصرها الذهبي مقصورًا على انتعاش التجارة، وازدهار الصناعة، وارتقاء الملاحة، بل اتَّسَع حتى شمل الآداب التي أينعَتْ وبلغت أقصى ذُراها، وناهيك بعصر يتغنَّى فيه بالشِّعر والأدب شكسبير، ومارلو، وبِن جونسون، وسبنسر، وغيرهم عشرات وعشرات من أئمة القلم وأرباب البيان.
في ذلك العصر الزاهر الزاهي، وُلد فرنسس بيكون في الثاني والعشرين من شهر يناير سنة ١٥٦١م في مدينة لندن، من أُسرة كريمة مجيدة، فقد كان أبوه السير نكولاس بيكون يتربَّع في منصبٍ من أسمى مناصب الدولة، وكان نابغًا نابهًا ذائع الصِّيت واسع الشُّهرة، فإن يكن قد خَفَت اسمُه فما ذاك إلا لأنَّ ذِكر ابنه قد طغى عليه، فبدَّدَه في ظلاله كما يقول ماكولي الكاتب الإنجليزي المعروف: فكأنما كانت أُسرة بيكون تسير نحو العبقرية صاعدةً جيلًا بعد جيل، حتى بلغَتْ الذُّروة في فرنسس بيكون. وكانت أمُّه سليلة بيتٍ عريق، حصَّلت من العِلم وأصول الدين قدرًا محمودًا، فأخذت تُرضِع ابنها من رحيق علمها الواسع، ولم تدَّخر وسعًا في تنشيئه وتكوينه منذ نعومة أظفاره لتُخرج منه رجلًا قويًّا. ولمَّا بلغت سِنُّه الثانية عشرة أُرسِل إلى جامعة كامبردج، حيث لبث أعوامًا ثلاثة، ترك الجامعة بعدَها ساخطًا ناقمًا على مادة التدريس، وطريقته على السواء، فقد كرِه ذلك الجدل الفارغ العقيم الذي لا ينتهي في أغلب الحالات إلى شيءٍ ذي غناء، وصحَّت منه العزيمة — وهو ذلك اليافع الصغير — ألا يدَّخِر مجهودًا في إنقاذ الفلسفة من ركودها الذي كان يدنو بها إلى جمود الموت، وصمَّم أن ينقل جذورها من أرض «المدرسيَّة» الجَدبة القاحِلة فيغرسها في تربة أغنى وأخصب، إلى حيث تكون الفلسفة سبيلًا إلى خير الإنسان وسعادته.
ولكنه لم يبلُغ السادسة عشرة من عمره، حتى انخرط في سلك الوظائف السياسية، فعُيِّن في السفارة الإنجليزية في فرنسا، وظلَّ عاملًا بها إلى سنة ١٥٧٩م إذ باغَتَ القدَر أباه فعجَّل بمَوته قبل أن يُنفِّذ ما كان اعتزمه من توريث ابنه فرنسس ضَيعة من أرضه تكفُل له اليُسر والثراء، فما سمِع بيكون بفجيعته في أبيه حتى عاد مُسرعًا إلى لندن، وكان لا يزال في عامِه الثامن عشر، وهنالك ألفى نفسه وحيدًا بين اليُتم والعُدم، وهو ذلك الناعم الذي نشأ بين أحضان الترَف، فعزَّ عليه أن يُروِّض نفسه على خشن العيش، والتمس في أعمال القضاء سبيلًا للحياة، وألحَّ في الوقت نفسه على ذوي السلطان من أقربائه أن يُهيئوا له عملًا في إحدى مناصب الدولة السياسية، لعلَّها تُزيح عن كاهله عبء الحياة الذي ثقُل حتى أبهظه وأعياه.
مضى إسكس فيما هو ماضٍ فيه، ساخطًا على بيكون أشدَّ السخط لهذا الجحود المُنكر، ولكن مؤامرته فشلت وقُبض عليه، ثم أُطلق سراحه، فحشد جيوشًا مسلحة، وسار بها إلى لندن، وحاول أن يُشِبَّ الثورة بين أهلها، وهنا خاصمَه بيكون خصومةً عنيفة، وأخذ يقاومه ويُعارضه ويؤلِّب عليه القوم، فاندحر إسكس وقُبض عليه للمرة الثانية، وكان بيكون قد تربَّع في منصبٍ كبير في القضاء، فلم يتردَّد في اتهام الرجل الذي أكرمه وأحسَنَ إليه حتى حُكِم عليه بالموت.
وكان موقف بيكون هذا قد أثار في نفوس قومه نِقمة عليه وكراهية له، وكانوا جميعًا يتربَّصون به الدوائر، ويَصبُّون عليه السُّخط والغضب، ولكنه ازدرى بالناس، ومضى غير عابئ بما تُكنُّه له صدورهم من غل، وأخذ يروح ويغدو بين مظاهر العظمة التي أُغرِم بها، فأسرف فيها إسرافًا أدَّى به إلى الاستدانة، حتى سِيق آخِر الأمر إلى السجن وفاءً لدَيْن عجز عن وفائه، ولكنَّ نجمَه رغم ذلك كلِّه أخذ في الصعود حتى ظفِر بأعلى مناصب الدولة وأرفعها مقامًا.
وقد شاء القدر لهذا الرجل الذي وضَع أساس المذهب التجريبي أن تكون التجربة آخِر مشهدٍ له في حياته الزاخرة، فقد حدَث في شهر مارس من سنة ١٦٢٦م، أن كان مسافرًا من لندن إلى إحدى المدن القريبة، فأخذ يُفكر تفكيرًا عميقًا في إمكان حفظ اللحم من التعفُّن بتغطيتِهِ بالثلج، وأراد رجل التجربة أن يُجرِّب ذلك بنفسه، فنزل من عربته عند كوخٍ صادَفَه في بعض الطريق، وابتاع منه دجاجةً ذبَحَها وملأها بقطعٍ الثلج ليرى كم تعيش الدجاجة دون أن يُصيبها الفساد، وبينا هو مُشتغِل بذلك إذ داهمه مرَض مُفاجئ أعجزه عن أن يعود إلى لندن، فنُقل إلى منزل مجاور لأحد الأثرياء، حيث رقد رقدةَ الموت، وقد كتَبَ على سرير الموت هذه العبارة: «لقد نجحَتِ التجربة نجاحًا عظيمًا.» وكان ذلك آخِر ما خطَّه قلمُه، ثم أسلم الروح في التاسع من أبريل سنة ١٦٢٦م وهو في الخامسة والستِّين، وقد كتَب هذه الجملة قبل موته: «إنني أضع رُوحي بين يدي الله وليُدفَن جسدي في طيِّ الخفاء، وأما اسمي فإني باعِثٌ به إلى العصور المُقبلة وإلى سائر الأمم.»
وها هي العصور والأمم قد تقبَّلت اسمَه بالتمجيد والتخليد.
(١) مقالات بيكون
صعد بيكون في مناصب الدولة منصبًا بعد منصبٍ حتى بلغ أوْجَها، فكاد يُحقِّق بهذا حلم أفلاطون عن الملك الفيلسوف الذي يجمع في شخصِه الفكر والسلطان جميعًا؛ ذلك لأنه بينما كان يرقى في المناصب السياسية كان كذلك يرقى في فلسفته حتى بلغ منها أرفع الذُّرى، فالتقى فيه الطرفان اللذان تمنَّى أفلاطون أن يلتقِيا يومًا في إنسان، وهما المعرفة والنفوذ. وإنه لعجيبٌ حقًّا أن تتَّسِع حياة هذا الرجل الزاخرة الصاخبة لما أنتجَه من عِلمٍ وافِر وأدبٍ غزير. فليس هينًا ولا يسيرًا أن تُوفِّق بين حياة الفكر والتأمُّل التي لا بدَّ لها من الفراغ والهدوء، وبين الحياة السياسية التي تقتضي صاحبها أن يخُوض غمار الحياة العملية بكلِّ ما فيها من صخَبٍ وضجيج، ولكن بيكون قصد منذ أول الأمر إلى الحياتَين معًا، فأراد أن يكون كما كان «سِنِكا» فيلسوفًا ورجلًا من رجال السياسة أيضًا، على الرغم من خَوفه أن يَحُدَّ هذا من ذاك فيُقصِّر في كليهما على السواء. ولبث يتردَّد حينًا أيهما يُؤثِر: أيُؤثِر حياة العُزلة والتأمُّل، أم يؤثِر الضرب في معمعان الحياة العملية؟ وتساءل: ألا يستطيع أن يمزِج بين الحياتَين؟ ولكن موقف التردُّد لم يطُل، فقد أيقنَ يقينًا ثابتًا لا يتزعزع أنَّ مِن السُّخف أن تكون الدراسة النظرية غايةً في نفسها، وأن تكون حِكمتها محصورة فيها؛ لأنَّ العلم الذي لا يجِد طريقه إلى التطبيق العَملي ليس إلا عبثًا وغرورًا. وفي ذلك يقول بيكون في مقاله «في الدراسة» ما يأتي: «… أما أن تُنفِق في الدراسة (النظرية) وقتًا طويلًا فضربٌ من الخمول، وأما أنْ تزدان بها فحُبٌّ للظهور، وأما أن تصدُر في رأيك عن قواعدها وحدَها دون غيرها، فذلك جانب الطرافة من العالِم … إنَّ الدراسة (النظرية) لا تعلم كيفية استخدامها؛ إذ استخدامها حكمة خارجة عنها، وهي خير منها، وتُكتسَب بالملاحظة.» ولعمري إنَّ هذه الأسطُر القليلة التي جرى بها يَراع بيكون لصَيحة داوية تضع حدًّا للفلسفة المدرسية؛ لأنها تُنادي بالتفرِقة بين العِلم واستخدامه، وهي ترفع من شأن الملاحظة والنتائج العملية للدراسة العلمية، وتلك سِمةٌ تُميز الفلسفة الإنجليزيَّة تمييزًا واضحًا. وضَع أساسها بيكون، وما انفكَّت تتَّسِع وتزداد حتى بلغت نهايتها في فلسفة البراجماتزم في العصر الحديث. ولكن هذه الدعوة إلى التجربة العملية التي صاح بها بيكون ليسَتْ تعني أنه رغِب عن الكتُب، وانصرف عن حياة التأمُّل، بل بقِيَت الدراسة والتفكير مَوئله الذي يلجا إليه الحِينَ بعدَ الحِين، فاسمع إليه كيف يقول في مُقدمة كتاب «حكمة القدماء»: «إنني لا أُطيق الحياة بغَير فلسفة.» ثم اقرأ هذه العبارة التي يصِف بها نفسه: «إنني رجل خُلِقتُ أقربَ إلى الأدب منِّي إلى أي شيءٍ آخر.»
(٢) أساسه الجديد في البحث
كانت الفلسفة طوال القرون الوسطى تقوم على أساسٍ خطأ لا يمكن أن يؤدي إلى علمٍ جديد، فقد اتخذت القياس المنطقي سبيلًا لتأييد المذاهب والآراء، (والقياس المنطقي وسيلةٌ عقيمة في كثيرٍ من وجوهه؛ لأنك مُضطر أن تُسلِّم بمُقدماته تسليمًا لا يجوز فيه الشك)، فمهما أمعنتَ في البحث والاستنتاج فأنت محصور في حدود المقدمات التي سلَّمتَ بها بادئ بدء، فإذا أُريد الإصلاح وانتشال الفلسفة من الهوَّة التي تردَّت فيها، فلا بدَّ من ثورة تهدم أسلوب البحث العتيق البالي، لهذا نهض بيكون ووضع أساسًا جديدًا للبحث كانت أولى خُطاه الملاحظة والتجربة، وقد اشترط فيهما أن تُستَخدَما في بطءٍ شديد، وحذرٍ شديد، والبطء والحذَر هما أبرز ما يَطبع بيكون بطابعه الخاص الذي يُميِّزه من أسلافه في العصور الوسطى والقديمة، فكثيرًا ما بدأ الفلاسفة بالملاحظة، ولكنهم كانوا يفسدون هذا البدء الصحيح بالتسرُّع بأن يقفزوا من ملاحظة الجزئيات إلى الأحكام الكلية العامة قفزًا لا يحتاطون فيه بالحذَر، فقد كانت تكفيهم مجموعةٌ قليلة من الأمثلة التي يستجمِعونها بالملاحظة ليُقيموا على أساسها ما شاءوا من نظرياتٍ فلسفية عامة، أما بيكون فيُحذِّر الناس ويوصيهم بالأناة والصبر، فلا يبدءون في مرحلة التعميم إلا إذا جمعوا من الأمثلة الجزئية أكبر عددٍ مستطاع.
أراد بيكون أن يضع للعقل الإنساني خطة جديدة يسير عليها، ولكنه قبل أن يُقوِّض الأطلال القديمة ليُقيم في مكانها بناءه الجديد، عمَدَ إلى تطهير العقول من كل ما يشوبها من تعصُّب وجمود، فإنْ أردنا أن نفكر تفكيرًا سليمًا، وأن نبحث بحثًا منتجًا صحيحًا، فلا بدَّ أن نتخلص من هذه الأخطاء والأوهام الباطلة التي تحُول دون سلامة التفكير.
(٣) الأوهام الأربعة Idols٢
- (١) أوهام الجنس Idols of the race.
- (٢) أوهام الكهف Idols of the cavs.
- (٣) أوهام السوق Idols of the market-place.
- (٤) أوهام المسرح Idols of the Theatre.
(١) ويريد بأوهام الجنس تلك الأخطاء التي غُرِست في طبائع البشر بصفةٍ عامة، فقد يزعُم الإنسان باطلًا أنه مقياس الحقائق بما يملك من إدراك حسِّي وإدراك عقلي، والواقع أنَّ ما يُدركه الإنسان بعقله وحواسِّه ليس إلا صورة لنفسه أكثر منها تصويرًا للكون الخارجي «فليس العقل كالمرآة الصافية التي تعكس صوَر الأشياء كما هي تمامًا، ولكنه كالمرآة المُلتوية التي تمزج صورة نفسها بصورة الأشياء التي تُصدرها فتُصيبها بالفساد والتشويه.» ومن أخطاء العقل البشري التي جُبِل عليها مَيْله أن يفرض في الأشياء درجةً من النظام والاطراد أعظم ممَّا هي في الواقع، مثال ذلك أنَّ الإنسان لا يكاد يرى الكواكب تعود فتبدأ سَيرها من حيث انتهت، حتى يفرض أن أفلاكها دوائر كاملة، وأنها تسير فيها سيرًا منتظمًا، كذلك من أخطاء العقل المطبوعة فيه أنه إذا سلَّم بصحَّة قضية ما — سواء كان تسليمه تقليدًا لعقيدة شائعة أم من أجل فائدة ينالها من صحَّة هذه القضية المعينة — فإنه يحاول أن يرغِم كلَّ شيءٍ آخر أن ينهض دليلًا على صحَّة قضيته تلك، فإن صادَفَه من الأمثلة الكثيرة ما يدلُّ على خطئها دلالة واضحة قاطعة، فإنه إما أن يُهملها أو يُصغِّر من شأنها أو يرفُضها في تعصُّبٍ ذميم، فأهون على نفسه رفض الحق من نبْذِ قضيةٍ ركَن إلى صحَّتها واعتقد بسلامتها زمنًا. وهكذا يُسارع الناس إلى ملاحظة الأمثلة والحوادث التي تؤيد آراءهم وعقائدهم ويُهملون أو يتجاهلون كلَّ دليل ينهض على بُطلان تلك الآراء والمعتقدات. فخليقٌ بالإنسان أن يُفكر فيما يؤيد رأيه، وفيما يُعارضه على السواء، حتى يخلص إلى الحق. ويسُوق بيكون مثلًا على ذلك قصة رجلٍ أنكر تأثير النذور فسِيق إلى معبد، وعُرضت عليه عشرات من اللوحات التي علَّقها من أنجاهم الله من الغرَق استجابة لدعائهم ونذورهم، ثم سئل: ألا يعترِف بعد هذه الأمثلة كلها بنفع النذور وفائدة الدعاء؟ فأجاب: «ولكن أين صور أولئك الذين أغرقوا في اليمِّ رغم ما نذروا وما دعوا؟» فلا يكفي عند بيكون أن تعتمِد على الأمثلة المؤيِّدة، بل لا بدَّ أن تُفكر في كل موضوع من الجانب الآخر لترى هل هناك ما يُقوِّضه ويهدِمه. وهنا يتقدَّم بيكون إلى الناس عامة وطلاب العلم خاصة بهذا النُّصح «ليأخذ كلُّ طالبٍ لعلم الطبيعة بهذه القاعدة … وهي: إنَّ كل شيء يتعلق به العقل ويُصِر عليه ويطمئنُّ إليه ينبغي أن يوضع موضع الشك»، «ولا يجوز أن نسمح للعقل بأن يثِبَ أو يطير من الحقائق الجزئية إلى القضايا العامة الشاملة … لا ينبغي أن نُمِدَّ العقل بالأجنحة، بل الأولى أن نُثقله بالأغلال حتى نحُول بينه وبين القفز والطيران.»
(٢) وأما الطائفة الثانية من أوهام العقل وأخطائه، التي يُسمِّيها بيكون أوهام الكهف، فهي تلك الخطة التي يختصُّ بها الفرد. «إن لكلِّ إنسان … مغارة أو كهفًا خاصًّا به يعمل على كسْر أضواء الطبيعة والتغيير من لونها.» وليس هذا الكهف إلا شخصية الفرد التي تكوِّنها الطبيعة والبيئة والتغذية والتربية وسائر العوامل التي تُكوِّن الشخصية. ولمَّا كانت تلك العوامل مختلفةً باختلاف الأفراد، كان لكلِّ إنسانٍ نزعته الخاصة وأخطاؤه الخاصة، فبعض العقول ينزع بطبيعة تكوينه إلى التحليل وملاحظة أوجه التبايُن والخلاف بين الأشياء — كالعلماء والمُصوِّرين — وطائفة أخرى تميل إلى البناء والتركيب — كالفلاسفة والشعراء — فتلاحظ أوجه الشَّبَه بين الأشياء. كذلك نرى فريقًا من الناس يتَّصِفون بالجمود، ويُعجَبون بالقديم إعجابًا شديدًا لا يرضَون عنه من الجديد بديلًا، وآخرين يتقبَّلون كل جديد، ويتحمَّسون له تحمُّسًا قويًّا، وقليل من الناس هم الذين يستطيعون أن يقِفوا موقف التوسُّط والاعتدال، فيُبقوا على القديم الصالح، ولا يرفضوا الجديد النافع؛ إذ الحقيقة لا تعرف تحزُّبًا ولا تعصُّبًا. ومن أمثلة أوهام الكهف أيضًا ما تُخلِّفه مهنة الشخص في نفسه من الميول والنزعات التي تحصُر تفكيره في حدود مِهنته الضيِّقة.
(٣) وأما أوهام السوق فهي تلك التي تنشأ «من التجارة واجتماع الناس بعضهم مع بعض؛ ذلك لأن الناس يتبادلون الحديث باللغة التي صِيغت كلماتها وفقًا لعقلية السُّوقة، فنشأ من سوء تكوينها ومن عجزها تعطيلٌ شديد للعقل.»
(٤) وفي العقل فوق ذلك كله أوهام قد انحدرت إليه من مذاهب الأقدَمين وعقائدهم، وقد أطلق بيكون على هذا الضرْب من الأخطاء اسم أوهام المسرح، مُشيرًا بذلك إلى أنَّ الأنظمة الفلسفية التي يتلقَّاها كل جيلٍ عن أسلافه ليست إلَّا روايات مسرحية تُمثِّل أكوانًا خلقها الفلاسفة بفِكرهم خلقًا كما يخلُق الروائي أشخاص روايته وحوادثها، فليس العالم الذي يُصوِّره أفلاطون مثلًا إلا عالمًا بناه هو وصوَّره كما شاء له عقله وخياله، وقد لا يتَّفِق مع الحقيقة الواقعة في شيء.
وبديهي أن هذه الأوهام الأربعة قد تجتمع كلها في شخصٍ واحد، وقد تنفرد فيؤثر في الشخص عامل واحد منها أو أكثر. فإذا قلتُ مثلًا «إنَّ الشمس تدور حول الأرض.» وبنَيتُ قولي على ما تدلُّني عليه عيناي، كان ذلك وهمًا جنسيًّا؛ لأني اعتمدتُ على الحواس الخادعة، وخِداع الحواس عامٌّ في البشر، فإن علَّلتُ دورانها حول الأرض بما هو ذائع بين الناس بوساطة اللغة (كطلعتِ الشمس وغربتِ الشمس) كان ذلك وهمًا سوقيًّا؛ لأنه نشأ عن اجتماعي بالأشخاص الآخرين، وإن دلَّلتُ على صحة قولي بما قاله بطليموس في هذا الموضوع، كان ذلك وهمًا مسرحيًّا؛ لأنَّ الخطأ هنا قد جاءني من آراء السالفين، أما إن كنتُ أرى هذا الرأي لأنه يتَّفق مع ما وصلتُ إليه أنا نفسي بعد البحث والتأمُّل، كان ذلك منِّي وهمًا كهفيًّا؛ لأني أنا مصدره.
تلك هي أوهامنا التي تُقيِّدنا بأغلالها فتقعد بنا عن أن ننطلِق خِفافًا أحرارًا في بحثنا وراء الحقيقة، فلا بدَّ إذن من دكِّها وهدمها، ولا بدَّ لنا من تطهير عقولنا وتنقِيَتها من هذه الشوائب، ثم لا بدَّ من أسلوبٍ جديد للتفكير، وأداة جديدة للفهم والبحث «فإن كانت القارة الأمريكية الفسيحة لم تكن لتُستكشَف قطُّ إلا بعد أن عُرِفت البوصلة، فلا عجب ألا يتقدَّم استكشاف الفنون ورقيها تقدُّمًا عظيمًا ما دام فنُّ اختراع العلوم أو كشفها مجهولًا»، «ومن العار أن نرى أصقاع الأرض المادية … قد انفسحت أرجاؤها، ونرى العالم العقلي لا يزال مُغلقًا محصورًا في دائرة الكشف الضيق العتيق.»
(٤) طريقة «بيكون»
- (أ)
القائمة الأولى تُسجَّل فيها الأمثلة المؤيدة، فيُثبَت فيها مجموعة الأمثلة التي تتَّفِق كلها في صفةٍ بعَينها، فإن كان موضوع البحث مثلًا هو «الحرارة» وجَب أن يُسجَّل في هذه القائمة كل ما اتَّصل به عِلم الباحث على اختلاف صنوفها وتبايُن ألوانها، فتُذكَر الشمس والمصابيح وسائر أسباب الإضاءة، ثم تُذكَر الأجسام المُحترِقة كلها، ثم يُذكَر دم الحيوانات والحديد المحمى، وغير هذا. وهذا من آلاف الأشياء الحارة؛ لأنها مظهر للحرارة التي هي موضوع البحث.
- (ب)
ولكن هذه القائمة الأولى وحدَها لا تُغني عن البحث شيئًا؛ لأنها تشتمل على الأمثلة التي تؤكد ظاهرة الحرارة وتؤيدها، ولا بدَّ لنا إلى جانبها من قائمةٍ ثانية لأمثلة تنفي وجود الحرارة، أعني أشياء لا يكون فيها شيءٌ من الحرارة، إذ المعرفة الإيجابية كلها إنما تُستمَدُّ من المعرفة السلبية، ويُعبِّر «بيكون» عن ذلك بعباراتٍ مجازية، فيقول إنَّ كل الضوء مَبعثه الظلام، «وإله الحُبِّ إنما خرج من بيضةٍ فقسَت في ظلام الليل.»
سنضع إذن في هذه القائمة أمثلةً لأشياء لا حرارة فيها على أن يكون بينها وبين أمثلة القائمة الأولى علاقةُ شَبَه، فقد ذَكرْنا في القائمة الأولى مثلًا الشمس كمصدرٍ للحرارة، فنذكُر هنا القمر مثلًا لأشعَّةٍ لا حرارة فيها. وقد ذكرْنا في القائمة الأولى دم الحيوانات الميتة؛ لأنه بارد، وإذن فهو ينفي ما أثبتَتْه القائمة الأولى.
- (جـ)
وليست تكفيك هاتان القائمتان إنْ أردتَ دقةً في البحث، وضبطًا، وإحكامًا في النتائج، بل لا بدَّ من قائمة ثالثة تستخدمها للمُقارنة، فتضع فيها مجموعة من الأمثلة تختلف فيها الظاهرة التي أنت بصدَد بحثها قوَّةً وضعفًا، فتذكر أشياء تقلُّ فيها درجة الحرارة، وإلى جانبها أشياء أخرى تشتدُّ فيها درجة الحرارة لكي تستطيع بمقارنة بعضها ببعض أن تستنبط السبب الذي يدور مع ظاهرة الحرارة كثرةً وقلة.
(٥) سبب الحرارة
كان ممَّا بحثَه «بيكون» على أساس طريقته الاستقرائية سبب الحرارة، وقد ذكرناه فيما سبق كيف أنه أثبت في القائمة الأولى كلَّ الأمثلة التي تظهر فيها الحرارة، وفي القائمة الثانية أمثلة تُشبِهُ التي جاءت في الأولى، ولكنها لا تحتوي حرارة، وكيف أنه ظلَّ يُقصي كلَّ شيءٍ مما يثبت أنه يستحيل أن يكون هو سبب الحرارة لظهوره في بعض الأمثلة، واختفائه في الأمثلة الأخرى، وهكذا حتى وصل في النهاية إلى عِلةٍ واحدة بقِيَت له هي الحركة، فقد هداه بحثُه إلى أن الحركة هي عِلة الحرارة؛ لأنَّ كل شيءٍ حار يكون في حركة دائمة هي التي سبَّبت حرارته، وتختلف حرارة الأجسام باختلاف حركتها زيادة ونقصًا.
بهذه الطريقة عرف «بيكون» كيف يستفيد من الأمثلة التي يجمعها بالملاحظة والتجربة في الوصول إلى النتائج الجديدة. فلم يكن — كما كان القدماء — يجمع الأمثلة ويُكدِّسها في غير نظامٍ كما يُكوِّم النمل طعامه في جحوره بأن يضعه كما هو من غير تبديلٍ ولا ترتيب، ولكنه كان أشبَهَ شيء بالنحل الذي يجمع مادَّة طعامه من هذه الزهرة ومن تلك، ثم يهضمها ويُمثلها لغاية في نفسه يقصد إليها، فيُخرجها آخِر الأمر شيئًا جديدًا.
رأى «بيكون» أن وجهة العلم الجديدة يجب أن تنفض يديها من المُناقشات العقيمة التي كانت تدور حول الكليات، وأن تنصرِف بكل قوتها إلى الأشياء نفسها، فإنَّ العلم لا يقوم بناؤه إلا على الإدراكات الحسِّية المباشرة، ثم ينبغي أن يرتفع بعد ذلك بكلِّ حذَر، وبالتدريج البطيء إلى مرتبة المعقول المجرَّد.
ومن طريقة «بيكون» العلمية استخلص علماء التربية بعض القواعد في تربية الأطفال، فقالوا: إنه يجب أن يسير التعليم من المحسوس إلى المعقول.
هكذا يريد «بيكون» أن نستقصي ظواهر الكون واحدةً بعد أخرى، فنتعرَّف عِلَلها وطبائعها، وهذه الدراسة هي أولى مراتب الفلسفة ونعني بها دراسة الطبيعة.
ولكن لا ينبغي أن نقتصر على عِلم الطبيعة هذا (الفيزيقا)، بل يجب أن ننتقل منه إلى مرتبة الأسباب العُليا والقوانين العامة — إلى ما وراء الطبيعة — إلى الميتافيزيقا، وهي عند بيكون نتيجة للعلوم الطبيعية تجيء بعدَها وتتولَّد منها، فإن كانت «الفيزيقا» تُعلِّمنا أن الحرارة نتيجة الحركة، فإن الميتافيزيقا تُرينا طبيعة الحركة نفسها، وتُبين لنا كيف تتشعَّب الحركة إلى شُعَب مختلفة، فمنها يكون الكون والفساد، ومنها تنشأ الحرارة ويتولَّد الضوء، والميتافيزيقا هي العلم الذي يفرض في الطبيعة عقلًا وتدبيرًا.
ثم يصعد بيكون إلى مرحلةٍ ثالثة أعلى من السابقتَين، فهو يحسُّ أن هذا الكون على تعدُّد ظواهره لا بدَّ أن يكون مُتَّحدًا آخر الأمر يسير كله على قواعد واحدة، فهو يرى أن فوق الميتافيزيقا علمًا أسمى منها هو الذي تنبُت منه كلُّ العلوم على اختلافها، ألا وهو البديهيات التي تكون صحيحة في أي علم. مثال ذلك البديهية القائلة إنه إذا أضيفت أجزاء مُتساوية، إلى أجزاء غير متساوية كانت المجموعات غير مُتساوية، فهذه قاعدة صحيحة في الرياضة، وهي صحيحة في العدد وفي سائر العلوم، وقل مثل ذلك في البديهيات كلها.
تتلخَّص طريقة «بيكون» إذن في هاتَين الخطوتَين: جمع الأمثلة ما أمكن الجمع، ثم تنظيمها وتبويبها وتحليلها وإبعاد ما يظهر منها أنْ ليس له بالظاهرة المبحوثة علاقة عِلة ومعلول، وهكذا يُمكننا أن نصل إلى «صورة» الظاهرة التي بين أيدينا، وصورة الشيء عند بيكون هي قانونه كما سبق القول.
ولا يقف «بيكون» بفلسفته عند حد إيجاد الصور، بل لا بدَّ بعد هذا كله من تطبيق هذا العلم الذي ظفرْنا به على الحياة العملية، فإنَّ المعرفة التي لا تُنتج عملًا تكون مَيتة جامدة ليست خليقة بالإنسان، فنحن نبذُل هذا المجهود في تحصيل المعرفة لا لتكون غايةً في ذاتها، ولكن لنتمكن بمعرفة قوانين الأشياء من تشكيل الأشياء وتوجيهها كما نُحِب ونشتهي. فنحن ندرس الرياضة مثلًا لتكون وسيلة لحساب الكميات التي تقتضي الحياة حسابها، ولكي نستعين بها على بناء الدُّور والجسور وسائر أسباب المدنية، وندرُس علم النفس لعلَّنا بدراسته نستطيع أن نشقَّ لأنفسنا طريقًا سويًّا في المُجتمع الذي نعيش فيه؛ لأن تفاهُم الأفراد يكون على أتمِّهِ حين يفهم الناس بعضهم بعضًا فهمًا صحيحًا. وإذا استطاع العلم أن يكشف لنا عن صور الأشياء كلها أصبحت الدُّنيا في قبضة أيدينا نصُوغها كما نشاء، ونكوِّن لأنفسنا المدينة الفاضلة الكاملة التي ما فتئ ينشُدُها الإنسان منذ صار إنسانًا.
(٦) مدينة العلم الفاضلة
صوَّر «بيكون» في هذا الكتاب جماعة يسيطر عليها العلم، تسكن جزيرة نائية أطلق عليها اسم أطلانطس، وقد شاء له خياله أن يكون موقعها في أقصى المحيط الهادي حتى يبعُد بها ما استطاع عن أوروبا، وحتى يرسل في وصفها الخيال إرسالًا لا يحُول دونه شيء. وهاك القصة مُوجَزة:
لقد أقلعَتْ بنا السفن من «بيرو» آخذةً سمتَها ناحية الصين واليابان، فما احتوتها أمواه المحيط حتى خيَّم السكون، وانبسط سطح الماء صقيلًا كالمرآة، لا تعلو فوق صدرِه موجة واحدة، فبقيت السفائن بضعة أسابيع جاثِمةً لا تهتز، ولا تتحوَّل، حتى كاد ينفد زادُنا، وعندئذٍ انفرجت أطباق السماء فجأةً عن ريحٍ صرصرٍ عاتية عصفَتْ بنا، فدفعت فُلكنا دفعًا عنيفًا، وأخذت تُمعِن بنا ناحية الشمال، وليس أمامنا إلا البحر، وليس وراءنا إلا البحر، والبحر عن يمينٍ وشمال، لا تقع العَين إلا على موجٍ فوق موج، فدبَّ اليأس القاتل في نفوسنا، واستولى علينا الجزَع والفزع، وخشِينا أن نهلك جوعًا، فقلَّلنا من وجبات الطعام إبقاءً على ما بقي في جُعبتنا من زادٍ قليل، وزاد الطين بلةً أن فشا المرَض بين الملَّاحين فرفرف الموت بجناحِه القاتم على السفن ومن فيها، حتى أصبح الفناء منَّا قاب قوسين أو أدنى، وهنا وقعت أبصارنا — في الأفق النائي — على جزيرةٍ زاهية تتلألأ في ضوء الشمس، فتهلَّلت النفوس بِشرًا، وأخذت الفُلك تحبو نحوَها حتى دنَت من الشاطئ، فرأينا جماعةً من أهلها قد احتشدوا يرقُبون هذا الطارئ الجديد. يا عجبًا، إنهم لم يكونوا أجلافًا مُتوحِّشين كما صوَّر لنا الوَهم والخيال، إنما هم يرتدون ملابس بلغَتْ من البساطة والنظافة والجمال حدًّا بعيدًا، ويَلُوح الذكاء المُشتعِل على مَخايلهم. وقد شاءت أخلاقهم الكريمة النبيلة أن يسمحوا لنا بالنزول في أرضهم، والمكث بين ظهرانيهم، على الرغم من أن حكومة بلادهم تُحرِّم الهجرة إليها تحريمًا قاطعًا، ولكن أبَتْ رجولتهم العالية أن ترى المرَض ينشِب أظفاره في الملَّاحين، ولا ترضى بالبقاء حتى يأذن لهم الله بالبرء والشفاء.
نزل الراكبون إلى الجزيرة ريثما تتمُّ لأولئك المرضى العافية، وفيما هم كذلك، أخذ الأصحَّاء منهم يجوبون أنحاء الجزيرة، ويجوسون خلالها فيكشفون فيها كلَّ يوم سرًّا جديدًا من أسرار تلك الأرض العجيبة، أرض أطلانطس الجديدة، وقد حدَّثهم أحد أهليها أنه «كان يسيطر على الجزيرة منذ ألف سنةٍ ملك لا تزال ذكراه مقدَّسة عند الجماعة كلها … واسم ذلك الملك سليمان. وإنما نزل من نفوسنا هذه المنزلة الرفيعة؛ لأنه وضَعَ لأمَّتِنا أساس اجتماعها وقانونها، فلقد كان ذا قلبٍ كبير … ولم يكن يفكر إلا في توفير السعادة لأمَّتِه وشعبه.» ومن أعماله المجيدة، بل لعلَّه أعظم أعماله كلها، إنشاء هذه الهيئة التي نُسميها «بيت سليمان» وهو أرقى ما شهِدته الأرض من نظم.
وما بيت سليمان هذا الذي يُشير إليه الرجل؟ إنه يقوم في أطلانطس الجديدة بما يقوم به البرلمان في لندن، فهو مَقرُّ حكومة الجزيرة، ولكنها حكومة ليس بين أعضائها سياسيُّون، وليس في البلد أحزاب، فلستَ ترى مثل هذه الضجة الصاخبة التي تُلازِم عملية الانتخاب، فالطريق المؤدية إلى أوْج الشُّهرة العلمية مفتوحة أمام الجميع، وليس يظفَر بوظائف الدولة إلا من سار في تلك الطريق من أولها إلى آخِرِها. إنها حكومة الشعب للشعب يُديرها صفوةٌ منتخبة من الشعب، هي حكومة يملك زمامها رجال الفن والمهندسون والفلكيُّون وعلماء طبقات الأرض والنباتيُّون والأطباء والكيماويون والاقتصاديون وعلماء الاجتماع والنفس، ثم الفلاسفة، وهي حكومة لا تصبُّ سلطانها على الإنسان، إنما تُوجِّه حُكمها إلى الطبيعة التي فُرِضت دراستها على الإنسان فرضًا، فرضَها الله الذي «وضع الدنيا في قلوب الناس.» ويعني بهذه العبارة أنَّ الله قد كوَّن عقل الإنسان، بحيث يستطيع تصوير الكون كما تستطيع العين رؤية الضوء. قال مُحدِّثنا: «إن الغاية من حكومتنا إنما هي معرفة الأسباب والحركات الكامنة في الأشياء، وتوسيع نطاق مملكة الإنسان.» وهذه العبارة هي خلاصة الكتاب كله، بل هي حجَر الزاوية من فلسفة بيكون بأسرها، أعني أن يشتغل حكام الدولة بدراسة الطبيعة ليستخدموها لخير الإنسانية ونفعها، فيدرسون أفلاك السماء ونجومها، ويحاولون استخدام قوة الماء الساقطة في إدارة الأرحاء، ويدرسون ما ينتاب الإنسان من أمراضٍ وكيفية الوقاية منها، ويبحثون في استنباط أنواعٍ جديدة من الحيوان وأنماطٍ من النبات، وغير هذا وذاك من ألوان الدراسة التي تعود على الناس بالخير الوفير. قال الرجل: إن رجال الحكومة في هذا البلد لا يدَّخِرون وسعًا في محاولة تقليد طيران الطير، حتى أخضعوا أجزاء الفضاء لسلطان الإنسان، وإنَّ لنا بفضلهم لسُفنًا تسبَح مع الحوت تحت أغوار الماء … وتُنتج جزيرتنا ما تستهلكه وتستهلك ما تُنتجه، فلا مُبرر أن تزجَّ برجالها في معمعان الحروب من أجل الأسواق الخارجية وترويج التجارة … ويقضي نظام الجزيرة أن تبعَث إلى البلدان الأجنبية طائفةً من علمائها يتبدَّلون مرة في كلِّ اثني عشر عامًا، وهؤلاء يزورون شعوب الأرض قاطبة، فيتعلَّمون لغاتهم ويدرسون علومهم وصناعاتهم وآدابهم، ثم يعودون إلى بلادهم يحملون إليها ما أفادوه في رحلتهم حيث يتقدَّمون به إلى رجال «بيت سليمان» لتمحيصه وتطبيق النافع منه في بلادهم، وبهذا تستطيع أطلانطس الجديدة أن تُسرِع الخطا نحو الكمال المنشود.
تلك صورة مُقتضَبة موجزة يُقدمها لنا «بيكون» عن المدينة الكاملة كما تخيَّلها وتمنَّاها، وإنه ليلهَج فيها بما حلم به الفلاسفة جميعًا: شعب يقوده حكماؤه في رخاءٍ وفي سلم، لا تشُوبه شائبة من حربٍ أو قتال، يتمنَّى «بيكون» كما تمنَّى قبله كثير من الفلاسفة أن يسود العلم بدل السياسة، وأن يتربَّع العالم الفيلسوف على عرش الملك والسلطان.
نقد «بيكون»
تصدَّى كثيرون لنقد طريقة «بيكون»، ولكن كان أعنفَهم وأقساهم جميعًا اللورد ماكولي الكاتب الإنجليزي المشهور، فقد تناول طريقة «بيكون» بالنقد والتجريح حتى لم يُبقِ له شيئًا من الفضل، فهو يتساءل: هل أتى بيكون للإنسانية بجديدٍ مُبتكر؟ ألم تكن طريقتُه الاستقرائية التي ملأ بها الدنيا صياحًا معروفةً منذ أقدم العصور، بل منذ كان الإنسان على وجه الأرض إنسانًا مُفكرًا عاقلًا؟ إنه لعمر الحق لم يزِدْ في دستوره العلمي الجديد على «تحليلٍ لما يعمله الناس جميعًا من الصباح إلى المساء.» ويسُوق ماكولي لذلك مثلًا فيقول: يحسُّ الرجل الساذج مرضًا في معِدَته، وهو لم يسمع قط باسم بيكون، فتراه يسير وفق القواعد التي يذكرها «بيكون» على أنها طريقة جديدة للبحث، حتى يقتنِع بأن الفطير الذي أكله يوم كذا قد كان سبب عِلته: «لقد أكلتُ فطيرًا في يوم الاثنين ويوم الأربعاء، فأرَّقني عُسر الهضم طول الليل (هذه الخطوة توافق مرحلة الإثبات عند بيكون)، ولكني لم آكُل فطيرًا في يومي الثلاثاء والجمعة، فكنتُ سليمًا مُعافًى (هذه هي مرحلة النفي)، وقد أكلتُ منذ يوم الأحد قليلًا جدًّا، فأحسستُ في المساء ألمًا خفيفًا، غير أني يوم عيد الميلاد لم أكد آكُل في طعام الغداء إلا فطيرًا، فمرضتُ مرضًا أشرَفَ بي على الخطر (مرحلة المقارنة). ويستحيل أن يكون ذلك ناشئًا عمَّا شربتُه من نبيذ؛ لأنني أشرَب النبيذ كل يومٍ منذ أعوام طوال فلم يُصبني منه أذًى (مرحلة العزل).» وهكذا يسلك الأميُّ الجاهل في شئون حياته اليومية نفس الطريق التي رسمها «بيكون»، ولهذا لا يتردَّد «ماكولي» في الحُكم على طريقة «بيكون» بالتفاهة وقلَّة الخطر، وأن صاحبها قد أسرف في تقديرها إسرافًا جاوز كلَّ حدٍّ معقول.
ولكن ماكولي قد غلا في نقده غلوًّا شديدًا، فليس يستطيع الرجل الساذج أن يصطنع في حياته الاستقراء بهذه الدقَّة، وإنَّ هذا المَثَل الذي ساقه للرجل الجاهل لأرفع جدًّا وأدقُّ جدًّا مما يستطيعه عامَّة الناس. ومن جهةٍ أخرى فإن الاستقراء الذي ضرب له مثلًا لأقلُّ جدًّا مما يريده «بيكون» بطريقته، فإن «بيكون» لا يكفيه هذا الطريق المُعبَّد المُمهَّد، بل إنه في مثل هذه الحالة يفرض أسبابًا عدة غير النبيذ مما قد يكون سببًا في عِلة المعدة التي عزاها الجاهل إلى الفطير بعد أن تبيَّن له أنها لم تكن من النبيذ. فلِمَ لا يكون السبب لونٌ آخر من ألوان الطعام؟ ولمَ لا يكون سوء الطهي، ولم لا يكون السرعة في تناول الطعام، ولم لا يكون ناشئًا عن حزنٍ ألمَّ بالرجل عند الغداء؟ إن طريقة «بيكون» تشترط في البحث سِلسلتَين من التجارب: تكون الأولى بالاستمرار في أكل الفطير، ثم استبعاد ألوان الطعام الأخرى واحدًا بعد واحدٍ في كل وجبةٍ من وجبات الطعام، ففي يوم الاثنين مثلًا يتناول الرجل غذاءه إلا السَّمك، ويتناول يوم الثلاثاء نفس الغذاء إلا اللبن، ويوم الأربعاء يستبعد النبيذ، وهكذا يستثني في كلِّ يومٍ نوعًا واحدًا فقط، فإذا ظلَّ يُلازمه سوء الهضم في الحالات كلها، حقَّ له أن يحكم بأن السَّمك وحده أو اللبن وحده أو النبيذ وحده لم يكن سببًا في مرضه، ولكن إن لم تكن هذه الأنواع سببًا في المرض وهي فرادى، فقد يؤثر الواحد منها حين يشترك مع آخر، وإذن فينبغي أن يتابع الرجل تجاربه فيواصِل أكل الفطير، ثم يستبعد ألوان الطعام زوجًا زوجًا، وبعد ذلك يستبعدها ثلاثة ثلاثة، ثم يأكل الفطير وحدَه عدة أيام، فإن لازمه سوء الهضم حُقَّ له أن يرجِّح (يرجِّح فقط دون أن يقطع) أن الفطير هو سبب المرض.
هنا ينتهي جانب من جوانب البحث، ولا بدَّ للرجل أن يستأنف التجربة على نحوٍ آخر، فيحذف الفطير في كل مرة، ويقلِّب الصنوف الأخرى حذفًا وإضافة بكل صورة مُمكنة، مع إدخاله في تجاربه ظروفًا مختلفة تُحيط بالأكل، فيومًا يتغذَّى بعد مشيٍ طويل، ويومًا بعد ركوبٍ كثير، ويومًا في جوٍّ من المرَح والسرور، ويومًا في همٍّ وحزن، وتارة يأكل في سُرعة، وطورًا في بطء، وهكذا يظلُّ يجرِّب مئات ومئات ومئات من الحالات مع حذف الفطير في كل حالةٍ منها، فإذا وجد أن مرضه قد امتنع في تلك الحالات جميعًا على اختلاف ظروفها انتهى إلى نتيجةٍ مُحقَّقة: هي أن الفطير هو العِلَّة في سوء الهضم بغَير شك.
•••
يعتقد «بيكون» أنَّ العلم وسيلة لغايةٍ عملية في حياة الإنسان، «العِلم قوة» وهو أطول القوى بقاء، فيستطيع الإنسان أن يكون سيدَ الطبيعة بفهم كُنهها الحقيقي فهمًا صحيحًا. وعنده إذن أنَّ دراسة العالم الخارجي لا تُقصَد إلَّا لكي تُعين العقل البشري على فرض سيادته على الطبيعة.
وقد كان «بيكون» بهذا القول يُعبِّر عما كان يتردَّد في خواطر الناس؛ إذ نهضت عدَّة عوامل تدلُّ الإنسان على أنَّ سيادته على الطبيعة مُمكنة ميسورة، منها: استكشاف القارة الجديدة، واختراع البوصلة، والبارود، وفن الطباعة. هذا وقد كشفت لهم المناظير المُكبِّرة عن خفايا السماء وألغازها، وبدأ كلُّ شيءٍ يُسلِّم زمامه لعقل الإنسان. ولا بدَّ للإنسان أن يتَّخِذ من العلم رائدًا يَهديه سواء السبيل في تجوابه في أنحاء الطبيعة.
بهذه النزعة العملية تفوَّق «بيكون» على الفلسفة المدرسية التي لا تؤدي إلى شيء، ولكن الفلسفة كان يتهدَّدها خطر على يدَيه، وهو أن تُزيح عن كاهلها خدمة الأغراض الدينية؛ لكي ترزح تحت عبءٍ آخر هو خدمة الأغراض العمليَّة.
والواقع أن ثمار المعرفة لا تنضج إلا حيث تكون المعرفة وحدَها هي الغرض المنشود، وإنَّ ما وصلت إليه أذهان الفلاسفة من الحقائق الطبيعية التي كانت فيما بعدُ أساس العلم الطبيعي، والتي بفضلها أصبح هذا العلم عماد المدنية الإنسانية، إنما جاء نتيجة رغبة هؤلاء الفلاسفة في تفهُّم الطبيعة ونظامها، لا لأنهم يريدون إصلاحًا عمليًّا من وراء ذلك الفَهم، بل يريدون إشباع عقولهم فحسب.
هذا هو «بيكون» الذي يكاد يجمع المؤرخون على أنه لا يُدانيه إلَّا أرسطو في شمول النظر واتِّساع الفكر، حتى وسِع العالم كله، وحتى اتَّخذ من الكون كله ميدانًا لدراسته، ولم يكن يطمع «بيكون» إلا في أُمنية واحدة هي أن يسُود الإنسان الطبيعة، وهو في ذلك يقول: إنَّ الناس من حيث مطامعهم ثلاثة رجال: فرجل يطمع في أن يبسط سُلطانه على أمَّته، وهو أوضع الثلاثة جميعًا، وآخر يطمع في أن ينشُر نفوذ بلاده على أمَّةٍ أخرى، وهو أسمى من الأول وأنبَل، وثالث يطمع في أن يجعل الجنس البشري سيِّد الكون، وهو أشرَف من سابقَيْه وأرفع.
ولا شكَّ أن «بيكون» كان من هذا الضرب الأخير.
(١-٢) توماس هوبز Thomas Hobbes
يُعرِّف «هوبز» الفلسفة بأنها فَهم النتائج أو ظواهر الطبيعة بالرجوع إلى أسبابها، أو هي فَهم هذه الأسباب نفسها بما نستنبِطُه من النتائج التي تقع تحت مُلاحظتنا استنباطًا صحيحًا. وأما الغاية المقصودة من الفلسفة فهي أن تُمكِّننا من التنبُّؤ بما سيحدُث من نتائج، وبهذا نستطيع أن نستغلها في حياتنا العملية. ويرى «هوبز» أنَّ كل ما نحصله من معرفةٍ إنما جاءنا عن طريق الحواس بما ينطبع عليها من آثار انبعثَتْ من الأشياء الخارجية، ثم هذه الآثار المُنبعثة تنشأ من حركاتٍ مُعيَّنة تطرأ على الأجسام المادية الموجودة في العالم الخارجي، وإذن فأصل المعرفة تحرُّك المادة في المكان. ولمَّا كان واجب الفلسفة أن تدرُس المعرفة وكيفية تحصيلها، كان لزامًا عليها أن تحصُر مجهودها في دراسة الأجسام المادية وحدها، أما كل ما عدا المادة من روحانيات فينبغي أن نتركها للوحي والإلهام، ولا يجوز لنا أن نخلط بين العقيدة والعقل، فحيث ينتهي الثاني تبدأ الأولى، وحيث ينتهي العِلم يبدأ الإيمان.
ويرى «هوبز» أنَّ العالم يتكوَّن من أجسام طبيعية، وأجسام سياسية، أي من الأشياء والناس، ولذلك ترى فلسفتَه تنقسِم شُعبتَين هما: الفلسفة الطبيعية التي تبحث في الأشياء وتكوينها، والفلسفة المدنية وتبحث في المجتمع ونشأته، وهو في كليهما ماديٌّ يرى أن الطبيعة والمجتمع يتألَّفان من جزئيات تراكمَت، فتكوَّنت منها الأجسام طبيعيةً كانت أم سياسية.
وتظهر نزعة «هوبز» المادية ظهورًا جليًّا في نظريته السياسية وهي أهمُّ جوانب فلسفته؛ إذ يذهب إلى أنَّ الدولة إنما تتألَّف من ذرَّاتٍ اجتمع بعضها إلى بعض، فكان من اجتماعها الدولة، كما تتراكم الذرَّات المادية، وتتلاحَق فتكوِّن الأجسام، وكما أن العالم الطبيعي يعتمد في تكوينه على الحركة التي بين أجزائه وما فيها من جذبٍ ومقاومة، كذلك المجتمع لم يقُم إلا على أساسٍ من الحركة والمقاومة بين الأفراد، فقد كانت الإنسانية في حالتها الطبيعية الأولى في عراكٍ مُتَّصِل عنيف، لا ينقطع بين أفرادها، ولهذا كان احتفاظ الإنسان بذاته هو الخير الأسمى، وكان الموت هو أبغض الشرور، وقانون الطبيعة هو أن تُقوِّي الجانب الأول من الإنسان، وأن تُعاونه على اجتناب الموت.
كان الناس في حالتهم الفطرية الأولى لا يذوقون للسلم طعمًا، ولا ينفكُّون يتنازعون ويتقاتلون، وينظُر كل فردٍ إلى الآخر نظرةً ملؤها الخوف والشك، فلم يجدوا بُدًّا من التعاهُد والتعاقُد فاتفق الجميع، على أن يتنازل كل إنسان عن جزءٍ من حريته المُطلقة، فتُصبح مقيَّدة بصالح المجموع، وأن يُحدِّد من مطالبه، فلا يحاول أن يظفر بكلِّ ما يشتهي، هذا التعاقُد بين الأفراد هو أساس الاجتماع والقاعدة التي تقوم عليها الدولة، ولكن هذا التعاقُد لا يمكن تنفيذه وتحقيقه إلا إذا خضع الجميع لفردٍ واحدٍ منهم تتمثَّل في شخصه الدولة كلها، وتكون إرادته هي القانون النافذ، وليس الصواب والخطأ، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، إلا ما تُريده هذه القوة الحاكمة، ويستحيل أن يسُود النظام في جماعة، وأن يطَّرِد لها تقدُّم ورقي، إلا إذا وقَر في نفوس الجميع أنهم يفيدون خيرًا باحترامهم لرئيسهم الأعلى وخضوعهم له.
فأنت ترى من هذا أنَّ نظام «هوبز» السياسي هو نتيجة مباشرة لنظريته المادية، إذ يصوِّر لنفسه الدولة آلةً عظيمة هي كل شيء، ولا يكون فيها للأفراد حُرية الرأي ولا إملاءٌ للضمير، بل وتستحقُّ فيها كل عقيدةٍ دينية تتعارَض مع ما تراه الدولة حقًّا وخيرًا، وهذا التصوُّر للدولة يُقابِل رأيه في الكون بأنه يسير سيرًا آليًّا، وكل ما يقع فيه يسير بقوَّة مادية.
الدولة عند «هوبز» هي كلُّ شيء، فلا دين إلا ما ترضاه الحكومة، ولا حقيقة إلا ما يُنادي به السلطان، وليست تُقاس قِيَم الأعمال إلا بشيءٍ واحد هو قانون الدولة الذي يفرضه الملك فرضًا، ولا يرى «هوبز» أنَّ في الإنسان ضميرًا يصحُّ الركون إليه في الحكم على الأعمال والأشياء. إن الدين والأخلاق هما من صنع الدولة وإنشائها؛ إذ الإنسان الطبيعي لا يعرف إلا أنانية محضة، فالخير عندَه هو ما يريده ويرغب فيه، والشر هو ما يضرُّه ويؤذيه، وإذ كانت الدولة هي مصدر الدين والأخلاق جميعًا، فلها وحدَها حقُّ الإشراف عليهما.
ومما هو جديرٌ بالذكر في هذا الصدد ما بين هوبز وروسو من شبَهٍ في نظرية العقد الاجتماعي، فكلا الفيلسوفَين يرى أنَّ الدولة أساسها تعاقُد بين الأفراد، ولكنهما يختلفان أشدَّ الخلاف فيما يترتَّب على هذا الأساس من نتائج، فبينما «هوبز» يذهب إلى أن حالة الإنسان الطبيعية كان قِوامها النفور والعداء بين الأفراد، وأنهم إنما تعاقدوا ليأمَن الإنسان شرَّ أخيه. ولكي يتمكن الفرد من الاحتفاظ بذاته دون أن يتعرَّض في كل ساعةٍ إلى خطر الموت، إذا «روسو» يرى أنَّ الناس ليسوا بطبيعتِهم أعداء مُتناكِرين، ولكنهم على نقيض ذلك، إذ هم بفطرتِهم مُتحابُّون مُتآلفون، ولقد تعاقدوا على الاجتماع؛ لكي يُوحِّدوا جهودهم في رُقيِّ الإنسانية وكمالها. كذلك يذهب «هوبز» إلى أنَّ القوة هي الحق. ولمَّا كانت القوة كلها مُتركِّزة في شخص الملك، كان الملك مُطلَق الإرادة لا يحدُّ من سُلطانه شيء، ومعنى ذلك أن الحكومة عند «هوبز» يجِب أن تكون مَلكية مُطلقة، أما «روسو» فيرى أنَّ الناس إنما تعاقدوا على أن يتمتَّع كلهم بحقوقٍ متساوية وواجبات مُتساوية، لا يمتاز منهم فردٌ على فرد، وإذن فالحكومة عنده يجب أن تكون ديمقراطية، وأن يكون للناس حقُّ إسقاط الحكومة إذا حادَتْ عن جادَّة السبيل؛ لأنهم مصدر القوة كلها.
(١-٣) رينيه ديكارت René Descartes (١٥٩٦–١٦٥٠م)
(١) حياته وكتُبه
«لم تكد تسمَح لي سِنِّي بالإفلات من رقابة مُعلمي، حتى هجرتُ دراسة الآداب هجرًا قاطعًا، وأزمعتُ ألا أنشُدَ من العلم إلا معرفة نفسي، أو الإلمام بسِفر الكون العظيم، فأنفقتُ ما بقِيَ من عهد الشباب، في الارتحال: أزور الملوك في قصورهم، وأنخرط في سلك الجيوش، وأبادل الحديث رجالًا من ذوي المناصب المُتفاوِتة والطبقات المُتبايِنة، وأجمع من التجربة ألوانًا شتَّى، ولقد كنتُ أغوص بفكري فيما أصادف من تجارب لعلِّي أفيد علمًا جديدًا.»
هكذا لبث «ديكارت» يجُول في البلاد، ولا يستقرُّ في مكان، فيلتحق بخدمة الجيش مرة، ويدرس الرياضة طورًا، ويحاور رجال العِلم النابِهين تارة، حتى بلغ من عمره الثالثة والثلاثين، فألقى عصا تسياره في هولندا، وكان له من الثروة الموروثة عن أبيه ما يُهيِّئ له أسباب العيش. ولبِث في هولندا عشرين سنة، اعتزل خلالها الناس، وأخفى عنهم محلَّ إقامته حتى لا يُزعِجه في وحدته الهادئة أحدٌ من مئات المُعجَبين به الذين كانوا يَودُّون زيارته من كلِّ صوب.
وفي سنة ١٦٤٩م أرسلَتْ في طلبه الملكة كرستينا، ملكة السويد (ابنة جوستاف أدولف) فلبَّى ديكارت دعوتها، ولم تكَدْ تصل به السفينة إلى أرض السويد، حتى أرسلت الملكة إلى ربَّانها تستنبِئه كيف كانت حالة الفيلسوف في طريقه إلى بلادها. فأجاب الرجل: «لستُ أحسَبُه يا سيدتي إنسانًا من البشر، فإنَّ من جئتُ به إلى جلالتك اليوم لأقرب إلى مرتبة الآلهة. إنه زوَّدني من العلم في ثلاثة أسابيع في شئون المِلاحة والرياح أكثر ممَّا تعلمتُ في ستِّين سنة أنفقتُها في البحار.»
وشاء الله أن تكون زيارة الفيلسوف لملكة السويد سببًا في مَوته، فقد كانت كرستينا — وقد عرفها التاريخ بالنشاط الجمِّ والحيوية المُتوثِّبة — تستيقظ في الصباح المُبكر، وكانت تأبى إلا أن يكون درس الفلسفة في تلك الساعة المبكرة، فلاقى ديكارت من هذا الأمر المُتعسِّف ما لاقى من مرضٍ وعناء، إذ كانت عادته أن يستيقظ مع الضُّحى، ويظهر أنه قد كانت بِنيتُه لا تقوى على برد الصباح القارِس الذي كان يُقاسيه في طريقه إلى القصر، فأزمع مُغادرة السويد، ولكن الملكة ألحفَتْ في بقائه، فأصابه برد الشتاء بعِلة في رئتيه أودت بحياته سنة ١٦٥٠م في اليوم الحادي عشر من فبراير، وكانت سِنُّه قد بلغت الرابعة والخمسين.
(٢) فلسفته
نعم إني مهما ألححتُ في الشك فلن أشكَّ في أني أشك، ولمَّا كان الشكُّ ضربًا من ضروب التفكير، إذن فلستُ أستطيع الشكَّ في أني أفكر، وبديهي أنني لو لم أكن موجودًا لَما شككتُ أو فكرت، فما دمتُ أفكر فأنا موجود … وهكذا وضع ديكارت هذه القاعدة: «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» واتَّخذها أساسًا أقام عليه فلسفته بأسرِها. فمن وجود نفسه أثبت وجود الله، ومن وجود الله أثبت وجود العالم الخارجي، كما سترى فيما بعد.
هكذا بدأ ديكارت بالشكِّ الهادم، ثم انتزع من غمار الأنقاض التي قوَّضتها معاول شكِّه يقينًا؛ إذ أثبت أن ذاته المُفكرة موجودة، لا رَيب في وجودها، ثم قرَّر بعد ذلك أنَّ كل قضية تبلُغ من الوضوح والتحديد ما بلغَتْه قضية «أنا موجود» لا يجوز أن نرتاب في صِدقها ويقينها. فمثلًا لا ينبغي أن نشكَّ في هذه القضية الآتية: «إن الشيء لا يخرُج من لا شيء.» لأنها بديهية تفرض نفسها على العقل فرضًا، فهي لا تقلُّ صحَّةً ويقينًا عن وجود العقل نفسه. فإذا سلَّمنا بأن الشيء لا يخرج من لا شيء، كان لزامًا علينا أن نُسلِّم بأن النتيجة لا يمكن أن تجيء أكبر من مُقدِّمتها، أعني أن المُسبَّب يجِب أن يكون أصغر من سبَبِه، أو على الأكثر مُساويًا لسببه؛ لأنَّ كل زيادة في المُسبَّب معناها أنها نشأت من لا شيء، وهو منافٍ للقضية التي سلَّمنا بها.
إذن فمن أين جاءتك هذه الفكرة بعد أن أيقنتَ أنها لم تتفرَّع عن فطرتك؟ لا نحسبك مُترددًا في أن تذهب مع «ديكارت» فيما ذهب إليه من أنَّ هذه الفكرة اللانهائية الكاملة لا يمكن أن تنبعِث من الطبيعة البشرية الناقصة، بل لا بدَّ لها من أصلٍ يوازيها كمالًا وعظمة؛ لضرورة التكافؤ بين العِلة والمعلول، ومن هنا كان حتمًا علينا أن نسلم بوجود إلهٍ جامع لكل صفات الكمال، هو الذي خلق في الإنسان هذه الفكرة وألهمَه إيَّاها، وإذن فالله موجود، وليس في وجوده شك.
ويقيم «ديكارت» على وجود الله برهانًا ثانيًا فيتساءل: من ذا أوجدَني؟ إنني لم أَخلُق نفسي بنفسي، وإلا لوهَبتُني كل صنوف الكمال التي تنقصني الآن، كذلك لم يَخلُقني خالق ناقص؛ لأنه لو كان كذلك لقامت أمامنا المشكلة بعَينها. ومن ذا أوجد ذلك الخالق الناقص؟ إنه لم يُوجِد نفسه وإلا لخلع على نفسه ضروب الكمال، فلم يعُد إلا أن يكون خالقي إلهًا كامل الصفات.
هذا وإنَّ استمرار وجودي ليحتاج كذلك إلى تعليل، إذ لا يكفي أن يخلقني الله أول مرة وكفى، بل إني بحاجةٍ إلى وجوده ليخلقني في كل لحظة خلقًا جديدًا. فالزمان يتألَّف من جزئيات زمنية لا نهائية مُتعاقبة، ولا تعتمد البرهة الزمنية في وجودها على البُرهة التي سبقتْها بأي حالٍ من الأحوال، وعلى ذلك فكوني كنتُ موجودًا منذ لحظة لا يجوز أن يكون سببًا في وجودي الآن، وإذن فيستحيل أن يستمرَّ وجودي إلا إذا كانت هنالك قوة تخلقني في كل لحظة خلقًا جديدًا. ومعنى ذلك أن مجرَّد وجودي دليل على وجود الله، وأن استمرار وجودي دليل آخر على وجوده، ولرُبَّ مُعترضٍ يقول: إن الله كذلك يستمرُّ وجوده من لحظة زمنية إلى لحظةٍ أخرى، فكيف استطاع أن يحتفظ بوجوده أكثر مما نستطيع نحن البشر؟ وجواب ذلك أنَّ الله كامل كمالًا مُطلقًا، والكمال يقتضي دوام الوجود. ولو لم يكن كذلك لأمكن للعقل أن يتصوَّر كائنًا أكمل منه.
وقد جاءت هذه البراهين التي أقامها ديكارت على وجود الله في عصرٍ ساد فيه الشك، وتزعزعَتِ العقيدة الدينية في النفوس، فكانت خير باعِثٍ لهم على الإيمان.
بدأ «ديكارت» بتكذيب عقله في كل ما يجيء به، وانتهى بتصديق عقله في كل ما يصِل إليه، على شرط أن تكون الفكرة التي يصِل إليها العقل جليَّةً واضحة. وهنا هاجمَه النقَّاد هجومًا عنيفًا. فقالوا: إن النتيجة التي وصل إليها «ديكارت» معناها أنه يستحيل علينا الخطأ ما دام العقل صادقًا في كلِّ ما يقول، فأجابهم «ديكارت» بأن الخطأ لا ينشأ من نقْصٍ في العقل، بل من محاولة الإنسان أن يُبرهن على صحَّة ما لم يتَّضِح له وضوحًا كافيًا، وإذن فالإنسان مسئول عن خطئه، وغلطُه ناشئ من خداع نفسه لنفسه. وكذلك توجَّه إليه النقَّاد بمأخذٍ آخر، فزعموا أنه يدور في تدليله في حلقة مفرغة فينتهي من حيث بدأ؛ لأنه قال بادئ ذي بدء إنَّ كل حقيقة تبلغ من اليقين مبلغ «أنا موجود» — أي تعرف بالبداهة — تكون صدقًا لا يجوز فيها الشك، وعلى هذا رتَّب وجود الله، ثم استنتج من وجود الله وكماله أنَّ كل ما يراه العقل في وضوح البداهة يكون حقًّا. وأنت ترى من ذلك أنَّ المقدمة التي استنتج منها وجود الله هي بعينها النتيجة التي استخرجها من وجود الله. وعن ذلك أجاب ديكارت بأنَّ هنالك فرقًا في نوعَي التفكير في كِلتا الحالتين، فقد كان العقل في الخطوة الأولى يعتمد على قضية بديهية بداهة مباشرة تفرض نفسها من غير تفكير فيها. وأما في الخطوة الأخيرة، فإن العقل يعتمد في استنتاجه على التدليل؛ إذ أمكنه أن يبرهن على السبب الذي من أجله صار العقل أساسًا يُركَن إليه.
ومعنى ذلك أنَّ كل ما تُصادف في تجاربك من أشياء مادية مكوَّن من عنصر بعينِه مهما اختلف شكله ومظهره، فجسم الإنسان والزهرة والماء والهواء والصخر، وما شئتَ من أجسامٍ كلها مُتألِّف من عنصر مُعين لا يختلف في هذا عنه في ذاك، وكل ما في الكون من عقول، (أو أرواح) مُتشابه أيضًا، أعني أنها جميعًا عنصر واحد انبثَّ هنا وهناك … هذا وإن كل الأجسام تتَّصف بصفةٍ واحدة مشتركة بينها جميعًا هي الامتداد، فإن اختلف بعضها عن بعض، فإنما يختلف في الأغراض الزائلة، كالشكل والحجم والوضْع والحركة، وكلها كما تلاحظ أعراض للصفة الرئيسية — صفة المكانية أو الامتداد.
وكذلك كل العقول الفردية تتفق في الصفة الجوهرية وهي الشعور، فإن اختلفت وتبايَنَت فما ذاك إلا في أعراض هذه الصفة الأساسية المشتركة، كاختلافها في الأفكار والأحكام والأعمال الإرادية.
وهذان العنصران — المادة والعقل — مُختلفان أشدَّ ما يكون الاختلاف، فيستحيل أن تتَّصِف الأجسام بصفة الفكر، كما يستحيل أن يتَّصِف العقل بصفة الامتداد، وهكذا شطر «ديكارت» الوجود إلى شطرَين لا تجد الوحدة إليهما من سبيل، فهو اثنينيٌّ متطرِّف، وها نحن أولاء نتناول كلَّ شطر منها بالبحث.
- (١)
إن كل جسم يُحافظ على حالته التي هو فيها.
- (٢)
إن الجسم المُتحرك يحافظ على اتجاهه الذي يتحرك فيه، وهو يتحرك في خطٍّ مستقيم ما لم تؤثر فيه عوامل خارجية.
- (٣)
إذا اصطدم جسم مُتحرك بجسمٍ آخر تغيَّر اتجاه حركته.
وطائفة ثالثة منها انقلبت هباءً ناعمًا بلغ حدًّا من الدقة لا نهاية له، وهذا ما نُسمِّيه بالأثير، وأجزاء هذا الأثير مُتَّصِل بعضها ببعض أوثق اتصال، بحيث أصبح من المُستحيل تفرُّقها وانفكاكها. ومن هذا الأثير يتكوَّن عنصر النار، ويطلِق عليه «ديكارت» عادة اسم «العنصر الأول»، ومنه تكوَّنت في رأيه الشمس والنجوم. أما النوع الأول من المادة الذي سبَق ذكره، والذي يتكوَّن من كُتلٍ ضخمة بتجمُّع الأجزاء بعضها إلى بعض، فيطلق عليه ديكارت اسم «العنصر الثالث» أو عنصر التراب. والأجسام التي تكوَّنت من هذا العنصر تكون إما سائلةً أو صلبة تبعًا لسهولة تحرُّك ذراتها أو صعوبته، وبين عنصر النار وعنصر التراب يجيء عنصر آخَر يُطلِق عليه ديكارت اسم «العنصر الثاني» وهو الذي يتكوَّن من ذرات صغيرة، وهو عنصر الهواء الذي منه تتكوَّن السماء.
وكل هذه الأجسام مُتحركة، فمن حركة العنصر الأول — الأثير — تنشأ الحرارة، ومن حركة العنصر الثاني — الهواء — ينشأ الضوء واللون. هذا ولمَّا كانت الأجسام تتحرك في مكان كله مليء بالمادة، فإنه لا يكاد ينتقل جسم من موضعه حتى تندفع الأجسام المحيطة به لكي تملأ مكانه، ومن هذه الحركة السريعة تنشأ حركة دائرية في الأجسام المندفِعة كما يحدُث في دوامة الماء، وبهذا يُعلل دوران الكواكب حول الشمس.
أما رأيه في الإنسان فهو آليٌّ كالحيوان سواء بسواء، لولا أنه يمتاز بما فيه من عقل، وسنتناول بالشرح هذا الجانب فيما يأتي:
كما تتميَّز الأجسام المادية بالامتداد، فإن العقل يتَّصف بالفكر، وهذا صحيح بالنسبة لكل عقلٍ بما في ذلك عقل الله؛ لأنَّ عقل الله لا يختلف عن عقل الإنسان المحدود إلا كما يختلف العدد اللانهائي عن اثنَين أو ثلاثة. فصوِّر لنفسك عقلًا بشريًّا قد خلص من قيودِه وحدوده يكن لك من ذلك فكرة واضحة عن الله، والعكس صحيح، أعني إذا تخيَّلت الله وقد انحصرت في حدود، كان لك من ذلك صورة للنفس الإنسانية، ولهذا السبب نفسه نستطيع أن نستنتج وجود الله من وجود عقولنا، ولكنَّا لا نستطيع أن نستنتِج وجوده من وجود أجسامنا، بل ولا من العالَم الطبيعي بأسره، أكثر مما نستنتج الأصوات من رؤية الألوان.
وكما أنَّ الجسم يستحيل وجوده وإدراكه بغير امتداد؛ لأنَّ الامتداد خاصَّته المميزة، كذلك العقل يستحيل وجوده بغير تفكير، ونقصد بتفكير العقل مجرد شعوره بوجود نفسه، فالعقل دائم التفكير — أي الوعي — كما أنَّ الضوء دائم الإضاءة والحرارة دائمة السخونة. ولا يتردَّد «ديكارت» في اعتقاده بأن الطفل يشعُر بنفسه وهو في أحشاء أُمِّه. ويُسمي «ديكارت» كل الخلجات العقلية أفكارًا، وإذن فالعقل — حتى العقل الإلهي — هو عبارة عن سلسلة من الأفكار لا أكثر ولا أقل. ويمكن تقسيم أفكار الإنسان من حيث وضوحها وغموضها إلى كاملة وناقِصة (أي أنَّ الفكرة الواضحة هي التي اكتملَتْ من جميع نواحيها، وأما الغامضة فهي التي ينقُصها بعض أجزائها)، ومن حيث مَبعثها إلى أفكارٍ كوَّنَّاها بأنفسنا، وأخرى استعرناها من الخارج، وثالثة فطرية جُبلت فينا منذ الولادة. ومن حيث دلالتها إلى أعمالٍ إدراكية مُنفعلة (قابلة) وأعمال إرادية (فاعلة). ومعنى هذا أنَّ هنالك بعض الأفكار تقتصر على مجرد الإدراك، وبعضها الآخر يتعدَّى دائرة الإدراك إلى دائرة العمل، ولا يمكن أن يتمَّ عملٌ إرادي بغير عملية الإدراك، أعني أنَّنا نُدرك الفكرة وتستقر في أذهاننا مُدَّة تقصُر أو تطول، ثم نقوم بعد ذلك بتنفيذها، ولكن هناك عمليات إدراكية محضة لا تبدو فيها الإرادة — أي لا نقوم بإخراجها عملًا من الأعمال — ومعنى ذلك أنَّ العمل الإرادي لا بدَّ أن يسبقه إدراك عقلي والعكس؛ أي قد تكون هناك إدراكات عقلية دون أن يصحبها عمل إرادي. ولا يجوز للإنسان أن يحكم على تلك الإدراكات العقلية المحْضة التي تخلو من أعمال الإرادة بالخطأ أو بالصواب؛ لأنَّ مجرد هذا الحُكم يتضمن إقرارًا أو إنكارًا لها، والإقرار والإنكار من أعمال الإرادة، فكأنك بهذا قد تدخَّلْت بإرادتك في غير مَيدانها. ويعتقد «ديكارت» أن وقوع الإنسان في الخطأ — مع أن العقل أداة من عند الله ومفروض فيه الدقَّة والصدق — ناشئ من أنه لا يقف عند ما رسَمَه الله له من حدود، أعني أنه يُقحِم إرادته فيما لا يجوز أن تتدخَّل فيه الإرادة، وإنَّ الإنسان ليُجنِّب نفسه الخطأ لو أنه ضبط إرادته، ومنعَها عن التدخُّل في عمليات الإدراك العقلية بما تُصدره من أحكام على تلك الإدراكات التي يجب أن تختفي فيها الإرادة اختفاءً تامًّا. فليس الخطأ في أن يُدرك الإنسان ما شاء من صورٍ ذهنية، إنما الخطأ كل الخطأ في أن نتناول تلك الصور الذهنية بالحُكم، فنؤكد أن هذه الصورة العقلية موجودة وجودًا حقيقيًّا في العالم الخارجي، وأن تلك وَهْمٌ من اختِلاق الذهن وهكذا. فلو فرضْنا أنك تصوَّرتَ في ذهنك فكرة وهمية ليس لها نصيب من الصدق، فليس يُسمَّى هذا خطأ، ولكن يبدأ الخطأ بأن تؤكد أنَّ هذا الوَهْم الذي في ذهنك له ما يُطابقه في الواقع. نعم لو كان الإنسان لا يتصدَّى بالإثبات إلا لِما يعرِفه معرفةً جلية دقيقة واضحة لعصَم نفسه من الخطأ، فهو وحدَه المسئول عن خطئه، ويستحيل أن تقع تَبِعة أخطائنا على الله بحجَّة أنه أمدَّنا بعقولٍ محدودة قاصرة، وأنه وهبَنا في الوقت نفسه إرادةً حُرة تستطيع أن تتعدَّى حدودها المفروضة، فتتناول بالتسليم والرضا ما يكون عِلمنا عنه ناقصًا مهوشًا بسبب عجز العقل وقصوره. إنما التَّبِعة في ذلك كله واقعة علينا نحن الذين نُطلق العِنان للإرادة، فتنطلِق إلى غير مَيدانها. وبديهيٌّ أن الله نفسه مُنزَّه عن الخطأ؛ لأنه ليس بين أفكاره ما هو غامض ناقص.
لقد ذكرْنا فيما سبق أنَّ الأفكار من حيث أصلها ومبعثها ثلاثة أقسام: أفكار كونَّاها بأنفسنا، وأخرى اكتسبناها من العالم الخارجي، وثالثة فطرية فينا. فإذا أردْنا أن نُجَنِّب أنفسنا الخطأ، وجَب فيما يتعلق بالنوع الأول أن نحذَر غاية الحذَر أثناء تكوين الفكرة، فلا نحذف منها شيئًا مما يكوِّن جانبًا من حقيقتها، بل لا بدَّ أن نُلم بأطراف الفكرة كلها؛ لكي تكون كاملة؛ لأننا إن كوَّناها ناقصة، ثم سلَّمنا بها على نقصِها وقَعْنا في الخطأ. ويضرب ديكارت مثلًا بفكرة الجبل، فيقول إنه لكي تتصوَّر الجبَل فلا بدَّ أن تقرِنه بالوادي أي بالمُنخفض الأرضي الذي نشأ تبعًا لنشأة ذلك الجبل، وإلا كانت فكرتك ناقصة تبعَث على الخطأ.
وأما فيما يتعلق بالأفكار المُكتسبة من العالم الخارجي، فيجوز لنا أن نؤكد أن أفكارنا تُقابل أشياء واقعة في العالم الخارجي، ولكنا لا نستطيع أن نقطع في يقينٍ أن الشيء الخارجي له نفس الصفات التي تُمثلها لنا فِكرتنا عنه، فإنْ أردتَ أن تكون مُتثبتًا من أحكامك، وجب عليك أن تحذف من فكرتك عن الشيء تلك الصفات التي أضافتها حواسُّك، وأن تُبقي فقط على الصفات التي تتعلق حقًّا بالشيء الخارجي نفسه. فحُكمي على هذا القلم مثلًا بأنه أحمر خطأ؛ لأن اللون ليس من صفات الشيء ذاته، إنما هو حالة خلقْتُها خلقًا، فنحن إذن مُعرَّضون للخطأ إلى أن نقوم بتحليل أفكارنا عن الأشياء الخارجية؛ لكي نُفرِّق بين ما هو موجود في الشيء وجودًا حقيقيًّا وبين ما أضافتْه ذواتنا.
وأما النوع الثالث من الأفكار وهي الأفكار الفطرية، فلا يُخشى منها ضرر؛ لأنها لا تؤدي إلى الخطأ إطلاقًا، فهي مُتصِلة بطبيعة العقل اتصالًا وثيقًا، بحيث يستحيل فصلها عنه، فهي جزء ضروري في تكوينه، أو إن شئتَ فقُل هي القوة الفطرية التي بها يفكر العقل، فلا يمكن أن تكون الأفكار الفطرية خطأ، ومن هنا كانت فكرتنا عن وجود أنفسنا وفكرتنا عن وجود الله صحيحتَين؛ لأنهما فطريَّتان، ولأنهما واضحتان جليَّتان تامَّتان أشدَّ ما يكون الوضوح والجلاء والتمام.
هذا و«ديكارت» يقول بحُرية إرادة الإنسان، ولكنه في الوقت نفسه يعتبِر الإباحية — أي التخلُّص من كل القيود — خمسَ مراتب الإرادة الحرة: وهو يقول إنَّ من يكون عِلمه عن الله وعن الحقيقة واضحًا مُحددًا، فإنه لن يتردَّد بتاتًا في اختيار الحق، نعم هو حُر فيما يختار، ولكنه لا بدَّ أن يختار الحقَّ ما دام يعلمه علمًا صحيحًا، وإنَّ الحرية العُليا والكمال الأسمى لينحصِران في العِصمة من الخطأ بواسطة المعرفة الصحيحة، وهكذا يظهر المذهب السُّقراطي مرَّةً جديدة في تاريخ الأخلاق.
العقل والمادة في رأي «ديكارت» جوهران مُنفصلان، وهما ضدَّان لا يجتمعان كالنار والثلج، أو الأسود والأبيض، ولكنه لا يستطيع أن يُنكر ما نُشاهده من ارتباط عقل الإنسان وجسمِه ارتباطًا يجعل منهما وحدةً متماسكة مُتصلة، فكيف يمكن التوفيق بين مذهبه وبين ما نشاهده؟ يقول ديكارت: إنَّ العلاقة التي نراها في الإنسان بين العقل والجسم لا يمكن أن تُعلَّل بشيء من طبيعتهما؛ لأنهما ضدَّان مُتناقضان، فلم يبقَ إلا أن يكون اتحادهما هذا حقيقةً خارقةً أرادها الله على الرغم من أنها لا تتفق مع طبائع الأشياء.
وكما أن الروح عاجزة عن خلق حركةٍ جديدة في الجسم غير التي به، فإن الجسم كذلك عاجز عن خلق أفكارٍ جديدة في الروح (أي العقل) غير التي فيها، فليست الحواسُّ تُضيف إلينا فكرًا جديدًا، بل إن عملها محصور في أنها تترُك في المخ آثارًا تُشبِه الثنيات التي تحدُث في قطعةٍ من الورق عند طيِّها، وهذه الثنيات تعاون الروح على بعْث شيءٍ من أفكارها الكامنة فيها مما يكون شبيهًا بهذه الصور التي جاءت بها الحواسُّ من الخارج، فإذا ما أُثيرت فكرة وانبعثت، فإنها تحاول بواسطة الغدَّة الصنوبرية أن تشقَّ لنفسها طريقًا إلى القلب من خلال المَسام التي في المخ وفي سائر أجزاء الجسد، وكلما تكرَّرت هذه العملية من فكرةٍ ما، كانت المسام أسهل انفراجًا، وكان مرور الفكرة وذهابها من العقل إلى القلب أهونَ وأيسر، فإذا ما تيسَّر للفكرة اتصالها بالقلب حدثت حولها عاطفة تُقوِّيها وتزيد من أثرها، ولكنها في الوقت نفسه تكون سببًا في غموض الفكرة وتهويشها؛ لأنها نشأت من علاقة الروح بالجسد. وعلى ذلك فالعواطف أشدُّ العوامل أثرًا في طمس ما تتصف به الأفكار العقلية من وضوح.
ويرى «ديكارت» أنه يمكن للعقل أن يسيطر على العواطف، ويقول إنه حتى أضعف العقول يستطيع بالصبر أن يُوفَّق إلى السيطرة على العواطف كما نستطيع أن نروِّض أعنف الكلاب. فإذا تمَّ للعقل هذا انقلبت العواطف وسيلةً حسَنَة وأداة قويمة لبلوغ الغاية التي ننشُدها ؛ ألا وهي الخير؛ لأن الخير الذي يُدركه العقل إدراك معرفة إنما يقوى أثره في نفوسنا لو مثَّلتْه لنا العواطف شيئًا جميلًا، إذ لا يكفي أن تعلم الخير بعقلك، بل يجِب أن ترغب فيه بعواطفك أيضًا.
وتتلخَّص الأخلاق عند ديكارت في السيطرة على العواطف، وفيما ينتُج عن ذلك من رغبة فيما نعلم أنه حقٌّ وخير، وهذه الرغبة في أن نحيا حياةً فاضلة ينشأ عنها اطمئنان الضمير، وهو أوفى جزاء للأخلاق.
(١-٤) مالبرانش Nicolas Malepranche
لقد رأيتَ في حديثنا عن ديكارت كيف أنه حلَّل الوجود إلى عنصرَين مُتضادين هما: العقل والمادة، فلمَّا أن تصدى للبحث في الإنسان، وأراد أن يفسر ما فيه من اتحادٍ ظاهر بين العقل والجسد، فرَض أنَّ في المخ غدة خاصة تُنظِّم الصِّلة بينهما، فعن طريقها تصِل الآثار الحِسِّية إلى العقل كما تصدُر الأوامر من العقل إلى الأعصاب، فالعضلات بواسطتها أيضًا.
وافق «مالبرانش» على النتائج التي وصل إليها سلَفُه «جلنكس» فأنكر معه إمكان الاتصال بين العقل والمادة، ثم ذهب إلى أبعَدَ من ذلك، فأنكر أن أجزاء المادة تستطيع أن يؤثِّر بعضها في بعض.
دعا هذا الانفصال بين العنصرَين أن يتساءل مالبرانش: ما سبيلُنا إذن إلى معرفة قوانين الكون المادي، بل ما يُدرينا أنَّ هناك مادة على الإطلاق؟ يُثير مالبرانش هذا السؤال، ثم لا يلبَث أن يُدخِل الله لحل المشكلة كما فعل جلنكس، فيقول: إن التأمُّل الباطني في أنفسنا يؤكِّد لنا أنَّنا كائنات مُفكرة، وأن عقولنا مليئة بالأفكار، ومن بين تلك الأفكار فكرة الله، وهو الكائن الكامل كمالًا مُطلقًا، وكذلك فكرة الامتداد بكلِّ ما يتفرَّع عنها من الحقائق الرياضية والفيزيقية. إننا لم نخلُق هاتَين الفكرتَين، وإذن فقد جاءتا إلى عقولنا من الله، ومعنى ذلك أنهما كانتا في عقل الله قبل أن تَحُلَّا في عقولنا، وقُل هذا في كل ما لدَينا من أفكار مُحددة واضحة، فجميعها من أصلٍ إلهي، ولكن هل وضَعَ الخالق هذه الأفكار في كلِّ نفسٍ جُزئية عند ولادتها؟ كلا، بل إنه الأقرَبُ إلى سهولة الشرح، وأوفى إلى البساطة أن نفرِض بأنَّ الأفكار الإلهية هي وحدَها التي تتمتَّع بالوجود، أعني أن ليس هناك من أفكارٍ إلا ما هو موجود في عقل الله، أي أنَّنا نرى كلَّ شيءٍ في الله لا في نفوسنا، ولكي نتمكن من هذه الرؤية يجب أن نحيا وأن نتحرَّك، بل وأن ندمج وجودنا في الله، فيكون الله هو مُستقر الأرواح جميعًا، كما أنَّ المكان هو مستودع الأجسام، ومعنى ذلك أنَّ الأفكار لا تُوجَد فينا إنما نحن الذين نُوجَد فيما يتألَّف من هذه الأفكار— في الله.
إنَّ الإنسان لا يعرف الأجسام المادية نفسها، ولكنه يعرف مُثُلها الفكرية الكائنة في الله. ولمَّا كان هذا الكون له صورة فكرية تُماثله تمامًا وموجودة في الله أمكننا معرفتها بمشاهدة تلك الصورة الذهنية عنها.
يقول مالبرانش: «إنَّ العقل لا يفهم شيئًا ما إلا برؤيته في فكرة اللانهائي التي لدَيه، وإنه لَخَطأ محْض أن نظنَّ ما ذهب إليه فلاسفة كثيرون من أنَّ فكرة اللانهائي قد تكوَّنَت من مجموعة الأفكار التي نُكوِّنها عن الأشياء الجزئية، بل العكس هو الصحيح، فالأفكار الجزئية تكتسِب وجودها من فكرة اللانهائي، كما أنَّ المخلوقات كلها اكتسبَتْ وجودها من الكائن الإلهي الذي لا يمكن أن يتفرَّع وجوده عن وجودها. يستحيل أن يُفهم العالم الخارجي بذاته، ولا يمكن فَهمه إلا بإدراكنا إيَّاه في الكائن الذي يحتويه، فإن لم نرَ الله، فإننا لن نرى شيئًا آخر.»
كان هذا المذهب الذي ارتآه مالبرانش، وخلاصته هذه العبارة: «إنَّ كلَّ شيءٍ في الله.» مُمهِّدًا لمذهب وحدة الوجود الذي دعا إليه خلَفُه «سبينُوزا»، بل إنَّ وحدة الوجود هي النتيجة المنطقية التي تخرج من مذهب «مالبرانش». ومن العجيب أنه حين نادى «سبينُوزا» بمذهبه كان أشد مُعارضيه «مالبرانش» هذا — وكانا مُتعاصِرَين — مع أن سْبينُوزا لم يزِدْ على أن استخلص النتيجة التي قصر مالبرانش عن استخلاصها من مُقدِّماته.
(١-٥) سبينُوزا Spinoza (١٦٣٢–١٦٧٧م)
وُلد باروخ سبينُوزا في أمستردام من أُسرة برتغالية يهودية ألقَتْ عصاها في هولندا بعد ما أصابها من نفيٍ وتشريد بسبب عقيدتها الدينية اليهودية التي شبَّ عليها الفيلسوف في عهد الصِّبا. وكان أبوه تاجرًا ناجحًا ودَّ لو انخرَط ابنه في سلك التجارة عسى أن يَخلُفه، ولكنه نفَرَ وأبى وآثر أن يُنفق وقته في معبد اليهود وما يتصل به، ينكبُّ على ديانة قومه وتاريخهم لعلَّه يبثُّ فيهما من روحه الشابة قبسًا يمحو ما غشاهما من ظلام، وما زال الفيلسوف الفتيُّ منصرفًا إلى ما أخذ نفسه به لا يفتُر ولا يَنِي حتى أكبره رجال اليهودية الذين تقدَّمت بهم السن، وأملوا أن يكون من هذا الغلام ضوء ونهوض لجماعة اليهود، ثم لم يكَدْ يفرغ «سْبينُوزا» من دراسة متن الدين، حتى انتقل إلى شروحه، ثم إلى كتُب ابن ميمون، وابن عزرا، وحسداي بن شبروت، ثم تناول بالدراسة فلسفة ابن جبريل الصوفية وفلسفة موسى القُرطبي وغيرهم من فلاسفة اليهود بالأندلس.
قرأ هذا كله قراءةَ درْسٍ وتمحيص، فامتلأت نفسه بما حوَتْ تلك الأسفار، واستوقف نظرَه كثيرٌ مما جاء بها من آراء، فلقد راعَهُ ما ذهب إليه موسى القرطبي من وحدة الله والكون واعتبارهما حقيقة واحدة، وصادفته هذه الفكرة نفسها في حسداي الذي ارتأى أن الكون المادي هو جِسم الله، ثم قرأ في ابن ميمون بحثًا في نظرية ابن رُشد التي تزعُم أن الخلود لا يتعلق بالأشخاص والأفراد، ولكن هذه الكتُب التي قرأها بذرَتْ في نفسه بذور الرِّيبة والشك، وأثارت في ذهنه من المسائل والمشاكل ما لم يستطِعْ حلَّها، فأبَتْ نفسه المتطلعة إلا أن يقرأ ما قاله رجال الفكر في الديانة المسيحية عن الله، وعن مصير البشر لعلهَّ مُصادِف عندهم ما يشفي غلَّته، فبدأ يدرُس اللغة اللاتينية حتى استوعبَها، وعن طريقها استطاع أن يُطالع تراث الفكر الأوروبي، سواء منه القديم والأوسط، فدرس سقراط وأفلاطون وأرسطو، كما درس فلسفة الذريِّين التي صادفَتْ منه إعجابًا عظيمًا، وطالع الفلاسفة المدرسيين، وأخذ عنهم كثيرًا من مصطلحاتهم الفلسفية، كما اقتبس منهم طريقتهم الهندسية في استخدام البدائه والتعاريف والقضايا والبراهين والنتائج، وما إلى هذه من طرُق البحث في الهندسة. كذلك درَس فلسفة «برونو» ذلك الثائر العظيم الذي أنفق حياته في التجوال من بلدٍ إلى بلد، والانتقال من عقيدةٍ إلى عقيدة، باحثًا دهشًا مُرتابًا، والذي حكمَتْ عليه محكمة التفتيش آخِر الأمر أن يُقتَل «من غير أن يُراق دمُه» أي أن يُحرَق حيًّا. وأول ما استرعى نظر سبينُوزا من آراء «برونو» هي فكرته عن وحدة الوجود، فكل الحقيقة واحدة في عنصرها، واحدة في عِلَّتها، والله وهذه الحقيقة شيءٌ واحد. كذلك ارتأى برونو أن العقل والمادة شيءٌ واحد، فكل ذرَّة مما تتألَّف منه الحقيقة مركبة من عنصرٍ مادي وعنصر رُوحي قد امتزجا، بحيث لا يقبلان التجزئة والانفصال، وموضوع الفلسفة هو أن تُدرك وحدة الوجود في تعدُّد مظاهره، وأن ترى العقل في المادة، والمادة في العقل. وقد كان لهذه الفلسفة أثرٌ عظيم في سبينُوزا.
نعم أثَّر كل أولئك في فيلسوفنا أثرًا كبيرًا، ولكنه فوق ذلك كله مَدين لديكارت بكثيرٍ من فلسفته وتفكيره، فقد استوقفَه ما ذهب إليه ديكارت من أنَّ الوجود ينحلُّ إلى عنصرين، فالمادة كلها تنطوي تحت عنصرٍ متجانس، والعقل كله يندرج تحت عنصرٍ آخر متجانس، ولقد أثار هذا التقسيم من سبينُوزا نزعةً أصيلة فيه نحو التوحيد، وأبى إلا أن يكون الكون بكلِّ ما فيه عنصرًا واحدًا. كذلك استرعى نظرَه من فلسفة ديكارت تفسيره للعالم كله، ما عدا الله والنفس، بالقوانين الآلية والرياضية، وهي فكرة بدأتْ عند برونو وجاليليو، ولعلَّها كانت صدًى لتقدُّم الصناعة الآلية في المدن الإيطالية. فقد زعم «ديكارت» كما زعم «أناكسجوراس» قبله بألفَي عام، أنَّ الله قد دفع العالم دفعةً واحدة منذ البدائية، كانت نتيجتها كل هذه الحركات التي تطرأ على الأجسام المادية كائنةً ما كانت، فكل حركة من حيوانٍ أو إنسان إنْ هي إلا نتيجة حتمية آلية لتلك الدفعة الإلهية الأولى. وإذن فالعالم كلُّه بما فيه من أجسامٍ آلة تسير مُجبَرة، ولكن خارج هذا العالم الآلي إلهًا، كما أن داخل جسم الإنسان روحًا. وهنا وقف ديكارت فجاء سبينُوزا وتناول الكون كله مادة وروحًا وخالقًا ومخلوقًا، وصبَّ الجميع في وحدة لا تنقسم ولا تتجزَّأ.
تلك كانت المصادر العقلية التي استقى منها سبينُوزا فلسفته، ذلك الفيلسوف الذي كان يبدو رضيًّا وادعًا وفي صدره أتون مُستعِر لا يهدأ ولا يستقر، وقد سِيق في سنة ١٦٥٦م إلى محكمة من آباء الكنيسة اليهودية، فسأله هؤلاء: أصحيح أنك زعمتَ لأصدقائك أن لله جسدًا هو العالم؟ ولا ندري بماذا أجاب، ثم أصدروا حُكمهم عليه بالكُفر والحِرمان بعد أن أغرَوه براتبٍ سنوي قدره خمسمائة جنيه، على أن يَظهر للناس بمظهر الخاضع للكنيسة والمؤمن بدينه وعقيدته، فرفض مِنحتهم في إباء.
(١) اعتزاله ومَوته
قضت الكنيسة اليهودية بفصل سبينُوزا ومقاطعته، فقابل الرجل هذا القضاء بصدرٍ رحب وعزْم صليب، وألقى ببصره فإذا هو وحيدٌ طريد لا يُخالط أحدًا ولا يخالطه أحد، فحزَّت في نفسه مرارة الموقف، حتى إنك لتراه في كل ما كتَب جادًّا صارمًا لا تعرف الفكاهة سبيلًا إليه، ولقد ظلَّ يحمل لرجال الدين المَقْتَ والبُغض لِما رأى فيهم من جهالةٍ وحُمق، يقول عنهم في كتابه «الأخلاق»: «إن هؤلاء (المُفكرين) الذين يميلون إلى البحث في أسباب المُعجزات لكي يتفهَّموا جوانب الطبيعة تفهُّم الفلاسفة، والذين لا يرضَون لأنفسهم أن يُحدِّقوا فيها مدهوشين كما يفعل المُغفَّلون، أقول إنَّ هؤلاء سرعان ما يُعتَبرون ملاحِدة فجَرَة، على حين أن من يحكُم عليهم بهذا أولئك الذين يُمجِّدهم الدَّهماء على أنهم شُرَّاح للطبيعة والآلهة، وإنهم ليعلمون أنه إذا ما انمَحَتْ ظلمات الجهالة زالتْ على الفور تلك الدهشة كما يعلمون أنها الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بسُلطانهم».
فأجاب سبينُوزا عن ذاك الخطاب بهذا الجواب:
«أنت يا من تزعُم أنك قد وجدتَ آخِر الأمر أصدقَ الأدباء وأحسن المُعلمين، ثم قصَرتَ إيمانك عليهم، كيف عرفتَ أنهم أحسنُ من علَّموا الأديان من قبل، ومن يُعلِّمونها اليوم، ومن سيُعلمونها منذ اليوم؟ هل اختبرتَ كلَّ هذه الديانات قديمها وحديثها، التي يتعلَّمها الناس هنا وفي الهند وفي أصقاع الأرض جميعًا؟ وحتى لو سلَّمت أنك قد اختبرتها اختبارًا صحيحًا، فمن أدراك أنك قد تخيَّرتَ منها أقوَمَها؟»
ولكن إلى جانب هؤلاء الساخطين، كان للفيلسوف طائفة كبيرة من المُعجَبين به المُقدِّرين نبوغه، ومنهم من أوصى له بقدرٍ كبير من ماله ليُنفق منه عن سَعة، ويكفي أن تعلم أنَّ بين هؤلاء المُعجبين لويس الرابع عشر الذي أجرى على الفيلسوف راتبًا سنويًّا، وفي مقابل هذا العطف أهدى سبينُوزا إليه أحد كتُبه الخالدة.
ولمَّا كان عام ١٦٦٥م انتقل «سبينُوزا» إلى إحدى ضواحي لاهاي ولبث بها خمس سنوات، ثم انتقل إلى لاهاي نفسها، حيث أقام بها، وبعد عامَين (سنة ١٦٧٢م) هاجم جيش فرنسي أرض هولندا وحاصر لاهاي، ولم يكَدْ يستقر الجيش الفرنسي الفاتح، حتى دعا قائده «سبينُوزا» أن يزوره في مُعسكره؛ لكي يُقدِّم له الراتب الذي أجراه عليه ملك فرنسا، ولكي يقدِّم إليه فريقًا من المُعجبين بفلسفته ممَّن كانوا برفقة الجيش، فلم يتردَّد الفيلسوف في إجابة الدعوة إذ لم يكن له شأن بالخصومة التي تنشِب بين الدول، بل إنه كان يرفض أن ينتسِب إلى وطنٍ من الأوطان، ويَعدُّ نفسه «أوروبيًّا»، فلما عاد إلى المدينة بعد زيارته للقائد الفرنسي، ذاعت في الناس أنباء الزيارة فاحتشد الناس غاضبين يريدون به سوءًا وشرًّا، ولكنهم ما لبثوا أن تفرَّق شملهم في هدوءٍ وسكينة، إذ علموا أن الرجل فيلسوف لا يزجُّ بنفسه في معمعان الخصومة والعداء.
(٢) كتبه وفلسفته
وأساس هذا الكتاب هو أنَّ لغة الإنجيل قد جاءت وكلها مجازات واستعارات، وهذا التزويق البياني مُتعمَّد فيه، أولًا بسبب النزعة الشرقية إلى الأدب الرفيع، ومَيله إلى تزويق اللفظ، وثانيًا لأنَّ الأنبياء والقدِّيسين لا بدَّ لكي يحملوا الناس على اعتناق مذاهبهم أن يُثيروا الخيال، ولذا تراهم يبذلون وُسعَهم لطبع أنفسهم وكتُبهم بطابع الشعب الذي يعيشون فيه «فقد كُتِبَ كل كتابٍ مُنزل لشعبٍ بعينه أولًا، وللجنس البشري كله ثانيًا، فيجِب إذن أن يُلائم ما فيه عقلية الشعب ما وجَدَ السبيل إلى ذلك.» إنَّ الكتب المُنزلة لا تفسِّر الأشياء بأسبابها، ولكنها ترويها بأسلوبٍ يؤثر في نفوس الناس وخاصة جمهورهم، لكي تحملهم على التفاني في العقيدة «فليس موضوع الكتاب المنزل إقناع العقل، بل جذْب الخيال والسيطرة عليه.» ولهذا يكثُر فيه ذِكر المعجزات «يظنُّ الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجلَّيان في وضوحٍ إلا بالحوادث الخارقة التي تُناقِض الفكرة التي كوَّنوها عن الطبيعة … إنهم يحسبون أن الله يكون مُعطلًا ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح أيضًا، أي أن قوة الطبيعة والأسباب الطبيعية هي التي تتعطَّل ما دام الله فعَّالًا، وهكذا هم يتخيَّلون قوَّتَين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله، وقوة الطبيعة.» (وهنا نلمس أساس فلسفة «سبينُوزا» وهو أنَّ الله وسير الطبيعة شيء واحد)، ويميل الإنسان إلى العقيدة بأنَّ الله يحطم النظام الطبيعي للحوادث من أجلهم، فنرى اليهود يُعلِّلون إطالة النهار، وتأخير غروب الشمس بأنها مُعجزة تُثبت أنهم شعب الله المختار، ولو قال موسى لقومه: إنَّ البحر الأحمر قد انحسرت مياهُه بسبب الرياح الشرقية لما كان لقوله أثر في نفوسهم، ولعلَّ منزلة الأنبياء والقديسين التي يمتازون بها عن الفلاسفة والعلماء ترجع إلى حدٍّ كبير إلى أسلوبهم البياني الساحر الذي ينطقون به مدفوعين بما تُكنُّه صدورهم من حماسة لمذهبهم.
يقول سبينُوزا إنه لو فسَّر الناس الإنجيل على هذا الأساس لما وجدوا فيه شيئًا يُناقِض العقل، أما إذا تمسَّكوا بحرفيَّتِه فهم لا شكَّ مصادفون كثيرًا من الأخطاء والمُتناقِضات، أما التفسير الفلسفي فيكشف فيه وراء أستار البيان والشعر، فكرًا عميقًا.
ويعتبِر «سبينُوزا» اليهودية والمسيحية دينًا واحدًا، فلا فرق بين هذه وتلك على شرْط أن يُستلَّ الكُره من صدور الدَّهماء، وأن يستخرج التفسير الفلسفي لبَّ العقيدتَين المُتنافستَين «كم أدهشني أن أرى قومًا يُفاخرون بتعاليم الديانة المسيحية — وأعني بها الحبَّ والسعادة والسلام والعدل والإحسان إلى الناس جميعًا — يقاتل بعضهم بعضًا وفي نفوسهم كلُّ هذا الغل … حتى أصبح الكُره — دون ما يُعلِّمون من فضائل — هو المقياس الصحيح لعقيدتهم.» ويعتقد «سبينُوزا» أن اليهود لم يحتفظوا ببقائهم إلا بسبب اضطهاد المسيحية لهم، إذ أكسبتهم عُزلتهم تماسُكًا وعملًا على استمرار وجودهم، ولو لم ينبذ المسيحيون اليهود لخالَط هؤلاء شعوب أوربا وانمَحَوا فيها، وليس ثمة ما يُبرِّر التنافر والتناكُر بين المسيحيين واليهود إلا التعصُّب الذميم. ويرى «سبينُوزا» أن أول سبيلٍ لحُسن التفاهُم هو أن يُفهم المسيح فهمًا صحيحًا، فهو يُنكر بتاتًا تأليه المسيح، ويُصرُّ على أنه قبل كلِّ شيءٍ إنسان من البشر: «إن حكمة الله الخالدة قد تجلَّت في الأشياء كلها، ولكنها تمثَّلت في عقل الإنسان بصفةٍ خاصة، وفي يسوع المسيح بصفة أخص.» فلو تخلَّصت هذه الشخصية المُمتازة من كل ما يشوبها من خُراقات لا تؤدي إلا إلى الخصومة والنزاع، لجذبت حولها الناس جميعًا، ولكانت عنوانًا تتَّحِد باسمه الدنيا بعد أن مزَّقتْها حروب السيف والقلم، وتعيش في طمأنينة وسلام.
إذن فالعلم قوة وحُرية، والسعادة الدائمة هي في تحصيل المعرفة ولذَّة الفهم، وهنا تُجابِه سبينُوزا مشكلة عويصة مُعقَّدة، هي: كيف أعلم أن ما حصَّلتُ من معرفة هي صحيحة؟ ومن يُدريني أن حواسِّي صادقة فيما تنقل إلى الذهن من علم، وأن عقلي أمين على النتائج التي يستخلصها من أشتاتِ الأحاسيس التي تُقدِّمها له الحواس؟ إنه لجديرٌ بنا حقًّا أن نختبر العربة قبل أن نُسلِّم أنفسنا لها، فإن وجدْنا بها عيبًا أو نقصًا تناولناه بالإصلاح، تفاديًا لما قد يؤدي إليه من خطر، «فقبل كلِّ شيء يجِب علينا أن نُفكر في طريقةٍ لإصلاح العقل وتنقيته.» ويَجِب أن نُفرِّق بين أنواع المعرفة كي لا نأخُذ إلا أقومَها وأوثقَها.
فأول أنواع المعرفة هو ما جاء عن طريق الإشاعة، كعِلمي بتاريخ ميلادي، وثانيها التجربة الغامضة الناقِصة، كأن يعلم الطبيب علاجًا، لا لأنه نتيجة لتجارب علمية مؤكَّدة، ولكن لأن ذلك العلاج المُعيَّن ينجح «عادة». وثالث أنواع المعرفة هو ما نصِل إليه بطريق الاستدلال والاستنتاج، كأن نعتقد بكبر الشمس؛ لأننا شاهدنا أنَّ الأشياء جميعًا يصغر ظاهر حجمها كلما نأتْ عن الرائي، وهذه المعرفة أرقى من النوعَين الأوَّلين، ولكنها مع ذلك عُرضة للتغيير والتبديل، وأسمى ألوان المعرفة نوع رابع هو ما نُدركه بالبداهة، كأن نعلم على الفور أن ٦ هو العدد المحذوف في النسبة الآتية ٢ : ٤ – ٣:س، أو كما نُدرك أن الكل أكبر من الجزء. ويعترف «سبينُوزا» نفسه أن ما عرَفه هو من هذا الضرب قليل، وهذه المعرفة البديهية هي إدراك الأشياء في علاقاتها الأبدية، ويصحُّ أن يكون هذا تعريفًا للفلسفة كما يراها، فالعلم البديهي إذن يحاول أن يرى وراء الأشياء والحوادث التي تقع تحت حواسِّه قوانينها وعلاقاتها الخالدة، إذ يُفرِّق «سبينُوزا» بين النظام الزائل المؤقَّت — وأعني به عالم الأشياء والحوادث — وبين النظام الخالد، وهو عالم القوانين التي تسير وفقَها تلك الأشياء والحوادث.
إنما يريد «سبينُوزا» أنَّ قوانين الطبيعة وأوامر الله الخالدة شيءٌ واحد بعَينه، وأنَّ كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله اللانهائية، كما ينشأ من طبيعة المُثلَّث أنَّ زواياه الثلاثة تُساوي قائمتين. أي أنَّ الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدوائر بالنسبة إلى الدوائر كلها. الله هو القانون الذي تسير وفقه ظواهر الوجود جميعًا بغَير استثناء أو شذوذ، فهذا الكون المُجسَّد من الله بمنزلة الجسر (الكوبري) من قوانينه الرياضية والميكانيكية التي بني على أساسها؛ إذ القوانين هي جوهر الجسر وقوامه إن زالَتْ انْدكَّ الجسر على الأثر.
كثيرًا ما يُخطئ الناس فَهم فلسفة «سبينُوزا» التي تُوحِّد بين الله والطبيعة، فيذهب بهم الظنُّ أنَّ «سبينُوزا» يُريد بذلك أن يُصغِّر من شأن الله، فيُنزله إلى مرتبة الطبيعة، والواقع كما يقول هو: «إنني في حقيقة الأمر لم أهبط بمنزلة الإله إلى مستوى الطبيعة، بل رفعتُ الطبيعة إلى مستوى الله.»
إن إرادة الله وقوانين الطبيعة اسمان يُطلقان على مُسمًّى واحد، وإذن فكل ما يقع للعالم من أحداث إن هو إلا نتيجة آلية لقوانين الطبيعة الثابتة، أي إنها نتيجة لإرادة الله التي لا يطرأ عليها تغيُّر ولا تبدُّل، وليست هذه الآلية تقتصر على المادة والجسم فقط كما ذهب «ديكارت»، إنما هي في زعم «سبينُوزا» تمتدُّ فتشمل الله والعقل على السواء. إن العالم مُجبَر مُسيَّر في طريقٍ معلومة مرسومة ليس عن السير فيها من محيص؛ ذلك لأنَّ قوانين الطبيعة — أي إرادة الله — لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، وهي لا بدَّ أن تُنتِج نتائجها من غير نظرٍ إلى الإنسان ورغبته، فمن أفدح الخطأ أن نظنَّ أن حوادث العالم تدور حول محور الإنسان، وأنها دُبِّرت تدبيرًا لكي تنتهي إلى غاية يُريدها، إذ من الوهم أن نضع البشر في مركز العالم، ولعلَّ أساس الأخطاء التي زلَّ فيها كثير من الفلاسفة هو إدخال المقاييس البشرية في سَير العالم، ومن هنا نشأت مسألة الشر، ناسين أن الله فوق خيرِنا وشرِّنا، وأن الخير والشرَّ نِسبيَّان يتبعان أذواق البشر وأغراضهم. يقول «سبينُوزا»: إنَّ الإنسان يحكم أحيانًا على حوادث العالم بأنها عبَث أو شر؛ لأنه لا يرى الكون إلا من جانبٍ واحد، فهو جاهل بنظام الطبيعة وقانونها الشامل وتماسُكها وتكوينها كلًّا واحدًا، وهو يريد أن تجيء الأشياء وفق ما يبغي، مع أن ما يحكُم عليه الإنسان بالشر ليس شرًّا بالنسبة إلى قانون الطبيعة ونظامها، فالخير والشر كلمتان لا تدلَّان على شيءٍ إيجابي، بل هما آراء شخصية تتغيَّر بتغيُّر ظروف الإنسان، ولا تعترف بهما الحقيقة الخالدة، وقل هذا في القبيح والجميل، إذ هما كذلك أمران اعتبارِيَّان لا يدلَّان على حقيقة واقعة «إنني لا أعزو للطبيعة جمالًا ولا قبحًا، ولا أنسِبُ إليها نظامًا أو تهويشًا، فإن الأشياء لا يمكن أن تُسمَّى جميلة أو قبيحة، أو أنها حسنة الترتيب أو سيئته إلا بالنسبة إلى مَداركنا نحن»، «فإن كانت الحركة التي تستقبلها الأعصاب من الأشياء التي أمامنا بواسطة الأعيُن تؤدي إلى الأريحية، فإنها عندئذٍ تُسمَّى جميلة، وإن لم تكن كذلك سُمِّيت قبيحة.»
وكما أدخل الإنسان شخصيته في النظر إلى الحقيقة الخالدة من حيث الخير والشر والجمال والقُبح، فقد نظر إلى الله أيضًا من وجهة نظرٍ بشرية محضة، أما «سبينُوزا» فيرفُض هذه النظرة رفضًا قاطعًا، ويُنكر أن يكون الله شخصًا بأيِّ معنًى من معاني هذه الكلمة، ويلاحظ أن قد تواضَع الناس على تصوير الله في صورة المُذكَّر لا المؤنث، فمثلًا يُقال عنه هو ولا يُقال هي، ويُعلِّل «سبينُوزا» هذا التذكير لله بخضوع المرأة للرَّجُل. فمن هذه السيطرة التي يتمتَّع بها الرجل توهَّم الإنسان أن الله لا بدَّ أن يكون مُذكرًا في نوعه، وبديهي أنه لا يتَّصِف بصفةٍ بشرية. وقد كتب «سبينُوزا» إلى رجلٍ اعترض عليه في تصويره لله بصورة غير مُشخَّصة، قال: «إنك حين تنقُدني لأنني أُنكِر أن يكون لله بصر وسمع وعلم وإرادة وما إليها … لا تدري أي نوع من الله إلهي، وإني لأحسبك مُعتقدًا بأنه ليس أكمل ممَّن يتَّصِف بالصفات السابقة، وكم يُدهشني ذلك، وإني أعتقد أن المُثلث إذا استطاع أن يتكلَّم لزعم على هذا النحو بأن الله مُثَّلثي في صفاته. كذلك تقول الدائرة إنَّ طبيعة الله دائرية في أساسها، وهكذا يخلع كل شيءٍ صفاته الخاصة على الله.»
وإذن لا العقل ولا الإرادة جزء من طبيعة الله بمعناهما المعروف، ولكن إرادة الله هي مجموع الأسباب كلها والقوانين كلها التي تسير في الطبيعة على أساسها، وعقل الله هو مجموع العقول كلها المُنبثَّة في الكون. يقول «سبينُوزا»: «إن عقل الله هو كل القوة العقلية المُنبثَّة في أرجاء المكان والزمان، هو الإدراك المُنتشِر في العالم وهو الذي ينفخ فيه الحياة.» «فكل الأشياء حية بدرجات.» «والحياة أو العقل جانب واحد لكل ما نعهد من أشياء كما أنَّ الامتداد المادي — أي الجسم — جانب آخر. وهذان العقل والجسم هما الوجهان أو الصفتان اللتان بهما نُدرك عمل الله، وبهذا المعنى يمكن أن يُقال عن الله إن له عقلًا وجسمًا، فلا المادة وحدَها ولا العقل وحدَه هو الله، ولكنه العملية العقلية والعملية الذرية اللتان منهما يتألَّف الكون وتاريخه. نعم إنَّ الله هو هذان الجانبان معًا وما يسيرهما من أسباب وقوانين.»
يُجيب «سبينُوزا» عن ذلك بأنْ ليس العقل مادة ولا المادة فكرًا، فلا يؤثر العقل في الجسم ولا يؤثر الجسم في العقل، ولا هما مُستقلَّان متوازيان إذ ليس هنالك عمليتان، وليس هنالك وجودان مادة وعقل، بل إنَّ في الكون شيئًا واحدًا وعملية واحدة، تراها من الداخل فكرًا ومن الخارج حركة، نعم هنالك وجود واحد يظهر تارة عقلًا وطورًا مادة، ولكن ليس في الواقع إلا مزيج مندمج من العنصرَين، وإذن فالعقل والجسم لا يؤثر أحدهما في الآخر؛ لأنهما ليسا شيئين، بل شيءٌ واحد «فلا يستطيع الجسم أن يحمِل العقل على أن يُفكر، ولا يستطيع العقل أن يحمِل الجسد على أن يتحرَّك أو يسكُن أو يتَّخذ وضعًا آخر.» وعلَّة ذلك هي أن «حُكم العقل رغبة الجسد وميوله … شيء واحد بعينه.» وليس هذا الازدواج قاصرًا على الإنسان إنما هو كائن في كل شيء، فأينما وجدتَ عملًا «ماديًّا» فليس ذلك إلا جانبًا واحدًا من العملية الحقيقية التي لا يراها بوجهَيها إلا النظر الشامل الذي يمكنه أن يُدرك العملية العقلية الباطنة المُتستِّرة وراء الظاهرة المادية، وهي أشبَهُ شيءٍ بخلجات العقل في الإنسان. وعلى ذلك فكل عملية «عقلية» يُقابلها عملية «مادية»، «ونظام الأفكار وارتباطها هو نفس نظام الأشياء وارتباطها.» وإذن فعُنصر الفكر وعنصر المادة المُمتدَّة شيء واحد، يبدو مرة فكرًا، ومرة امتدادًا.
ليس هناك فرقٌ حقيقي بين العقل، كما يُمثله الله، وبين المادة، كما تُمثِّلها الطبيعة، فهما شيءٌ واحد «يُسمَّى بالله آنا، وبالطبيعة آنًا آخر تبعًا لوجهة نظر الرائي، فليس العالم المرئي منفصلًا عن الله، بل هو مظهره الذي يبدو به لا أكثر، والعالم يتدفَّق منه؛ لأنه الينبوع الأول الذي تصدُر عنه الحياة وجواهر الأشياء، كما يصدر الشيء النهائي من اللانهائي، أو كما يصدر التعدُّد من الوحدة، والله هو الوحدة التي تعود تلك الأشياء المتعددة فتُلقى فيها مرة أخرى. «الامتداد» هو «فكر» مرئي، والفكر هو امتداد خفي، وهذا يوضح العلاقة بين الجسم والعقل وما بينهما من انسجام تام.»
من ذلك نرى أن «سبينُوزا» قد أزال الحدَّ الفاصل بين الجسد والعقل، واتخذ منهما حقيقة واحدة ذات مظهرَين، وما دام الأمر كذلك فليس العقل والإرادة شيئَين مختلفين، إنما هما حقيقة واحدة، وكل ما بينهما من فرقٍ هو خلاف في الدرجة لا في النوع. فمن الخطأ أن نزعُم بأنَّ للعقل «ملكات» منفصلًا بعضها عن بعض، إذ ليس العقل حانوتًا يتَّجِر بأنواع الفكر، فهذا خيال، وهذه ذاكرة، وتلك إرادة، ولكنه هو الأفكار نفسها في سيرها وتسلسُلها، ولفظة «العقل» إنما نُطلقها اصطلاحًا على سلسلة الأفكار، كما نطلق لفظ «الإرادة» على سلسلة الأفعال والرغبات، مع أن كل فكرة وكل رغبة فيها العقل وفيها الإرادة معًا، لا فرق بين فكرة وفكرة، أو بين رغبة ورغبة «كما أن الصخرية موجودة في كل صخرة.» لا فرق بين واحدة وأخرى. وصفوة القول إن «الإرادة والعقل شيء واحد؛ لأن المشيئة فكرة طال بقاؤها في الشعور، ثم تحوَّلت إلى عمل، وكل فكرة لا بدَّ أن تصير عملًا، إلا إذا عطَّلتْها عن ذلك فكرة مُعارضة، فالفكرة هي المرحلة الأولى لعملية عضوية متماسكة، ويُتمِّمها العمل الخارجي.»
ويرى «سبينُوزا» أن ما يُسمَّى بالإرادة هو في الواقع رغبات أو غرائز أساسها جميعًا هو حفظ بقاء الفرْد، فكل نشاطٍ بشري — مهما تنوَّع واختلف — صادِر عن هذه الرغبة في حفظ البقاء، شعر بذلك الإنسان أو لم يشعُر، وفي ذلك يقول: «كل شيء يحاول أن يُبقي على وجوده، وليس هذا المجهود لحفظ بقائه إلا جوهر حقيقته، فإنَّ القوة التي يستطيع بها الشيء أن يبقى هي لبُّ وجوده وجوهره، وكل غريزة هي خطة هذَّبتها الطبيعة؛ لكي تكون سبيلًا لبقاء الفرد، والسرور والألم هما إجابة غريزة أو تعطيلها، فهما ليسا سبَبَين لرغباتنا، ولكنهما نتيجة لها، إذ نحن لا نرغب في الأشياء لأنها تسُرُّنا، بل هي تسرُّنا لأننا نرغب فيها؛ إذ لا مندوحة لنا عن ذلك.»
فإن صحَّ ما زعَمه «سبينُوزا» من أن الإنسان مدفوع برغبة كامنة فيه لحفظ بقائه، ولا يسَعُه إلا أن ينصاع لها، فليس للإنسان إرادة حُرة؛ لأن ضرورة البقاء تُحدِّد الغرائز، والغرائز تحدِّد الرغبة، ثم الرغبة تُقيِّد الفكر والعمل، «فليس للعقل إرادة مطلقة أو حرة، ولكنه حينما يريد هذا الشيء أو ذاك مُسيَّر بسبب، وهذا السبب يُسيِّره سبب آخر، وهذا يُسيره ثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية.» وقد يتوهَّم الناس أنهم أحرار؛ لأنهم يُدركون رغباتهم وشهواتهم، ولكنهم يجهلون الأسباب التي تدفعهم أن يرغبوا ويشتهوا، وهنا يُشبِّه «سبينُوزا» الإنسان في حياته بحجَرٍ مُلقًى لا يملك في نفسه اختيارًا، غير أنه لو وُهِب شيئًا من الشعور لزعم مع ذلك أنه إنما يسير في هذا الاتجاه المُعيَّن برغبته، وأنه هو الذي رسم لنفسه مكان السقوط.
وما دامت الأعمال البشرية تَسير وفق قانونٍ ثابت كقوانين الهندسة مثلًا، فيجب ألا يدرس الفيلسوف النفس الإنسانية إلا كما يُعالِج جمادًا. وفي هذا يقول سبينُوزا: «إنَّني سأكتُب عن الكائنات البشرية كما لو كان موضوع دراستي خطوطًا وسطوحًا وأجسامًا صُلبة.» «فلن أسْخَر ولن أرثي أو أمقُت الأعمال البشرية، ولكني أريد أن أفهمها، ولذلك نظرتُ إلى العواطف … لا باعتبارها شرورًا في الطبيعة البشرية، ولكن بصفتها خواصَّ لازمةً لها كما تلازم الحرارة والبرودة والعواصف والرعد وما إليها طبيعة الهواء.»
وهذا الدرس الموضوعي للسلوك الإنساني قد مكَّن «سبينُوزا» من أن يُخرِج للناس بحثًا في الأخلاق لا يكاد يدنو منه كتابٌ قديم أو حديث. ويقول عنه فرويد العالم السيكولوجي المُعاصر: «إنه أكمل دراسة جاء بها فيلسوف أخلاقي في أي عصر من العصور.»
تلك صور ثلاث من الأخلاق المثالية كما رآها الفلاسفة في عصورٍ مختلفة، وقد تناولها سبينُوزا فآخى بينها وأدمجها جميعًا في وحدة منسجمة، فأنتج للإنسانية نظامًا للأخلاق هو أسمى ما سما إليه الفكر الحديث.
ولا يؤمِن «سبينُوزا» بقيمة التواضُع، ويرى أن التواضُع من جانب القويِّ لا يكون إلا خداعًا يُضلِّل به الناس، وهو من جانب الضعيف خجَل، وهو في كلتا الحالتَين يستتبع نقصًا أو فقدانًا للقوة، والفضائل عند سبينُوزا ليست إلا ضروبًا من المقدرة، ولكن سبينُوزا حينما تصدَّى لمقاومة التواضُع لم يفُتْه أن يلاحظ أنه نادر بين الناس، بل يكاد ينعدِم. وإنك لترى الفلاسفة الذين يكتبون الرسائل في تمجيد التواضُع يُزيِّنون صدور كتبهم بأسمائهم رغبةً منهم في الإعلان عن أنفسهم. ويعجَب سبينُوزا من كثرة ما يأكل قلوب الناس من حقدٍ وحسد وكراهية، ولا يرى علاجًا لهذه الأمراض التي تفتُّ في عضُد المجتمع إلا التخلُّص من تلك النزَعات الخبيثة وأشباهها، وهو يعتقد أنَّ ذلك هيِّن ميسور، فالكراهية مثلًا يمكن قتلُها بالحب؛ لأنك لو ردَدتَ مقْت الحقود بعاطفة الحُبِّ أزَلْتَ من صدر عدوك مقْتَه على الفور، أما إن بادلْتَه كرهًا بكُره، فإنك بذلك توسِّع هوَّة الخلاف، وتُغذِّي ما بينكما من بُغض ونفور، «أما الذي يحسُّ في نفسه أنه محبوب ممَّن يكرهه، فإنه يُصبح فريسةً للعواطف المتضاربة: عواطف الحب والبُغض، والحب يميل أن يُنتج حُبًّا، فتتحلَّل كراهيته وتفقد قوَّتَها، وإن كُرهك رجلًا لَاعترافٌ منك بخوفِك منه وضِعة منزلتك عنه؛ لأنَّ الإنسان لا يمقُت عدوًّا إن كان عن ثقةٍ أنه يستطيع أن يتغلَّب عليه.»
ولكن على الرغم من هذه النزعة المسيحية نحو الحب، فإن «أخلاق» سبينُوزا إغريقية الصِّبغة بوجهٍ عام ما دامت «محاولة الفهم هي أساس الفضيلة الأول والأوحد.» لأنه بالفكر وحدَه يمكن للإنسان أن يرى موقِفَه من جميع نواحيه، أما إذا تحكَّمت فيه العواطف، فإنه لا يرى من الموقف إلا جانبًا واحدًا، وبذلك يصِل إلى نتائج باطلة؛ إذ العاطفة عبارة عن «فكرة ناقصة»، ولكن إن كانت عواطف الإنسان الغريزية لا تصلُح أن تُتَّخذ دليلًا يُهتدى بهديه — لأنَّ الغرائز بطبعها تسعى كلٌّ منها لإشباع نفسها غير آبِهةٍ لصالح الشخصية في مجموعها — فيجِب أن تُستخدَم كقوَّةٍ دافعة يُسيرها العقل كيف شاء، فالعاطفة عمياء حتى يهدِيَها العقل، كما أنَّ العقل مَيِّت إلى أن تنفُخ فيه العاطفة روح الحياة. فبدل أن يسلط الإنسان عقله على عواطفه ليكونا ضِدَّين مُتعارِضَين — وكثيرًا ما تظفَر العواطف في مثل هذا المضمار؛ لأنها أقدم في الإنسان عهدًا وأرسخ قدمًا — يقترح سبينُوزا أن يضرب الإنسان عاطفةً بعاطفة، أي أن يجعل من عواطفه التي ترتكز على أساسٍ من العقل عدوًا هادمًا للعواطف الأخرى التي لا تقوم على دعامة من العقل؛ وذلك لأنه يرى «أن العاطفة لا يمكن أن تُكْبَت أو تُدفَع إلا بعاطفةٍ أخرى مُناقضة لها تكون أقوى منها.» وهكذا يتناصَر العقل والمشاعر على الوصول إلى النتيجة المرجوَّة المحمودة، ثم يستطرد سبينُوزا ويُقرِّر «أنَّ العاطفة لا تظلُّ عاطفةً إذا ما تكوَّنت في الذهن فكرة عنها واضحة مُحدَّدة.» وبعبارةٍ أخرى كلَّما استطاع العقل أن يحوِّل ما فيه من عواطف إلى أفكارٍ صار أمتنَ أساسًا وأبعدَ عن أن تُزعزِعه العواطف الجامحة، وشهوة الإنسان إنْ كان مصدرها الذي تولَّدت منه فكرة مُبهمة ناقِصة عُدَّت عاطفة، أما إذا نشأت عن فكرةٍ مضبوطة مُحدَّدة واضحة كانت فضيلة محمودة. وبعبارةٍ أوضح: كل ما يعمله الإنسان، ويكون مَبنيًّا على أساسٍ من العقل والتفكير — لا على المشاعر والعواطف — فهو عمل فاضل، وإذن فلا فضيلة عند سبينُوزا إلا العقل.
ولعلك تلاحظ في «أخلاق» هذا الفيلسوف أنها قائمة على فِكرته فيما وراء الطبيعة، فكما قرَّر في «الميتافيزيقا» أن الفلسفة الصحيحة تحاول أن تُدرِك القانون الكامن وراء الأشياء الجزئية التي تقع تحت الحس، فهو يُقرِّر هنا كذلك أن الفلسفة يجب أن تضَعَ قانونًا ينتظم رغبات الإنسان المُتنافرة، وبعدئذٍ يستطيع الإنسان أن يسلُك سلوكًا يتَّفق مع ما يُمليه العقل الذي يُعيننا على أن ننظُر للمواقف المختلفة نظرةً واسعة شاملة تنفُذ — بعون الخيال — إلى أبعد النتائج. فبالعقل والخيال معًا يمكن للإنسان أن يتنبَّأ بما عساه يحدُث، وبهذا يستطيع أن يتحكم في مُستقبله، وأن يُحرِّر نفسه من كثيرٍ من القيود.
وحكم الإنسان لنفسه هو أسمى ما يُنشَد من حرية، وهي حرية أرفع وأنبل مما يُطلِق عليه الناس اسم «الإرادة الحُرَّة»، فليست الإرادة حرَّةً بأي معنًى من معاني الحرية، ولا يقولنَّ أحدٌ إنه ما دام مغلولًا مُقيدًا لا يتمتَّع بحرية إرادة، فليس مسئولًا عن أعماله وسلوكه من الوجهة الأخلاقية.
وليس في تقييد إرادة الإنسان ما يهبط بأخلاقه، بل إنَّ ذلك ليسمو بها إلى مستوًى رفيع؛ لأنه يُعلِّم الإنسان ألا يُحَقِّر أحدًا أو يسخَر من أحد، وألا يغضَبَ أو يحقِد على أحد؛ إذ الناس في الواقع برآء مما يقترفون من آثام؛ لأنهم لا يعرفون ما يفعلون. وهنا يُطالبنا «سبينُوزا» ألا نصبَّ الغضب على المُجرمين، فإن أنزلنا بهم العقاب لسلامة المُجتمَع، فينبغي أن يكون مَشوبًا بروح العطف والتسامُح. هذا وإنَّ عقيدتنا بالجبْر تُقوِّي عزائمنا، وتشدُّ من أزْرِنا إذا ما كشَّرت لنا الأيام عن أنيابها؛ لأننا سنعلم أنَّ ما يأتي به الدهر نتيجة لازمة لقانون الكون، إن خيرًا وإن شرًّا، فيكفي أن نعلم في يقينٍ ثابت أن كل شيء في العالم إنما يقَع بأوامر الله الخالدة التي لا تُغيَّر ولا تُبدَّل؛ لكي نغتبط ونرضى عن كل ما نُصادفه في الحياة، وممَّ تتألم وتشكو ما دُمتَ تُدرك أن ما تلقاه من حظٍّ عاثر لم يَجئْ اعتباطًا ولا مصادفة، بل هو جزء من بناء الكون المُحكَم، ولا بدَّ منه لكي يتمَّ الانسجام والاتِّساق. وهكذا يُعلِّمنا جَبْر الإرادة أن الأشياء والأحداث كلها أجزاء من نظام خالد، وأنه يجِب أن نبتسِم للأيام على أية حال، إذ لا بدَّ مما ليس منه بدٌّ، وفي ذلك يقول نيتشه: «إنَّ ما هو ضروري لا يضرُّني، فإنَّ حُبَّ القدَر لُباب طبيعتي.» كذلك تعلمنا هذه الفلسفة الجبرية ألا نبتئس بالموت، بل «إنَّ أقلَّ ما يُفكِّر فيه الرجل الحي هو الموت.»
وبهذه العبارة ينتهي كتاب «الأخلاق» الذي حوى من غزير الفكر ما يحمِل كلَّ قارئٍ أن يُطأطئ الرأس إجلالًا لهذا السِّفر النادر بين ما أنتج البشر.
كان «سبينُوزا» يكتُب رسالته السياسية التي يدافع بها عن الديمقراطية في نفس العصر الذي كان فيه «هوبز» يُمجِّد المَلَكية المُطلقة في إنجلترا، ويقاوم ثورة الشعب الإنجليزي على مَليكه، وقد جاءت فلسفة «سبينُوزا» السياسية من القوة، بحيث أصبحت ينبوعًا دافقًا ظلَّت تستقي منه الحركة الديمقراطية حتى بلغت أوْجَها على يدي «روسُّو» ورجال الثورة الفرنسية.
يذهب «سبينُوزا» إلى أنَّ الناس كانوا قبل نشأة المُجتمَع يعيشون فوضى لا ينتظمُهم قانون، ولا يسودهم نظام، وكانت القوَّة عندَهم هي الحق، فمن استطاع أن يظفَر بشيءٍ فهو حقٌّ له، وإذن فلم تكُن لديهم فكرة الصواب والخطأ أو العدل والظلم «ولا يمكن لشيءٍ في الحالة الطبيعية أن يُسمَّى خيرًا أو شرًّا؛ لأنَّ كل إنسانٍ في تلك الحالة لا ينظر إلا إلى مصلحته، ولا يكون مسئولًا أمام أحدٍ غير نفسه، ولا يحدُّه قانون، وإذن فيستحيل أن تنشأ فكرة الخطيئة في الحالة الطبيعية؛ لأنها فكرة لا تكون إلا في الحياة المدنية، حيث يتقرَّر بإجماع الرأي ما هو الخير وما هو الشر، وحيث يكون الفرد مسئولًا أمام الدولة.»
هذا التنافُر والتنافُس الذي تراه بين الأنواع المختلفة، كما تراه بين الدول، كان يسود الأفراد قبل أن يتعاهدوا على تكوين مُجتمعٍ تُصان فيه مصالح الأفراد، ولا يكون الحقُّ فيه مُرتكزًا على القوة، وقد دفع الناس إلى تكوين المجتمع شعورهم بالحاجة إلى التعاون والتآزُر على درء الخطر، إذ لم يستطِع الفرد وحدَه أن يدفع عن نفسه كلَّ ما كان يُهدِّده من أخطار، وأن يُحصِّل في الوقت نفسه ضرورات الحياة، فلكي يهوِّن الإنسان على نفسه أمر الدفاع عن النفس، حتى يتفرَّغ لشئون الحياة، مال بطبعِه إلى النظام الاجتماعي، ومن هذا ترى أنَّ الناس ليسوا مُهيَّئين بطبيعتهم لاحتمال النظام الاجتماعي، ولكن الخطر هو الذي ولَّد فيهم الاجتماع، والاجتماع يُغذِّي ويقوِّي الغرائز الاجتماعية شيئًا فشيئًا «فلا يُولَد الإنسان لكي يكون مواطنًا (أي فردًا من مجتمع)، ولكنه يجِب أن يُراضَ على ذلك.»
ولقد رضي الإنسان — حينما قبِل أن يكون عضوًا في المجتمع — أن يتنازَل عن بعض قوته، فلكل فردٍ أن يستعمل قوَّته في اكتساب مصالحه على شرط ألا يتعدَّى على حرية الآخرين التي يجب أن تكون مساوية لحُريته، وبذلك يكون الفرد قد أعطى للجماعة جزءًا من قوته الطبيعية في مقابل أن تُمكِّنه الجماعة من استغلال ما بقي له من القوة إلى أقصى حدٍّ مُستطاع دون أن يخشى على نفسه خطرًا واعتداء، ولكي يستطيع المُجتمع أن يصُون للأفراد ما تعهَّد لهم به من طمأنينةٍ وأمنٍ أوجد قانونًا يُحدِّد تصرُّفات الناس ومعاملاتهم، وقد اضطرَّ المجتمع إلى وضْع هذا القانون؛ لأنه يعلم أنَّ الناس مدفوعون في حياتهم بعواطفهم، والعواطف وحدَها عمياء لا تدري أين تسُوق صاحبها، بحيث ينتفع ولا يَضُرُّ الآخرين، فلو كان الناس جميعًا مَسُوقين بالعقل لما كان للمجتمع حاجة إلى القانون، فالقانون في الواقع بالنسبة إلى الأفراد بمثابة العقل من العواطف، أو هو يجِب أن يكون كذلك.
فكما ارتأى «سبينُوزا» في «الميتافيزيقا» أنَّ هنالك حكمة مُدبِّرة وعقلًا مُنظِّمًا يكمُن وراء الأشياء، وعلى الفيلسوف أن يُدرك ما وراء فوضى الأشياء الظاهرة من انسجامٍ واتِّساق، وكما ارتأى في «الأخلاق» أنَّ الحكمة هي في إيجاد التعاون والنظام بين الأهواء المُتضاربة والشهوات المتنافِرة، كذلك في السياسة أيضًا يرى أنَّ أساس المجتمع نظام خَفي كامِن وراء نزعات الأفراد المُتضاربة في الظاهر. فالدولة الكاملة ينبغي ألا تحدَّ من قوة الفرد إلا بمقدار ما تتَّقي به خطر هذا الفرد على بنائها وكيانها، وهي في الوقْت نفسه يجِب ألا تنزِع من الأفراد حريةً إلا إذا أضافت إليهم أكبر مما انتزعَت.
«ليس الغرَض الأقصى من الدولة أن تُسيطر على الأفراد، ولا أن تكمِّمهم بالمخاوف، ولكن الغاية منها أن تحرِّر كل إنسانٍ من الخوف، حتى يستطيع أن يعيش ويعمل في أمنٍ تامٍّ دون أن يضرَّ نفسه أو يؤذي جاره. إني أكرِّر القول بأن ليست غاية الدولة أن تحوِّل الكائنات العاقلة إلى حيوانات متوحشة أو آلات، بل إنَّ الغرض منها هو أن تُمكِّن أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن، غايتها أن تُهيِّئ للناس عيشًا يستمتعون فيه بعقولٍ حرة، حتى لا يُنفقوا قوَّتهم في الكراهية والغضب والكيد وإساءة بعضهم إلى بعض، إنَّ غاية الدولة الحقيقية هي أن تكفل الحرية.»
الحرية هي غرض الدولة الأسمى؛ لأنها يجب أن تعمل على الرُّقي والنمو والكمال، والرقي إنما يعتمد على مقدرة الأفراد وكفايتهم بشرط أن تجِد مجال العمل أمامها حُرًّا طليقًا، ولكن ماذا يفعل الأفراد إن طغى الحُكَّام وقيدوا حُريَّتهم ونُموَّهم؟ يُجيب «سبينُوزا» عن ذلك بأنَّ واجب الفرد هو طاعة القانون — حتى ولو كان جائرًا ظالمًا — ما دامت السلطة الحاكمة لا تمنع الناس من حرية الكلام والنقد والاحتجاج، «وإني أعترِف بأنَّ بعض النتائج السيئة قد ينشأ من مثل هذه الحرية. ولكن أية مسألةٍ قد اتُّبِع فيها رأيٌ حكيمٌ فاستحال عليها أن تُنتج السوء؟» إن القوانين التي تُلجِم الأفواه، وتحطم الأقلام تهدِم نفسها بنفسها؛ لأنه لن يلبَث الناس أمدًا طويلًا على احترامهم للقوانين التي لا تُجيز لهم أن ينقُدوها:
«كلما جاهدت الحكومة أن تنتقِص من حرية الكلام كانت مقاومة الناس إيَّاها أشدَّ … فقد جُبل الناس بوجهٍ عام على ألا يشتدَّ قلقُهم، ويفرغ صبرهم من شيء بقدْر ما يحدُث ذلك عندما تُعَدُّ الآراء — التي يعتقدون أنها حق — جرائم تُعارض القانون … وعندئذٍ لا يَعتبِر الناسُ أن مقْت القوانين ومقاومة الحكومة عار، بل هو في هذه الحالة شرف عظيم.»
فكلما قلَّتْ رقابة الدولة على العقل ازداد المواطنون والدولة صلاحًا. ومن أفدح الأخطار التي تُهدِّد كيان المجتمع أن يمتدَّ سلطان الحكومة من أجسام الناس وأعمالهم إلى نفوسهم وأفكارهم.
إذا ظفر الإنسان بهذه الحرية فلا يَعنيه أي نوع من أنواع الحكومات يسُود، فلتكُن ديمقراطية أو أرستقراطية أو أي لونٍ آخر، ما دام كل فردٍ تَرَبَّى ويُرَاض على تفضيل حقِّ الجماعة على منفعتِه الخاصة، ولكن سبينُوزا مع ذلك يميل إلى الديمقراطية ويمقُت المَلَكية المُستبدَّة.
«قد يُظَن أن التجربة قد دلَّت على أن وضع السلطة كلها في رجُلٍ واحد يدعو إلى السلام وترابط الأفراد، وقد يُسْتَدل على ذلك بأنه ليس بين الدول دولة لبِثت أمدًا طويلًا بغَير تغيُّر محسوس كما لبثت دولة الأتراك، ومن جهةٍ أخرى لم يكن بين الدول أقصر أجلًا من الدول الشعبية أو الديمقراطية، ولا كثُر العصيان في دولةٍ كما كثُر في هذه. ولكن إن كانت البربرية والعبودية والذلُّ تُدعى سلامًا، فليس أتعَسَ للإنسان من السلام. فلا شكَّ أن العِراك يكثُر ويشتدُّ عادة بين الآباء والأبناء منه بين السادة والعبيد، ومع ذلك فليس من صالح الأسرة أن ينقلب حقُّ الوالد إلى حقِّ الملكية، وألا يُعَد الأطفال أكثر من عبيد، وإذن فوضع السلطة كلها في رجُلٍ واحدٍ يؤدي إلى العبودية لا إلى السلام.»
فالديمقراطية هي خير أنواع الحكومة، ولكن الديمقراطية لا تخلو من عَيبٍ فادح، ذلك أنها تميل إلى وضع السُّوقة في مراكز القوَّة، ولكي نتَّقي هذا الخطر يجب أن نُخصص الحُكم لذوي الكفاية الممتازة والدراية الواسعة؛ لأنه لو تحكم السُّوقة في الأمر فلا بدَّ أن تثور الطبقة الممتازة رافضةً أن تُذعِن لمن هم أدنى منها وأوضع، وقد تستطيع هذه الطبقة بذكائها وقُدرتها أن تظفر بالسلطان رغم قلَّة عددها، «ومن هنا فيما أظنُّ تتحوَّل الديمقراطية إلى أرستقراطية، ثم تنقلب هذه إلى ملَكية آخِر الأمر …»
وشاء القدر أن يُسدِل الموت أستاره على حياة الفيلسوف وهو يكتُب في هذا الفصل الذي يُعالِج فيه الحرية والمساواة بين الناس، وقد ترك بعد موته أثرًا قويًّا في مجرى الفكر، وتأثَّر به فلاسفة كثيرون، وحسبُك أن تعلم ما قاله هجل: «لن تكون فيلسوفًا إلا إذا درَسْتَ سبينُوزا أولًا.»
(١-٦) لَيْبنتِز (١٦٤٦–١٧١٦م)
التحق لَيْبنتِز بجامعة ليبزج طالبًا للقانون، ولكنَّ مَيله الغريب النادر إلى القراءة والمُطالعة دفعَه إلى اقتحام الكتُب أيًّا كان لونها وعصرها، حتى أوشك أن يُلمَّ بكل ما أنتج العقل البشري من فكر، لا يفرِّق في ذلك بين قديمٍ وحديث، وكان لَيْبنتِز أكثر الفلاسفة اعتمادًا على الكتُب والمطالعة في اكتساب آرائه، وهو في ذلك على نقيض سبينُوزا الذي لم يقرأ كثيرًا، وإنما استمدَّ أكثر آرائه من نفسه بالتفكير والتأمُّل.
ولقد حدَتْ به سَعة اطلاعه إلى تشعُّب أغراضه في البحث، فأراد أن يتناول بالدرس كل العلوم، فكان رياضيًّا وعالمًا في الفيزيقا ومؤرِّخًا وميتافيزيقيًّا وسياسيًّا، ولم يكن فيما يكتُب من بحوث يُلم إلمامةً سطحية عَجلى، بل كان يتعمَّق في كل موضوع، ويضيف إليه نتاجًا جديدًا. وكان كل مَطمَحه من تلك الدراسة الفسيحة المُتشعِّبة أن يوفِّق بين الآراء المُتضاربة، وأن يجعل من التراث الفكري وحدةً منسجمة لا تَناقُض فيها ولا خِلاف، وطمع أن يُوجِد لغةً جديدة تُكتَب بها الفلسفة في أنحاء العالم جميعًا، وأمل أن يُقارب بين الفكر القديم والفكر الحديث، ورجا أن يُزيل ما قد نشب بين الطوائف الدينية من خلاف، ثم أراد في السياسة أن يؤلِّف حِلفًا بين الدُّويلات الألمانية المُجاوِرة لنهر «الرين» لتقِف سدًّا منيعًا دون الأطماع الفرنسية التي كانت تتأجَّج في صدر لويس الرابع عشر حينئذ. وحاول أن يُوجِّه ذلك الملك الفرنسي العظيم وجهةً أخرى، حتى لا يطمع في غزو ألمانيا، فقدَّم إليه مشروعًا بغزو فرنسا لمصر، وهكذا كانت طبيعةُ لَيْبنتِز تنحو نحوَ التوفيق والتوحيد، وسترى ما بذل في فلسفته من مجهودٍ في ذلك.
ومما يؤسَف له أن كانت في أخلاق هذا الفيلسوف دناءة وضِعَة، فكان شَرِها مُقتِّرًا مُرائيًا مُخادعًا، لا يبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة نفسها، ولا يدافع عن رأيٍ أو ينقُد رأيًا إلا لمآرب شخصية. ومن أمثلة ما يُروى عنه في ذلك أنه كان أصدق الأصدقاء لسبينُوزا في حياته، فلمَّا مات انقلب له عدوًّا لدودًا يهدِم آراءه ويهجُوه، وقد بلغ به الحِقد أن أثار حملةً دينية على نظرية «نيوتن» في الجاذبيَّة، لا لشيءٍ إلا لأنه أراد أن يهدِم من عظمة الرجل.
(١) فلسفته
ولكن كيف اتَّحد هذان العنصران المختلفان في الإنسان؟ وكيف أمكن أن يؤثِّر أحدهما في الآخر؟ إنَّ ديكارت لا يشكُّ في أنَّ للجسم تأثيرًا على العقل؛ لأننا لو قُلنا إنَّ العقل قد استمدَّ أفكاره الواضحة المحدودة من الله، فلن نستطيع أن نزعُم أنَّ ما فيه من أفكارٍ مهوَّشة غامضة قد جاءته من الله كذلك، وإذن فلا بدَّ أن تكون قد نشأت من علاقة العقل بالجسد. فبماذا إذن تُعلِّل تأثير الجسم المادي في العقل الشعوري على ما بينهما من اختلافٍ في الجوهر؟ يُجيب ديكارت بأنَّ هذه علاقة شاذَّة لا تتَّفِق مع طبائع الأشياء، ولا يتردَّد في أن يعترف بأن إرادة الله قد تدخَّلت في الأمر فوحَّدت بين ذَينك العنصرَين المتناقضَين، بحيث يؤثر أحدهما في الآخر. ويزعم ديكارت أنَّ هذا الشذوذ لا يُوجَد إلا في الإنسان وحدَه دون سائر المخلوقات، وأما سائر أنواع الحيوان فهي في نظره أجسام مادية وأحاسيسها لا تزيد على حركات عصبية تنشأ عنها دوافع تُحرِّكها حركاتٍ مُنعكِسة لا أثر للفِكر فيها.
جاء «سبينُوزا» فأنكر هذا الشذوذ في التفكير، فلو كان في الكون كما يزعم جوهران منفصلان هما المادة والعقل لاستحال أن يؤثر أحدهما في الآخر؛ لاختلاف عنصرَيهما. ورأى «سبينُوزا» أنَّ أساس الخطأ كله هو في فَهم حقيقة الله، فلا مادة هناك ولا فكر، ولا إلهٌ يصِل ما بينهما في الإنسان ويدعهما مُنفصلَين في سائر ظواهر الكون، إنما في الكون حقيقة واحدة، جوهر واحد، عنصر واحد، هو العقل وهو المادة وهو الله معًا. لا يرى «سبينُوزا» أن الله يخلق العالم، بل عنده أن الله هو العالم.
يزعُم «لَيْبنتِز» أن العالم يتكوَّن من ذراتٍ أولية روحية لا فرق في ذلك بين أرواح وأجسام، وهي تختلف عن العنصر الذي فرضه «سبينُوزا» جوهرًا للكون بأنها ذرَّاتٌ فردية لا نهائية من حيث عددها وكيفها.
أما مادة «سبينُوزا» فهي عنصرٌ واحد مُتجانس، كذلك تختلف عن الذرَّات التي زعمها ديمقريطس أصلًا للكون بأنها ليست مادة مَيتة، بل هي كلها قوة وحياة وحركة، وليست هذه الذرات الروحية صورة واحدة مُتكررة، بل إنها مُتبايِنة مختلفة إلى أقصى حدود التبايُن والاختلاف في الكيف والفاعلية، حتى إنك لا تجِد في الكون كله ذرَّتَين مُتشابهتَين؛ لأنه لو كان ذلك لكان خلق إحداهما عبثًا لا مُبرِّر له، وعلى الرغم من أنَّ الذرات الروحية كلها تصوِّر في نفسها شيئًا واحدًا هو الكون، إلا أنها مع ذلك مختلفة لا يتشابَهُ فيها اثنان، كما لو وضعْتَ عددًا من المرايا حول مدينة مثلًا، فإن كلَّ مرآةٍ تعكس صورةً تخالف ما تعكِسُه الأخرى، مع أن الشيء المنعكس واحدٌ لم يتغير. وللذرة الروحية خاصَّتان: فهي في آنٍ واحدٍ شاملة للكون، ومنعزلة عنه، فهي من ناحيةٍ وحداتٌ بسيطة (أي ليست مركبة) مستقلة إحداها عن الأخرى، وليس لها نوافذ تطلُّ منها على العالم الخارجي أو ينفذ لها شيء من خلالها، وهي لا يمكن أن توجَد من عدم، كما يستحيل أن تنعدِم بعد وجودٍ إلا بإرادة الله، وكل واحدة منها عالَم صغير يسير بمُقتضى طائفة من القوانين كما لو لم يكن في الوجود غيرها سوى الله، وهي من ناحيةٍ أخرى شاملة للكون؛ لأنها وإن تكن منعزلة بنفسها مستقلة في سيرها إلا أن لها من القوة ما تستطيع به أن تُمثِّل كل ما يحتويه الكون من ذرات روحية، أو بعبارةٍ أخرى كل ذرة ينعكس فيها الكون كله، بحيث لو استطعنا أن نصل إلى فَهم واحدة منها فقد فهمنا الكون بأسره، فكل ذرةٍ منها تحمِل في طيِّها ماضي العالم ومُستقبله. ويعزو «لَيْبنتِز» إلى هذه الذرات نوعًا من الإدراك يختلف عن إدراك الكائنات المُفكرة، أي أنَّ هنالك درجات من الإدراك لا نهاية لها، فيكون ضئيلًا في أدناها مرتبة، ثم يتَّسع ويزداد قوةً ووضوحًا كلما صعدنا نحو الإنسان فالله، ومعنى ذلك أنه لا يعترف بوجود المادة الميتة غير المُدرِكة، إذ يعتقد أن أجزاء المادة جميعًا ضروب من الأحياء تختلف في كمية الحيوية والتفكير. وبعبارة أخرى فإنه يقول إنَّ هناك درجة من الإدراك الصحيح الكامل، ثم يأخذ هذا الإدراك في النقص والغموض كلما نزلْنا في سُلَّم الكائنات. وكلما كان إدراك الذرة واضحًا وتصويرها للكون دقيقًا كانت أكثر حيوية وأعظم نشاطًا، والله وحدَه هو القادر على أن تكون له إدراكاتٌ واضحة لا يشعُر بها شيء من غموضٍ أو ما يُشبه الغموض، وإذن فهو عبارة عن فاعليةٍ خالصة ونشاطٍ مُطلَق، وكل مخلوق سواه من الإنسان فنازلًا إلى أحطِّ الكائنات يكون فعالًا من ناحية، ومنفعلًا من ناحيةٍ أخرى، وهذا الجانب المُنفعِل من الذرة، أي الجانب السلبي منها، هو ما يُسمَّى بالعنصر المادي، أي أن وجود المادة السلبية في الذرَّة الروحية هو الذي يحُول دون وضوح إدراكها. وبعبارةٍ أوضح: كلما رجحَتْ في الكائن كفَّة الجانب الروحي الفعَّال على العنصر المادي السلبي كان ذلك الكائن أكثر وضوحًا في إدراكه.
وعلى الرغم من أنَّ هذه الذرات الروحية مستقل بعضها عن بعض. فهي مُتداخِلة متماسِكة مُتصِلة أشدَّ ما يكون الاتصال، وهذا ما يُسميه «لَيْبنتِز» بقانون الاستمرار، فليس في نظامها تهويش أو اضطراب أو تفكُّك. ابدأ من المادة واصعَدْ إلى العقل المفكر، تجِدها طريقًا واحدةً مُتصلة يتزايد فيها الإدراك شيئًا فشيئًا في تدرُّج غير محسوس، وسِرْ من النبات إلى الإنسان ترَ أنك إنما تسلُك سبيلًا ليس فيها حوائل أو عثرات، بل إنها تعلو بك قليلًا قليلًا، حتى تنتهي إلى قمَّة الجبل دون أن تشعُر بالصعود.
ويُشير «لَيْبنتِز» إلى مراحلَ ثلاثٍ يجتازها المُستعرِض في طريقه من الكائنات الدُّنيا إلى طبقاتها العُليا، فذرَّات الطبقة السُّفلى، أي ذرات النبات والجماد تُدرِك وكفى، فهي أشبَهُ ما تكون بالأحياء الغافية أو النائمة التي لا يرتفع إدراكها إلى درجة الشعور. والمرتبة التالية لتلك هي ذرات الحيوان، ولها فوق الإدراك ذاكرة، ولكنها لا تسمو إلى درجة العقل، وإدراكها شبيهٌ بالأحلام الغامضة. ثم تجيء الكائنات البشرية فوق تلك المرتبة، وهي التي وُهِبت عقلًا وشعورًا بالذات. ويذكر «لَيْبنتِز» أنَّ الله هو أسمى هذه المراتب جميعًا، فبينما تراها تتفاوَتُ في إدراكها غموضًا ووضوحًا، إذا بإدراكاته هو واضحة وضوحًا مُطلقًا.
وليست هذه الذرَّات مُطمئنَّة إلى مراتبها، راضية بمقامها، بل تسعى كل واحدةٍ منها سعيًا متواصلًا إلى السموِّ والارتفاع نحوَ الكمال لا ترضى به بديلًا، فهي دائبة أبدًا، لا تدَّخِر وسعًا لكي تُحقق هذا الكمال الأسمى، بانتقالها من مرتبةٍ إلى مرتبة، حتى تصل إلى هدفها المنشود، وليس من شكٍّ في أن قول «لَيْبنتِز» هذا كان إرهاصًا لمذهب النشوء والارتقاء الذي جاء به دارون فيما بعد.
- (١)
أن يكون للساعتَين آلة واحدة تديرهما معًا في آنٍ واحد.
- (٢)
أن يكون ثمة شخص يُعادل بينهما من آنٍ إلى آن، بحيث يوفق بين زمنَيهما.
- (٣)
أو قد تكون الساعتان صُنِعتا في دقةٍ تامة يستحيل معها الخطأ.
فأما الفرض الأول فمردود؛ لأن العقل والجسم لا يؤثر فيهما مؤثر بعَينه في وقتٍ واحد. وأما الفرض الثاني فمردود كذلك؛ لأنه يفرض تدخُّلًا مستمرًّا في علاقة العقل والجسم. وأما ثالث الفروض فهو ما يراه «لَيْبنتِز» جديرًا بعظمة الخالق وكامل قدرته، أي أن كل شطرٍ يسير في طريقه الخاصة، فلا يكون بين الشطرين اختلال أو اضطراب. وهذا التآلُف موجود منذ الأزل، وهو ما يُسمِّيه بنظرية التناسُق الأزلي.
ولكن إذا كانت كل ذرة مُغلقة في حدودها الخاصة، لا تستطيع أن تطلَّ على العالم الخارجي، كما يستحيل أن ينفذ إلى داخلها شيء من العالم الخارجي، فكيف نُعلل إدراكنا لله، بل إدراكنا لكل ما يُحيط بنا من أشياء؟ أليس الإدراك ضربًا من ضروب الاتصال، أو هو كل الاتصال؟ كيف يستطيع كائن أن يصل إلى معرفة الله والعالم إذا لم يكن في مقدوره أن يحطم حدود فرديَّتِه؟ هذا تناقُض ولا رَيب، وأغلب الظن أن «لَيْبنتِز» قد لحظه عند حديثه عن علاقة الإنسان بالله، فأنقذ الموقف بأن زعم أنَّ الروح الإنساني لا يقف عند حدِّ تصوير الكون، وتمثيله في شخصه، كما هي الحال في سائر الكائنات، ولكن له فوق ذلك مقدرة على إدراك الله وتقليده، ثم معرفة أجزاء العالم عن طريقه؛ لأنه يعتقد أن الله جلَّ شأنه هو الذرة السامية الكاملة، وهي أساس الذرات جميعًا، منها تنبثِق، كما ترسِل الشمس ضوءها، فإذا ما أرادت ذرَّة أن تتصِل بأخرى، كان لزامًا عليها أن تتصِل أولًا بذلك الأساس؛ لأنه بمثابة المركز الذي تتفرَّع منه الطرق جميعًا.
من ذلك نرى أنه وافق ديكارت على وجود الآراء الفطرية، بل لم يُرضِه أن يقف عند الحد الذي وقف عنده «ديكارت» من أن بعض الآراء دون بعضها الآخر تُولَد مع الطفل، ثم تُحصِّل الحواسُّ بقيَّتها، فادَّعى هو أن جميع الآراء تولَد فطرية ولا يُستحدَث منها في الحياة شيء، كما وافق «لوك» على أن التجارب التي تنفذ إلى العقل عن طريق الحواس لها كلُّ الأثر في تكوين المعرفة. والفرق بينهما هو أن «لَيْبنتِز» لا يرى أن هذه المعرفة قد استُحدِثت، بل انتقلت من وجود بالقوَّة إلى وجود بالفعل، أو قُل انتقلت من حالة الخمود إلى اليقظة والنشاط،. وهكذا استطاع «لَيْبنتِز» أن يُقرِّب وجهتي النظر إلى حدِّ الاندماج.
هذا الإيمان العميق لم يصادف من «فولتير» إلا سُخرية مُرَّة، فردَّ على «لَيْبنتِز» بأن تجربته في الحياة علَّمته أنَّ هذا العالم — على نقيض ما وصف — أسوأ ما يمكن من العوالم، «ولو كان فيه ذرَّة من كمال لانمحى منه هذا البؤس الذي يُزهِق ألوفًا من النفوس الكسيرة.» وقد هاج هذا القول من فولتير شابًّا مؤمنًا مُتحمِّسًا في إيمانه، فتصدَّى له وهاجَمَه في الصحف هجومًا عنيفًا، فلم يكن من الساخر العظيم إلا أن أجابه في رفقٍ بقوله: «يسرُّني أن أعلم أنك أصدرتَ رسالة تُهاجِمني فيها، فقد أوليتَني بذلك شرفًا عظيمًا، ولكن أتستطيع يا سيدي أن تُحدِّثني عما يدفع آلاف البشر إلى قطع بعضهم أعناق بعض في هذا العالم الذي تصفونه بأنه خير ما يُستطاع خلقه؟ وإني لك من الشاكرين.»
كذلك تصدَّى «هجل» لنقد «لَيْبنتِز» في رأيه هذا عن العالم، وقال إنه قد أرسل قوله قضية بغير تدليل. فلنُسلِّم معه جدلًا بأن هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، أفيكون هذا دليلًا على خيرِها وصلاحها؟ إذا أنت أرسلتَ خادمك إلى السُّوق ليبتاع لك شيئًا، فجاءك به الخادم سيِّئًا رديئًا، ثم أقنعَكَ بأنه خير ما يُباع في السُّوق، أفتحكم على هذا الشيء بالجودة لأنه كذلك؟ كلَّا ولا ريب، فلا يمنع سوءَه وشرَّه ألا يكون هناك أحسَن منه، كذلك قُل في العالم، قُل ما شئتَ من أنه خير ما يمكن وجوده، ولكن هذا لا يُبرِّئه من النقص والشر، وكان «لَيْبنتِز» قد لحظ هذا الضعف فيما يقول، فاعترف أنَّ في هذا العالم شرًّا كثيرًا، ولكنه لا يرى ذلك مُناقضًا لنظريته، بل اتخذ هذا الشر نفسه دليلًا على صحَّتها، فلولا ما تحوي الحياة من بؤسٍ وألَمٍ ما كانت الدُّنيا خير ما يُستطاع خلقه؛ لأنهما كثيرًا ما يكونان سبيلًا إلى الخير وسببًا في وجوده «والمرارة القليلة كثيرًا ما تكون ألذَّ مذاقًا من السُّكَّر الحلو.» ثم يسير «لَيْبنتِز» بعد ذلك في البحث عن أصل الشرِّ في العالَم، فيُقرِّر أن علة وجوده هو الجانب المادي، فقد ذكرنا فيما سبق أن لكلِّ ذرةٍ في الوجود جانبًا إيجابيًّا فعَّالًا، وإلى جواره جانب سلبي مُنفعِل، هو الجانب المادي منها، وبقدْر ما ترجح كفة الجانب الفعَّال تكون الذرة أدنى إلى الكمال، ولذلك ترى كل ذرَّةٍ لا تفتأ تسعى جهدها لكي تتغلَّب على جانبها المادي السلبي الذي يقعد بها عن السموِّ في سبيل الكمال، والإنسان — ككلِّ شيءٍ آخر — لا يدَّخِر وسعًا في هذا الجهاد العنيف الشاق، وهذا الجهاد نفسه — الذي لا مناصَ منه بحُكم طبيعة التكوين الذرِّي — هو أصل الشرِّ وسبب البلاء، فالشرُّ إذن نقص نشأ عن محاولة التخلُّص من قيود المادة، فكأنه لم يُوجَد إلا ليكون سُلَّمًا للصعود نحو الكمال الأسمى، وعلى هذا الاعتبار يكون الشرُّ وسيلةً للخير. أضِف إلى ذلك أن وجود الشر إلى جانب الخير مما يُظهر جمال الحياة، فقد كانت تكون أقلَّ كمالًا وجمالًا لو أنها لم تحوِ إلا خيرًا محضًا، ومن ذا الذي يتمنَّى حياةً لا ألَم فيها تجيء على صورةٍ واحدةٍ لا اختلاف فيها، ثم يذكُر «لَيْبنتِز» أن الخير هو الجانب الإيجابي من الحياة، والشر هو الجانب السلبي منها، ولمَّا كان الله لم يخلق — بداهةً — إلا الجانب الإيجابي، فلا يمكن أن يُعَدَّ سببًا في وجود الناحية السلبية، ولا يمكن أن يكون الله خالقًا لما نرى في الحياة من شرورٍ وآلام.
(١-٧) جون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م)
ثم ظفِر الأحرار في إنجلترا بالنصر والغلَب، واعتلَتْ أريكة الملك أُسرة جديدة، فأرسل «لوك» سفيرًا لدولته في بلاط براندنبرج، ثم إلى بلاط فينا، ولكن مقامه هناك لم يطُل؛ إذ اضطرَّه السقام والمرَض إلى العودة إلى إنجلترا حيث ولي منصبًا من أكبر مناصبها، وقد استطاع أن يلعَب في الحياة الإنجليزية دورًا خطيرًا، أولًا لقوَّة قلَمِه وذيوع كتابته وشدة تأثيرها في النفوس، وثانيًا لما امتاز به من نشاطٍ جمٍّ ومقدرة فائقة في توجيه السياسة وتشكيلها. فلمَّا اكتهل وأضعفَتْه الشيخوخة آوى إلى الريف الهادئ الجميل يقضي فيه آخِر سِنيه، ثم مات وله من العمر ثلاثة وسبعون عامًا. وقد شهد له مُعاصروه جميعًا بالإخلاص للحق والتفاني في سبيل الحُرية، كما عُرِف في قومه بالاعتدال والحكمة، وامتازت كتابته بالقوَّة والوضوح ودقَّة الأسلوب. وأهمُّ مؤلفاته هي: «عقالات في الحكومة المدنية»، «آراء في التربية»، «خطابات في التسامُح» وأشهر مؤلَّفاته كلها هو كتابه المُسمَّى: «مقالة في العقل البشري».
وليس من العسير أن تلمس روح «لوك» في كل مؤلفاته واضحة بارزة، فجميع كتُبه تَرمي في حقيقة الأمر إلى غرضٍ أساسيٍّ واحد، هو مهاجمة التمسُّك بالتقاليد العتيقة، والنداء بضرورة حُرية العقل في النظر إلى الحقائق، وتكوين الأحكام. ذلك هو الغرَض الأساسي الذي كان يقصد إليه «لوك»، لكن لكلِّ كتابٍ غرضًا خاصًّا بالإضافة إلى الغرَض العام.
وبهذا أراد «لوك» أن يُدعِّم أركان الحكومة الجديدة؛ لأنها قائمة على إرادة الشعب، والشعب صاحب الحقِّ في تولية من يشاء على أموره. وأنت ترى من ذلك أنه يوافق «هوبز» فيما ذهب إليه، كما أنه يسبق «روسُّو» في إعلان الرأي القائل بأنَّ أساس الدولة تعاقُد اجتماعي بين الأفراد.
أما كتابه «في التسامُح» فقد دافع فيه عن حقِّ الأفراد في الحرية الشخصية، وهو يُحتِّم أن يكون لكل إنسانٍ الحقُّ الكامل في إبداء آرائه حرًّا من كلِّ قَيد، فليس من الحِكمة أن تُرغم الناس على عقيدةٍ مُعيَّنة أو رأي خاص. ويقول في رسالة أخرى خاصة بالكنيسة المَسيحية: إن حرية العقيدة الدينية واجبٌ في عنق الدولة، وليس لهذه الأخيرة أن تتدخَّل بين الفرد وعبادته؛ إذ واجبها محصور في صيانة المصالح المادية وحدَها، ولكن على شرط ألا يُعَرِّض تصرُّفُ الفرد سلامةَ الدولة للخطر. وهو يُحرِّم على الحكومة تحريمًا قاطعًا أن تتحيَّز لمذهبٍ من العقائد الدينية دون آخر، قائلًا إنه كلَّما كان المذهب الديني أقربَ إلى الحق كان أبْعدَ عن حاجته إلى مساعدة الدولة له.
وهو يعرِض لنا جُملة آراء قيِّمة في كتابه عن التربية، الذي قصد به في الأساس أن يصُون حُرِّية الفرد في التفكير، فهو لكي يُحقِّق للطفل هذه الحرية التي ينشُدها له، يُطالبنا ألا يكون التعليم عامًّا تحت إشراف حكومةٍ أو كنيسة؛ لأنَّ هذه أو تلك ستحاول أن تبُثَّ في النشء ما يتَّفق وأهواءها من الآراء والعقائد، ويشترِط «لوك» أن يكون التعليم خاصًّا في المنازل، فيكون لكل طفلٍ مَن يُربيه، ويرى أن التربية يجِب أن تقصد إلى الكفاية العملية وحدَها، وإذن فينبغي أن نُضيِّق من تعليم اللغات بقدْر ما نُوسِّع من تعليم الحقائق، هذا ويجب أن تسبق اللغات الحديثة اللُّغات القديمة في الدراسة، ولا بدَّ أن يُدرَس كلاهما بالتدريب العملي لا من الجانب العِلمي، وتحقيقًا لذلك الغرَض يجب ألا تُدرَّس قواعد اللغة إلا بعد أن يتمكَّن الطالب من التكلُّم بهذه اللغة، وله عدا ذلك آراء أخرى في وجوب مُلاءمة طريقة التدريس لشخصية الطفل، وضرورة الألعاب الرياضية في التربية، وفي محاولة تحويل العمل إلى لعِب، وغير هذه من الأفكار القويمة التي أخذَها من بعده روسُّو، فألبَسَها ثوبًا جديدًا أو أخرجها للعالَم حيةً بما نفخ فيها من روح.
ولنتناول الآن كتابه «في العقل البشري» وهو خير ما كتَب، فقد استهلَّ هذا الكتاب باختبار العقل البشري نفسه أولًا؛ لكي يتثبَّت من صلاحيته ومقدرته على اكتساب المعرفة الصحيحة، وإلا كانت أبحاثُنا كلها قائمةً على أساسٍ مُتهدِّم مُتصدِّع، ولعلَّ ما أوحى إليه بفكرة هذا الكتاب تلك البحوث والمُناقشات التي كان يقوم بها مع صفوة أصدقائه الذين كانوا يتَّخذون من دارِه ندوةً يجتمعون فيها؛ لكي يتعاوَنوا على بحث ما يعرِض لهم من المشكلات العلمية، ولم يلبَث هو وأصدقاؤه بعد عدَّة اجتماعات أن قرَّروا أن طريق البحث وعرةٌ شائكةٌ، وأنهم عاجزون عن المُضيِّ فيها عجزًا تامًّا. يقول لوك: «لقد رَبَكْنا أنفسنا حينًا من الدهر دون أن نخطوَ خطوةً واحدة نحوَ حلِّ ما حيَّرَنا من شكوك، ثم عنَّت لي بعد ذلك فكرة هي أنَّنا نسير على غير هُدًى، وأنه كان ينبغي قبل البدء في مثل هذه الأبحاث أن نختبر قوَّتنا؛ لنرى لأي الموضوعات تصلُح عقولنا لمُعالجتها، ولأيِّها لا تصلُح.»
وما أشبَهَ قول «لوك» في هذا «بديكارت» من قبله، و«كانْت» من بعده، فهو كما سبقَه الأول، وكما سيتلُوه الثاني يرى أنه لا يجوز لنا بحالٍ من الأحوال أن نقوم بأي بحثٍ أو دراسة قبل أن نستيقِنَ أولًا: هل يقع هذا البحث أو هذه الدراسة في حدود قدرتنا العقلية أم لا؟ ولقد أخذ على نفسه ألا يتعدَّى في عِلمه حدود الحواسِّ والعقل، حتى لا يقبل من المعلومات إلا ما تقوم كلُّ الدلائل على تبريرها.
ويسارع «لوك» فيُنبِّه القارئ أنه لا يقصد بدراسة العقل المبدئية أن ندرُس طبيعة العقل نفسها، كلَّا فليس له بهذا المطلب شأن، بل إنه ليقول إنَّ مَن يحاول أن يدرُس طبيعة عقله لشبيهٌ بمن يحاول أن يرى عينَيه، (لأنه يحاول أن يرى عقله بعقله) ولكن «لوك» يكتفي في ذلك بملاحظة ما يحدُث في العقل وقتَ تحصيل المعرفة، وهو يقتفي أثر «ديكارت» في تسميتِه كلَّ ما يحدُث في القوة الواعية «بفكرة»، ويُعلن أن كل مهمته هي استكشاف الطريقة التي يصل بها العقل البشري إلى أفكاره، وإذن فهو في بحثِه هذا أقرب إلى تعرُّف وسائل المعرفة الصحيحة منه إلى كشف الحقيقة نفسها. ومن ثَم كان «لوك» جديرًا بأن يُعتبَر مؤسِّس علم النفس الحديث؛ لأنَّ مُعظم بحثه مُنصبٌّ على مَبعث الأفكار وأساسها.
ولقد سلَّم «لوك» بعجز العقل البشري وقصوره عن مُعالجة ما يتجاوز حدودَه، ويقول في ذلك: «لا ينبغي أن نعدو حدود ما تستطيعه ملكاتنا.» وهو يلاحظ أن الناس يميلون بوجهٍ عامٍّ إلى التعمُّق بأفكارهم فيما هو فوق مقدورهم، ولذا تراهم يسيرون على غير هُدًى ويقين. والنتيجة الطبيعية لهذا التخبُّط هي اللاأدرية والشك. «فلو أنَّنا بحثْنا ملكاتنا العقلية بحثًا جيدًا، وكشفنا عن مدى عِلمنا لنرى الأفق الذي يفصل بين الأجزاء المضيئة والأجزاء المُظلمة من الأشياء، أعني بين ما نستطيع فَهمه وما لا نستطيع، لاطمأنَّ الناس إلى جهلهم في الجانب المُظلم ورَضُوا به، ولاستخدَموا أفكارهم وأبحاثهم في الجانب الآخر استخدامًا أنفع وأبعَثَ على الاطمئنان.»
وتقع هذه المقالة التي نحن بصدَد عرضِها في أربعة أبواب، أما أوَّلُها فبحث تمهيدي يُنكر به أن يكون شيءٌ من معلوماتنا مفطورًا فينا بالوراثة، ولقد تقدَّم بهذا الإنكار تمهيدًا لغرَضِه الأساسي الذي قصد إليه من الرسالة كلها (والذي شرحه في الباب الثاني)، ألا وهو أنَّ كلَّ معرفة الإنسان مهما كان نوعُها، بل كل ما يستطيع الإنسان أن يُدركه بعقله، هو في حقيقة الأمر مُستمدٌّ من التجارب، فكل أفكارنا — بسيطةً كانت أو مركبة — إنما استقَيناها من أمثلة جزئية جاءتنا من طريق الحواس الخمس مُنفردة أو مُجتمعة، أو هي ترجع إلى عملية عقلية. وبعبارةٍ أخرى فإن كل تجاربنا راجعة إما إلى الإحساس أو التفكير، وكل لفظة لا يكون لها مدلول حسِّي أو عقلي فهي لفظة فارغة جوفاء.
وأما البابان الثالث والرابع من هذه الرسالة فقد أقام فيهما «لوك» ما استطاع من الأدلَّة على صحَّة ما زعمه في البابَين الأوَّلين، ولقد شغل «لوك» جزءًا كبيرًا من هذين البابين الثالث والرابع بتحليل فكرة المكان والزمان واللانهاية والجوهر والسببية والقوة؛ لكي يُبرهن على أنه حتى هذه الأفكار التي قد تبدو مجرَّدة، والتي قد يُظَن أنها لم تأتِ عن طريق الحواس، إنما تعتمِد هي أيضًا على التجارب، وأنَّا إذا مَحونا منها العناصر التي كسبناها بما مرَّ علينا من تجارب جزئية لزالت، ولم يبق لها من أثر.
وخلاصة القول أن المبدأين اللذَين أراد «لوك» أن يُقرِّرهما في كتابه عن العقل البشري هما: (١) أنه ليس بين أفكارنا ما هو فطري موروث، (٢) وأن المعرفة مُستمدَّة من التجارب وحدَها.
- الباب الأول: كانت العقيدة السائدة قبل «لوك» هي أن العقل البشري يشتمل على بعض الأفكار
الفطرية الموهوبة منذ ولادته دون أن يكسبها من التجارب التي تمرُّ عليه أثناء الحياة،
ولقد
بلغ من رسوخ هذا المذهب في النفوس أنه لم يكن يُستهدَف حتى لمجرد البحث والجدل. وكان
ديكارت
من أشدِّ المدافعين عن صحَّته وثبوته، أما «لوك» فيقابل هذا التسليم الأعمى بوجود الآراء
الفطرية بأشدِّ الإنكار، ويقول: «لمَّا رأى الناس أن هنالك بعض القضايا العامة التي لا
يكاد
العقل يُدركها حتى يوقِن بها يقينًا يستحيل أن يتطرَّق إليه الشك، حكموا عليها بأنها
فطرية
فيهم، لا لشيءٍ إلا لأنَّ هذا التعليل أيسر أو أقصر.» ولكنهم في الواقع لا يُعلِّلون
الرأي
بقولهم إنه فطري، بل إن هذا القول لَاعترافٌ صريح بأنه لُغز أشكلَ عليهم حلُّه، ولم يجدوا
لتعليله
الصحيح سبيلًا. ثم يمضي «لوك» في معارضة «ديكارت» في مذهب الآراء الفطرية، فيقول: يتَّخِذ
دُعاة
فطرية الآراء دليلَين لتأييد النظرية التي يذهبون إليها؛ الأول: أنها آراء مُسلَّم بها
من
الناس جميعًا بغير استثناء، والثاني: أنَّ العقل البشري يُدركها بمجرد وعْيه ويَقظته،
فيردُّ «لوك»
الدليل الأول بأنَّ هذه الآراء ليست كما يزعمون مُسلَّمًا بها من الناس كلهم بدليل أن
القبائل
المتوحِّشة لا تعلمها، ويردُّ الدليل الثاني بأن العقل لا يستطيع إدراك تلك الآراء بمجرد
يقظته
في السنين الأولى من العمر بدليل أنَّ الأطفال تجهلها جهلًا تامًّا. خُذ مثلًا بعض البديهيَّات
كاستحالة أن يكون الشيء، وألا يكون في وقتٍ واحد، فهذه القضية التي يذهب دُعاة الآراء
الفطرية إلى أنها موروثة فينا، وليست مكسوبةً أثناء الحياة، لا شكَّ يجهلها الأطفال والمُتوحِّشون
والبُلهاء على الرغم من بداهتها. وإذن فهذه القضايا المجردة كلها ليست مفطورة موهوبة،
ولكنها
على نقيض ذلك مكسوبة بالتجربة، بل وبالتجربة الطويلة.
ولا يَستثني «لوك» من نظريته حتى فكرة الله نفسها، فهنالك من الناس من يجهلها جهلًا تامًّا، أضِفْ إلى ذلك أن الشعوب التي تعترف بوجود الله لا تتَّفِق كلها على إلهٍ واحد، بل إنهم يختلفون في تصويره أشدَّ اختلاف.
وقد تصدَّى «كوزان Cousin» لمُعارضة «لوك» بقوله: إنَّ الطريقة التي اتَّبعها في الاستشهاد ليست طريقةً علمية قويمة، ولا تبعث الثقة واليقين؛ لأنه من المُتعذِّر أن نحصُل على معلوماتٍ دقيقة عن المُتوحِّشين والأطفال تُتيح لنا أن نبني أحكامنا عليها. هذا فضلًا عن أنَّ هؤلاء المتوحِّشين والأطفال الذين يحتجُّ بهم «لوك» في مقدورهم أن يعرفوا القضايا التي ضربها مثلًا على شرط أن نسوقها لهم في شكلٍ محسوسٍ يلائم عقليتهم. - الباب الثاني: وما دُمنا قد رفضْنا الآراء الفطرية، وأنكرنا أن تكون واحدةً مما تحوي عقولنا موروثة، فمن أين جاءت لنا المعرفة، وما مصدر آرائنا؟ هذا هو موضوع الباب الثاني، وفيه يقول لوك: «لنفرِض أن العقل صفحةٌ بيضاء لم يُخَطَّ عليها حرف ولا فكرة، فكيف تمتلئ هذه الصفحة الناصعة؟ جواب ذلك عندي كلمة واحدة هي «التجربة»، فمن التجربة ينشأ عِلمُنا كله، وعنها يتفرَّع.» ولكن ماذا يعني «لوك» بكلمة «التجربة» التي هي قوام المعرفة كلها؟ يقول في ذلك: «إن ملاحظتنا للأشياء الخارجية المحسوسة، وللعمليات العقلية الباطنية، الأولى بالإدراك الحِسِّي، والثانية بالتأمُّل الباطني، هي التي تمدُّ عقولنا بجميع أفكارها. فهما (أي الإحساس والتفكير) الينبوعان اللَّذان منهما تتدفَّق المعرفة التي يصدُر منها كل ما لدَينا، بل كل ما يمكن أن يكون لدَينا من أفكار.» وإذن فالتجربة عند «لوك» ذات شُعبتين: فهي تجربة تُستمَدُّ إما بالإحساس أو بالتأمُّل الباطني … ولكنه يقول إن الحواسَّ تعمل أولًا، فتُقدِّم إلى العقل طائفةً من الأحاسيس، ثم يجيء بعد ذلك التأمُّل وما ينشأ عنه من أفكار «هذان وحدَهما — على ما أعلم — هما النافذتان الوحيدتان اللَّتان ينفُذ منهما الضوء إلى هذه الحجرة المُظلمة، وأقول المظلمة لأنَّني أظنُّ العقل شبيهًا بقاعةٍ مغلقة لا ينفذ إليها الضوء.» ومن ذلك ترى أنه يعتقِد أنَّ العقل شيءٌ قابل مُنفعل ليس إلا، فلا يسَعُه إلَّا أن يُدرِك ما تُقدِّمه إليه أعضاء الحس، أما هو نفسه فعاجِز كلَّ العجز أن يخلق بنفسه أفكارًا غير التي تُمِدُّه به الحواسُّ، كما أنه عاجز أن يمحوَ شيئًا مما يتكوَّن فيه من أفكار، هو عاجز عن هذا وذاك عجز الإنسان عن خلق ذرَّةٍ واحدة أو إعدامها. فالعقل عند «لوك» لا يزيد على مرآة تنطبع فيها صور الأشياء التي تعرض له، ولكنه بعدئذٍ يعود فيعترِف له بشيءٍ من الفاعلية يسير؛ إذ يقول إنَّ العقل حينما يتقبل المواد الأولية التي يقدِّمها له الإحساس والتأمُّل الباطني يكون لملَكاته من القوة ما يستطيع به أن يجمع أشتات الآثار المُتفرقة التي جاءت بها هذه الحاسَّة أو تلك، فيُركِّب منها أفكارًا مركبة. وبهذا يكون العقل قوَّةً إيجابية تتناول ما ينطبع في صفحة الذهن من آثار، ويؤلِّف منها أفكارًا، ولكن «لوك» يُسرِع بملاحظة أن هذه قوة صورية محضة؛ لأنها لا تُضيف شيئًا جديدًا إلى مادة الأفكار التي أتتْ إلى العقل من الخارج، ولكن مهما قِيل فيها فهي قوة فاعلة على كلِّ حال. ومما يُلاحَظ هنا أن هذا القول من «لوك» بتعاون العقل مع عناصر التجربة الآتية من الخارج في تكوين أفكارنا وتأليفها، هي الخطوة التمهيدية التي كمُلت فيما بعد في فلسفة «كانت».
- الباب الثالث؛ تبويب الأفكار: لقد علِمنا مما سبق أن جميع أفكارنا تنشأ من أحد مصدرَين: إما
الإحساس أو التفكير، ونُريد الآن أن نتناول أفكارنا بالتبويب والتقسيم، فهي كلها على
تبايُنها
واختلافها تقَع في مجموعتَين: أفكار بسيطة وأخرى مركَّبة.
(١) أما الأفكار البسيطة فهي ما أتى إلى العقل من الخارج: وقد تأتي عن طريق حاسَّةٍ واحدة، كاللَّون عن طريق البصر، والصوت عن طريق السمع، والصلابة عن طريق اللمس. أو قد تكون آتيةً من عدَّة حواس مشتركة، كالامتداد والشكل والحركة، أو قد تنشأ من التفكير وحدَه دون الحواس، كالشك والعقيدة والإرادة. أو قد تكون ممَّا يتعاوَن في تأليفه التفكير والحواسُّ معًا، كالسرور والألم … ويرى «لوك» أن فِكرتَي المكان والزمان هما أيضًا من الأفكار البسيطة، ففكرة المكان تأتي بواسطة البصَر واللمس، كما تنشأ فكرة الزمان من تعاون مصدرَي المعرفة معًا: الحواس والفكر، فنُدركه بالتأمُّل في تعاقُب مشاعرنا وأفكارنا في العقل، كما نُدركه في تتابُع الأحداث والأشياء بواسطة الحواس، وهنا يستطرد «لوك» فيعقد مقارنةً بين فكرتَي المكان والزمان، فيقول إنهما يتلاقَيان في أن كليهما لا مُتناهٍ غير محدود، ويتفارقان في أن المكان يمتدُّ في عدَّة اتجاهات، أما الزمان فلا يمتدُّ إلَّا في اتجاهٍ واحدٍ فقط.
(٢) وأما الأفكار المُركَّبة فيقول عنها لوك: «إذا ما امتلأ العقل بهذه الأفكار البسيطة، كان له من القوة ما يستطيع به أن يستعيدها ويستثيرها، وأن يُقارن بينها، ثم يؤلِّف من أجزائها أفكارًا لا نهاية لاختلافها وتنوُّعها، وبهذا يمكنه — متى شاء — أن يُنشئ أفكارًا مُركَّبة جديدة.» وهذه الأفكار المُركَّبة نفسها تنقسِم إلى ثلاثة أقسام: أعراض، وجواهر، وعلاقات. أما الأعراض فهي الأفكار المُركَّبة التي تؤلِّفها عقولنا من أشتات الأحاسيس كما تؤلَّف الجُمَل من الكلمات، فهي لا تطابق — بعد تكوينها — شيئًا من الحقيقة الواقعة في الخارج، أعني أنَّ هذه الأفكار ليس لها وجود مُستقل عنَّا، وإلى هذا القسم تنتمي كل الإدراكات الكلية، وبعبارةٍ أخرى كلُّ الكلمات الكلية، مثل شجرة وكتاب وقلَم (ما عدا أسماء الأعلام وأشباهها). وهنا يقول «لوك» إن كثيرًا من أخطائنا راجع إلى أنَّنا ننسى أن ألفاظ اللغة تدلُّ على مُدركاتٍ عامة تكوَّنت داخل العقل، ولا يقابلها أشياء حقيقية في الخارج.
وأما الجواهر فهي الأفكار التي تقابل الأشياء الحقيقية الموجودة في الخارج، والواقع أنَّنا نجهل حقيقة هذه الأشياء في ذاتها، ولسْنا نعرفها إلَّا بواسطة هذه الأفكار التي نُسمِّيها بالجواهر، فالجوهر شيءٌ مجهول لنا نجمع حوله مجموعةً من الصِّفات الجزئية التي تأتي بها الحواس، فأنت تعرِف عن البرتقالة مثلًا لونها جاءتك به العين، وملمسها جاءتك به الأصابع، ورائحتها جاءك بها الأنف، وما إلى هذه من سائر الأفكار البسيطة، ولكنَّ الشيء الحقيقي الذي أخذتَ تُضيف إليه هذه الصفة وتلك، حتى تكوَّنَت في ذهنك البرتقالة مجهول، فكلُّ عِلمك عن البرتقالة هو «مجموعات الأفكار البسيطة التي فرَضْنا إلى جانبها وجود شيء (أمر جوهر) تتعلَّق به وتستقرُّ فيه».
والنوع الثالث من الأفكار المُركَّبة هو فكرة العلاقة التي تحدُث في الذهن بين فكرةٍ وفكرة، بحيث يكون للواحدة قوَّة استدعاء الأخرى.
- الباب الرابع؛ علاقة العقل بالعالم الخارجي: إن «لوك» حين يزعُم أنَّ كل ما تحوي عقولنا من أفكار، بما فيها أفكار الزمان والمكان وما إليها، قد نشأ من أحد مصدرَين هما الإحساس والفكر، كأنه جعل الإنسان مِقياس الحقيقة كلها؛ إذ أصبحت الحقيقة على يدَيه هي ما يكوِّنه الفرد بعقله، وإذن فكلُّ ذاتٍ مستقلةٌ بنفسها تُفكِّر وحدَها، ولا يتَّصِل عالم الأشياء الخارجية بعلم الإنسان إلا بما يكوِّنه هذا عنه من أفكارٍ يُحصِّلها بقُوَّتَي إحساسه وفِكره، وهو بهذا الرأي يُعارض «سبينُوزا» الذي نادى بأنَّ الأفراد ليسوا حقائق مُستقلة، بل هم أعراض لحقيقةٍ واحدة.
ويرى «لوك» أنَّ هناك ضربَين من الصفات التي تُميِّز الأشياء: صفات أولية، وأخرى ثانوية. فأما الأولى فلا يُمكن فصلُها عن الجسم الذي يتَّصف بها بأية حالٍ من الأحوال، ومن أمثلتها: الصلابة، والامتداد، والشكل، والحركة، والعدد. وأما الصفات الثانوية فلا توجَد في حقيقة الأشياء نفسها، ولكنها قوى فيها تُؤثِّر في حواسِّنا، فتُنتج فيها بعض الإحساسات المختلفة، فتكون وسيلةً نعرف بها صفات الأشياء الأولية الأساسية، أي حجمها وشكلها وتركيبها وحركة أجزائها غير المُحسَّة. ومن ذلك ترى أن أفكارنا عن الصفات الأولية للأجسام هي أشباهٌ ونماذج للصفات الموجودة وجودًا حقيقيًّا في الأجسام نفسها. أما الأفكار الناشئة فينا من الصفات الثانوية فليس بينها وبين الحقيقة الخارجية شَبَهٌ على الإطلاق، أي إنه ليس في الأشياء نفسها ما يُشبه أفكارنا، بل إنَّ هذه الأفكار يُقابلها فقط قوى في الأشياء تُحدِث فينا تلك الأحاسيس، ومن أمثلة هذه الصفات الثانوية: الألوان، والأصوات، والطعوم، فليس الاحمرار أو الحلاوة التي تنشأ عندك عن شيءٍ ما صفةٌ موجودة في الشيء نفسه، إنما هي نتيجة لعلاقة اتِّصال الشيء بحواسِّك، فكما أن الشمس تبعَث الحرارة في الشمع فتُذيبه، مع أن السيولة التي استُحدِثت في الشمع ليست موجودة في الشمس، كذلك حينما يعرِض أمامك الشيء، فيُحدِث فيك لونًا خاصًّا، فليس بين اللون الذي تكوَّن وبين الشيء نفسه أي شَبَه، وكل ما في الأمر علاقة قوَّة في الشيء بحاسَّةٍ من حواسِّك.
ولكن إذا كانت الأفكار الثانوية مجرد أفكارٍ في عقولنا، ولا تُمثِّل شيئًا في الأجسام نفسها، إذن فنحن في وادٍ والحياة الواقعة في وادٍ آخر، ولا سبيل إلى إيجاد الصِّلة بين الطرفَين، فكيف نُوفِّق بين الإنسان وأفكاره من ناحية، وبين العالم الحقيقي الخارجي من ناحيةٍ أخرى؟ يقول «لوك»: «إنه بديهي أنَّ العقل لا يعرِف الأشياء مباشرة، ولكنه يعرفها بواسطة أفكاره عنها، وأن معرفتنا يكُون نصيبها من الحقيقة بمقدار ما بين أفكارنا وبين الأشياء الحقيقية من تطابُق.» فما مِقياسُنا إذن لما هو صحيح، ولما هو زائف من أفكارنا؟ كيف يستطيع العقل أن يقطع في ذلك برأيٍ إذا كان لا يُدرِك شيئًا غير أفكاره هو، فليس من سبيلٍ لدَيه لمعرفة إن كانت هذه الفكرة المُعيَّنة تُطابق الشيء الخارجي أو لا تُطابقه؟ وبعبارةٍ أوجز: ما هي العلاقة بين الشخص والشيء؟ هذه هي المشكلة التي صادفَت «لوك»، بل التي اصطدم بها كلُّ فيلسوفٍ في كل عصر تقريبًا. وقد اختلفوا في حلِّها فريقَين: فريق يذهب إلى «المثالية» القائلة بأنَّ أفكارنا عن الأشياء هي كل الحقيقة، ليست الأشياء المادية شيئًا على الإطلاق. وفريق آخر يذهب إلى «الواقعية» التي تزعُم أنَّ الأجسام المادية الخارجة عنَّا حقائق مُقرَّرة، وأنَّ ما في عقولنا من أفكارٍ ناشئ عنها ومُستمَدٌّ منها. وقد كان «لوك» بل كانت المدرسة الإنجليزية كلها تأخذ بهذا المذهب الواقعي، فيقول «لوك»: إن الأفكار البسيطة التي تحدُث في عقولنا من اتصالنا بالأشياء ليس وَهْمًا صَوَّره الخيال، ولكنها نتيجة طبيعية مُطَّرِدة للأشياء الخارجة عنَّا، وإذن فهي تُطابِق أصولها الخارجية كلَّ التطابُق؛ لأنها تُقدِّم لنا الأشياء بالصورة التي في مقدورها أن نكوِّنها في أذهاننا.
لكن انظر كيف يختم «لوك» رسالته بنقْض قضيَّته التي من أجلها كتَب ما كتب. إنه بعد أن اعترف باستحالة أن يعرِف العقل غير أفكاره التي يستمِدُّها من الخارج، أراد أن يُعلِّل علمنا بالله فلم يجد بُدًّا من القول بأن العقل يحتوي صُوَرًا أو نماذج لحقائق الله والنفس، بل والعالم الخارجي كذلك. وزعم أن هذه الصُّوَر الموجودة لدَينا هي المقياس، الذي نقيس به صحَّة الفكرة أو خطأها، فإن كانت فِكرتنا عن الشيء الخارجي مُشابِهةً للصورة الموجودة في الأذهان من قبل، كانت صحيحة، وإلا فهي زائفة باطلة. وهكذا يبدأ «لوك» بهجومٍ عنيفٍ على الآراء الفطرية حتى يكتَسِحها، ثم ينتهي إلى أنَّ في العقل نماذج أو أفكارًا فطرية، فقرَّر في آخِر رسالته ما نقَضَه في أولها.
- الأولى: المعرفة البديهية، وهي إدراك العقل لما بين الفكرتَين (الفكرة والنموذج) من موافقة أو مفارقة إدراكًا مباشرًا دون أن يستعين في ذلك بفكرةٍ ثالثة.
- الثانية: إدراك العقل لاتِّفاق الفكرتَين أو اختلافهما إدراكًا غير مباشر، وتُسمَّى هذه بالمعرفة البُرهانية، أي التي تحتاج في إثبات صحَّتِها إلى بُرهان.
- الثالثة: وهي درجة تكون فيها أفكارُنا مُبهَمة غامِضة.
أما النوع الأول البديهي فمِثاله معرفتنا بوجود أنفسنا؛ لأنَّ هذه الحقيقة يُدركها العقل إدراكًا مباشرًا، ولا يحتاج في ذلك إلى بُرهان، وأما النوع الثاني فمِثاله معرفتنا بوجود الله، فهذه معرفة برهانية؛ لأنها يعوزها الدليل، ولا يمكن إدراكها إدراكًا مباشرًا، وبرهان وجوده عند «لوك» هو ما في العالم الخارجي من غرَض. وكذلك يؤكِّد وجودنا نحن وجود الله؛ لأنَّ ما فينا من قُوى إنما تحتاج لخلقها إلى كائنٍ ذي قوةٍ مُطلقة وعقلٍ سام. وأما الضرب الثالث من المعرفة الغامضة المُبهمة، فذلك هو عِلمنا بالعالم المادي بواسطة حواسِّنا، ولكن هذا النوع الثالث على الرغم من أنه لم يبلُغ من اليقين مبلَغَ النوعَين الأوَّلَين إلَّا أنه مُرَجَّح الصحة والصِّدق. وهنالك أدلَّة كثيرة على صحة عِلمنا بالأشياء الخارجية، منها اتِّفاق البشر جميعًا على صُوَرٍ حِسِّية واحدة مما يؤيد أن الصورة مُنطبقة على حقيقتها الباعِثة لها.
أما ما عدا هذه الضروب الثلاثة من المعرفة فهو لا يعدو دائرة الاحتمال والادِّعاء، بل والجهل، فكل أحكامنا عن الأشياء الغائبة عنَّا وعن مُعظم صفاتِ الطبيعة، وعن صفات الكائنات الروحية لا تزيد على مجرَّد الادعاء بالعِلم. وكل ما يقوم به العقل في أحكامه عن مثل هذه الأشياء هو موازنة الحجج وترجيح بعضها على بعض. أما طبيعة الله والعالَم الروحي، فليس لنا بهما عِلم، ويجِب أن نعتمِد فيما يتعلَّق بهما على العقيدة والوحي.
•••
أما فيما يتعلَّق برأيه في الأخلاق فلم يؤلِّف لذلك نظريةً مستقلة شاملة، وكل ما في الأمر إشارات وملاحظات عملية تناثَرَت في كتُبه.
وأول ما يسترعي النظر من آرائه في الأخلاق إنكاره لحُرية الإدارة بمعناها المعروف، فهو يرى أنَّ الإرادة هي قوَّة توجيه الذات إلى الحركة أو إلى السكون، والحركة عنده معناها التفكير، والسكون معناه خمود الفكر، وليس الفرد حُرًّا في أن يُريد أو لا يُريد بهذا المعنى للإرادة، وكل ما له من حُرية هو تصرُّفه العملي بمُقتضى فِكره الخاص، فلدى الإنسان رغبات مُعينة، وله أن يُقارن بين نتائجها، ثم يختار واحدةً ويؤجِّل واحدةً ويُثبت ثالثة وهكذا، «وفي هذا وحدَه تقع حُرية الإنسان.» وهو في اختياره رغبةً ورفضه أُخرى يسير تبعًا لما تبعَثُه الرغبات من لذَّةٍ أو ألَم، ولمَّا كانت اللذَّة عند «لوك» هي الخير، والألَم هو الشر، كان الخير والشر أو اللذَّة والألَم هما الدافِعَين الأساسيَّين لسلوك الإنسان. ومقياس السلوك من حيث النقص والكمال هو مقدار مُطابقته للقانون الأخلاقي الذي يفرِض نفسه على عقولنا فرضًا؛ لأنه مُقرَّر بإرادة الله، فهو يعتقِد أنَّ القواعد الأخلاقية ليست من وضْع الجماعة السياسية، بل هي تهبط على البشر، ولو أنه في الوقت نفسه يُنكر أن تكون هذه المبادئ الأخلاقية مفطورةً في العقل الإنساني منذ ولادته، بل إنه ليُدركها بالتجربة مع يقينه أنها قانون الله، وليس من وضع البشر.
•••
هذا هو «لوك» الذي كان أول فيلسوف في العصر الحديث وجَّه الفكر إلى مشكلة المعرفة: من أين تأتي المعرفة، وكيف يُحصِّلها العقل؟ ولقد وضع أساس أُمَّهات المسائل النفسية التي أخذت تشغل الفلسفة منذ ذلك الحين حتى اليوم.
ولقد كان من أثر «لوك» — فضلًا عن ذلك — تقريره لشخصية الفرد بعد أن طمَسَها «سبينُوزا» وأغرقَها في كتلة الوجود. ولكن يؤخَذ على «لوك» بعض التردُّد والتناقُض في علاقة الفرد بالعالم الخارجي. فتارةً يعدُّ الأشياء المادية نفسها هي التي تصدُر عنها المعرفة بانطباع آثارها على صفحة الذهن، وطورًا يزعُم أنَّ العقل لا يعرف إلا أفكار نفسه التي قد لا تُشبِه الحقيقية الخارجية.
(١-٨) بركلي Berkcley
وكان بركلي رجلًا من رجال الدين، يخفق قلبُه بالإيمان والتقوى، وهَمَّ بعد رحلةٍ قصيرة قام بها في أوربا، وقابل أثناءها مالبرانش، أنْ يضطلع بمشروعٍ دينيٍّ عظيم: هو هداية المُتوحِّشين من سُكَّان أمريكا الشمالية. وبعد أن أعدَّ لهذه المهمَّة الجليلة عدَّتَها بخِل عليه البرلمان الإنجليزي بالمال فحبط المشروع، وبعدئذٍ عُيِّن في منصبٍ ديني في إيرلندة حيث أنفق ما بقِيَ له من عمره في شئون منصبه، وفي متابعة دراسته.
أما فلسفتُه فشُعبتان: شعبة سلبية وأخرى إيجابية، فهو في الأولى يحاول أن يُبرهن على أن العالَم الماديَّ ليس له وجودٌ مُستقل عن العقل الذي يُدركه، ثم يُبيِّن بعد ذلك أن العقول وما تشمل عليه من أفكارٍ هي وحدَها الحقيقة. ولمَّا كان الله هو العقل الأسمى كان هو باعث أفكارنا، كما أنه في الوقت نفسه هو الذي يُوجِد ما بينها من روابط.
ولقد أراد بذلك أن يُقيم الدليل على أنَّ وجود العالم الخارجي مُتوقِّف على وجود العقل الذي يُدركه، فإن لم يكن عقل مُدرك لَما كان هناك عالَم مادي، فلو انعدمَتْ حواسُّ الأبصار لانعدمَتْ معها المرئيَّات، ولو صُمَّت الآذان لانمحَتِ الأصوات، وعلى الجُملة لو ذهبت الحواسُّ لامتنع وجود الأشياء. ويجِب أن نلفِت النظر إلى أن بركلي لا يقصد بذلك أن يَشُكَّ في وجود العالَم الخارجي، ولكنه يرى أنه من خلْق العقل والحواس، وهو يُنكِر وجود ذلك الجوهر المجهول الذي زعم الفلاسفة من قبله — ومنهم لوك — أنه كان وراء الظواهر المحسوسة. يقول بركلي: إنَّني لستُ أقلَّ منك إيمانًا بوجود ما تراه عينايَ وتُحسُّه يداي، إنما أُنكر أن يكون ثمَّة شيءٌ غير ما أرى وما أُحس، وأنَّ هذا الجوهر المزعوم إنْ هو إلا فِكرة مجردة ليس لها حقيقة واقعة. إنَّنا لو تأمَّلنا فيما تأتينا به التجربة لَما رأيْنا فيه ذلك الجوهر أو تلك القوة التي تنشأ عنها الظواهر أو تكون قوامًا للأشياء كما يزعمون، بل كل ما نراه هو مجموعة من الإحساسات إذا حلَّلْتها وجدتَها تتألَّف من مرئياتٍ مُعيَّنة، وأصوات، وطعوم، وما إلى هؤلاء من ضروب ما تجيء به الحواس. هذا فضلًا عن معرفتي بنفسي؛ إذ إني أعلم — إلى جانب تلك الأحاسيس — أنَّني أنا الذي أعرفها. وليس يَعي الإنسان غير هذَين الجانبَين؛ إحساسات، وذات تُدركها.
وإذا قلتُ إنَّني أرى أو ألمس شيئًا ما، فإنما أُريد بذلك أنَّني أُدرك فكرتي عنه. إنَّ هذا القلم الذي أكتُب به موجود ما دمتُ أراه بعَيني وأُحسُّه بين أصابعي، فإذا تركتُه على المائدة وانصرفتُ من غرفتي، فسأظلُّ أعلَم أنه موجود، ويكون معنى وجودِه عندئذٍ أنَّني لو كنتُ في الغرفة لرأيتُه وأحسسْتُه، أو قد يكون معنى وجوده أنَّ هنالك عقلًا آخَر يُدرِكه. ويريد بركلي بذلك أن يقول إنه يسمع أصواتًا، ويرى ألوانًا وأشكالًا ويذوق طعومًا، إلى آخر هذه الآثار الحِسِّية التي هي كل ما يستطيع أن يعلَمَه، بل كل ما يمكن أن يكون له وجود حقيقي. أما ما يُقال من أنَّ للأشياء جوهرًا حقيقيًّا موجودًا في الخارج سواء أكانت هنالك عقول تُدركه أو لم تكُن، فذلك ما يرفُضُه رفضًا باتًّا، فلفظة «موجود» معناها «مُدْرَك». وبعبارةٍ تُلخِّص ما مضى نقول: إنه يستحيل أن يكون للأشياء وجودٌ خارج العقول التي تُدرِكها «إنَّ كلَّ هذه الأجسام المادية التي يتركَّب منها الكون ليس لها وجود بغَير عقل — فوجودها هو أن تُدْرَك وتُعْرَف …» وفي هذا الرأي تتلخَّص رسالة بركلي.
ويقول بركلي: إنَّ ما حدا بالإنسان إلى الزعم بأنَّ للأشياء جوهرًا حقيقيًّا خارجيًّا غير ما تنبعِث فينا عنه من إحساساتٍ هو الفرْض الباطل بأنَّ في أذهاننا ما نُسمِّيه بالأفكار الكُلية المجرَّدة (أي أنَّ في الذهن أفكارًا كُلية غير الإحساسات الجُزئية ممَّا يدلُّ على أنَّ للأشياء حقيقةً أُخرى غير مجموعة الآثار الحِسِّية التي تنطبِع على حواسِّنا)، ولكن بركلي يقول: إن الإنسان ليخدَع نفسه حين يخلط، فيظنُّ الألفاظ أفكارًا، فليس لهذه الأفكار الكلية وجود قطعًا، وليس ثمَّة إلَّا الحقائق الجزئية التي نُحسُّها بحواسِّنا. إنَّ هذه الأفكار المُجرَّدة ليس لها وجود، حتى في العقل نفسه فضلًا عن العالم الخارجي.
ولا بدَّ هنا من مُعترِض يُسائل «بركلي» إذا استحال وجود الأفكار نفسها إلا في عقلٍ يُفكِّر فيها — وهذا ما نُسلِّم به — فماذا يمنع أن يكون هنالك، خارج عقولنا، أشياء شبيهة بأفكارنا؟ أو على الأصحِّ تكون أفكارنا شبيهةً بها أو صورًا لها؟ إذا كانت فِكرتي عن هذا القلم الذي أكتُب به لا يمكن أن تُوجَد بغَير عقل يُدركها، فلماذا لا يكون ثمَّة قلمٌ مادي في الواقع، هو الأصل الذي انبعثت عنه فكرتي؟ ولكن بركلي يُجيب على من يعترِض بهذا قائلًا: إنَّ الفكرة لا يُمكن أن تُشبِه إلَّا فكرة؛ لأنَّ الشَّبَه لا يكون إلا بين النظائر، فيُماثل لَون لونًا وشكلٌ شكلًا، فإذا سلَّمْنا بوجود أشياء مادية في الخارج، فلا يُمكن لتلك الأشياء أن تخلُق فينا أفكارًا؛ لأنَّ الشيء مادةٌ، والفكرة روحٌ، فلا يُعقل أن يكون بينهما شيء من التشابُه.
ولقد أخطأ «لوك» في تقسيمِه صفات الأشياء قِسمَين: صفات أوَّلية موجودة فعلًا في الأشياء، وأخرى ثانوية تنشأ في العقول. ومِن أمثلة الصفات الأولية الامتداد، فكلُّ جسم يتَّصِف بالامتداد بغضِّ النظر عن العقل المُدرِك له، ومن أمثلة الصفات الثانوية الألوان والطعوم، فهذه من صُنع العقل وتكوينه وليستْ موجودةً فعلًا في الأشياء التي تتَّصِف بها … يقول بركلي: إن «لوك» قد أخطأ في هذا، فليس هناك أي فرقٍ بين صفةٍ وأخرى، وكلها — امتدادًا كانت أو لونًا أو طعمًا — موجودة فقط في الذهن الذي يُدرِك الشيء.
وربما قيل إنَّ للأشياء جوهرًا يكمن وراء صفاتها، وإنه من الجائز أن تكون الصفات كلها كما يقول «بركلي» من خلْق الذات، ولكنَّ جوهر الشيء الذي تتعلَّق به تلك الصفات لا بدَّ أن يكون له وجودٌ حقيقي خارجي واقِع، فإنْ قُلتَ مثلًا إنَّ لون هذه التِّفاحة أحمر، ورائحتها زكية، وطعمُها كذا، إلى آخر هذه الصفات، فما الذي تَصِفه باحمرارٍ وبطِيب الرائحة ولذَّة الطعم؟ أليس المعقول أن يكون للتفاحة جَوهر غير هذه الصفات، تتعلَّق هي به؟ نقول: ربما يُعترَض بهذا على «بركلي» ويكون معناه أنَّ هناك حقيقةً خارج العقول هي جوهر الشيء على فرْض أنَّ الصفات لا تُوجَد إلَّا في العقل وحدَه. ولكن بركلي يُجيب عن هذا الاعتراض بأن الشيء هو مجموعة صفاته ليس إلَّا. خُذ تفاحةً مثلًا في يدِك، ثُمَّ افرض أنك لا تُبصِر، فستنمحي من فكرة التفاحة صورتها، فإذا فقدتَ بعد ذلك حاسَّة الشمِّ انمحَتْ من الفكرة رائحتها، فإذا فقدتَ بعدئذٍ حاسَّة الذوق، كانت فكرة التفاحة عبارة عن ملمسها، فإن فقدتَ حاسَّة اللمس انمحَتْ فكرة التفاحة، ولم يعُد لوجودها أي معنى بالنسبة إليك. ومعنى ذلك أن التفاحة هي صفاتها لا أكثر ولا أقل، فإنْ كانت الصفات من خَلْق الذات كما قدَّمْنا، كانت فكرة التفاحة بأسرِها من خلق الذات كذلك، وليس لها معنًى من معاني الوجود خارج العقل المُشتمِل على تلك الفكرة. وبهذا محا «بركلي» المادة من الوجود، فليس في حقيقة الأمر إلَّا أفكار في عقول.
قُلنا فيما سبَق إن فلسفة «بركلي» تتألَّف من خطوتَين؛ الأولى: سلبية يُنكر فيها وجود المادة، والثانية: إيجابية يُثبت فيها وجود الكائنات الرُّوحية. ولقد بَسَطنا القول في مرحلته السلبية الأولى، ونحن نعرِض عليك الخطوة الإيجابية الثانية.
ترى ممَّا سبق أن «بركلي» يذهب بفلسفته إلى أنَّ الأشياء جميعًا لا تعدو أفكارًا وما يربطها من علاقات، ولكن هذه العلاقات ليست طبائع الأفكار نفسها، وإذن فهو لا يعترِف بما في العالَم الخارجي من سببيَّة؛ لأنه لا يرى أن الحادثة المُعينة أو الفكرة المُعينة لا بدَّ أن تستتبِع حادثة أو فكرة بعينها، إذ هو — كما رأيت — يُنكر أنَّ العلاقات بين الأشياء ضرورية ليس من حدوثها بد، فكل ما في الأمر سلسلة من الأفكار تتابَع في العقل تتابُعًا يتمُّ كما يريده الله.
أراد «بركلي» بإنكاره للعالم المادي، وبإثباته للكائنات الروحية وحدَها أن يصدَّ تيار المادية الذي طغى على الفكر في عصرِه طغيانًا انتهى بالإلحاد، وأن يُقرِّر وجود الله الذي يُنشئ في نفوسنا الأفكار، ولكنه يعود فيعترِف بأنَّ الإنسان عاجز عن معرفة الله معرفةً تامَّة كاملة؛ وذلك لأن أفكارنا قابلة فقط وليست فاعِلة، وحتى على فرض فاعليَّتها، فهي ولا شكَّ فاعلية ناقصة. ولمَّا كان الله عبارة عن فاعلية خالصة كاملة، كان من غير المُمكن أن تُمثله هذه الأفكار التي تنقُصها الفاعلية، فمَعرفتنا بالله هي من قبيل معرفتنا بذواتنا وبوجود العقول الأخرى، فلسْنا نعلم عن الله إلا ما نستنتجه من آثاره فينا؛ أي الأفكار التي في عقولنا.
ولكن طريقته هذه إذا طُبِّقت إلى نهايتها فقد تنتهي إلى إنكار عالم الرُّوح كذلك.
إنه زعَم أنَّ الشيء المادي لا يكتسِب وجوده إلا من إدراكه في عقلٍ ما، وأن كل ما هنالك عن ذلك الشيء هو فكرة في عقل، فبأيِّ حقٍّ أُقرر أن الله والعقول الأخرى موجودون وجودًا حقيقيًّا خارج عقلي، وأنهم قادِرون مِثلي على التفكير والتخيُّل والإرادة؟
أليست هذه العقول، بل أليس الله نفسه فكرة في نفسي؟ فلماذا لا أحكُم عليه بما حكمتُ به على الأشياء المادية، فأقول: إنه ليس لها وجود إلا في عقلي، وبذلك ينهار عالَم الروح كما اندكَّ عالم المادَّة من قبل؟
ومهما يكُن من أمر هذا الفيلسوف، فقد أفلح في مُعارضة النزعة المادية، كما كان من أئمة المذهب المثالي الذي يتلخَّص في أنَّ العالم هو ما تُصوِّره لنا أذهاننا.
(١-٩) هيوم Hume
جاء «هيوم» فانتزع من فلسفة «بركلي» نتيجتَها اللازمة وهي: الشك، فالشكُّ هو الخاتمة التي انتهى إليها المذهب التجريبي الذي قام في إنجلترا. ولقد أراد «بركلي» أن يتجنَّب الشكَّ ما وسِعَه ذلك، لم يُرِد بمذهبه المثالي إلَّا أن يُخلِّص حقيقتَي الذات والله من مِعْوَل المادية الهدَّام، ولكنه لم يتنبِه إلى ما تؤدي إليه مُقدماته من نتيجة، كان هو بغَير شكٍّ أول من يرفُضها ولا يرضاها، فلقد كان بإنكاره لوجود المادة إنما يُمهِّد الطريق لإنكار العالم الرُّوحي أيضًا؛ وذلك لأنَّنا إذا كنَّا نعجز عن معرفة شيءٍ إلا ما تُدركه الحواس، فليس من المُمكن أن نعرف وجود العقل، هذه هي النتيجة المنطقية التي يتضمَّنها المذهب التجريبي، وقد انتزعَها «هيوم» وجعلها أساسًا لفلسفته كلها.
لقد قال «بركلي» إنَّ حقائق الأشياء الخارجية ليست إلَّا صفاتها التي نُدركها بالحواس، وأنه ليس وراء تلك الصفات جواهِر كما يزعُمون، وما دامت الصِّفات من خلق عقولنا، فالأشياء المادية الخارجية حديث وَهْم وخُرافة، فسلَّم «هيوم» بهذا القول، ثم زاد عليه أن العقل أيضًا وهْم لا وجود له، فلا مادَّة هناك ولا عقل، إن التجربة — وهي المصدر الوحيد لعِلمنا — لا تُقدم إلينا فيما تقدِّم جوهرًا من الجواهر المادية أو العقلية، وكل ما نُدركه من تجارب حياتنا مجموعة من إحساسات، سواء أكانت آتية عن طريق الحواس، أم من الداخل بإصغائنا إلى بَواطِن أنفسنا «وما دام العقل لا يعلم قطُّ إلا طائفةً من الإدراكات الحسِّية، وما دامت كل أفكارنا إنما يؤلِّفها من الأحاسيس، كان من المُستحيل أن نكوِّن بعقولنا فكرةً عن شيءٍ ما تكون مُخالفة من نوعها للآثار الحسِّية.»
وُلِد «ديفد هيوم» في إدنبره سنة ١٧١١م، ولا نعلم من طفولته وشبابه شيئًا، إلا أنه درَس في إحدى جامعات فرنسا، وأنه في سنِّ الرابعة والعشرين أصدر أوَّل كتُبه، وهو أشهرها «رسالة في الطبيعة البشرية»، ولكن هذا الكتاب لم يأبَه له أحد لخمول ذِكر صاحبه، فاضطرَّ «هيوم» أن يُعيد كتابته من جديد، بحيث يلائم القرَّاء، وأعطاه عنوانًا جديدًا هو «بحث في العقل البشري»، ونشرَه زاعمًا أنه الجزء الثاني من سلسلة مقالات يعتزِم إصدارها. ولقد توقَّع هذه المرة أنَّ ما أوردَه في كتابه من الآراء سيُحدِث في دوائر المُفكرين ضجَّة داوية، ولكن الكتاب ظلَّ كذلك خاملًا، وقد قال «هيوم» نفسه عنه: «إنَّ كتابي قد وَلَدتْه المطبعة مَيتًا.» أما كتُبه الأخرى فهي: «مقالات سياسية» على اعتبار أنها الجزء الثالث من مقالاته، «ومحاورات في الدين الطبيعي» و«تاريخ إنجلترا». ولقد أنعم الله على «هيوم» بصحَّةٍ قوية، ووفرة مادية، مَكَّنَتاه من مواصلة دراسته وكتابته. هذا وقد عُيِّن أمينًا لمكتبة المُحامين في إنجلترا، ثم عُيِّن بعدئذٍ كاتمًا للسر في المُفوضية الإنجليزية في فرنسا، فاتَّصل أثناء إقامته في باريس بالدوائر الأدبية العالية، وأخيرًا عاد إلى بلدِه إدنبره حيث قضى آخر أعوامه.
وأما فلسفتُه فهي كما قدَّمنا عبارة عن انتزاع النتائج المنطقية التي تؤدِّي إليها فلسفة سلفَيْه «لوك وبركلي». مع قَبوله لوجهة نظرهما وآرائهما جُملةً وتفصيلًا.
ثم يُفرِّق «هيوم» بعد ذلك بين أفكار الذاكرة وأفكار الخيال، فيقول: إنَّ الأُولى أنصع وأقوى من الثانية؛ لأنها صُوَر مباشرة لمُدركاتِنا،؛ إذ الذاكرة تحتفظ بالصورة الأصلية التي أدركْنا عليها الأشياء، وأما الخيال فهو يتناول هذه الصور الفكرية بالتغيير والتحوير. وبعبارةٍ أخرى: إن الذاكرة تقِف عند حدود التجربة، أما الخيال فلا يُقيِّد نفسه بذلك، ولهذا يقع في كثيرٍ من الأخطاء، ويختلق كثيرًا من الدعاوى التي لا يمكن البرهنة عليها.
يتساءل «هيوم»: من أين جاءت هذه الفكرة التي أضافها الإنسان إلى الإحساسات المُتفرِّقة التي ليس بينها في الواقع حلقات مُتوسطة تربط الواحدة منها بالأخرى، فتطوَّع لها الإنسان برابطة السببية، وسَمَّى حادثةً ما عِلة، وسمَّى الأخرى معلولًا، والحقيقة أنهما حادثتان تتابَعَتا لا أكثر، وليس التتابُع بالطبع معناه السببيَّة؟ قد يُقال: إن الإنسان قد حكَم بوجود علاقة السببية بين حادثتَين لمَّا رأى أنهما تتتابعان باطِّراد، ولكن هذا التتابُع مهما اطَّرد فهو تتابُع فقط، ولا يمكن أن يُفهَم منه أنَّ الحادثة الأولى سبَّبت الحادثة الثانية وأوجدَتْها … يقول «هيوم» إنها العادة وحدَها هي التي أدَّت بالإنسان إلى استخلاص هذه النتيجة؛ إذ توهَّم أنه ما دامت هاتان الحقيقتان قد ارتبطتا في الماضي، فلا بدَّ أن يرتبطا كذلك في التجارب المُقبِلة. وإذن ففكرة السببيَّة ذاتية محْضة، وهي خدعة من الخيال الذي يميل إلى فرْض رابطة بين الأشياء والحوادث ليس لها وجود إلا في العقل الذي يُدركها.
وهذا الوَهْم الباطل الذي نسجَه الخيال ولفَّقَه — بغير سندٍ يُثبت حقيقته — هو الذي أدَّى كذلك إلى اعتقادِنا بوجود المادية مُستقلة عنَّا. إنَّني لا أعلَم عن العالم الخارجي إلا ما في ذهني من مُدرَكاتٍ حسية، فبأيِّ حقٍّ أتعدَّى حدود علمي، وأزعم أن في الكون أشياء غير هذه المُدرَكات؟ إنَّنا نرى بعض أفكارنا واضحةً قوية ناصعة، فلا نُصدِّق أن تكون هذه الأفكار بغَير أشياء تُقابلها، وبهذا نخلُق وجودَين في كونٍ واحد: أفكار وأشياء!
كلا، ليس في الكون إلا هذه الأفكار التي نُدركها، ومن الخطل أن نفرض وجود ما لا نعلم.
وليتَ هذه الفأس الهادِمة قد اقتصرت على العالَم المادي، بل تعدَّتْه إلى العقل نفسه فأنكرَتْه وأزالته من الوجود! هات هذا العقل وسلِّط عليه المقياس الذي اتَّخذَه «هيوم» لمعرفة ما هو حق وما هو باطل، ثم انظر ماذا يكون من أمرِه، نحن لا نعلم إلَّا طائفة من آثارٍ حسية، فكل فِكرة مهما جلَّ قدرُها لا يمكن ردُّها إلى أثرٍ من تلك الآثار الحسية قضَيْنا عليها بالبطلان، تتبَّع إذن فكرة العقل أو الذات ورُدَّها إلى أصلها الحِسي، فهل أنت واجِدٌ بين الآثار الحسية التي أتتْك من الخارج ما معناه «عقل»؟ هل تُمثِّل فكرة الذات إحساسًا جاءت به العين أو الأذن، أو أية حاسَّة أخرى؟ كلا، وإذن فقد تقوَّض العقل كما تقوَّضَت المادة من قبل، فلا عقل هناك، وكل ما في الأمر سلسلة من المشاعر والعواطف يتبع بعضها بعضًا في حركةٍ دائمة دون أن تكون هناك «ذات» أو «عقل» تُمسكها كلها في آنٍ واحد. وبعبارةٍ أخرى ليس لدى تلك القوة المزعومة التي أستطيع بها أن أُخزِّن طائفةً من الأفكار والمشاعر، بل كل ما لديَّ هو سيل مُتدفق مُتلاحق من الإحساسات العابرة التي لا يربط بعضها ببعض أية رابطة. فأنا الآن في هذه اللحظة ليس لديَّ إلا شعور واحد أو فكرة واحدة، وهذه ستمضي من فورها وتحلُّ أخرى مكانها، ثم ثالثة فرابعة وهَلُمَّ جرًّا، وليس ثمة عقل يُمسكها ويجمع بينها كلها في لحظة بعينها، فإن كان هذا القول لا يزال غامضًا، فيمكن توضيحه «بفيلم السينما»، فالشاشة لا يظهر عليها في كل لحظةٍ إلا صورة واحدة، ثم تأخُذ الصور في التتابُع، دون أن يكون بين الصورة السابقة والصورة اللاحِقة أدنى رابطة، اللهم إلا التتابُع وحدَه، وبديهي أنَّ الشاشة (وهي مثل العقل في هذه الحالة) لا تحتفظ على صفحتِها بكلِّ الصور في لحظةٍ واحدة، بل إنَّ الصورة التي تمضي لا عودة لها، وليس هناك مجال إلَّا لصورة واحدة في لحظةٍ واحدة. ومن تتابُع الصور تنشأ القصَّة، كما أن من تتابُع الأفكار تنشأ الحياة الفكرية.
وهنا يُعترض على «هيوم» بحق أنه يرفض وجود العقل أو الذات في آخر رسالته، بعد أن استغلَّ فُرَص وجوده أثناء البحث، فقد زعم أنَّ هناك بعض العلائق التي تربِط الأفكار فقال: إنَّ الذاكرة والخيال عامِلان من عوامل هذا الربط، فسواء سَمَّينا هذه القوة التي تربط ما بين الأفكار بالذاكرة أو بالخيال أو بالعقل، فليس يُقدِّم هذا الاختلاف في الأسماء من الأمر ولا يؤخِّر.
فإنْ صدَق ما ذهب إليه «هيوم» من أن العقل ليس إلَّا إحساسات مُتناثِرة تتلاحَق في العقل، وتتتابع دون أن يكون بينها أية صِلة، فلقد انهدَمَت روحانية النفس وخلودها؛ لأنه بذلك لا نفس هناك ولا روح. ولكن هذا الاعتراض ليس له معنى عند «هيوم»؛ لأنه قد محا المادة والروح على السواء، ولم يُبقِ على شيءٍ منهما حتى يجوز لنا أن نُسائله: هل النفس روحانية أو مادية؟
ومن نتائج فلسفة «هيوم» أيضًا القضاء على كلِّ دليلٍ ينهض على وجود الله، فهو يقول في كتابه «محاورات في الدِّيانة الطبيعية»: إنَّنا لا نعلَم عن العلَّة شيئًا إلا أنها الحادثة السابقة التي نُشاهدها قبل حدوث معلولها، وإذن فلا بدَّ من مشاهدة الحادثتَين معًا: السابقة واللاحقة على السواء، إنَّنا نستدلُّ من وجود الساعة على وجود صانعها؛ لأنَّنا رأينا الساعة والصانع كليهما، وإذن فوجود الكون لا يقوم دليلًا على وجود صانعه، إلا إذا رأيْنا الصانع والمصنوع جميعًا. وهنا عارَضَه «ريد» بأنَّ في الطبيعة علامات كثيرة تدلُّ على أنه يسير وفق خطةٍ مُعيَّنة، ووجود خطة تقتضي وجود سببٍ عاقل. فأجابه «هيوم» بأنه إذا كان لا بدَّ لنا من البحث عن عِلة لكلِّ شيء، لوجب إذن أن نبحث عن عِلةٍ للإله نفسه.
ويُنكر «هيوم» في كتابه «مقالة في المعجزات» وقوع المعجزة، على الرغم من أنه لا يُنكر إمكانها؛ لأنَّ إمكان وقوع المعجزة الخارجة نتيجة طبيعية لمذهبه الذي يُنكِر به ضرورة التتابُع السببي بين الأشياء والحوادث، فما دامت الأشياء لا تتتابع في نظامٍ معين، فمن الجائز إذن أن يحدُث في الطبيعة أيُّ شيء، دون أن يسترعي ذلك انتباهنا أو يُثير دهشتنا، نقول إنه يُنكر وقوع المُعجزة رغم جوازها عقلًا، مُحتجًّا بأن التجربة قد دلَّت على أن الكون يسير في نظامٍ مُعين. فالعقل أقرَب إلى قبول استمرار هذا النظام منه إلى قبول كسرِه واضطرابه. ولكن من حقِّنا أن نُسائل «هيوم»: لماذا يَعتبِر المعجزة كسرًا لنظام الطبيعة بناءً على نظريته هو؟ أليس يدعونا إلى اعتبار كلِّ حادثةٍ إدراكًا جديدًا لا علاقة له بما سلفَها من حوادث؟ وعلى ذلك يكون الحادث الذي يُسمِّيه هو كسرًا للنظام المعهود، مجرد إدراك جديد لا يتَّصِل بالحالة السابقة له، إنه حقيقة جديدة صادفناها في مجرى تجربة الحياة العملية. إن فلسفة «هيوم» لأمْيَلُ إلى وقوع الحوادث الخارقة غير المعهودة، بل إنَّ مذهبه ليقتضي أكثرَ من هذا، إنه لا يؤدي إلى أنَّ هناك نظامًا مُعيَّنًا في الكون، حتى نقول إنه كُسِر أو لم يُكسَر؛ لأنه ليس في أذهاننا فكرة عن نظام موجود بين الأشياء الخارجية، ولا يمكن أن توجَد هذه الفكرة ما دامت كل معلوماتنا عبارة عن إحساساتٍ مُفكَّكة مُتناثِرة لا يرتبط بعضها ببعضٍ في نظامٍ أو ما يُشبِه النظام.
رأيه في الأخلاق
يرى «هيوم» أنَّ سلوك الإنسان عمل آلي محْض، وليس هناك ما يُسمَّى بالإرادة الحرَّة، فإن عرفْتَ طبيعة إنسان أمكنك أن تتنبَّأ بتصرُّفه في كل مواقفه المُقبلة، وهو يزعُم أن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو اللذَّة والألَم، وبهما نُميز بين الخير والشر، وليس العقل هو الذي يوجِّه أعمال الإنسان؛ لأنَّ العقل ملكة نظرية محضة لا شأن لها بالجانب العملي، وكل أثرِه هو أنه يوجِّه الدافع الذي ينبعِث من الشهوة أو الرغبة، فهو يُبيِّن لنا ما هو حق، ولكنه لا يستطيع أن يؤثر في السلوك على نحوٍ مُعيَّن.
إن ما يدفع الإنسان إلى العمل هو المشاعر والعواطف، وهو يُقسِّم هذه المشاعر إلى هادئة وعنيفة، فالأولى تشمل: الجمال والقبح، والثانية تشمل: الحُبَّ والكُره، والحزن والسرور، والغرور والتواضُع.
وما دامت أعمالنا نتيجة العاطفة فلا يصحُّ أن يكون العقل حَكمًا أخلاقيًّا، إنما المرجع الذي يجِب أن يحتكِم إليه هو غريزة أخلاقية يعتقد «هيوم» بوجودها عند الإنسان، وهذه الغريزة تحكُم على أخلاقية العمل بناء على ما يؤدي إليه من شعور باللذة أو الألم. فالفضيلة هي ما يُثير في الشخص اللذة، أما ما يُمكننا من الحكم على أعمال الناس، فهي ملكة خاصَّة عند الإنسان يستطيع بها مشاركة غيره في شعوره، فيحسُّ بنفس إحساسِه، ويقِف ذات موقِفه، وحينئذٍ يرى هل ما يقوم به غيره من عملٍ يستدعي القدْح أو الثناء؛ لأنه بذلك يتخيَّل أن ذلك العمل قد وقَع منه هو، ثم ينظُر أي شعورٍ قد أُثير في نفسه، أهو شعور الزَّهو فيكون العمل صالحًا؟ أم هو شعور الخجَل والضِّعَة فيكون غير صالح؟ فاستحسان العمل أو استهجانه يكون على أساس ما يُثيره من زهوٍ أو ضعة، وهذا هو مِقياسُنا في الحُكم على سلوك الناس، وليس صحيحًا ما يُقال من أنَّنا نحكُم بناءً على ما نراه صالحًا لنا، أي أنَّ مِقياسنا هو حُب الذات؛ لأننا قد نمدَح عملًا قام به رجل منذ آلاف السنين، أو عملًا باسِلًا يقوم به أحد أعدائنا، مع أنه قد يتعارَض مع مصلحتنا.
لقد سبق القول إنَّ الفضيلة هي ما تبعَث في النفس الرِّضا واللذة، ومعنى ذلك أن الخير هو ما ينفع، ولكن «هيوم» يُحذرنا أن نأخذ كلمة المنفعة بمعناها الفردي، فإنه يُريد بها المنفعة العامة، فما يعود بالخير على أكبر عددٍ مُمكن من الناس أفضل مما ينفع فردًا واحدًا فقط، ومن هنا جاء تفضيلنا للعدْل والإحسان مثلًا على مهارة شخصٍ مُعين في حرفةٍ ما؛ لأن الأوَّلَين يعمُّ نفعهما الناس جميعًا بخلاف الثانية، فهي لا تُفيد إلا صاحبها أو نحو ذلك. هذا ويقرِّر «هيوم» أن للفضيلة ثوابها وللرذيلة عقابها، وهما اللذة أو الألم الذي يشعُر به من يعمل الفضيلة أو يأتي الرذيلة، وليس لهما من ثوابٍ أو عقاب وراء هذه اللذَّة العاجِلة أو الألَم الذي يُصيب صاحب الرذيلة في حينها.
(١-١٠) كَانْت Kant
(١) من «فولتير» إلى «كانْت»
لقد كان من أثر الصيحة الدَّاوية التي هتفَ بها «فرانسس بيكون» أن اندفعت أوروبا بأسرِها (ما عدا روسُّو) تثِق بالعِلم وتؤمن بالمنطق في حلِّ كل ما يعترِض الإنسان من مشكلات، ولقد غالى الفرنسيُّون في تمجيد العقل في العصر الذي يُسمَّى بعصر التنوير، والذي يُمثله فولتير، إلى حدِّ أن اتَّخَذ الباريسيون في ثورتهم امرأةً حسناء عصرية من نساء باريس، وأطلقوا عليها اسم «إلهة العقل» ليدلُّوا بتمجيدهم إيَّاها على إطراحهم لأساليب التفكير البالية، واعتناقهم للعقل وحدَه، به يستهدفون دون أن يكون لغيره عليهم سلطان. ولقد استتبع هذا التمسُّك بالعقل ومنطقة الكفر والإلحاد والنزعة المادية في إنجلترا وفي فرنسا على السواء. فقال «هوبز» في إنجلترا: «ليس في الوجود إلَّا ذرَّات الفراغ.» وأخذتِ العقيدة الدينية في فرنسا تتقوَّض وتنهار، حتى زعموا أنهم أنزلوا الله من ملكوته، في نفس الوقت الذي أنزلوا فيه أُسرة البوربون من عرشها. وطغى الإلحاد في فرنسا حتى أصبح بِدْعًا (مُودَة) سائدًا في الأندية، وحتى أخذ به رجال الكنيسة أنفسهم، وهكذا غاض الإيمان في فرنسا عندئذٍ، وساد العقل وانتصر.
ولكن هذه الهجمة العنيفة التي سُدِّدت نحوَ الدين في عصر التنوير على يدي فولتير وأقرانه لم يطُل أمدُها، فليس من اليسير أن تُزعزِع إيمانًا يحمِل معه التفاؤل والأمل، قد مدَّ جذوره في أفئدة الناس وقلوبهم. هيهات للعقل أن يقتلِع بعاصفتِه هذه الدوحة المُتأصِّلة الراسخة، ولهذا لم يلبَث الإيمان — الذي ظنَّ العقل أنه قد أطاح به ومحاه — أن عاد وشكَّ في أهلية القاضي الذي حكَم عليه بالزَّوال … لماذا لا نتناول هذا العقل نفسه الذي وضَع نفسه موضِع الحَكَم بالاختبار، كما تناول هو الدِّين من قبل بالتجربة والامتحان؟ ما هذا العقل الذي يأبى عليه غروره إلا أن يهدم عقيدة عُمِّرت آلاف السنين، وتغلغلَتْ في ملايين النفوس؟ أهو حَكَمٌ فصْل صادق لا ينطق إلا بالحق، أم هو عضو من أعضاء الإنسان، وهو — كأيِّ عضوٍ آخر — محصور بقيود وظيفته، محدود بقواه؟ لقد حان الوقت لنحاكم القاضي، نعم لا بدَّ أن نمتحِن هذه المحكمة القاسية التي قضت بكلمةٍ على إيمانٍ فيه الأمل المُبتسِم الزاهر، ها قد جاء الحين «لنَقْد العقل» على يدي «كانت».
(٢) من «لوك» إلى «كانت»
لقد مهَّد (لوك، وبركلي، وهيوم) الطريق لهذه المُحاكمة التي نريدها للعقل، إذ ارتدَّ العقل لأول مرة في الفكر الحديث إلى نفسه يمتحِنها ويختبرها في كتاب «لوك»، مقالة «في العقل البشري»، وبدأت الفلسفة تبحث في الوسائل التي ركنَتْ إليها، ووثِقَت بها هذا الزمن الطويل، فلم تعُد تأتمِن العقل، وداخلها فيه الرَّيب والشك.
فقد انتهى «لوك» إلى إنكار الآراء الفطرية، التي يقول دُعاتها إنها تُولَد مع الإنسان كمعرفة الخير والشر مثلًا، وأكد أنَّ العقل عند ولادة الطفل يكون كالصفحة البيضاء خاليًا من كلِّ شيءٍ وقابلًا للانفعال بالبواعِث المُختلفة، فإذا ما مرَّت به تجارب الحياة تركَتْ فيه آثارها، وطريق تلك التجارب إلى العقل هي الحواس وحدَها، وليس في حنايا العقل أثرٌ واحد لم يسلُك طريق الحواس أولًا، فالآثار الخارجية تنتقل إلى الذهن في إحساساتٍ مختلفة، ثم تُولِّد هذه الإحساسات شتَّى الآراء والأفكار. وما دامت الأشياء المادية وحدَها هي التي يمكن أن تنتقل عن طريق الحواس، إذن فكلُّ معلوماتنا مُستمَدَّة من الأجسام المادية دون غيرها، ومعنى ذلك أنَّ المادة عند «لوك» هي كل شيء.
ثم جاء «بركلي» وخطا بعد ذلك خطوةً جريئة، فقد سلَّم بمُقدِّمات «لوك»، ولكنه اختلف وإيَّاه في النتيجة. ألم يقُل «لوك» بأن معلوماتنا جميعًا مُشتقَّة مما يجيء عن طريق الحواس؟ إذن فنحن لا ندري عن الشيء الخارجي إلَّا الإحساسات التي تنبعِث إلينا منه، والأفكار التي تتولَّد من هذه الإحساسات عند وصولها إلى الذهن. خُذ التفاحة مثلًا، فهذا لونها يصِل إليك ضوءًا عن طريق العين، وهذه رائحتها تجيئك عن طريق الأنف، وذاك طعمُها تعلَمُه عن طريق الذوق، وذلك ملمَسُها وشكلها يصِلان إليك عن طريق أعصاب اليد، فإذا تناول هذه التفاحة كفيف البصر علِم عنها كلَّ شيءٍ إلا لونها، وإذا كان فاقدًا لحاسَّتَي الشم والذوق أيضًا اقتصر عِلم التفاحة على شكلها وملمسها، فإذا فرَضْنا أن أعصاب يدِه أصيبت بالشَّلَل ففقدت عملها كذلك أنكَر صاحبنا وجود التفاحة في يده مهما قدَّمْتَ إليه من وسائل الإقناع، فلولا الحواسُّ لما كان للأشياء الخارجية وجود، فالحواسُّ هي التي كوَّنَتْها، ولذلك لم يتردَّد «بركلي» في إنكار المادة إنكارًا تامًّا، ولم يعترِف بوجود شيءٍ إلَّا حقيقة واحدة يُحِسُّها في نفسه ألا وهي العقل.
أجهز بركلي على المادة فمحاها على صفحة الوجود، وأشفق على العقل فسلَّم بوجوده، ولكن جاء بعدَه هيوم فأبى أن يقِف عند هذا الحدِّ المُتواضِع من الإنكار، وسارع إلى العقل بمِعولِه فألقاه في هوَّة العدَم. ما هذا العقل الذي يتشبَّث بركلي بوجوده؟ ابحث في نفسك بحثًا باطنيًّا، وحاول أن تعثُر على ذلك العقل باعتباره ذاتًا مُستقلَّة فلن تعود بطائل، ولن تُصادِف في نفسك إلا سلسلةً من الأفكار والمشاعر والذكريات يتلو بعضها بعضًا، فليس ثمَّة عقل، ولكنها عمليات فكرية، وصُوَر ذهنية لا أقلَّ ولا أكثر، وإذن فقد انهار العقل كما انهارتِ المادة من قبل! وهكذا قوَّضَت الفلسفة بفئوسها كلَّ شيء، ثُم وقفت بين تلك الأنقاض الخربة لا تجد وقودًا يُذكيها، فقد ضاع العقل وضاعت المادة، ولم يبقَ لها منهما شيء، قرأ «كانْت» ترجمةً ألمانية لكتُب «ديفد هيوم» فروَّعته هذه النتيجة التي قضت على الدِّين والعِلم معًا؛ لأنه إن كان لا روح فلا دين، وإن كان لا مادة فلا عِلم، روَّعته هذه النتيجة الهادِمة وأيقظته من نُعاسِه واستسلامه للآراء القديمة على حدِّ تعبيره … هالَهُ أن يُعلن العلم والإيمان إفلاسهما، وأن يسلما نفسيهما إلى الشك، فأعمل الفكر في وسيلة النجاة والإنقاذ.
(٣) من «روسو» إلى «كانت»
نادى رجال عصر التنوير بأنَّ العقل ينتهي إلى تأييد المذهب المادي، فأجاب بركلي بأنَّ المادة ليس لها وجود، ولم يكن يعلَم بركلي — وهو القسيس المُتبتِّل — أنَّ هذا السهم الذي سدَّده إلى صدر الإلحاد سيرتدُّ إلى نحرِه فيقضي عليه، لم يكن يعلم أن هذه الحجَّة التي أبطل بها المادة ليهدم مادية المُلحدين، ستُبطل كذلك العقل — أي الروح — فتنهدم روحانية المُتديِّنين. فقد كان أجدر ببركلي أن يُحارب الملاحدة الماديين الذين يتشبَّثون بالعقل، بسلاحٍ آخر، فيزعُم لهم أن العقل ليس هو الحَكَم الذي ينتهي بقوله كلُّ زعْم وادِّعاء؛ إذ ما أكثر النتائج المنطقية التي ينتهي إليها العقل، والتي نميل بشعورنا وفِطرتنا إلى رفضها، وليس هناك ما يُبرِّر أن أنبذ ما يُمليه علي شعوري وفطرتي لأستمع إلى إملاء العقل المنطقي وحدَه، مع أن هذا العقل أحدث من ذلك الميل الغريزي عهدًا وأضعف بناء. نعم إنَّ العقل كثيرًا ما يكون خير مُرشدٍ وأفضل هاد، لا سيما في الحياة المدنية، ولكن إذا اشتدَّت أزمات الحياة فلا بدَّ أن نلجأ إلى الشعور والفطرة نستلهِمها الإرشاد، ونستهديها الطريق.
هذا ما نادى به جان جاك روسُّو (١٧١٢–١٧٧٣م) الذي وقف وحدَه في فرنسا يُحارب المادية، ويُعارض الإلحاد الذي جاء به عصر التنوير.
كان روسُّو شابًّا سقيمًا فلم يستطع أن ينزل ببنيتِه العليلة في معمعان الحياة، وآثَر الحياة الهادئة، فكان ذلك داعيةً لطول تفكيره وعُمق تأمُّله، كأنما فرَّ من لذعات الحقيقة المُرَّة إلى عالمٍ ملأه بأحلامه وخياله، وفي سنة ١٧٤٩م أجرت أكاديمية ديجون مسابقةً بين الكُتَّاب في رسالة موضوعها: «هل أدَّى تقدُّم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق أم إلى إصلاحها؟» وأعدَّت للمتسابق الفائز منحة، فظفِرَت مقالة روسو بالجائزة، وقد جاء في رسالته تلك أنَّ الثقافة أقرب إلى الشر منها إلى الخير، فحيثما تنشأ الفلسفة تهبِط الأخلاق «ولقد شاع بين الفلاسفة أنفسهم أنه منذ ظهر رجال العِلم اختفى أصحاب الشرَف.» «وإنَّني لأُصرِّح في يقينٍ أن التفكير مناقض لطبيعة الإنسان، وأن الرجل المُفكِّر حيوان سافل.» إنه لخيرٌ للناس ألف مرةٍ أن يطرحوا هذا العقل، وأن يعمدوا أولًا إلى رياضة القلب والمحبَّة. إنَّ التعليم لا يُخرج من الإنسان نبيلًا فاضلا، ولكنه يُنمِّي ذكاءه فقط، والذكاء أداة للشرِّ في أغلب الأحيان، فأجدَرُ بنا أن نعتمِد على الغريزة والشعور؛ لأنهما أولى بالثِّقة من العقل. ولقد شرح روسُّو في قصته المشهورة «هلواز الجديدة» رأيه في تفوُّق الشعور على العقل شرحًا مُفصَّلًا.
وهكذا حمل «روسو» حملتَه على العقل. ومجَّد الشعور ورفع من شأنه حتى تبدَّل «البِدْع» «المودة» في «صالونات» باريس، وأصبحت سيِّدات الطبقة الراقية يُباهين برقَّة شعورهن ودقة إحساسهن، بعد أن كان الفخر كل الفخر بالعقل والتفكير، ونتج عن ذلك أن تحوَّلت وجهة الأدب إلى العاطفة بعد أن كان مدارها الفِكر، كما استيقظ الشعور الديني في النفوس واشتدَّت الحماسة له.
وخُلاصة الدعوة التي نادى بها «روسو» هي: أنه إذا أمكن للعقل أن ينقُض العقيدة في الله، وأن يُنكر الخلود، فإن الشعور يؤيدهما، فلماذا لا نُصدِّق الشعور الفطري هنا بدل أن نستسلِم إلى هذا الشكِّ الجارف الذي يؤدي إليه العقل؟
قرأ «كانْت» ما كتبه «روسو» فانصرَفَ إليه بكل قلبه، حتى إنه حين بدأ في مُطالعة كتابه «إميل» أبى أن يغادر داره إلى نُزهته اليومية المُعتادة قبل أن يفرغ من قراءة الكتاب، ولم يكن امتناعُه عن الخروج أمرًا يسيرًا، وهو الذي أفرغ حياته في قانونٍ من حديد، فلا يُغير من مجرى سلوكه إلَّا لأخطر الأسباب.
وجد «كانت» في «روسُّو» رجُلًا يريد أن يشقَّ لنفسه طريقًا يُفلِت به من الإلحاد الذي خيَّم بظلامه الحالك على النفوس، فذهب إلى تفضيل الشعور على العقل، فيما يتَّصِل بما هو فوق الحسِّ من الموضوعات — ولقد أراد «كانْت» أن يتصدَّى هو أيضًا لهذه المهمة الكبرى، أراد أن يُنقِذ الدين من العقل، وأن يُخلِّص العلم من الشك؛ فكانت تلك رسالته.
ولكن من هو «عمانوئيل كانْت»؟
وفي ١٧٥٥م عُيِّن «كانْت» محاضرًا في جامعة كونسبرج، وظلَّت الجامعة خمسة عشر عامًا ترفُض أن تُعيِّنه أستاذًا بها، حتى إذا كان عام ١٧٧٠م عُيِّن أستاذًا للمنطق والميتافيزيقا، وقد أكسبَه طول اشتغاله بالتدريس خبرةً واسعة بفنِّ التربية، فأخرج في هذا الموضوع كتابًا كان هو نفسه يقول عنه إن به طائفةً كبيرة من الآراء القَيِّمة، غير أنه للأسف لم يستطِع تطبيقها في تدريسه، ولكنه مع ذلك كان مُدرِّسًا ناجحًا من الوجهة العملية، وكانت له منزلة رفيعة في نفوس تلاميذه، ومن بين آرائه العملية أن يُوجِّه المدرِّس أكبر قسطٍ من عنايته للفئة المتوسطة من التلاميذ؛ لأن الأغبياء لا يُجدي فيهم المجهود، والنوابغ لا يحتاجون إلى مجهود غيرهم.
ولقد كان الناس يتوقَّعون كل شيءٍ إلا أن يُخرج هذا الأستاذ الهادئ المُتواضِع نظامًا جديدًا في الفلسفة يهتزُّ له العالم أجمع، نعم كان الناس يُصدِّقون كلَّ شيءٍ إلا أن يُثير «كانْت» أوروبا كلها بآرائه، وهو ذلك الحييُّ الذي لم يُسئ قطُّ إلى أحد، بل إنه هو نفسه لم يكن يتوقَّع أن ينتهي إلى ما انتهى إليه، فقد كتَب وهو في سنِّ الثانية والأربعين يقول: «لقد شاء لي حُسن الطالع أن أكون عاشقًا للميتافيزيقا، ولكن معشوقتي لم تُطلعني حتى الآن إلا على قليلٍ من حُسنها.» وكان يتحدَّث حينئذٍ عن البحث فيما وراء الطبيعة أنه هاوية سحيقة لا قاعَ لها ولا قرار، وأنه مُحيط مُظلم لا شُطآن فيه ولا منائر يُهتدى بضوئها في خِضَمِّه، وأنه كثيرًا ما تحطَّمت بين أمواجه نظُم فلسفية بغير جدوى. ولقد ذهب «كانْت» إلى أبعدَ من هذا في يأسِه من الميتافيزيقا بأنه اتَّهم كل من يشتغلون بها بأنهم إنما يسكنون من تأمُّلاتهم أبراجًا عالية، حيث الهواء شديد فيعصف بآرائهم الخيالية ويذروها هشيمًا … قال كل ذلك عن البحث فيما وراء الطبيعة كأنه لم يدْرِ أنه سيُخرِج للعالَم أقوى ما شهد العالَم من الميتافيزيقا.
وقد كان في النصف الأول من حياته أميلَ إلى البحث في الطبيعة منه فيما وراءها، فكتب عن الكواكب والزلازل والنار والرياح والأثير والبراكين ووصف الأقطار والأجناس البشرية وما إلى ذلك، وكانت نظريته في الأجرام السماوية قريبةً من النظرية السديمية التي ارتآها «لابلاس»، ومن آرائه أنَّ الكواكب كلها قد سكنَها الأحياء أو سيسكنونها، وأبعدها عن الشمس فيه نوع من الكائنات العاقلة أسمى بكثيرٍ من سكَّان هذه الأرض؛ وذلك لأنها أقدَمُ عمرًا، وإذن فقد أتيح لها أمدٌ أطوَلُ للنموِّ والتكوُّن. وله كتاب في الأجناس البشرية (هو مجموعة المحاضرات التي ألقاها في حياته). قال فيه إنَّ الإنسان لا بدَّ أن يكون قد تحدَّر من أصلٍ حيواني، وأنه قد أصابه كثير جدًّا من التغيُّر والتطوُّر، ويستشهد على ذلك بأمثلةٍ منها أنه لو كان الطفل في العصور الأولى من حياة الإنسان يصرُخ عند ولادته كما يصرُخ اليوم لَمَا استطاع الحياة يومًا واحدًا؛ لأنَّ صُراخَه كان سيدلُّ الحيوانات المُفترِسة على مكانه فتهجم عليه لتلتهِمه، وإذن فيُرجَّح أن يكون الإنسان اليوم مُخالفًا كلَّ المخالفة لما كان عليه بالأمس. ثم يستطرد «كانْت» فيقول: «كيف أحدثت الطبيعة هذا التقدُّم؟ وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك؟ إننا لا ندري … وماذا يمنع أن تسُوق المصادفة ثورةً عظيمة في الطبيعة تؤدي إلى انقلاب هذه الحالة الحاضرة، فيعقُبها مرحلة ثالثة يتهذَّب فيها الأورانج أوتان، أو الشمبانزي، فيرهف من نفسه أعضاء الشمِّ واللمس والكلام، حتى يبلُغ بها هذا التركيب الدقيق الذي أدركَه الكائن البشري؟» يُضاف إلى هذا عضو مركزي يُعينه على الفهم فتتقدَّم تلك القِرَدة تدريجًا بفضل ما تُنشئه من نظُم اجتماعية، ولعلَّ «كانت» يريد — بهذا التنبُّؤ بما قد يحدُث في المستقبل — أن يذكر لنا رأيه بطريقةٍ غير مباشرة فيما حدَث في الماضي عند انتقال الإنسان من حالته الحيوانية إلى حالته الحالية.
وكان الفيلسوف ضعيف البنية ضعفًا كان يضطرُّه إلى المُبالغة في وقاية نفسه من المرض؛ لأنه أيقن أن وقايته لنفسه خيرٌ من أن يلجأ إلى طبيب، وبهذا استطاع أن يُعمر ثمانين عامًا، وقد كتَب في سنِّ السبعين مقالًا في «مقدرة العقل على السيطرة على شعور المرض بقوَّة العزيمة»، ومن بين مبادئه الوقائية ألا يتنفَّس الإنسان إلا من أنفِه، وبخاصَّة إذا كان خارج منزله، ومن أجل هذا كان لا يسمح بتاتًا لأحدٍ أن يُكلِّمه وهو في نُزهته (لأنَّ الكلام سيدعوه إلى التنفُّس من الفم)، وكان يقول في ذلك: إن الصمت خير من المرَض بالبرد، وهكذا كان كانْت فيلسوفًا في كلِّ شيءٍ في حياته دقَّ أو جلَّ، حتى إنه كان يتَّخِذ لنفسه طريقةً خاصة في ربط جواربه، وكان يُفكر في كلِّ شيءٍ تفكيرًا طويلًا دقيقًا قبل أن يُقدِم عليه، وقد فوَّتَ عليه هذا التفكير الزواج ولبِثَ عزَبًا حتى مات، فقد فكَّر مرَّتَين في الزواج، ولكنه أطال التفكير في المرة الأولى حتى تقدَّم للسيدة التي أراد الزواج بها خطيبٌ آخر، وأطال التفكير في المرة الثانية حتى انتقلت من أراد خطبتها من كونسبرج مع أُسرتها قبل أن يصِل الفيلسوف إلى رأيٍ في الزواج منها. وظلَّ «كانْت» مدى حياته فقيرًا مُعتزلًا لا يُفكر ويكتُب، وقد أحدثت كتُبُه من الانقلاب في عالم الفلسفة ما لم يُحدِثه أي مؤلِّف آخر.
نقد العقل الخالص The Critique of Pure Reason
شغل العقليُّون والتجربيُّون أنفسهم بمسألة المعرفة، فذهب الأوَّلون إلى أنها تحصل بواسطة العقل المحض، وبه وحدَه يحصُل العلم بالأشياء، أما بواسطة الإدراك بالحس فمُستحيل أن يحصُل ذلك، والتجربيُّون يُنكِرون تحصيل المعرفة بالعقل المحض … ولكن لم يتعرِض أحد المذهبَين لمسألة إمكان المعرفة، فكلاهما وثق بالعقل البشري ثِقةً تامَّة، واعتقد في قُدرته على معرفة الأشياء، ولكن لمَّا كان هذا الوثوق بالعقل، وبقُدرته على تحصيل الحقائق قد انتهى إلى الشك، فقد أخذت الفلسفة تتناول العقل نفسه بالنقد والامتحان.
وبذلك نشأت مسألة جديدة هي: هل تُمكِن المعرفة؟ وإذا أمكنَتْ فما حدودها؟ لم يبحَث العقليُّون والتجربيون هذه المسألة، بل آمنَّا بأنَّ لنا قُدرة على معرفة الأشياء، إما بواسطة الإدراك بالحس، وإما بواسطة التفكير.
جاء «كانْت» فأخضع العقل لهذا التحليل النقدي، وهو لا يُريد به أن يُهاجم العقل أو أن يُنكره، ولكنه أراد أن يتبيَّن إلى أي حدٍّ يستطيع العقل الخالص أن يُحصِّل المعرفة، وهو يقصد بالعقل الخالص ذلك الذي لا يعتمِد في تحصيل المعرفة على التجربة أو الحواس، إنما يُنشئها من تلقاء نفسه إنشاءً بحُكم طبيعته وتركيبه، وبعبارةٍ أخرى فقد أراد «كانْت» بهذا الكتاب أن يرى هل في طبيعة العقل التي فُطِر عليها ما يُمكِّنه من الوصول إلى بعض المعرفة دون اعتماده على ما تأتي به الحواس من العالم الخارجي.
استهلَّ كتابه بنقْض ما ذهب إليه «لوك»، وذهبت إليه المدرسة الإنجليزية كلها، فزعَم أن ليست المعرفة كلها مُستمدَّة من الحواس، كما قالوا؛ فلقد انتهت تلك المدرسة بهذه النتائج التي وصَل إليها «هيوم» من إنكار وجود العقل، وبعبارةٍ أخرى وجود العِلم؛ لأنَّ هذا يقوم على ذلك، إذ يقول «هيوم» بأنَّ عقل الإنسان ليس إلا أفكاره مُتتابِعة مُتعاقبة، وأنه لا يجوز لنا أن نقطع برأيٍ يقين؛ لأنَّ كل رأيٍ لنا إنْ هو إلا احتمال وترجيح قد يظهر ما ينقضه وينفيه … فأجاب «كانْت» بأنَّ هذه النتائج الباطلة التي افترضَها، إذ زعم أنَّ كل معرفة الإنسان تُستقى من أحاسيس مُنفصلة ومفكَّكة لا تربِط بعضها ببعضٍ صِلةٌ أو رابطة، فإحساس مُعيَّن يتلوه إحساس ثانٍ فثالث وهكذا، وطبيعي أنَّ هذه السلسلة المُفكَّكة لا تدلُّ على أنَّ هناك تتابعًا ضروريًّا، وقانونًا معروفًا تسير بمُقتضاه الأشياء، وطبيعي إذا سلَّمْنا بهذا أن ننتهي إلى أن التتابُع الذي عرض لإحساساتنا في الماضي قد لا يكون هو نفسه في المُستقبل، وبذلك تنهدِم السببيَّة التي هي أساس العِلم، ولا يعود هناك عِلة لا بدَّ أن يتبَعَها معلولها.
نعم نحن نُسلِّم أن يقين المعرفة يكون مُستحيلًا لو كانت كل المعرفة تأتينا من الحسِّ ومن عالمٍ خارجي مُستقل عنَّا لا يدَ لنا فيما يَبعَث إلينا من إحساساتٍ على أنه يسير سيرًا مُطردًا لا يقبل الشذوذ، نقول إنه لو كان هذا هو مصدر المعرفة الوحيد لسلَّمْنا بنتيجة «هيوم» من أن يقين المعرفة مُستحيل، ولكن ماذا يقول «هيوم» لو بحثْنا فوجدْنا في أنفسنا معرفةً لم تُستمَد من التجربة الحِسِّية، معرفة نثِق بصحَّتها ويقينها، حتى قبل أن نُصادف في الحياة أيَّةَ تجربة، وقبل أن يستقبل الذهن إحساسًا واحدًا من العالِم الخارجي؟ أفلا تكون الحقيقة المُطلقة والعِلم المطلق مُمكِنَين وفي مقدور الإنسان؟ وإذن فلنبحث أوَّلًا لنرى هل نملِك هذه المعرفة المُطلقة التي لا تعتمد في وجودها على الحواس والتجربة، أم لا؟ ذلك هو موضوع الكتاب الأول من النقد، وتلك هي المسألة التي قصد إلى بحثِها، وقد أورد فيه «كانْت» تحليلًا بارعًا لأصل الأفكار وتطويرها، ولطبيعة العقل المَفطور عليها، وهو يقول عن كتابه هذا: «لقد قصدتُ بهذا الكتاب إلى الكمال، وإني لأُقرِّر في يقينٍ أنك لن تجد مسألةً واحدة من مسائل ما وراء الطبيعة إلا ألفيتَ حلَّها فيه، أو على الأقل وجدتَ مفتاحًا تستعين به على حلها.»
فكتابه في «نقد العقل الخالص» يبحث في إمكان المعرفة العقلية التي لا تجيء عن طريق التجربة، بل التي تكون موجودة قبل التجربة، وهو لا يريد بكتابه هذا أن يكون دراسةً فيما وراء الطبيعة، بل هو يريد أولًا أن يثِق بأنَّ العِلم بما وراء الطبيعة مُمكن، فإذا ثبَتَ إمكانه، فكيف يكون؟ وإن انتهى إلى جوابٍ إيجابي فعندئذٍ يبدأ البحث فيما وراء الطبيعة حين ينتهي نقد العقل … ولمَّا كان من المعلوم أنَّ كل ضروب العِلم هي عبارة عن أحكامٍ يُثبتها الإنسان للأشياء أو ينفيها عنها، كان في استطاعتنا أن نقول إن مبحث هذا الكتاب هو: هل في العقل أحكام نشأتْ فيه قبل أن تأتيه من العالَم الخارجي؟ ولسْنا نريد بذلك الأحكام التحليلية التي لا تزيد على أن تُخبر بما هو كائن في المُخبَر عنه. كأن تقول عن الجسم إنه هو ما يتَّصِف بالامتداد، وعن الخط المُستقيم بأنه ما ليس بمُعوج، إذ إنَّنا لا نشكُّ في أن هذا الضرب من الأحكام في ميسور العقل بغَير أن يلجأ إلى التجربة الحسِّية؛ لأن هذه لا تُضيف إلى علمنا شيئًا جديدًا، وأكثر ما تؤديه هو توضيح ما نعلمه، إنما نُريد الأحكام الإنشائية التي تُخبرنا بشيءٍ جديدٍ عن الشيء المُخبَر عنه كأن نصِف الجسم بالثقل، والخط المستقيم بأنه أقصر الطرُق بين نُقطتين، فهل النوع من الأحكام الإنشائية التي يأتي فيها الخبر بشيءٍ جديد عن المُبتدأ في مُتناول العقل المجرد الخالص من أن يستمدَّها من الخارج؟ هذا هو موضوع كتاب «نقد العقل الخالص» الذي نستطيع أن نصُوغ الغرَض منه في هذه العبارة الموجَزة: هل الأحكام الإنشائية السابقة للتجربة في مقدور العقل وإمكانه؟ وإذا كانت كذلك فما وسيلة إمكانها؟
- (أ)
فالرياضيَّات كلها تتألَّف من هذه الأحكام الإنشائية، فأنت لا تشكُّ بأن ٣ + ٤ = ٧، ولكن هذه النتيجة التي وصلْتَ إليها ليست مُتضمَّنة في مُقدِّماتها، فلا السبعة موجودة في العدد ثلاثة، ولا هي موجودة في العدد أربعة، وليس في كلا الرقمين ما يدلُّ على أن جمعهما إلى بعضهما يُنتج سبعة، وإذن فهو خبر جديد أَخبَرْنا به عن مبتدأ لا يتضمَّنه ولا يحتويه، كذلك أنت لا تتردَّد في الحُكم على الخط المستقيم بأنه أقصر الخطوط بين نُقطتَين، مع أن هذا الحُكم لا يوجَد في الخط المستقيم، وإذن فهو جديد مُنشأ … فالرياضيات أحكامها إنشائية، وهي من إنشاء العقل دون التجربة الحسية، وعلى ذلك يتفرَّع من السؤال الأصلي سؤال فرعيٌّ هو: كيف أمكن للعقل معرفة الرياضيات؟
- (ب)
كذلك العلم الطبيعي الذي لا يجيء عن طريق الحواس فيه قضايا أنشأها العقل الخالص، وهي في الوقت نفسه أحكام إنشائية، أي تُضيف علمًا جديدًا، مثال ذلك قولنا: إن كلَّ تغيُّر لا بدَّ أن يكون له سبَب، فهذا حكم عقلي لم نحتَجْ إلى التجربة الحسِّية لمعرفته، وإذن فقد تفرَّع من السؤال الأصلي سؤال فرعي ثانٍ هو: كيف أمكن معرفة العِلم الطبيعي الخالص؟
- (جـ)
وأخيرًا هنالك بعض القضايا التي هي فوق مُتناول الحسِّ مثل قولك: إنَّ الروح خالِدة، فهذه أيضًا فيها حُكم إنشائي أنشأه العقل المَحْض مُستقلًا عن التجربة، وحتى هؤلاء الذين يُنكرون بداهةً مثل هذه القضية، فهُم على الأقل قد بسطوا لأنفسهم هذا السؤال، ومجرَّد السؤال فيه احتمال أن تكون القضية صحيحة، وإذن يتفرَّع من السؤال الأصلي سؤال فرعي ثالث وهو: هل المعرفة الميتافيزيقية التي تسمو على المحسوسات مُمكنة؟
والجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة يكوِّن الجزء الأول من كتاب نقد العقل وهو أهمُّ أجزاء الكتاب.
- (١)
الحس، وبه نكتسِب الإدراكات الحسِّية باستقبالنا للأحاسيس.
- (٢)
والفكر، وبه نكون المُدرَكات العقلية بواسطة اختيارنا مما يأتي إلينا من الإحساسات ما يُلائمنا وما نحتاج إليه، فلا يمكن بأية حالٍ أن تكون التجربة هي الميدان الوحيد الذي تنحصِر عقولنا في حدوده، فالتجربة تدلُّنا على ما هو واقع، ولكنها لا تدلُّنا على أن هذا الواقع لا بدَّ بالضرورة أن يكون هكذا، ولا يكون على صورةٍ أخرى، وهي لذلك لا تمدُّنا قطُّ بالحقائق العامَّة، مع أن هذا الضرْب من المعرفة هو ما تنزِع إليه عقولنا بصفةٍ خاصة، فالتجربة تُوقِظ العقل أكثر ممَّا تُقنِعه، وما دام العقل في مُكنته أن يصِل إلى الحقائق العامَّة مع أنها ليست من التجربة. فهو إذن مصدر العِلم إلى جانب التجربة. ولعلَّ أنصع مثال يدلُّ على وصول العقل إلى المعرفة بغير طريق التجربة هو مثال الرياضة؛ لأنها يقينية ويستحيل على التجربة أن تنقُضها يومًا ما، فلقد يجُوز لك أن تتصوَّر الشمس مُشرقة من الغرب في الغد، وأن النار قد تتبدَّل عليها الظروف، فلا تعود قادرةً على إحراق عصاك الخشبية، ولكنك لا تستطيع بحالٍ من الأحوال أن تتصوَّر أن العالَم سيحدُث فيه ما يجعل اثنَين واثنَين لا تساوي أربعة، فهذه الحقيقة الرياضية ثابتة إلى الأبد ومن الأزل، ولا تحتاج لكسبِها إلى تجربة؛ لأنها حقيقةٌ مُطلقة لازِمة الحدوث، والتجربة لا تمدُّنا إلَّا بإحساساتٍ مُتفرِّقة، وأحداث مُفكَّكة، لا يطَّرد تتابُعُها، فقد تجيء في غدٍ على غير النظام الذي جاءت به اليوم أو أمس. إذن فهذه الحقائق الرياضية وأشباهها تستمِدُّ ضرورتَها من تركيب عقولنا الفطري، من الطريقة الطبيعية التي تعمل على مُقتضاها إذ إنَّ عقل الإنسان ليس قطعةً من الشمع تنفعل بالتجارب دون أن يملك لنفسه شيئًا، كلَّا ولا مجرد اسمٍ أطلقْناه على مجموعة الحالات العقلية التي تتتابَع في سلسلةٍ مُتلاصقة الحلقات، ولكنه عضو فعَّال يتقبَّل الإحساسات فيُشكلها ويُنسِّقها كيف شاء، ثُم يُحوِّلها إلى أفكار. هو عضو تأتيه آلاف الآثار الحِسية في فوضى، فيتناولها بالتنظيم، حتى تُصبح وحدةً فكرية مُتماسكة، ولكن كيف يتمُّ له ذلك؟
يجيب «كانْت» على ذلك السؤال في جُزأين: يسمى الأول «الحسُّ السامي»، وهو يبحث في المرحلة الأولى من مراحل المعرفة، أي في وصول الإحساسات إلينا من الخارج، ويُسمَّى الثاني «المنطق السامي»، وفيه يبحث فيما يطرأ على الأحاسيس بعد وصولها إلى العقل. وهو يُقسِّم هذه المرحلة الثانية إلى فرعَين: مرتبة دُنيا من الفهم، ويُسميها «التحليل السامي»، ومرتبة عُليا، ويُسميها «الميتافيزيقا السامية».
وهذه الإجابات الثلاث تُقابل من ناحيةٍ أخرى الأسئلة الفرعية الثلاثة التي ذكرْناها من قبل؛ فالحسُّ السامي يُجيب عن كيفية إمكان المعرفة الرياضية، والتحليل السامي يُجيب عن كيفية إمكان معرفة العلم الطبيعي الخالص، والميتافيزيقا السامية تُجيب عن إمكان المعرفة الميتافيزيقة غير المُحسَّة.
الحس السامي Transcendental Aesthetic
- الأولى: ربط الأحاسيس الآتية من الخارج والتوفيق بينها، وجمعها في وحدةٍ بِصبِّها في قلبَي الإدراك الحسِّي وهما المكان والزمان.
- والثانية: التوفيق بين تلك المُدرَكات الحسية التي انتهَينا من صُنعها في المرحلة الأولى، حتى نُخرج منها مُدرَكاتٍ عقلية.
ونحن الآن نتناول المرحلة الأولى «الحس السامي» بالبحث:
نحن نقصد بكلمة «إحساس» شعور الإنسان بوجود أحد المؤثِّرات على إحدى الحواس، فقد تبعَثُ فينا الأشياء الخارجة عنَّا طعمًا على اللسان، أو رائحةً في الأنف، أو صوتًا في الأذن، أو حرارة على الجلد، أو لمعةً خاطفة من الضوء على شبكية العين، أو ضغطة على الأصابع، فهذه الآثار الحِسِّية هي المادة الخام الأولية التي تُمِدُّنا بها التجربة، وهي التي تكون لدى الطفل في أيامه الأولى قبل أن يبدأ حياته العقلية، وليست تُسمَّى هذه الإحساسات «معرفة» ما دامت مفرَّقة مُفكَّكة لا يرتبط الطعم الذي جاء على اللسان بالضوء الذي أثَّر في العين ولا بالرائحة التي سلكت طريق الأنف إلخ. ولا تتجمَّع كلها حول «شيء» مُعين، فإذا ما تجمَّعت هذه الأشتات الحسِّية حول «شيء» في المكان والزمان تحوَّلت إلى علمٍ ومعرفة، فليست رائحة التفاحة وحدَها، أو طعمها وحدَه، أو الضوء المُنبعث منها «لونُها» وحدَه، أو ضغطها على اليد الذي يكوِّن شكلها معرفة، ولكن إذا ما اتَّحدَت الرائحة والطعم واللون والشكل كلها في مجموعةٍ واحدة مُتعلقة بشيءٍ مُعيَّن، كان إدراكُنا لهذا «الشيء» هو المعرفة؛ لأنَّنا عندئذٍ لا نشعُر بمؤثِّرٍ عن حاسَّة فحسْب، بل نُدرك شيئًا، وهذا الإدراك للشيء في مجموعِه هو ما نُسميه بالإدراك الحسي … وتحوُّل الإحساس إلى إدراك حِسِّي معناه تحوُّل الإحساس إلى معرفة.
ولكن كيف تتحوَّل الإحساسات إلى إدراكٍ حسي؟ كيف تتجمَّع المؤثرات الحسية المُتفرِّقة التي تسلك إلى الذهن سُبلًا شتَّى حول شيءٍ بعَينه؟ إنَّ لون التفَّاحة يدخُل من بابٍ غير الباب الذي يدخل منه طعمُها، وشكلها يأتي من نافذةٍ غير النافذة التي تأتي منها رائحتها، فمن الذي يتناوَل هذه الآثار المُبعثَرة عند وصولها إلى الذهن، فيضُمُّها بعضها إلى بعض، ويكوِّن منها «تفاحة»؟ أم هل تُسارع هذه الآثار فتجمَع بعضها إلى بعض بطريقةٍ آلية دون أن تحتاج في تجمُّعها إلى قوةٍ خارجةٍ عنها؟ يقول «لوك وهيوم»: نعم، إنَّ هذه الإحساسات تتحوَّل إلى إدراكٍ حسِّي من تلقاء نفسها وبطريقةٍ آلية، وأما «كانْت» فيبعثها صرخةً داوية يُنكِر بها ما ذهب إليه «لوك وهيوم».
إنَّ هذه الإحساسات المُختلفة تصل إلينا من خلال قنواتٍ شتَّى، إنها تسلك ألوفًا من الأعصاب التي تمتدُّ من الجلد والعين والأذن واللسان إلى المُخ. فانظُر إلى هذا الخليط المُتضارِب المتنافِر يصِل إلى حُجرة العقل ويتزاحَم فيها، وكل واحدٍ منَّا يدعو الذهن إلى الانتباه إليه! فلو ترك هذا الجمع المُحتشِد وشأنه لظلَّ في تعدُّدِه وفوضاه عاجزًا أن يُرتِّب نفسه وينظمها، بحيث يصبح غرضًا وقوة ومعنى، إن مثلها مثل طائفةٍ كبيرة من الرسائل ترِد إلى قائد الجيش في ساحة القتال من فيالِق الجيش وبنوده، أترى إذا وُضِعت الرسائل إلى جانب بعضها فوق المائدة، أكانت تستطيع من تلقاء نفسها أن تُرتِّب نفسها، ثم تتحوَّل إلى فهمٍ للموقف، ثم أمر يُرسَل إلى الجنود ليرسُم لهم خطة السير؟ كلا، بل لا بدَّ لها من مُنظِّم ومُشرِّع! لا بدَّ لها من قوةٍ لا تتلقَّى الرسائل وكفى، بل تتناولها فتصُوغها في معنًى من المعاني.
وجدير بنا أن نُلاحظ أن ليس كل ما يُبعث من الرسائل يُقبل، مما يدلُّ على أن الأمر لا يقتصر على استقبالٍ فحسب، فهناك من المؤثِّرات التي تؤثر في نواحي جسمك في هذه اللحظة ملايين، هنالك عاصفة من المؤثِّرات الحسِّية الآتية من الخارج تضرِب على أطراف الأعصاب، وتتطلَّب الوصول إلى الذهن، ولكن ليس كل ما يدقُّ الباب يُسمَح له بالدخول، بل إنا نختار من ملايين الإحساسات الواردة إلينا ما نتمكَّن من صياغته في إدراكاتٍ حسِّية تُناسب الغرَض الذي نقصد إليه هذه اللحظة المُعيَّنة، كما نختار من بين تلك الإحساسات ما نرى أنه يُنبئ بالخطر … افرِض أن ساعةً تدقُّ الآن أمامك أثناء قراءة هذه الصفحة، فهذه الدقَّات تبعَث موجاتها الصوتية التي تقرَع أعصاب الأذُن، ولكنك مع ذلك لا تسمعها، فإذا ما توجَّهتَ بإرادتك إلى الساعة سمعتَ دقَّاتها جليَّةً واضحة، مع أنها لم تعْلُ عمَّا كانت قبل … ثم انظر إلى هذه الأمِّ الراقِدة إلى جانب طفلها تراها لا تستيقِظ لعجيج الأصوات الصاخِبة من حولها، ولكن لو تحرَّك صغيرُها حركةً خفيفة، أو همَس همسةً خافتة، نهضَتْ من نُعاسها فزِعة، مع أنَّ صوت الطفل أضأل من جلبة العربات والمارَّة، فهذا دليل على أنَّ العِبرة ليست في مجرد الإحساس، ولكن لا بدَّ كذلك من القوة التي تختار هذه الأحاسيس وتُكسِبها ما لها من معنى، فالأمر مُتوقِّف على غرَض الإنسان الذي يقصد إليه في وقتٍ مُعين، فمثلًا لو رأيتَ رقم ٢ ورقم ٣ مكتوبَين أمامك على ورقة، ثم قصدتَ إلى جمعها، كان الناتج في ذهنك «خمسة»، فإذا قصدت إلى ضربهما، كان الناتج «ستة» مع أن صورة الرقمين، أي الإحساس الذي ينبعِث منهما إلى العين هو هو في كِلتا الحالين لم يتغيَّر، إنما الذي تغيَّر هو الغرَض، فاستتبع ذلك اختلافًا في معنى إحساسٍ بعَينه … إنَّ التداعي بين الإحساس والأفكار ليس مُتوقفًا فقط على التجاور في المكان، أو التقارُب في الزمان، أو التشابُه، أو التكرار، أو ما إلى ذلك، بل إنه خاضع فوق ذلك كلِّه إلى غرَض العقل، فإحساساتُنا وأفكارنا خدَم لنا تنتظِر دعوتَنا فلا يأتي الأثر الحِسِّي أو الفكرة إلى أذهاننا إلا إذا احتجْنا إليها فدعوناها، وإنَّ لدَينا قوة تقوم بهذا الاختيار، وهذا التوجيه، ألا وهي قول العقل.
وللعقل وسيلتان في اختيار الإحساسات، ثُم في تحويلها إلى إدراكاتٍ حسِّية ذات معنى هما الزمان والمكان، فكما يُرتِّب القائد الرسائل التي ترِد إليه من أطراف جيشِه حسب زمانها الذي كُتِبت فيه، ومكانها الذي جاءت منه، وبهذا يستطيع أن يفهم موقف جيشه فيُصدِر أوامره تبعًا له، كذلك العقل يُرتِّب الرسائل الحسِّية التي ترِد إليه من العالَم الخارجي حسْب زمانها ومكانها، فيعزوها إلى هذا الشيء أو ذاك، وإلى الحاضر أو إلى الماضي، وبذلك يتمكَّن من ترتيبها في ذهنه ترتيبًا تتحوَّل بفضله إلى إدراكٍ حسِّي له معنى، ولكن ليس الزمان والمكان اللَّذان يُضيفهما للآثار الحسية الواردة إليه شيئَين موجودين في الخارج، ولكنهما صورٌ ابتكرَها العقل ليستعين بها على الإدراك. هما طريقان لوضع المعنى في الإحساس، أو هما وسيلتان للإدراك الحسي.
نحن نتلقَّى مادة الإحساس الخام من الخارج فنصُبُّها في صورةٍ من عندنا حتى تصير إدراكًا حسِّيًّا؛ إذن فالمادة مكتسبة. أما الصورة التي نُشكِّل المادة فيها فمفطورة فينا، وهي سابقة لكلِّ تجربة، المادة تجربية، أما الصورة فخالصة، وكلاهما يكوِّنان الإدراك الحسي، فكل إدراكٍ حسِّي هو عبارة عن مادةٍ جاءت من الخارج فاكتسبَت صورتها في العقل، فنحن لا نخلق المدركات الحسية، ولكنَّا نصفها فقط كما يصنع النجار المائدة من قطع الأخشاب، والأداتان اللتان نستعمِلُها في صنع الإدراكات الحِسية من الإحساسات هما الزمان والمكان، والزمان الذي بواسطته نضع الآثار الحسية في تتابُعٍ وتعاقُب، حتى تتكوَّن منها سلسلة مترابطة مُتصلة، والمكان الذي بواسطته نجاور بين الطعم واللون والرائحة حتى تتألَّف منها التفاحة … والزمان والمكان لا يجيئان إلينا من الخارج مع التجارب الحسية، ولكنهما كما قدَّمنا موجودان في العقل بطبيعته، وآية ذلك ما يتَّصِفان به من ضرورة، فلسْنا نستطيع أن نُفكِّر بغيرهما، أو أن نجرِّد منهما الأشياء والحوادث التي تقع في التجربة، وكما أنهما لم يأتيا من التجربة الحسِّية، كذلك هما ليسا فكرتَين مجرَّدتَين استخلصهما العقل مما يُصادف من جزئيات في الخارج؛ لأن وجودهما لا يستلزم وجود عدَّة أزمنة وعدَّة أمكنة لكي نصِل إلى فكرتيهما، بل الأمر على النقيض من ذلك؛ إذ لا بدَّ لك لكي تُفكر في عدَّة أزمنة، وعدَّة أمكنة، أن يكون لدَيك بادئ بدء «زمان» و«مكان». وما يدلُّ على أنهما فكرتان ذاتيَّتان موجودتان فينا وليس لهما وجود في الخارج، أنك لا تستطيع مثلًا أن تُفرِّق بين مكانين إلا بالنِّسبة لشخصك، فلا يمكنك أن تُفرِّق بين وضع اليد الحقيقية ووضع صورتها في المرآة إلَّا بقولك: إنَّ هذه ناحية اليمين، وتلك ناحية اليسار. واليمين واليسار بالطبع اعتباران ذاتيَّان يتعلقان بالشخص الرائي، وأنت مُضطر أن تلجأ إليها في التفرقة بين الوضعَين؛ لأنه ليس هناك صفات مكانية موضوعية مُستقلة عنك يمكن استعمالها في التمييز بين وضعَين مُختلفين.
إذن فنحن الذين نخلع على الإدراكات الحسية المختلفة، (أي الظواهر) زمانيَّتَهما ومكانيَّتَهما، والزمان والمكان يتشابهان في أن كلًّا منهما حالة ذاتية يستعين بها الشخص على تحويل الإحساسات إلى إدراكاتٍ حِسية، ولكنهما يختلفان في أنَّ المكان تُستعمَل صورته في تشكيل الإحساس الذي يأتي إلينا من الخارج فقط، أما الزمان فهو قبل كلِّ شيءٍ يُستخدَم في وصل مشاعر الشخص وحالاته المُتعاقبة لكي يتكوَّن منها في النهاية ذات، أعني أنَّ المكان خاصٌّ بما تُدركه في الخارج، والزمان خاص أولًا بما تُدركه في باطنك، ولكن لمَّا كانت تلك الإحساسات الخارجية التي تربط بعضها ببعض بواسطة «المكان» يتبَعُها دائمًا إحساساتٌ داخلية أو ذاتية، ولمَّا كانت هذه الإحساسات الداخلية — كما قدَّمنا — ترتبط وتتشكَّل بواسطة «الزمان»، فالزمان إذن صورة (غير مباشرة) للإدراك الحسِّي الخارجي أيضًا، فموضِع الخلاف بينهما هو أنَّ المكان لا يُستعمَل إلَّا في الإحساسات الخارجية فقط، أما الزمان فيُستعمَل في الإحساسات الداخلية والخارجية على السواء؛ الأولى بطريقةٍ مُباشرة، والثانية بطريقةٍ غير مباشرة، ومعنى ذلك أنَّ الزمان أشمل من المكان، فكل الظواهر باطنيةً كانت أو خارجية زمانية، أي تُصاغ في صورة الزمان، والظواهر الخارجية مكانية أيضًا، أو بعبارةٍ أخرى: فالظواهر الخارجية تقع في الزمان والمكان معًا، والتأمُّلات الباطنية تقع في الزمان والمكان.
وواضح أنه ما دام الزمان والمكان أداتَين يستخدمهما الإنسان في تكوين الإدراكات الحسِّية فهُما يبطلان إذا ما استُخدِما في غير الحس، أي ما ليس بالظواهر. ويُسمِّي «كانْت» كُنه الشيء الذي وراء ظاهرة: «الشيء في ذاته»، وإذن فالأشياء في ذواتها ليست تقع في زمانٍ أو مكان؛ لأنها ليست مما يُدرَك بالحس، وكما أنك لا تستطيع أن ترى بعينيك إلا ما هو مرئي، كذلك لا يمكنك أن تصُبَّ الزمان والمكان إلا على ما هو حسِّي.
وما دُمنا قد علِمنا مما سبق أن الزمان والمكان هما صورتان مفطورتان في العقل لم يُستمَدَّا من التجربة، وأنهما هما اللتان تجعلان المُدركات الحسِّية هي ما هي؛ فإذن ينتُج من ذلك أنَّ كل ما نعزوه للأشياء من أحكامٍ متعلقة بمكانها أو زمانها فهو مُستمَدٌّ من فطرتنا، ولم نعتمد فيه على ما أتانا من الخارج بواسطة الحواس، وعلى ذلك فكل القضايا الرياضية مُشتقَّة من طبائع عقولنا؛ لأنها تتعلَّق إما بالمكان أو بالزمان، وهذان كما قُلنا قد خلقناهما بأنفسنا من أنفسنا، فالهندسة تختصُّ بالمكان، والحساب يتوقَّف على إدراكنا للزمان؛ لأنه أعداد، والعدد عبارة عن تكرار الوحدة، والتكرار معناه التعاقُب والتتابُع، وهذا هو الزمن، وعلى ذلك فالمبادئ الرياضية لم تأتِ لنا من الخارج، ولكنَّا خلقناها من أنفسنا، فهي إذن فطرية لا تعتمِد على التجربة، أعني أنها خالصة مجرَّدة، ويستحيل أن يثبُت خطؤها أو أن يظهر فيها شيء من التناقُض، ومعنى ذلك كله أن الرياضة باعتبارها علمًا خالصًا مُمكنة المعرفة، ما دام الزمان والمكان موجودَين فينا بالفطرة، وبذلك يكون «كانْت» قد أجاب عن السؤال الأول.
يتَّضِح ممَّا سبق أنَّ «كانْت» وقف بمذهبه بين الواقعية والمثالية؛ لأنه من ناحيةٍ اعترف بالإحساسات التي تأتينا من الخارج كمادَّة المعرفة الأولية، ولكنه من ناحيةٍ أخرى أكد فاعلية العقل واشتراكه في صياغة تلك الإحساسات في مُدرَكات حِسِّية،. هو واقعي مِثالي؛ لأنه يرى أن الأشياء المكانية موجودة حقًّا وليست مجرَّد ظواهر، ولكن أساس وجودها هو المكان الذي يقع فينا وتخلُقه عقولنا.
ها نحن قد نجَونا بالرياضة فأثبتْنا يَقينها بعد أن طاح بها شكُّ «ديفد هيوم»، فتُرى هل نستطيع ذلك في بقية العلوم؟ نعم ذلك مُستطاع لو أثبتْنا صحَّة قانونها الأساسي، قانون السببيَّة الذي مؤدَّاه أن العِلَّة المُعينة يجب دائمًا أن يتبعها معلول مُعين، فلو أقمْنا الدليل على أن هذا القانون فطري موروث تُمليه طبيعة عقولنا كما هي الحال في الزمان والمكان لثبتَتْ علوم الطبيعة كما ثبتت من قبلها الرياضة.
التحليل السامي Transcendental Analytic
يحاول «كانْت» في هذا الفصل أن يُجيب على السؤال الثاني وهو: هل في فطرة الإنسان ما يُمكِّنه من معرفة قوانين الطبيعة؟ وبهذا ينتقل «كانْت» ببحثه من ميدان التجربة الفسيح إلى غرفة العقل الضيقة المُظلمة؛ ليرى ماذا يصنع العقل بالمُدرَكات الحسية التي تكوَّنت فيه مما جاء إليه من آثار حسِّية من العالم الخارجي. فيقول: إنه كما أنَّ أشتات الأحاسيس المُتفرقة قد تجمَّعت بفضل صورتَي الزمان والمكان، فتكوَّن منها مُدرَكات حسِّية، كذلك يتناول الفكر هذه المُدرَكات الحسِّية نفسها فيصُبُّها فيما لدَيه من قوالب ذهنية، فيؤلِّف بينها وينسُج منها مدركات عقلية وأحكامًا كلية، وعندئذٍ فقط؛ أعني عندما تتكوَّن في العقل هذه المُدرَكات الذهنية، يكون في العقل محتويات فكرية، وأما قبل ذلك فهو فارغ خالٍ. أي أن المعرفة الصحيحة لا تبدأ إلَّا بتحويل المُدرَكات الحسية إلى مدركاتٍ عقلية؛ إذ المعرفة معناها التفكير فيما لدَيك من إدراكاتٍ حسية. وكما أن الفكر بغير إدراكٍ حسِّيٍّ يظلُّ فارغًا كذلك الإدراكاتُ الحسية إذا ظلَّتْ كذلك دون أن تتحوَّل إلى مُدرَكاتٍ عقلية فهي عمياء.
وهكذا يستطيع العقل بما لدَيه من صورٍ ذهنية أن يرتفِع بالمعرفة الحسِّية للأشياء إلى معرفةٍ عقلية لما بين تلك الأشياء من علاقات، وما يُسيِّرها من قوانين، فهي التي تُهذِّب التجربة التي تأتي إلينا عن طريق الحواسِّ حتى تُصيِّرها علمًا. وإذن فالعقل الذي تَصوَّره «لوك وهيوم» قطعة قابلة من الشمع تُشكِّلها التجربة الحسِّية كيف شاءت، يراه «كانْت» فعَّالًا يتلقَّى التجربة فيُبوِّبها وينظمها ويصُوغها في فكرٍ مُنسجِم. خُذ مثلًا نظامًا فكريًّا كفلسفة «أرسطو»، ثم سائل نفسَك كيف يُمكن أن يكون هذا النظام المُتَّسق الشامل قد تمَّ بناؤه بطريقةٍ آلية، وأن ما بناه هو المُفردات الحسِّية نفسها التي جاءت إلى عقلِه من الخارج في تزاحُمٍ وفوضى، دون أن يتناولها بالتنظيم عقل فعَّال؟
انظُر إلى تلك الصناديق التي رُتِّبَت فيها بطاقات الكتُب في دار الكتُب، ثُم تصوَّر أن تلك البطاقات قد انتثرَتْ فوق أرض الغرفة، فاختلط بعضها ببعض في غير نظام، فهل تُصدِّق أن في مقدورها أن تتجمَّع من تلقاء نفسها، وأن تَصطفَّ في نظام أبجدي كلُّ نوعٍ في صندوقه الخاص، ثم يسعى كلُّ صندوقٍ إلى مكانه فيستقر فيه؟ هذا ما يُريدنا دُعاة الشك أن نؤمن به، فهم يطالبوننا أن نعتقد بأن أخلاط الأحاسيس إذا وصلتْ إلى العقل استطاعت من تلقاء نفسها أن تُبوِّب نفسها، وأن تنتظِم في فكرٍ مُرتَّب! كلَّا، إنما تأتي الإحساسات في خليطها وفوضاها فتتحوَّل إلى مُدركاتٍ حسِّية مُنظمة وتُصبح أشياء، ثم تتحوَّل هذه إلى مُدرَكات عقلية أكثر نظامًا حيث تكون علمًا ومعرفة، ثم يسمو هذا العلم نفسُه إلى مرتبةٍ أعلى من النظام فيكون حِكمة!
فمن ذا الذي أكسب ذلك العلماء نظامه وانسجامه؟ إنَّ هذا التنظيم لم يأتِ من الأشياء نفسها؛ لأنَّنا لا نعلم تلك الأشياء إلا بما نتلقَّاه من أحاسيس، وهذه تأتينا في ازدحامٍ وكثرةٍ وفوضى سالكةً إلينا نوافذ عدَّة، إنما الذي أكسبَها هذا النظام وهذا الاتحاد هو العقل بما يقصد إليه من أغراض، وإذن فلقد أخطأ «لوك» حين قال إنه «ليس في العقل شيء إلا ما كان في الحواس أولًا.» وكان «لَيْبنتِز» على حقٍّ حين علَّق على عبارة «لوك»: «لا شيء إلا العقل نفسه.» … فلو كانت الإدراكات الحسية قادرة وحدَها على أن تُنظِّم نفسها بطريقةٍ آلية في فكرٍ مُنظم، ولم يكن للعقل أثر فعَّال في تحويل فوضى الإحساس إلى نظام الفكر، فبماذا نُفسِّر أن يتلقَّى رجلان تجربةً حسية واحدة، فيكون الأول مُتوسِّط الذكاء، ويرتفع الثاني إلى ذُروة الفلسفة والحكمة؟
لا، لا بدَّ أن يكون هناك عقل، ولا بدَّ أن يكون لذلك العقل صُوَر أو قوالب نشأت فيه بالفطرة ولم تأتِهِ من التجربة، يُمكنه بها أن يصُوغ الإحساس في فكر، ومن تلك الصور الفطرية التي يستعين بها العقل على تشكيل الإدراك الحسِّي وصياغته قانون العِلة والمعلول، وهنا ينشأ سؤال: كيف يمكن للعقل أن يُطبِّق صوره الذهنية على الأشياء الحسِّية حتى يصُوغها على نسَقِها وغِرارها؟ إنَّ تلك الصور عقلية خالصة، وهذه الأشياء حِسِّية بحتة، فهل يمكن للعقل والحس على ما بينهما من خلافٍ أن يتَّصِلا ويتلاقَيا؟ يُجيب «كانْت» إنه لا بدَّ من مرحلةٍ متوسطة تصِل هذَين الطرفَين أحدهما بالآخر، ويقول: إنَّ هذا الوسيط هو «الزمن». فلقد عرفْنا في الفصل السابق أنَّ «الزمان» قالب ذهني تتشكَّل فيه كل الإدراكات الحسِّية، فلِكَون «الزمان» فطريًّا فهو إذن شبيهٌ بالصُّوَر العقلية في فطريَّتها وتجرُّدها، ولكونه صورةً للحسِّ فهو يُقاسِم الأشياء الحسِّية في صفاتها، وعلى ذلك يكون الزمان حسيًّا وعقليًّا فيتمكَّن بذلك الحس والعقل — الأشياء من ناحية، والصور العقلية من ناحيةٍ أخرى — أن يتقابلا على ما يُفرِّق بينهما من تبايُنٍ وخلاف. ومعنى ذلك أن الصور العقلية لا تؤثِّر في الأشياء مباشرة، بل تحتاج في أداء مهمَّتِها إلى وسيط.
ليس ما في العالم من نظام موجودًا في الطبيعة نفسها، إنما نَظَّمَه الفكر الذي عرَفَه وأدركه، ونظَّمه حسب قوانينه هو المُتأصِّلة فيه، أي إنه ليس للعالم الطبيعي قوانين خاصة يسير بمُقتضاها غير القوانين والصور الذهنية التي يعمل بها العقل، فقوانين الأشياء هي قوانين الفكر، والعلاقة التي تربط الأفكار بعضها ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء، فإذا كنتَ ترى العقل يسير في حُكمِه من المُقدِّمة إلى النتيجة، فإنَّ الأشياء تسير من العِلَّة إلى المعلول، ولا غرابة فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بالفكر، ولهذا الفكر قوانين يجِب أن يسير على أساسها، بل الفكر هو قوانينه، فبديهي إذن أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها قوانين الطبيعة، أو كما قال هجل: «إن قوانين المنطق وقوانين الطبيعة شيء واحد.»
إذن فقوانين العلم وأصوله ضرورية يستحيل عليها الاختلال؛ لأنها هي هي قوانين الفكر، وقوانين الفكر مفطورة فيه، نشأت من طبيعة تكوينه وتركيبه، ومعنى ذلك أن نفس القوانين التي سارت على أساسها التجربة في الماضي والحاضر ستظلُّ صحيحةً إلى الأبد، وبهذا ينهار صرْح الشكِّ الذي بناه «هيوم» … فالعلم مُطلق، والحقيقة خالدة.
ولكن يجب على العقل أن يقِف في تصوُّره عند حدِّ التجربة الحسية، إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتدَّ إلى كُنه الأشياء ولُبابها — إلى الأشياء في أنفسها — فإذا ما حاوَلْنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي نعرف بها الظواهر (أي الزمان والمكان والسببية وغيرها) تورَّطنا في التناقُض والخطأ، وإقامة الدليل على ذلك هو موضوع: «الميتافيزيقا السامية».
البحث السامي فيما وراء الحس Transcendental Dialectic
ولكن إذا كان العِلم صحيحًا مُطلقًا، وإذا كانت الحقيقة خالدة، فذلك على شرط أن يتعدَّى الإنسان بعِلمه ميدان التجربة والظواهر؛ لأننا لا ندري من الأشياء إلا ما ظهَر لنا منها في تجربتنا. فالعالم كما نعرفه بناءٌ قد اشترَكَ في تشييده عامِلان، العقل من ناحية، والأشياء نفسها من ناحيةٍ أخرى، العقل بما لدَيه من قوالب وصور، والشيء بما يبعَثُه من المؤثِّرات التي تؤثِّر في الحواسِّ وأطراف الأعصاب. فظاهر الشيء كما يبدو لنا قد يكون مُخالفًا كلَّ المخالفة للشيء الخارجي قبل أن يجيء في دائرة حواسِّنا. ويستحيل على الإنسان أن يعرِف كيف كان ذلك الشيء في أصله وحقيقته؛ لأنه لا يعرِف إلا ما يُصادفه في تجربته، فإن وقَعَ «الشيء في ذاته» في حدود التجربة، تحوَّل أثناء مروره خلال الحواس والفكر، «إننا نجهل ماهية الأشياء وحقيقتها المُستقلة عن إدراك الحواس جهلًا تامًّا. إنَّنا لا ندري من الأشياء إلا كيفية إدراكنا لها، ولمَّا كانت تلك الكيفية خاصَّة بنا لم يكن من الضروري أن يشترك فيها كل الكائنات، ولو أنها ولا رَيب عامة بين البشر جميعًا.»
إن القمر كما نعرفه لا يزيد على حزمةٍ من الإحساسات (كما ارتأى هيوم) وحَّدَها العقل (وذلك ما فاتَ هيوم) بأنْ حوَّل الإحساسات إلى إدراكات حسِّية، ثُم الإدراكات الحسية إلى مُدركاتٍ عقلية وأفكار، وإذن فالقمر بالنسبة لنا هو عبارة عن أفكارنا … ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أن «كانْت» قد أنكر وجود المادة ووجود العالم الخارجي، بل هو يعترِف بتلك المادة، وإنما يزعُم أننا لا نعرف شيئًا يقينيًّا عنها أكثر من أنها موجودة وأنَّ كلَّ ما تصِل إليه من علمٍ يتعلق بظاهرها، أي بما لدَينا عنها من إحساسات، فشطرٌ كبير من كلِّ شيءٍ قد خلفته صُوَر الإدراك الحسي والعقلي. فنحن نعلم الشيء بعد تحوُّله إلى فكرة، أما ماذا كان الشيء قبل هذا التحوُّل فهذا ما نعجز عنه كلَّ العجز، وإذا ظنَّ العلم أنه يُعالِج الأشياء في أنفسها أي كما هي في حقيقتها فهو ساذَج مخدوع، والفلسفة أشدُّ من العِلم انخداعًا إن زعمَتْ أن مادة العلم كلها لا تتألَّف من مُدرَكات الإنسان الحِسِّية والعقلية، بل من الأشياء نفسها.
ومعنى ذلك أن كل محاولة يبذُلها العلم أو الدين في أن يصِل إلى الحقيقة النهائية محاولة نظرية فاشلة؛ لأنه لا يُمكن للعقل أن يتعدَّى الظواهر الحسِّية، فإن مضى العِلم والدِّين في ذلك توَرَّطا في التناقُض والخطأ. ووظيفة «الميتافيزيقا السامية» أن تُبين موضع الخطأ في محاولة العقل أن يتخطَّى دائرة الحس والظواهر، وأن يدخُل في عالم الأشياء في أنفسها مع أنه عالم مجهول … فمثلًا إذا حاول العقل أن يحكُم هل العالم محدود أو لا نهائي — من حيث المكان — وقع في تناقُض وإشكال؛ لأنه سيجِد نفسه مُضطرًّا إلى رفض الفرضَين كليهما، فنحن من جهةٍ نتصوَّر أن وراء كلِّ حدٍّ شيئًا أبعدَ منه، وهكذا إلى ما لا نهاية، ثم يتعذَّر علينا من ناحيةٍ أخرى أن نتخيَّل اللانهاية في ذاتها. كذلك لو حاول العقل أن يعرف هل كان للعالَم ابتداء زَمني وقع في الإشكال نفسه؛ لأنَّنا لا نستطيع أن نتصوَّر الأزلية التي ليست لها نقطة ابتداء. ولكنَّا في الوقت نفسه لا يمكن أن نتصوَّر لحظةً ماضية نُسمِّيها بدء الزمن، إذ لا يسَعُنا إلا أن نشعُر بأنَّه قد كان قبل تلك اللحظة الأولى شيء، ثم لو تساءل العقل هل لسلسلة العِلة والمعلول بدء، أي هل للعالم عِلة أولى نشأ عنها، أمكن له أن يُجيب بالإيجاب والنفي معًا، فبالإيجاب لأنه لا يستطيع أن يتصوَّر سلسلة لا نهاية لها، وبالنفي لأنه لا يمكن تصوُّر عِلة أولى لا عِلة لها، هذه كلها مشاكل ومُتناقضات لا يمكن للعقل أن يتخلَّص منها إلا إذا وضع نُصب عينيه أن المكان والزمان والعِلة ليست إلا وسائل للإدراك الحسِّي والإدراك العقلي، وبغيرها لا تكون لنا تجربة ولا معرفة، ولكن لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن نتوهَّم أن المكان والزمان والسببية أشياء خارجة عنا، مُستقلة عن إدراكنا، فعلى الرغم من أنَّ كلَّ ما نُصادِف من تجارب لا يمكن فهمه إلا إذا صُغناه بعباراتِ الزمان والمكان والسببية، فلن تكون لنا فلسفة صحيحة إذا فاتَنا أنَّ هذه ليست أشياء واقعة، ولكنها طرُق لتفسير التجارب وفهمها فقط.
كذلك لو حاول اللاهوت أن يُبرهِن بالعقل النظري أنَّ الروح خالدة لا يجوز على «عنصرها» الفساد، وأنَّ الإرادة حُرة من قيود «السببية»، وأن في الكون كائنًا واجب الوجود هو الله، نقول: لو حاول اللاهوت ذلك لوقَع في مثل إشكال العِلم، ويجِب أن يذكُر اللاهوت أن «العنصر» و«السببية» و«الضرورة» كلها صُوَر عقلية ووسائل يتَّبِعها العقل في تبويب وتنظيم التجربة الحسية، فهي إذن لا تكون صحيحةً قويمة إلا إذا طبَّقناها على الظواهر الحسِّية التي تأتي بها التجربة. أما إذا تعدَّينا ذلك وطبَّقناها على المُدرَكات العقلية، فهنالك الخطأ والتناقُض، وعلى ذلك فلا يُمكننا أن نُبرهِن على صحة الدين بالعقل النظري.
هكذا ينتهي الكتاب الأول في النقد، وكأنَّنا «بديفد هيوم» ينظُر إلى هذه النتائج التي وصل إليها «كانْت»، والتي أراد بها أن يبني ما هدَمَه «هيوم»، فيبتسِم ابتسامةً ساخرة! علامَ انتهى هذا الكتاب الضخم العميق الذي أراد أن يُنقِذ العلم والدين من معاول الشك؟ لقد حدَّد العِلم وحصرَه في عالم الظواهر، فإن تغلغل إلى لُباب الأشياء وحقيقتها زلَّ وأخطأ، وهكذا أنقذ العِلم! ثم زعم أنَّ حُرِّية الروح وخلودها وأن وجود إلهٍ خالق مما يستعصي على العقل أن يقيم عليه الدليل، وبهذا أنقذ الدين! ولا عجَبَ أنَّ رجال الدين في ألمانيا رفضوا هذا الإنقاذ واحتجُّوا عليه، وأرادوا أن ينتقِموا لأنفسهم من الفيلسوف، فأطلق كلٌّ منهم على كلبه اسم «عمانويل كانت».
نقد العقل العملي The Critique of Practical Reason
إذا كان الدين لا يمكن أن يقوم على أساسٍ من العِلم والعقل، فماذا عسى أن يكون الأساس الذي يبنى عليه؟ يُجيب «كانْت» إنه يجِب أن يرتكز على دعامة من الأخلاق؛ لأنك إن أقمتَ بناءه على عَمَدٍ من اللاهوت العقلي عرَّضْته — كما قدَّمْنا — لأخطر الأخطار، فلنترُك العقل هنا ولنشيِّد الإيمان على ما هو فوق العقل، على الأخلاق، ولكن يجِب أن تكون قاعدة الدين الأخلاقية مُطلَقة مُستقلة بذاتها، غير مُستمدَّة من التجربة الحسِّية المُعرَّضة للشك، وألا يفسدها العقل ببحوثه وقضاياه، يجب أن تُستمدَّ القاعدة الأخلاقية من باطن النفس مباشرة، وإذن فلا بدَّ أن تكون لدَينا مبادئ أخلاقية فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته فيستلهِمها ويستوحيها دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلى عِلمٍ أو تجربة، فكما أثبتْنا أن للرياضة مثلًا أساسًا فطريًّا في النفس يقضي بصحَّتها، فسبيلُنا الآن أن نُبين أن العقل الخالص يمكنه بطبيعة تكوينه أن يقود الإرادة، وأن يَهديها إلى أقوَمِ السلوك من غير أن يستنير في ذلك بشيءٍ خارجي محسوس، أي أن نُبين أن قانون الأخلاق ناشئ فينا قبل التجربة، وأن الأوامر الأخلاقية التي لا مَندوحة عنها لتكون قاعدةً للدين عامَّة مُطلقة مُستمدَّة من فطرة الإنسان.
وإن تجارب الحياة لتنهض دليلًا قويًّا على وجود هذا الباعث الفطري للأخلاق، فكُلنا يشعر شعورًا قويًّا واضحًا لا لبسَ فيه أن هذا العمل خطأ، وأن ذلك صواب، مهما اشتدَّت أمامنا دواعي الإغراء، نعم قد يستسلِم الإنسان للخطأ، ولكنه لا يسَعُه رغم ذلك إلا أن يشعُر بأنه مُخطئ، فقد أرتكِب الجريمة، ولكنِّي مع ذلك أعلم أنها جريمة، وأحسُّ في نفسي بعزمٍ على ارتكابها مرةً أخرى، فما ذلك الصوت الذي يصيح فينا صيحةَ التأنيب، ثم يدعونا إلى اعتزام السلوك على النحو الصواب، إنه الضمير الذي لا ينفكُّ يأمرُنا أن نعمل على نحوٍ يصحُّ أن يكون قانونًا عامًّا للبشر، أعني أن نسلك سلوكًا لو سلكه الناس جميعًا لأدَّى إلى الخير، فنحن نعلم — لا بالمنطق — ولكن بشعورنا القوي المباشر أننا يجِب أن نتجنَّب السلوك الذي إن اتبَّعَه الناس جميعًا تعذَّرت الحياة الاجتماعية أو تعسَّرت، إنني قد أتورَّط في كارثة، ولا يكون لي سبيل للنجاة منها إلا بالكذب، وقد أكذب طلبًا للنجاة، ولكني «بينما أريد لنفسي الكذِب، فإنني لا أُحِبُّ بحالٍ من الأحوال أن يكون قانونًا عامًّا؛ لأنه بمِثل هذا القانون ستنتفي الوعود.» وهذا لا يتَّفق وحياة الجماعة. ولذا فإني أحسُّ في نفسي أنه لا يجوز أن أكذب حتى ولو كان الكذب في صالِحي.
وهذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا لا يقيس خيرية العمل بما ينتُج عنه من نتائج طيبة، أو بما فيه من حِكمة، إنما الخير هو ما جاء وفقًا لما يأمُر به الواجب، بغضِّ النظر عن نتائجه وحِكمته، ولا غرابة فهو لم يُستمَدَّ من التجربة الشخصية، ولكنه فطري طبيعي فينا، فلا خير في الدنيا إلا إرادة الخير، وأقصد بها تلك الإرادة التي تجيء وفقًا لقانون الأخلاق المتأصِّل في نفوسنا، ولا عبرةَ لما تعود به تلك الإرادة الخيِّرة علينا من غُنم أو غُرم؛ إذ ليس الغرَض الأسمى هو السعادة، وإنما هو الواجب «فليست الأخلاق هي ما يُعلِّمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، ولكن هي ما يجعلنا جديرين بالسعادة.» فيجب أن نقصد إلى سعادة الناس، فلننشُد الكمال، سواء جاء ذلك الكمال متبوعًا بلذَّة أو ألَم، ولكي يكون سلوكك مؤدِّيًا إلى كمال نفسك وسعادة الآخرين يجب «أن تعمل بحيث تتَّخِذ الإنسانية — سواء أكانت مُمثَّلة في شخصك أو في أي شخصٍ آخر — غرَضًا، ولا يجوز لك قطُّ أن تعتبر الإنسانية وسيلةً فقط.» يجب أن يكون هذا المبدأ أساسًا لحياتنا، فإنْ فعَلْنا فسرعان ما نخلق لأنفسنا مُجتمعًا مثاليًّا كاملًا، ولا سبيل إلى خلق ذلك المجتمع الكامل إلا أن نعمل كما لو كنَّا بالفعل أفرادًا فيه، وبهذا نضع قانونًا كاملًا في حياةٍ ناقصة فتكمُل. قد تقول إنها أخلاق شاقَّة عسيرة — تلك التي تريدك على وضع الواجب فوق السعادة — ولكنها هي الوسيلة الوحيدة التي ترتفع بنا عن هذه الحيوانية التي نعيش فيها، وتسير بنا في طريق الله.
وجدير بنا أن نُلاحظ أن هذا الصوت الباطني الذي ينادي بالواجب يقوم دليلًا على حُرية إرادة الإنسان؛ لأنك لا تستطيع أن تتصوَّر فِكرة الواجب دون أن تتصوَّر الإنسان حُرًّا فيما يختار من سلوك. فحرية الإنسان التي استعصى علينا إقامة الدليل عليها بالعقل النظري يمكن البرهنة عليها بالشعور بها شعورًا مباشرًا إذا ما وقَفَ الإنسان مَوقف الاختيار بين سلوكَين. ولقد يظهر لنا أن أعمالنا تتبع قوانين ثابتة لا نقضَ فيها ولا تبديل، فنتوهَّم أن ذلك بُرهان على عدم اختيار الإنسان لسلوكه، والواقع أنَّنا نرى أعمالنا مُنظمة مُطَّردة؛ لأننا ندرك نتائجها بواسطة الحواس، وقد علِمنا أن العقل مجبول على صياغة كل ما تنقُله إليه الحواسُّ في صورة السببية، فيجعل منها علةً ومعلولًا، ولكن هذه السببية من صُنع عقولنا، وليست في الأشياء أو الأعمال ذاتها. وبديهي أنها فَوق القوانين التي نصنعُها بأنفسنا؛ لكي نستعين بها على فَهم تجاربنا الحسية، فالإنسان حرٌّ فيما يعمل رغم ما يُقيِّد الأعمال من سببيةٍ ظاهرة، ونحن نشعُر بهذه الحرية، ولا يُمكِنُنا أن نقيم عليها الدليل.
وكما استنتجْنا حرية إرادة الإنسان من صوت الواجب الذي فُطِرنا عليه، كذلك نستطيع أن نستنتج منه خلود الإنسان، فنحن نشعُر بهذا الخلود، ولكن لا يُمكننا أن نقيم عليه الدليل، إن الحياة تُعلمنا كلَّ يومٍ درسًا بل دروسًا بأنه لا عقاب للمُسيء ولا ثواب للمُحسن، بل إنها تُعلِّمنا كل يوم بأن افتراس الثعبان أنجَحُ في هذه الدُّنيا من رقَّة الحمامة ووداعتها. وأن السرِقة والخيانة والغدْر كثيرًا ما تكون أجدى من الفضل والأمانة والإحسان، فلو كان مجرد النفع الدُّنيوي والوصول إلى الغاية هو كلُّ ما يُبرِّر الفضيلة، لما كان من الحِكمة أن نكون فُضَلاء … ولكنَّا نرى أنَّنا على الرغم من هذا كله نشعُر بصوتٍ يدعونا إلى الفضيلة وعمل الخير، حتى ولو لم يؤدِّ ذلك إلى النفع، فكيف يمكن لهذا الشعور بالحقِّ أن يعيش إن لم نكن نُحسُّ في قرارة نفوسنا أن هذه الحياة الدُّنيا ليست إلا جزءًا من الحياة، وأن هذا الحلم الدنيوي ليس إلا مقدمة لميلادٍ آخَر وبعْثٍ جديد. لماذا نستمِع لصوت الحق والفضيلة إن لم نكن نحسُّ بأن تلك الحياة الأخرى أطول أمدًا، وأنَّ كل امرئٍ سيُجزى فيها بما فعل من خير أضعافًا مضاعفة؟
وهذا الدليل نفسه الذي أثبتَ حرية الإنسان وخلوده ينهض برهانًا على وجود الله؛ لأنه إذا كان الشعور بالواجب يتضمَّن العقيدة في الجزاء في المُستقبل أي في الخلود، فإن الخلود لا بدَّ أن يتبعَهُ فرْض وجود علَّة متكافئة مع معلولها، أي لا بدَّ أن يكون قد أنشأ هذا الخلود من هو خالد، وإذن فلا بدَّ من التسليم بوجود الله، وليس هذا كذلك برهانًا بالعقل، بل هو مُستمَدٌّ من شعورنا الفطري بقانون الأخلاق، ويجِب أن يوضَع هذا الشعور فوق المنطق النظري الذي لم ينشأ إلا لمُعالجة الظواهر الحسِّية. إن عقولنا تُبيح لنا أن نعتقد أن وراء الأشياء إلهًا، وشعورنا الأخلاقي يُحتِّم علينا هذه العقيدة، ولقد أصاب «روسُّو» حين قال: «إن شعور القلب أسمى من منطق العقل.» كما أصاب «بسكال» في قوله: «إن للقلب أسبابًا خاصَّة به لا يمكن أن يفهمها العقل.»
(٤) الدين والعقل
لم يكن «كانْت» فيما انتهى إليه من إثبات الدين على أساس الشعور بالواجب الأخلاقي رجعيًّا أو جبانًا، بل كان على النقيض من هذا جريئًا بالِغ الجرأة في إنكاره أن يكون الدين قائمًا على العقل، ولقد أثار ما ذهب إليه — من حصر الدين في حدود الشعور — كثيرًا من رجال الدين في ألمانيا، فانهالوا عليه بالنقد والاحتجاج. ولقد تطلَّبت هذه العاصفة من الفيلسوف شجاعةً نادرة بلغَتْ أقصاها حين نشَرَ وهو في سنِّ السادسة والستِّين كتابه «نقد الحكم»، ثُم كتابه الذي أصدرَه وهو في سنِّ التاسعة والستِّين «الدين في حدود العقل الخالص».
وهو في أوَّل هذَين الكتابين يرفض الرأي القائل بأن وجود غاية يقصد إليها العالم دليلٌ على وجود الله. فإذا كانت الطبيعة حقًّا تبدو رائعة الجمال في كثيرٍ من نواحيها — مما قد يحمِلُنا على أنها تَسير إلى قصدٍ مُعيَّن مُدبَّر — فينبغي أن نذكر أنها من ناحيةٍ أخرى تُبدي كثيرًا من دلائل العبَث والفوضى … نعم إنَّ في الطبيعة جمالًا، ولكن على حساب كثيرٍ من ألوان التعذيب والموت، إذن فظاهر الكون وإن بدا جميلًا فليس هو بالبرهان القاطع على وجود الله، فعلى رجال اللاهوت الذين يعتمِدون في دليلهم على هذه الفكرة أن ينبذوها، كما أنَّ على رجال العِلم الذين بالغوا في نبذِها واطِّراحها أن يستردُّوها؛ لأنها مع ذلك مفتاح جليل يؤدي إلى كشف كثيرٍ من الجوانب الغامضة. فلا شكَّ أن في العالم قصدًا وتصميمًا، ولكنه قصدٌ وضعَه الكلُّ لأجزائه. فما أحوَجَ رجال العلم أن يُفسِّروا أجزاء الكائن العضوي بأن لها معنى يقصده الكل، وهم إن قالوا ذلك أنقذوا أنفسهم من هذه المُغالاة في فكرتهم عن آلية الحياة؛ لأنَّ هذه الآلية وحدَها يستحيل أن تُفسِّر نموَّ برعمةٍ واحدة من النبات.
يقول «كانْت» في هذا الكتاب عن الدين والعقل: إنه لا يجوز أن يُقام الدين على أساسٍ من العقل النظري، بل يجِب أن يُبنى على الأخلاق العملية، ومعنى ذلك أن أيَّ كتابٍ من الكتُب المقدَّسة، وكل ما ينزل به الوَحي يجِب أن يُحكَم عليه بما له من قيمةٍ أخلاقية، ولا ينبغي أن يكون هو نفسه الحَكَم الذي يُرجَع إليه في صياغة قانون الأخلاق، أو بعبارةٍ أخرى يجب أن تأتي الكتُب المقدَّسة متمَشِّية مع ما يُمليه الشعور الأخلاقي المفطور في الإنسان، وليس هذا الشعور هو الذي يتغيَّر تبعًا لما ينزل به الكتاب المقدَّس، وإن قيمة الكنائس والمُعتقدات هي بمقدار ما تعاون الجنس البشري على الرُّقي الخُلقي. أما إذا انقلب الدين إلى طائفةٍ من العقائد والطقوس الشكلية، ثم وُضِعَت هذه العقائد والطقوس في منزلةٍ أرفع من الشعور الأخلاقي، وكانت هي المقياس الذي يقاس به الدين قبل أن يُقاس بالأخلاق، فقل على الدين السلام … إن الكنيسة الحقيقية هي جماعة من الناس — مهما تقسَّموا شِيَعًا وأحزابًا — اتفقوا جميعًا على اتِّباع قانون الأخلاق المُشترك بين الناس، ولقد عاش المسيح ومات ليؤسِّس جماعةً كهذه، فكانت تلك الجماعة هي الكنيسة الحقيقية التي أسَّسها لينقُض بها شكلية العبادة اليهودية، ولكن نشأت بيننا كنيسة أخرى كادت تطغى على تلك الفكرة النبيلة: «لقد قرَّب المسيح ما بين مملكة الله والأرض، ولكنَّا أخطأنا في فهمِه فاستبدلنا بمملكة الله مملكة القديسين!»
لقد عادت الطقوس والعقائد الشكلية فحلَّت محل الحياة الخيِّرة الفاضلة، وبدَل أن يرتبط الناس بعضهم ببعض برباط الدين انقسَموا ألف مذهب، وأخذوا يُلقون في النفوس ضروبًا من الورع الكاذب، وحسِبوا أنَّ الإنسان لا يسترضي ربَّ السماء إلَّا بهذا الرياء، كأنما الله حاكِم من حكَّام الأرض هذا، وإن المعجزة لا يمكن أن تؤيِّد الدين، ولا خير في دينٍ يريد أن يُعطِّل قوانين الطبيعة التي تدلُّ على صحَّتها التجارب كلها. ولعلَّ أنكَبَ الكوارث التي تحلُّ بالناس أن تُصبح الكنيسة أداةً طيعة في يد حكومةٍ سيئة، وأن يصير رجال الدين — الذين من واجبهم أن يُخفِّفوا وَيلات الإنسانية وكروبها بالإيمان والأمل والإحسان — أدواتٍ لظُلمٍ سياسي.
إنَّ ذاتنا السامية قد ساءها إساءةً عظيمةً أن تلاحظ أنك تُسيء استعمال فلسفتك، فتُزعزِع وتُحطم كثيرًا من أهم آراء الكتاب المُقدَّس والديانة المسيحية، فنحن نأمرك بشرح موقفك على الفور شرحًا دقيقًا، وإن لم تمتنِع في المستقبل عن مثل هذا الإيذاء، بل إن لم تستخدِم مواهبك وعلمك فيما يتَّفِق مع واجبك، حتى يتيسَّر لنا القيام بواجبنا الأبدي — أقول لو استمررت في معارضة هذا الأمر — فلتتوقَّع من العواقب ما لا يُرضي.
فأجاب «كانْت» بأنه يجِب أن يكون لكلِّ عالمٍ الحق في تكوين أحكامه في الأمور الدينية، وأن تكون له الحُرية في إذاعة آرائه في الناس، ولكنه يَعِد في جوابه هذا أن يظلَّ صامتًا إبَّان حكم هذا الملك، وقد نحا بعض المؤرِّخين باللائمة على «كانْت» لهذا الإذعان، ولكنَّا يجِب أن نتذكَّر أنَّ فيلسوفنا كان قد بلغ سِنَّ السبعين، وأنه عسير على تلك الشيخوخة المُتهدِّمة أن تُنازل وتُناضِل، هذا فضلًا عن أنه قد رضي لنفسه بالصَّمت بعد أن بلَّغ للعالَم رسالته.
(٥) في السياسة والسلام الدائم
وكان «كانت» قد نشَر في سنة ١٧٨٤م عرضًا موجزًا لنظريته السياسية بعنوان: «المبدأ الطبيعي للنظام السياسي، وعلاقته بفكرة التاريخ الدولي العام»، وقد بدأ هذا الكتاب بالبحث في موضوع النزاع بين الفرد والمجتمع، ذلك النزاع الذي فزِع له «هوبز» وأنكرَه، أما «كانْت» فقد أقرَّ هذا التنازُع، بل أوجبه وحتَّمَه قائلًا: إنه لا مندوحة عنه لاطِّراد التقدُّم، فلو بلغَتِ النزعة الاجتماعية في الأفراد أقصى حدودَها لركَدَ الإنسان وخمَدَ نشاطه، فلا بدَّ من النزعة الفردية التي تُوجِب التنافُس، إذ بغير ذلك لا تتهيَّأ للبَشر الحياة والنمو، فلولا ما لدى الناس من صفاتٍ فردية لعاشوا في انسجامٍ تامٍّ وقناعةٍ وحُب متبادل، ومثل هذه الحياة يقتُل المواهب ولا يُحفِّزها للظهور، «فنحن نحمد الطبيعة على ما وهبَتْنا إيَّاه من صفةٍ غير اجتماعية أدَّت إلى اشتعال الغيرة، وإلى رغبةٍ لا تنتهي في الملك والقوة … إن الإنسان يودُّ لو لم يكن بينَه وبين الناس شيءٌ من التنافُر، ولكن الطبيعة كانت أعلم منه بما ينفع نوعه، فهي تريد التنافُر، حتى يُضطرَّ الإنسان إلى إظهار قواه في كلِّ حين، وإلى شحْذ مواهبِهِ الطبيعية بغَير انقطاع.»
ويشكو «كانْت» في هذه الرسالة السياسية من أنَّ «حُكَّامنا لا يملكون من المال ما ينفقونه على تعليم الشعب. فقد خصَّصوا الموارد كلها لحساب الحرب القادمة.» وهيهات أن تتمدَّن الأُمم حقًّا حتى تنمحي كلُّ هذه الجيوش القائمة، وما أجرأ «كانْت» في هذه الصيحة، إذ كانت بروسيا عندئذٍ تكاد تُجنِّد الشعب كله «إنَّ الجيوش القائمة تُثير شهوة المُنافسة في الدول، فتتنافس في عدد جنودها، وليس لهذا العدد حدٌّ يقِف عندَه، وبسبب ما يُكلِّف هذا من مال، يُصبح السِّلم في نهاية الأمر أكثر ظلمًا من حربٍ قصيرة، ولذلك كثيرًا ما يكون وجود الجيوش سببًا في حروب عدائية تقبل عليها الدول؛ لكي تتخلَّص من هذا العبء.» وذلك لأنه في زمن الحرب يعتمِد الجيش على نفسه في تهيئة ما يلزَمه من مدَد، إما سلبًا من أرض العدو، أو أخذًا من أرض مواطنيه، وحتى هذه الحالة الأخيرة خيرٌ من إرهاق مالية الدولة في الصرْف على الجيش.
ويرى «كانْت» أن النزعة إلى الحروب التي تتملَّك الدول الأوروبية ترجع في مُعظمها إلى توسُّع أوروبا في أمريكا وإفريقيا وآسيا، كما ينشأ بين اللصوص من معارك على الغنائم، وإنه لمِمَّا يُروِّعك أن ترى ماذا تفعل هذه الدول الأوروبية المُتمدِّنة إذا ما استكشفت أرضًا في إحدى تلك القارات. إن مجرد زيارتهم لتلك الشعوب تُعتَبر في نظرهم مُساوية لغزوها، فهُم عندما استكشفوا أمريكا — موطن الزنوج — عاملوها كأنها بلاد لا يملكها أحد، واعتبروا سكَّانها الأصليين كميةً مهملة … وقد وقع هذا كله من أُمَمٍ ملأت الدنيا صياحًا بورعها وتقواها … فبينا هذه الأمم تسقي الظلم كالماء، تريد أن تعدَّ نفسها صفوةَ أصفياء الله.
ولقد عزا «كانْت» هذا الشَّرَه والاستبداد إلى الحكومات الأولجاركية في أوروبا؛ إذ تسرَّبَت الأسلاب والغنائم إلى أيدٍ قليلة، أما إذا قامت الديمقراطية، وأخذ كلُّ إنسانٍ بقِسطه من القوة السياسية، فإنَّ غنائم السرقات الدولية ستوزَّع توزيعًا واسعًا عادلًا بين أفراد الأمة كلهم، فلا يُصيب الواحد إلا مقدار ضئيل لا يُغري، وإذن فالمادة الأولى من شروط السلام الأبدي هي هذه: «يجِب أن يكون الدستور المدني لأية دولة جمهوريًّا، ولا يجوز أن تُعلَن حرب إلا إذا استُشير المواطنون جميعًا.» فإذا أعطَينا لهؤلاء الذين يقومون بالحرب حقَّ الاختيار بين السِّلم والقتال، فلن يعود التاريخ يُسطَر بالدماء، أما إذا لم يكن الفرد عضوًا في الدولة يُحسَب لرأيه حساب، أعني إذا لم تكن الحكومة جمهورية، فإن تقرير الحرب يُصبح أهون شيءٍ عند الحكومة القائمة؛ لأنَّ الحاكم لا يكون في مثل هذه الحالة مواطنًا كبقية المواطنين، ولكنه يكون مالك الدولة، ولا يُصيب شخصه من الحرب أية خسارة أو أذًى، بل قد تزيد في أسباب نعيمه وهو في قصوره بين الموائد والولائم، ولذلك فما أهوَنَ عليه أن يقضي بالحرب كأنَّ الأمر لا يزيد على رحلةٍ للصيد، وأما تبريرُها فما عليه إلا أن يركن في ذلك إلى الهيئات السياسية التي لا تتردَّد قطُّ في أن تُقدِّم للملك ما يريد من خدمات!
لقد بعث انتصار الثورة الفرنسية أول الأمر رُوح الأمل في نفس «كانْت» فرجا أن يعمَّ النظام الجمهوري أوروبا جميعًا، وأن تسود الديمقراطية ويزول الاستعباد والاسترقاق، وأن يَنشُر السِّلم لواءه فوق الربوع؛ فوظيفة الحكومة هي معاونة الفرد على النمو لا أن تستذلَّه وتستغلَّه «فاحترام كل فردٍ واجب باعتبار الفرد غاية مُطلقة في حدِّ ذاته، وإنها لجريمة ضدَّ شرَف الإنسانية أن نتَّخِذ من الفرد وسيلةً لغرَضٍ كائنًا ما كان.» وعلى ذلك فإنَّ «كانْت» يدعو إلى المساواة بين الأفراد، فيما يُتاح لهم من فُرَص النمو وإظهار القوى والمواهب، ويرفُض كلَّ ضروب الامتياز والتفاوت في الأُسَر والطبقات، وهو يُعلِّل كلَّ الامتيازات الوراثية بانتصارٍ حربي ظفِرَت به الأُسَر الممتازة في الأيام الماضية.
ظلَّ «كانْت» رغم شيخوخته نصيرًا للديمقراطية والحرية في الوقت الذي كادت تُجمِع أوروبا كلها على مقاومة الثورة الفرنسية وتدعيم العروش الملكية، فلم يشهد التاريخ قبلَه كهلًا شايَعَ الحرية بحرارة الشباب وحماستِه كما فعل، ثم غلب عليه ضَعف الشيخوخة ووَهَنُها فأخذ يَذبُل ويذوي ويتحوَّل إلى سذاجة الكهولة التي انقلبت آخِر الأمر إلى مسٍّ خفيفٍ من الجنون، وأخذت قُواه تتفانى ومشاعره تبرُد حتى كان عام ١٨٠٤م، وكانت سِنُّه تسعًا وسبعين، فأسلم الرُّوح هادئًا، وسقط كما تسقُط ورقةٌ ذابلة في الخريف.
نقد وتقدير
هذا هو البناء الشامِخ الذي شيَّده «كانْت» وألَّفه من المنطق، والميتافيزيقا، وعلم النفس، والأخلاق، والسياسة، فليتَ شعري ما شأنه اليوم بعد أن وقف أمام العواصف الفلسفية قرنًا كاملًا؟ إنها لم تنَلْ منه إلا قليلا، فلا تزال الفلسفة «الكانتية» حتى اليوم قائمة قوية الأركان؛ إذ شقَّت الفلسفة النقدية مجرًى جديدًا في تاريخ الفكر فغيَّرت من اتجاهه، وإذا كان قد أصابها شيء من الوهَن، فما ذاك إلا في التفصيل والعَرَض دون الأساس والجوهر.
فأول ما أُخِذ عليه من وجوه النقد فِكرته عن المكان، فهل أصاب «كانْت» فيما ذهب إليه من أن المكان صورةٌ ذهنية يستعمِلها العقل لصياغة الإحساسات لا أكثر؟ نستطيع أن نُجيب على ذلك بالإيجاب والنفي معًا، فهو كذلك لأنه فكرة ذهنية تظلُّ فارغة، حتى تملأ المُدرَكات الحسية، إذ ليس معنى المكان إلَّا أشياء بعَينها في مَوضعٍ مُعين بالنسبة إلى الشخص المُدْرِك، أو هو مسافة تقاس بالنسبة إلى أشياء مُدْرَكة، ويستحيل على الإنسان أن يُدرِك الأشياء الخارجية إدراكًا حسيًّا إلا وهي في مكان، وإذن فلا شكَّ أن المكان صورة ضرورية لا بدَّ منها للحسِّ الخارجي، وهو ليس كذلك؛ لأن ثمَّة من الحوادث ما يقع في المكان دون أن يُدركها الإنسان إدراكًا حسيًّا، وفي مثل هذه الحالة يكون المكان مُستقلًا عن الإدراك الحسي، ولا يكون كما قال «كانْت» صورة عقلية يستخدِمها الإنسان في صياغة المُدرَكات الحسِّية، ومثال ذلك دورة الأرض حول الشمس، فهذه تتمُّ في المكان دون أن يُدركها الإنسان بحواسِّه، فليس صحيحًا ما زعمَه «كانْت» من أن الإنسان يتلقَّى إحساساتٍ لا مكانية فيخلع عليها عقله المكان، بل الصحيح أنَّنا نُدرِك المكان في نفس الوقت الذي نُدرك فيه الأشياء المُحسَّة.
كذلك ليس الزمان حقيقة ذاتية فحسب، بل هو كذلك موضوعي موجود في الخارج بغضِّ النظر عن الإنسان، فهذه الشجرة المُعينة ستنمو، ثم تكتهل، ثم تذوي وتتلاشى سواء أدركْنا نحن مرور الزمن عليها وقِسناه أم لم نُدْركه.
لقد أراد «كانْت» فيما يظهر أن يُقِيم الدليل على أن المكان ذاتي مَحض، وليس له وجود في الخارج، عساه ينجو من نتائج المذهب المادي، فخشى أن يُقرِّر موضوعية المكان ولا نهايته، فينتُج عن ذلك وجود الله في المكان، ووجوده في المكان معناه ماديته.
وممَّا هو جدير بالملاحظة هنا أنَّ العِلم الحديث قد انتهى بنظرية النسبية إلى نفس ما قاله «كانْت» عن الزمان والمكان إذ تُقرِّر نظرية النسبية أن المكان المُطلق والزمان المطلق ليس لهما وجود، ولكنهما موجودان فقط إذا وُجِدَت الأشياء والحوادث، أي إنهما صُوَر للإدراكات الحِسِّية.
كذلك يؤخَذ على «كانْت» ما ذهب إليه من أنَّ الحقيقة مُطلقة من حيث الثبوت واليقين لا كما قال عنها «هيوم» إنها لا تزيد على احتمالٍ وترجيح، فقد جاءت الأبحاث العلمية الحديثة مُؤيِّدة «لهيوم» مُعارضة «لكانْت»، إذ ساد الرأي القائل إنَّ كافة العلوم حتى الرياضيَّات الدقيقة، نسبيةٌ في حقيقتها، وأصبح العلم يقنع برجحان كفَّةِ الاحتمال دون أن يُطالَب بحقيقةٍ مُطلقة؛ لأنه أدرك أن هذه مستحيلة، وحتى لو كانت موجودة فليس للإنسان حاجة إليها.
ولعلَّ أعظم ما أتى به «كانْت» برهَنَتُه على أن الإنسان لا يعلَم من العالم الخارجي إلا ما تجيئه به الحواس، وأن العقل ليس صفحةً بيضاء قابلة تخطُّ فيها التجارب ما تشاء، بل فاعِل إيجابي يتلقَّى التجارب الحِسِّية، فيختار منها ما يُريد، ويبنيها بما لدَيه من صورٍ ذهنية موروثة فيه … ولكن هنالك من يَشكُّون في فطرية هذه الصور الذهنية، أي في وجودها عند الإنسان قبل أن يصِل إليه من الخارج إحساسٌ ما. فيقول «سبنسر»: إنَّ ذلك قد يكون صحيحًا في الفرد، ولكنه خطأ بالنسبة للجنس كله، أعني أنَّ الإنسان كجنسٍ قد استمدَّ هذه الصورة الذهنية من العالم الخارجي، ثُم ورَّثَها لأفراده، وهناك من يقول إنَّ هذه الصورة الذهنية مَجارٍ فكرية، أو عاداتٌ كوَّنَتْها بالتدريج الإحساسات، ثم المُدرَكات الحِسِّية، فأصبح للإنسان بعد تكوينها القُدرة على الإدراك الحِسي والعقلي، ويقول هذا الفريق من المُفكرين إن الذاكرة (أي الصور الحسية المحفوظة في الذهن، والتي جاءت من الخارج على مرِّ الأيام) هي التي تُفسِّر الإحساسات التي تأتينا عن طريق الحواسِّ المختلفة، وهي التي تُنظِّمها وتُبوِّبها وتُحوِّلها إلى مُدركاتٍ حِسية، ثم تُحوِّل هذه المدرَكات الحسِّية إلى أفكار. فالذاكرة هي التي تُسبِّب ما للعقل من وحدةٍ وتماسُك، وإذن فوحدة العقل مكسوبة لا موهوبة كما قال «كانْت»، وقد يفقد الإنسان ما اكتسَبَه من وحدة العقل في بعض الحالات كالجنون مثلًا، وعلى ذلك تكون كلُّ مُدركاتنا العقلية من صُنعِنا وليست فطريةً موروثة.
وقد تناوَل الناقدون نظرية «كانْت» في الأخلاق فأنكروا إطلاقها وفطرِيَّتَها، وقال أشياع مذهب التطور: إن شعور الإنسان بواجبه ليس صادرًا من أخلاقيةٍ فطرية كما ذهب إليه «كانْت»، ولكنه مُستمَدٌّ مما أودَعَه المجتمع في الفرد من قواعد للسلوك، فالأخلاق لم تهبط إلى الإنسان كما هي، بل هي الثمرة الأخيرة لتطوُّرٍ امتدَّ ردحًا طويلًا من الزمان، وليست الأخلاق عامَّة مُطلقة، ولكنها قانون للسلوك ينمو ويتطوَّر بما هو ملائم لحياة الجماعة، وهي مُتغيِّرة بتغيُّر الجماعة وظروفها. فالنزعة الفردية مثلًا تكون مُنافية للأخلاق في شعبٍ يُحاصره العدو، ولكنها تكون خير الوسائل في أُمَّةٍ آمِنة هادئة للرُّقي والنشاط، فليس هناك عمل خير في ذاته كما يقول «كانْت».
وقد استرعى النظَرَ أنَّ «كانْت» قد عاد في كتابه النقدي الثاني فأقرَّ بوجود الله، وحُرية الإرادة، وخلود الروح، بعد أن كاد يَنفُرُها جميعها في كتابه الأول. ولقد قال عنه أحد النُّقاد: «إنك تشعُر في كتُب «كانْت» كأنك في سوقٍ ريفية يمكنك أن تشتري منها ما تشاء، حرية الإرادة وجبرها، المِثالية وتنفيذها، الإلحاد والإيمان بالله، فهو أشبَهُ شيءٍ «بالحاوي» الذي يستطيع أن يخرج من مِخلاته الفارِغة كلَّ شيء، إذ تراه يستخرج من فكرة الواجب إلهًا وخلودًا وحرية.» ويعتقِد «شُوبنْهَوَر» أنَّ «كانْت» كان في حقيقة الأمر شاكًّا نبَذَ العقائد لنفسه، ولكنه تردَّد في أن يهدم عقائد الناس إشفاقًا على الأخلاق العامَّة من الفساد: «إنه زعزع اللاهوت القائم على العقل، ثُم ترك اللاهوت الشعبي دون أن يمسَّه، لا بل دعمَه باعتباره عقيدةً مبنية على الشعور الأخلاقي … فكأنه أدرك الخطأ الناجِم من هدمِه اللاهوت العقلي، فأسرع إلى اللاهوت الأخلاقي يستمِدُّ منه بعض الدعائم الواهنة المؤقَّتة عسى أن يظلَّ البناء قائمًا حتى يتمكَّن من الهرَب قبل أن تقع عليه الأنقاض.»
ولكن مهما يَقُلِ النُّقاد عن إيمان «كانْت» من أنه يُبطن إلحادًا، فإن لهجة الفيلسوف في مقالته عن «الدين في حدود العقل الخالص» تدلُّ على إخلاصٍ شديد، وإيمان قوي، ولقد كتَب «كانْت» إلى أحد أصدقائه يقول: «حقًّا إنَّني كثيرًا ما أُفكِّر في أشياء وأوقن بصحَّتها … ولكني لا أجِد في نفسي الشجاعة للتصريح بها، ومع هذا يستحيل عليَّ أن أقول شيئًا لا أعتقد بصحَّته.» وليس بعجيبٍ أن تتضارب آراء «كانْت» لِما يكتنِف رسالته العظيمة من غموضٍ وتعمُّق، ولقد قيل في هذا الكتاب بعد نشره: «لقد أعلن المُتديِّنون بأن «نقد العقل الخالص» محاولةُ شاكٍّ يريد بها أن يزعزع يقين المعرفة.» وقال الشاك: «إنه ادِّعاء فارغ يحاول به أن يبني صورةً جديدة من الجمود الدِّيني على أنقاض الأنظمة الجديدة.» وقال من يعتقدون بما فوق الطبيعة إنه حيلةٌ مدبَّرة لمَحو الأُسس التي يقوم عليها الدين وإقامة المذهب الطبيعي. وقال الطبيعيُّون: إنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان التي تحتضِر. وقال الماديُّون: إنها مثالية تريد أن تنقُض حقيقة المادة. وقال الرُّوحانيون: إنه تحديد لا مُبرِّر له للحقيقة وحصرها كلها في الأجسام المادية. والواقِع أنَّ عظمة الكتاب هي في تقديره لكلِّ وجهات النظر، ولعلَّه قد وفَّق بينها وصهرَها جميعًا في وحدةٍ متماسِكة، لم تَرَ الفلسفة لها ضريبًا في كلِّ عهدها الماضي.
(٢) المثالية الذاتية Subjective Idealism
(٢-١) فخته Fichte
انتهى «كانت» بفلسفته إلى أنَّ للأشياء ظواهر في مقدور الإنسان إدراكها. أما لُبابها أو سمَّاه «الشيء في ذاته» فذلك ما يعجز عنه إدراك الإنسان عجزًا تامًّا، فلم يكن بدٌّ لمن جاء بعدَه من الفلاسفة أن يحاولوا جهدَهم التغلُّب على هذه الثنائية التي خلَّفَها «كانت»، فليس من الميسور أن تُسلِّم الفلسفة بوجود عنصرٍ خارج نطاق المعرفة. ومن العسير أن تزعُم أن هنالك حقيقة لا تقع داخل حدود الإدراك.
ولعلَّ أقوى ما تأثَّر به «فخته» ممَّا طالَعَه في شبابه هو فلسفة «سبينُوزا»، ثم اتَّصل «بكانْت» فكان مصدر الانقلاب في حياته كلها، ذلك أنه ذهب إلى كونسبرج «بلد كانْت» لزيارة الفيلسوف العظيم، وهناك أخرج «فخته» أول كتابٍ له «نقد الوحي» ألَّفَه في أربعة أسابيع، وقد حدَث أن نُشِر ذلك الكتاب أول الأمر بغير اسم مُؤلِّفه سهوًا من الطابع، فنسبَه القرّاء جميعًا إلى «كانْت»، فلمَّا عُرِف مؤلفه الحقيقي ذاع اسم «فخته» ذيوعًا واسعًا، وتبيَّن فيه الناس خلَفًا «لكانْت» … وقد عُين أستاذًا مُمتازًا للفلسفة في جامعة «يينا»، فكان المحاضر البليغ، والكاتب الفذ. وسرعان ما تسلَّم زمام الحركة الفكرية في ألمانيا ولبِث يقودها زمنًا، ولكن شاء حظه العاثر ألا تطُول تلك الحياة النابهة أمدًا طويلًا، إذ كتَب في مجلةٍ فلسفية فصلًا عرَّف فيه الله بأنه «النظام الأخلاقي للكون»، فقذَفَه قوم بالإلحاد الذي كان «فخته» أبعدَ الناس عنه، فاضطرت الجامعة إلى إقالته من وظيفتِه لإلحادِه المَوهوم، وممَّا يجدُر ذِكرُه في صدَدِ إقالته أنَّ «فخته» كان بعد اتهام الناس له بالإلحاد قد لحظ تدخُّلًا من بعض الهيئات في شئون الجامعة وحرية التدريس فيها، فأعلن احتجاجَه على ذلك، وقال: لو أيَّدَت الحكومة (حكومة فيمار) هذا التدخُّل وأجازته، فإنه سيعتزِل كُرسيَّه في الجامعة، وأخذ يُحرِّض زملاءه من الأساتذة أن ينحُوا نحوَه، فكان جواب جوته الشاعر الألماني المعروف، وكان وزيرًا عندئذ؛ بأنَّ الحكومة التي تحترم نفسها لا يسَعُها أن تتقبَّل من موظفٍ بها مثل هذا التهديد، ثم عمل على إقالة «فخته» من منصبِه على الفور، فعُيِّن أستاذًا للفلسفة في الجامعة الجديدة التي أنشئت في برلين بعد استيلاء الفرنسيين على بروسيا، وكان الفيلسوف يجاهد جهاد الأبطال في إثارة الشعور القومي في مواطنيه بعد هذا الغزو الفرنسي، وأخذ يُلقي سلسلةً من المحاضرات أطلق عليها اسم «نداءات للأمَّة الجرمانية»، وقد كانت تلك الخُطَب في ظاهرها برنامجًا جديدًا لنظام التربية، ولكن غرَضَه منها لم يكن يخفى على أحد، حتى توقَّع «فخته» في كل لحظةٍ أن يُساق إلى المحكمة العسكرية الفرنسية لمُحاكمته واتِّهامه وإعدامه، إذ كان «فخته» — على نقيض مواطنيه «جوته» و«هجل» و«شوبنهور» — عدوًّا لدودًا «لنابليون»، وقد قاوَمَه بكلِّ ما أوتي من قوة، وكان عضوًا عاملًا في الحركة العدائية الواسعة التي ناهضَتْ «نابليون»، حتى أفلحتْ آخِر الأمر في التغلُّب عليه.
وتُوفِّي «فخته» عام ١٨١٤م بحُمَّى انتقلتْ إليه عدواها من زوجِه التي كانت تشتغل وقتئذٍ في تمريض الجنود الجرحى.
أما مؤلَّفاته التي أخرجها أثناء إقامته في «يينا» فأهمها: «أساس علم المعرفة» و«الحق الطبيعي ونظرية الأخلاق»، ولكن تلك الكتُب لم تنَلْ من الشهرة وبُعد الصيت ما نالته مؤلفاته التي كتبها وهو في برلين وأهمها: «غاية الإنسان» و«مميزات العصر الحاضر» و«في طبيعة العالم» و«الطريق إلى حياة النعيم» و«نداءات إلى الأمة الألمانية»، وقد أُلقِيت أكثر هذه الكتُب الأخيرة في محاضرات على عامَّة الناس، حيث كان الفرنسيون يبسطون نفوذهم على برلين، وكانت أقوى العوامل في يقظة الرُّوح الوطنية. ولعلَّ فيلسوفَنا أخلد في عالم الوطنية منه في نطاق الفلسفة، فأكثر مواطنيه لا يذكُرون منه إلا وطنيًّا يشتعِل حماسةً لبلدِه وأهله. وقرَّاء «النداءات» الوطنية أضعاف قرَّاء «أساس علم المعرفة».
وكان «فخته» رجلًا ذا شخصيةٍ قويةٍ ممتازة وعزمٍ ثابت، وقد أوتي بلاغةً ساحِرة، وجَودةً في الإلقاء، حتى إنه كان يُشعِل في صدور سامعِيه نارًا إذا ما خطبَهم في موقف وطنهم السياسي، كما كان طلابُه يتأثَّرون بمحاضراته تأثُّرًا عميقًا لما في عباراته من حلاوة البيان، وحُسن الإلقاء. وقد قال عنه «كارليل»: «يندُر بين الناس من يفُوق «فخته» فيما يُوحي من إعجابٍ به. فقد تكون آراؤه صحيحةً أو باطلة، ولكن شخصيته كمُفكر لا يجحَدُ تقديرها إلا من لم يُحسن فهمَها.»
أما فلسفة «فخته» فكثيرًا ما تُقسَّم إلى فترتَين: فلسفته وهو في يينا، وفلسفته وهو في برلين. ولقد ذهب بعض المؤرِّخين إلى أنَّ في فلسفة الفترة الثانية ما يُناقِض آراءه في الفترة الأولى، ولكن يظهر أنَّ كل ما هنالك من خلافٍ بين إنتاج الفترتَين هو ما امتازت به مؤلَّفاته التي أخرجَها في برلين من طابعٍ شعبي، وليس فيما عدا ذلك شيءٌ من تناقُضٍ في الرأي والمذهب.
وقد يكون خيرًا من ذلك التقسيم الزَّمني أن نُقسِّم فلسفته إلى نظرية وعملية؛ فقد كانت حياة الوعي كلها عند «فخته» تتألَّف من فكرٍ وعمل، فليس للعالَم معنى إلا ما يراه الإدراك، وليس لهذا الإدراك من معنًى إلا ما يبدو فيما تأتي به الإرادة من عمل.
وفلسفة «فخته» مثالية ذاتية محْضة، أو بعبارةٍ أخرى إنَّ كلَّ ما هو موجود هو ذَواتنا، ولا شيء غير ذلك، وكل معرفتنا هي معرفة ذواتنا، وأما سائر الحقائق التي نصادفها في الكون فإنما هي من خلق الذات وإنتاجها، أعني أن الحقائق التي نراها في التجربة الخارجية إنْ هي إلا نتائج لإدراكنا لذواتنا لا أكثر، فهي لا تُوجَد إلا بالنسبة للكائن المُفكر وحده، وليس لها وجود مُستقل عنا، وعمل الفلسفة هو شرحها وتعليل حدوثها، ومن هنا أطلق «فخته» على كتابه الذي ضمَّنه مذهبه اسم «علم المعرفة»؛ لأنه لا يبحث ككل علمٍ آخر في أشياءٍ بعَينها، ولكنه يتناول بالدرس أساس المعرفة ذاتها بصفةٍ عامَّة.
ويحسُن بنا قبل أن نبسط فلسفة «فخته» أن نرُدَّها إلى أصلِها الذي نبتَتْ منه، وأن نُشير إلى غايتها التي تقصد إليها.
فأما جذورها فقد نبتَتْ من فلسفة «كانْت» التي يرى «فخته» أنها وإن كانت تحوي نظرةً جامعة شاملة للكون، إلا أنها تحتاج إلى شيءٍ من التنظيم والإصلاح، إذ إنه قد خلَّف وراءه مصدرَين للمعرفة مُتناقضَين مُتعارضَين: أحدهما في العقل، والآخر في الخارج، ذلك أنَّ «كانْت» علَّل حدوث المعرفة بتأثير الشيء الخارجي في نفس الإنسان، مع استدراكه بأنَّ «الشيء في ذاته» فوق مُتناوَل الإدراك، ولا يدخُل في نطاقه، أو بعبارةٍ أخرى فإنَّ المعرفة عندَه ترجِع إلى تأثير اللاذات في الذات، فلاحظ «فخته» أنَّ هذه اثنينية يجِب أن تزول، إذ لا ينبغي أن نشطُر الحقيقة شطرَين مُستقلًّا أحدهما عن الآخر: ذات، ولا ذات، أو عقل في الداخل وشيء في الخارج، وتناول هذَين الطرفَين ليمحو ما بينهما من خلاف، ولكن كيف السبيل إلى هذا التوفيق؟
تلك هي فلسفة «فخته» موجَزة مُجملة، وسنعمد الآن إلى شرحِها في شيءٍ من التفصيل.
-
(١)
فشرْط المعرفة الأساسي هو أن تقرِّر الذات وجودها، وهي ما يُسمَّى بمبدأ الذاتية Identity، والذاتية هذه بديهية عقلية لا يُمكن أن تُقام عليها البراهين، ومثالها قولك ١ تساوي ١، أو «أنا هو أنا.» وإذن فالأساس الأول للإدراك هو أنْ أُدرك وجودي وأُقرِّر ذاتي، ويستحيل أن يكون ثمَّة من إدراك إلا إذا بدأت الذات بتقرير نفسها كحقيقةٍ واقعة.
-
(٢)
ولكنك لا يمكن أن تُقرِّر ذاتك إلا إذا قرَّرتَ إلى جانبها اللاذات، مع أن هذه تُنافي تلك، فالتسليم بوجود اللاذات (أي ما ليس بنفسٍ؛ ما ليس «أنا») بديهية عقلية كذلك لا يمكنك أن تُعلِّلها، ولكنَّك تعلَم عِلم اليقين أنك بمجرَّد التفكير في نفسك، فإنك لا بدَّ أن تفكر في لا نفسك أيضًا، وهذا ما سمَّيْناه بالتبايُن.
-
(٣)
ولكنَّ هنالك إلى جانب ذَينك الطرفَين المُتعارضَين — تقرير الذات واللاذات في آنٍ واحد — عملًا ثالثًا هو التأليف بينهما، فمن المعلوم أنه بمقدار ما تثبُت اللاذات تنتفي الذات، ولكن مع ذلك لا يمكن إثبات اللاذات إلا في داخل الذَّات نفسها — أي الإدراك، أو العقل، أو الوعي — وإذن فالذَّات في حقيقة الأمر لا تنتفي بثبوت اللاذات، فكيف نتخلَّص من هذا التناقُض في القول؟ كيف نُفكِّر في الذات واللاذات، في الحقيقة واللاحقيقة معًا في آنٍ واحدٍ دون أن يهدِم أحدهما الآخر مع أنَّ أحدَهَما لا يثبُت ويتقرَّر إلا على حساب الآخر؟ يقول «فخته» إن تفسير ذلك هو أن كلًّا من النقيضَين يضع لزميله القيود التي يُحدِّده بها، بل لا يمكن لأحدهما أن يكون إلَّا بهذه الحدود التي يُقيِّده بها مُعارِضه، فالذات لا تُقرِّر نفسها وتشعُر بوجودها إلا إذا حدَّدتْها اللاذات، واللاذات لا يتمُّ لها وجود إلَّا إن حدَّدتْها الذات، وهذا ما سمَّيناه بالتأليف.
ويجِب أن يحذَر القارئ من أن يفهم أن الذات التي يقصدها «فخته» ذات زيد أو عمرو من الناس، إنما يريد بها الذات الكُلية الخالصة، أعني القدْر المشترك بين الجميع، إذ هو عنصر واحد مُتشابه في جميع الأفراد.
لقد ذكرْنا في العملية الثالثة — عملية التأليف — (١) أنَّ الذات تُحدد اللاذات، (٢) وأنَّ اللاذات تُحدد الذات … ونُضيف الآن أنَّ من تأثير اللاذات في الذات تَنتُج الطبيعة كلها كما نصوِّرها لأنفسنا، كما ينشأ من ردِّ فعل الذات على اللاذات كل القوى العقلية والنظم الأخلاقية التي للإنسان — وتشمل هذه الأخيرة النُّظم العائلية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية — ومعنى ذلك بعبارةٍ أخرى أنَّ الذات باعتبارها محدَّدة باللاذات فهي نظرية، ثُم هي عملية باعتبارها محدِّدة للاذات، وبذلك يتكوَّن لدَينا شطرا عِلم المعرفة: النظري، والعملي، وهما القِسمان اللذان تنقسم إليهما فلسفة «فخته».
(١) علم المعرفة النظري
يُلقي «فخته» في القسم النظري من فلسفته هذا السؤال: ماذا نعني بقولِنا إنَّ الذات تُقرر نفسها بتحديد اللاذات لها؟ إنه لا ينبغي لنا أن نتصوَّر أنَّ الأمر يقف عند حدِّ تحديد اللاذات للذات، وإلا كانت الذات قابلةً منفعلة باللاذات، ونكون بذلك قد أخذنا بالرأي القائل: إن الذات تحصُل على كل ما بها من صُوَر بفعل الأشياء الخارجية، وهي قابلة فقط لا حول لها ولا قوة، فذلك هو زعم المذهب الواقعي الباطل الذي يُفسِّر تجارب العقل كلها بأنها نتيجة لتأثير الأشياء (اللاذات)، وهذا المذهب ينتهي إلى نتيجةٍ خطيرة هي أنَّ «الشيء» الخارجي وحدَه هو الذي يتمتَّع بالوجود والفاعلية، ولا فاعلية للذَّات ولا وجود. كما أنه ينبغي من جهةٍ أُخرى ألا نتوهَّم أن الذات حين تُقرِّر نفسها تفعل ذلك على أنها هي الحقيقة كلها، وأنَّ كل ما بها من صُوَر وآثار لم ينشأ إلا من خلق الذات نفسها، وأنه ليس إلا أعراضًا تولَّدت منها كأحلام النائم، فذلك هو المذهب المثالي الذي لا يقلُّ خطلًا عن المذهب الواقعي، وكلاهما لا يُفسِّر إدراك الإنسان … ولذا يتقدَّم «فخته» محاولًا أن يُوفِّق بين هذين الطرفَين المُتباعدَين، وأن يدمجهما في رأيٍ واحد، فيقول إنه لا الذات وحدَها هي أصل اللاذات ومصدره، ولا اللاذات (الأشياء) وحدَها هي التي تعمل وتؤثر في الذات القابلة، بل إنَّ الجانبَين ليتقابلان في وحدةٍ عُليا، ومن هنا كان «فخته» كثيرًا ما يُسمِّي فلسفته بالفلسفة «الواقعية المثالية».
يقول «فخته» إنَّ للذات ضربَين من الفاعلية: الأولى هي الفاعلية اللانهائية للذات التي تريد أن تنطلِق في اللانهاية، والثانية فاعلية أخرى وظيفتُها أن تقِف سدًّا حاجزًا يحدُّ من الذات اللانهائية فلا يدَعها تنطلق كما تبغي، فإذا ما اصطدمت الذات اللانهائية عند انطلاقها بذلك الحاجز وثبَتْ راجعةً إلى نفسها، ورجوع فاعلية الذات إليها مرة ثانية يجعلها تشعُر بوجود حدٍّ يحُول دون لا نهائيتها، ولو لم يكن ذلك الحاجز لما وَجدت الذات شيئًا تُمارس فيه فاعليتها، وسترى أن هذا الرأي عند «فخته» هو أساس الحياة الأخلاقية، إذ لو لم يكن هناك مجهود من الإنسان وموانع حائلة في الخارج، أعني إذا لم يكن ثمَّة ما نُقاومه ونُغالبه، ثم نقهَره آخِر الأمر ونتغلَّب عليه، لما كان في مُستطاع الذات أن تُقرِّر وجودها.
إذن فالذات تخلق لنفسها فاعليةً أخرى تُعارضها (ويسمِّي «فخته» هذه الفاعلية المقاومة بالخيال المُنتِج) وهي تفعل ذلك؛ لأنها لا تتمكَّن من تقرير نفسها إلا بوجود الموانع والعراقيل التي تعترِض سيرَها فتبذُل فيها مجهودها، وعلى ذلك تكون فاعلية الذات مركَّبة من عنصرَين متضادَّين: طارد وجاذب، فالطارد يحاول ما استطاع أن يسبَح في اللانهاية، والجاذب يسعى جهدَه في الاتجاه نحو الذات والعودة إليها، وعودة الذات بعد خروجها هي التي تُوهِمُنا أن ذلك الحاجز الحائل (لاحظ دائمًا أن هذا الحاجز معناه الأشياء الخارجية أي الطبيعة) له وجود حقيقي مع أنه في الواقع ما هو إلا خلْق خيالنا المُنتج. نعم ليست الأشياء إلا صورًا وخلجات أنشأتْها الذات إنشاءً لكي تُقرِّر بها نفسها بما تجِد فيها من منعٍ وحيلولة … وهنا يبدأ «فخته» في شرْح وظائف العقل النظري، فيُبيِّن المراحل التي ترتفع بها الذات من مرتبة اللاشعور وعدَم التحديد إلى مرتبة إدراك الأشياء إدراكًا شعوريًّا مُحدَّدًا، ثُم إلى الشعور الكامل بنفسها، وكل هذه المراحل إنما تنشأ نتيجةً لتجديد اللاذات للذات، ولنذكُر مرة أخرى أنَّ كلَّ هذه العملية تتمُّ في الداخل، وليس هناك خارج الذات من شيء.
«والخيال المُنتِج» الذي يُقدِّم لنا صورة الأشياء التي يُخيَّل إلينا أنها موجودة في الخارج، فكل مرةٍ تنطلِق فيها فاعلية الذات، وتصطدم بحاجز الخيال المُنتِج وتعود إلى نفسها ثانية، نقول إن كل دفعةٍ من هذه العملية المزدوَجة تُحدِث فينا طائفةً من الصور الذهنية، ولكن تلك الصور الذهنية تكون في أول الأمر أدنى درجات الإدراك، وهي اللاشعور، وهي مرتبة لا يزيد فيها الإدراك عن مجرَّد الإحساس أو الوعي الذي لا تمييز فيه، ثم ينتقل إلى المرتبة الثانية، وهي مرحلة الإدراك الحسِّي التي تُفرِّق فيها الذات بين نفسها وبين الشيء الذي تشعُر به وتُحسُّه، أعني أنَّ الإحساس المُبهَم يتحوَّل إلى معرفةٍ بشيءٍ مُعيَّن له مكان وزمان معروفان، ثم بعد ذلك يتحوَّل هذا الإدراك الحسِّي نفسه إلى فكرةٍ مُعيَّنة في العقل، وبعدئذٍ تأتي المرحلة الأخيرة، مرحلة التأمُّل المجرد، حيث يتجرَّد الإنسان من الأشياء جميعًا ويصِل إلى شعورٍ كامل بذاته.
وبذلك ينتهي «علم المعرفة النظري» بعد أن بَيَّن لنا المراحل التي يجتازها الإدراك في تكوينه، وهي مراحل جاءت — كما قُلنا — نتيجةً ضرورية لتحديد الذات باللاذات … وهنا ينشأ لدَينا سؤال آخر: لماذا تحرص الذات على ضبط فاعليتها؟ لماذا ترفُض أن تترك نفسها تنطلِق إلى اللانهاية فتُنشئ لنفسها من نفسها حاجزًا يصدُّها ولا يحدُّها، ولا يُمكِّن فاعليتها من الإفلات؟ والجواب على هذا السؤال هو الشطر الثاني من فلسفة «فخته».
(٢) علم المعرفة العملي
فقد رأيْنا في علم المعرفة النظري أن وجود الأشياء كلها، بل وجود الفكر نفسه، مُتوقِّف على تقييد فاعلية الذات، فبهذا القَيد وحدَه تمَّ كل ما لدَينا من إدراك ومعرفة، ولو كانت فاعلية الذات اللانهائية حُرة مُطلقة من كل تحديدٍ لَما كان هنالك فكر ولا عالم موضوعي على الإطلاق. ولكن نعود فنسأل: لماذا أقامت الذات لنفسها ذلك السدَّ الحاجز الذي يُعارض فاعليتها الذاهبة إلى الخارج؟ قد تجيب بأنَّ الذات إنما هيَّأت لنفسها ما يُقيدها لكي تصِل إلى الوعي والإدراك؛ إذ بغير تلك المقاومة لا يكون إدراك ولا تكون طبيعة، ولكن لماذا يجِب أن يكون ثمَّة إدراك وطبيعة؟ ما الذي أوجب هذا السدَّ الحاجز الذي يحدُّ من فاعلية الذات اللانهائية؟
يقول «فخته» إن ما أوجب ضرورة الإدراك وضرورة وجود العالم هو شيءٌ واحد، وهو أن يؤدي الإنسان واجبه! فقد خُلِقت ذرَّاتنا، أو قُل عقولنا الواعية لكي تكون آخِر الأمر إرادةً عاملة … إن الذات تخلُق العالم لا من أجل العالَم في ذاته، ولكن لكي تستطيع أن تُحقق نفسها وتُقرِّر وجودها بانتصارها على هذا العالم، وإذن فسبب وجودنا هو أن نبذُل مجهودنا حتى نُحقِّق أنفسنا، وحتى نتمكَّن آخِر الأمر من التغلُّب على قيود اللاذات أي العالم الموضوعي، عالم الأشياء والحوادث. فليس العالم إلا ميدانًا خُلق لكي تقوم فيه الذات بواجبها المفروض، إنه لم يُوجَد إلا لكي نستطيع أن نؤثِّر فيه ونتغلَّب عليه، فسبيل تقرير الذات هي إرادتها، وأما هدفها الذي نقصد إليه فهو الحُرية التي تظفر بها بفوزها على ما وضعتْه أمام نفسها من قيود … فلو سأل الآن سائل: ما هي «الأشياء في ذواتها» التي فرَض وجودها «كانْت»؟ أجبْناه: إنها ليست «أشياء في ذواتها»، ولكنها أشياء لنا ومن أجلِنا.
يقول «فخته» إنَّ الذات لا تشعُر بوجودها إلا بمقدار ما هي قوَّة مجاهدة تُغالِب قيود العالم، أو بعبارةٍ أخرى إلَّا بمقدار ما هي «إرادة»، وإذن فرسالة الإنسان هي هذه: «حقِّق نفسك وحقِّق الغرض من وجودك.»
وبديهيٌّ ألا تكون نغمتُه فلسفةً للطبيعة؛ لأنه لا يعترِف بوجود شيءٍ موضوعي وجودًا حقيقيًّا، فالطبيعة عندَه هي تلك اللاذات التي لم تنشأ إلا لكي تتغلَّب عليها الذات، ومعنى ذلك أنه لا يرى الأشياء أغراضًا في ذاتها، ولكنها وسائل فقط تُمكِّن الإنسان من تحقيق الغاية الأخلاقية من وجوده، وهنا ينتقِل «فخته» إلى تطبيق مبادئ «علم المعرفة» على شئون الحياة العملية، وبخاصَّة فيما يتَّصِل بنظرية «الحقوق والواجبات».
إن الإنسان ليعلم أنه حُر، ويعلم كذلك أنه لا يكون كائنًا حرًّا فعَّالًا إلا إذا سلَّم بوجود كائناتٍ أخرى فعَّالة حُرة، أعني أنه وإن كان شعور الفرد بنفسه شرطًا أساسيًّا للإدراك، إلا أن هذه الفردية من ناحيةٍ أُخرى لا يُمكن إدراكُها إلا ومعها كثرة من الأفراد. ولقد اختصَّت كل ذاتٍ بجزءٍ من العالَم ليكون ميدانًا لحُريتها، والجسم هو الأداة التي تتَّخِذها الذات لمباشرة حُريتها في ميدانها الخاص. وبديهيٌّ أنه لا بدَّ لمجموعة الأفراد من قانون يُنظم العلاقة بينهم حتى لا يتجاوز فرد نطاقَه مُعتديًا على حرية سواه. ويقول «فخته»: إن واجب كلِّ فردٍ أن يُعامل الناس ككائناتٍ لهم نفس ما له من أغراض، وعنده مهمة الدولة تنظيم ما بين الأفراد، وهي لم تنشأ إلا لحماية الفرد، وتهيئة أسباب سعادته، ثم يقول: إن الغرَض الأسمى من الدولة هو أن تعمل على التقليل من شأنها (لأنه يعتقد أنَّ الأخلاق إذا سمَتْ فلا يكون الناس بحاجةٍ إلى القانون).
- (١)
الحقوق الأولية، وهي حقوق الأشخاص باعتبارهم أفرادًا، وهي تشمل:
- (أ)
الحرية الشخصية.
- (ب)
حقوق المِلْكية.
- (أ)
- (٢)
الحقوق الإلزامية، وهي قوانين العقوبات التي صِيغت لتُعالج اغتصاب حقوق الفرد وحُريته. وتقتضي هذه الحقوق الإلزامية أن يتمَّ بين الناس تعاقُد مُشترك، ومن هنا ينشأ الضرب الثالث من الحقوق.
- (٣) الحقوق السياسية، والغرَض منها:
- (أ)
ضمان الحقوق الفردية.
- (ب)
سَنُّ القوانين لخير الجماعة.
- (أ)
ومما هو جدير بالملاحظة أن هذه الأفكار تنتهي آخِر ما تنتهي إليه إلى النظام الاشتراكي الذي يُحتِّم أن تتَّخِذ الدولة ما يكفُل لكل إنسانٍ أن يعيش بعمله، وهو ما يُسمَّى بمبدأ «الحق في العمل». ويستخرج «فخته» من هذا المبدأ مثَلَه الأعلى في «الدولة الاشتراكية» باعتبارها الدولة الكاملة التي تسيطر على الصناعة المحليَّة كلها، وعلى التجارة الأجنبية بأسرِها، لكي تُهيِّئ لكل مواطنٍ عملًا يعمله، وأجرًا يتقاضاه.
لقد رأيتَ فيما مضى كيف استنبط «فخته» من «علم المعرفة» الأساس الذي يجِب أن تقوم عليه علاقة الفرْد بغَيره من الأفراد، وها نحن أولاء نُجْمِل لك كيف اشتقَّ من «علم المعرفة» نظريَّتَه في الأخلاق، فلقد مرَّ ما ذهب إليه «فخته» من أن جوهر الذات نشاط وفاعلية، أعني أنَّ أساس وجودها جهاد في سبيل الحُرية مما فرضتْه على نفسها من أغلال. ولقد ذكرْنا كذلك أن الذات بغير هذه المقاومة والمعارضة التي تضعها هي في سبيل نفسها تفقد نفسها في اللانهاية، وتظلُّ بغَير وعيٍ وإدراك، وأنها تستخدِم إرادتها للتغلُّب على ما يعترِضها من مقاومة؛ لأنَّ وجود المقاومة معناه انتقاص من حُريتها، فهي تُواصِل سعيَها لتُقرِّر نفسها وتظفر بالحرية الكاملة. والذات ككائنٍ شهواني (أعني الإنسان) يميل إلى اللذَّات الجسدية والرغبات المادية، فإنَّ المقاومة التي يقابلها الكائن العاقل في مثل هذه الحالة هي غرائزه الدُّنيا وشهواته الطبيعية التي تُغريه بإشباع لذَّته وشهوته دون أن تستحِثَّه إلى الحرية، ولذا كان في الإنسان مجموعتان من الدوافع: دوافع خالِصة وأخرى طبيعية؛ فالأولى تميل إلى تحقيق وجوده، والثانية تنزِع إلى إشباع لذَّته، وقد يبدو لك أن هذَين الضربَين من الدوافع مُتعارضان، ولكنك لو عَلوْتَ بنظرك فنظرتَ إليهما من وجهةٍ أسمى لألفَيتَهما شيئًا واحدًا، فلا بدَّ من الرغبات الدُّنيا والميول الشهوانية إلى جانب الدوافع العُليا،؛ إذ الحياة الأخلاقية حياةُ تَرَقٍّ ونمو، فهي تتكوَّن من الصعود التدريجي حتى يبلُغ الإنسان مرتبةً يتخلَّص فيها من شهوته، ويتحرَّر من غرائزه المادية، ولكن ما دامت الذات نهائيةً فيستحيل عليها تلك الحرية المنشودة، ومن هنا كان الغرَض الذي يقصد إليه الكائن العاقل لا يتحقَّق إلا في اللانهاية، وهي غاية مُستحيلة التحقيق، ولذلك كان كلُّ مجهوده أن يقترِب منه بقدْر المُستطاع (لا تنقطِع عن أداء واجبك) هذا هو القانون الأخلاقي في أوجَزِ عبارة، فيجِب على الإنسان أن يؤدي واجبه من أجل الواجب في ذاته، وألَّا ينساق لغرائزه وشهواته، فلكي تكون فاضلًا لا تنتظر قانونًا يُفرَض عليك من الخارج لتطبيقه، بل اتَّبِع قانون وجودك الداخلي الذي يُريدك على أن تؤدِّي واجبك كإنسان.
هكذا كان قانون الأخلاق عند «فخته» هو الآمِر الوحيد الذي لا ينبغي أن يتحكَّم سواه في تصرُّفات الإنسان، وبهذا أصبح الدِّين عنده ثانويًّا، كما أنه لم يفسح في فلسفته مجالًا لإله، إذ القانون الأخلاقي الذي يسير العالَم بمُقتضاه هو القُدسيَّة الوحيدة التي يحقُّ الإيمان بها، أما الفكرة القائلة بوجود إلهٍ مُستقلٍ عنا وعن العالم الخارجي فيعتبِرُها «فخته» باطلة مُتناقضة مع القانون الأخلاقي الذي أخذ به، وهو نظام أخلاقي لا تكتسِب الحياة وجودها إلا بوجوده، بل الحياة بأسرِها هي عبارة عن وجوده، فليس لله وجود إلا في إدراكنا له، ونحن إنما نتَّجِه صوب الله، بل إنَّنا لنَحيا حياة الإله إلى حدٍّ ما بما نبذُله من مجهودٍ في أداء الواجب، وفي تحقيقنا للخير والحق والجمال. فالدين الصحيح هو تحقيق الحق (أي الذات).
ولكن «فخته» عاد فاتَّجَه إلى النزعة المسيحية في النظر إلى الحياة في كتُبه الأخيرة. وبخاصةٍ في كتابه «الطريق إلى حياة النعيم»، فهو يقول في تعريف الذات المُطلقة بأنها إرادة الكون الأخلاقية، وهي تحتوي كل الذوات الفردية، والله — من تلك الذات المُطلقة — حياتُها، وهو يُدرِك نفسه بالتعبير عن نفسه في الأفراد … ثم أخذ «فخته» يستبدِل في أُخرَيات أيَّامه بصرامة القانون الأخلاقيِّ الرقَّةَ والعطف والحُبَّ التي ينادي بها الدين، وأصبحت المسيحية في رأيه، كما تتمثَّل في المسيح، هي صورة الحقيقة السامية، وغرض الإنسان الأعلى هو أن ينمحي في الله بتفانيه وإنكاره لذاته.
(٣) المثالية الموضوعية Objective Idealism
(٣-١) شِلِنْج Shelling
كانت فلسفة «فخته» طريقةً شائقة جذَّابة، فتدفَّقت إليه جموع زاخرة تُنصت إلى محاضراته التي ألقاها في يينا وفي برلين، ولكنَّ فلسفته رغم ذلك كله لم تظفر آخِر الأمر إلا بنفرٍ قليلٍ من المؤيدين والأشياع، إذ كانت مِثاليته التي أخذ بها ودعا إليها مُسرفةً في النزعة الذاتية، مُغالية في حصر وجهة نظره في جانبٍ واحدٍ من جوانب الحقيقة، فعجز عن إشباع ما تتُوق إليه الفلسفة من شمول النظر الذي لا يدَع شيئًا مما تأتينا به التجربة إلا تناوَلَه بالشرْح والتعليل. أما أن يذهب «فخته» إلى أنَّ العالَم لم يُوجَد إلا لكي يكون ميدانًا لرياضة الذات، وأن الحياة كلها ليست إلا سلسلة من العوائق التي فرضها الإنسان على نفسه؛ لكي يُثبِت وجوده وقوَّته بهزيمتها، ففي ذلك ما فيه من تناقُضٍ وقصور. نعم إنَّ «فخته» استطاع أن يحلَّ إشكال «الشيء في ذاته» الذي كان زَعْم وجوده نقصًا في فلسفة «كانْت»، ولكنه فعل ذلك على حساب الحقيقة كلها. فإنْ كانت الذات كما يقول «فخته» عاجزةً عن إدراك نفسها إلا عن طريق اللاذات، مع أن اللاذات ليست في واقع الأمر إلا ثمرة من ثمار الذات ونتيجةً لفاعليتها، إذن فلا مِراء في أن الذات مُعتمِدة في وجودها على اللاذات، فإذا أثبتَّ الأولى وجَبَ عليك أن تُثبِت الثانية أيضًا، ولو أنكرتَ الأولى كان لزامًا أن تُنكِر معها الثانية؛ لأنه إذا انمحت اللاذات لكان حتمًا أن تنمحي كذلك الذات من صفة الوجود.
لهذا نشأت الحاجة إلى فلسفة «شلنج» التي جاءت فكمَّلت مثالية «فخته» الناقصة؛ لأن الطبيعة لا يُرضيها من غير شكٍّ أن تُعَدَّ جزءًا من اللاذات وكفى، وهي إنما تطلُب ما يُبرِّر وجودها من حيث هي عنصر كالفِكر سواءٌ بسواء. هذا الإهمال من «فخته» للطبيعة وحصرها في أضيَقِ حيِّزٍ هو الذي دعا «شلنج» إلى القول بأنَّ العقل يستطيع أن يجِد نفسه في الطبيعة كما يجِدها في الذات تمامًا. ألم يقُل «فخته» إن المعرفة وحدَها هي التي تتمتَّع بالوجود دون الأشياء نفسها، وإنَّ كل ما نحن مُدرِكوه هو تفكيرنا ليس إلا؟ فقال «شلنج» إنه لو كانت هناك معرفة لوجَب حتمًا أن يكون ثمَّة شيء يُعْرَف، أو بعبارةٍ أخرى، إذا سلَّمْنا بوجود المعرفة للَزِم أن نُسلِّم بوجود الكون. وعلى ذلك فهو يتناول مبدأ «فخته» القائل: «إنَّ الذات هي كلُّ شيء.» فيُحوِّره لكي يلائم وجهة نظرِه فيجعله «كل شيء هو الذات.» وهو يريد بهذه العبارة أنَّ عُنصرًا بعَينه يتجلَّى في العالمَين: الطبيعي والروحي على السواء، «فالطبيعة عقل منظور، والعقل طبيعة مُختفية.»
وليس من اليسير أن نُقدِّم للقارئ صورةً مُختصرة لفلسفة «شلنج»؛ لأنَّ مؤلفاته لا تكوِّن وحدةً فلسفية، ولكنها سلسلة من الآراء تُصوِّر المراحل العقلية المُتعاقِبة التي سار فيها «شلنج». ولقد أجمع مؤرِّخو الفلسفة على أن يقسِّموا فلسفته تقسيمًا زمنيًّا، فمرحلة كان فيها متأثرًا «بفخته»، ومرحلتان برزَتْ فيهما آثار «سبينُوزا وبوهمه» واضحةً جلية، ورابعة اصطبغ فيها بمسحةٍ صوفية.
(١) الفترة الأولى: «شلنج» تلميذ «لفخته»
استهلَّ «شلنج» حياته الفكرية تلميذًا «لفخته»، وتابعًا من أتباعه، يرى أنَّ الذات هي مبدأ الفلسفة الأسمى، وأنها تُقرِّر نفسها بالتغلُّب على القيود التي أنشأتها لنفسها، ولكن «شلنج» خطا في كتابه الذي ألَّفه في الذات خطوةً نحو التفكير في ذاتٍ مطلقةٍ تضمُّ بين دفَّتَيها الطرفَين المتعارضَين: الذات واللاذات، فهو يعتقد اعتقادًا جازمًا بوجود العالم الموضوعي إلى جانب العالم الذاتي، وعندَه أنَّ كليهما صادر من أصلٍ بعَينه، فنحن لا نستطيع أن نُدرك أنفسنا إلا إذا أدركْنا وجود شيءٍ خارج أنفسنا، كما أنه لا يُمكننا أن نُدرك وجود شيءٍ خارجي كائنًا ما كان بغَير أن نربط علاقةً بينَه وبين وعينا، وإذن فالنتيجة أنَّ كليهما موجود، وإنهما ليسا مُنفصلَين، بل هما مُتَّحِدان مندمجان في أصلٍ أسمى منهما، هو مبدأ الفلسفة الحق، وأعني به «الذات المطلقة»، ولا يتاح للإنسان أن يفهم ذلك الكائن المُطلق إلا بإلهام البصيرة الذي يقول «شلنج» إنها مبثوثة في الناس أجمعين، وهو هنا يُعارض «كانْت» فيما ذهب إليه من أنَّ معرفة البشر محدودة بظواهر الأشياء، فيقول: إن للناس هذه الملَكة العجيبة التي يُمكنهم بها أن يشهدوا الذات المُطلقة التي هي أساس كل حقيقةٍ ومصدر كل عِلم.
(٢) الفترة الثانية: فلسفة الطبيعة والمثالية السامية (١٧٩٦–١٨٠٠م)
وفي هذه المرحلة ترى «شلنج» يُكمِل مذهب «فخته» في الذات، بأن يُبيِّن أن الطبيعة بأثرها يمكن اعتبارُها وسيطًا ترتفع به الروح إلى مرتبة إدراك نفسها، وبذلك تُكمِل المثاليةُ الموضوعيةُ المثاليةَ الذاتية.
ففي هذه الفترة يبدأ «شلنج» في مخالفة «فخته» بتكوين فلسفةٍ جديدة، خُلاصتها أن الطبيعة ليست أقلَّ من العقل في أنها صورةٌ تتجلَّى فيها الذات المُطلقة. فالمادة والعقل كلاهما جانبان لوحدةٍ أسمى، إذ الطبيعة روح مرئية والروح طبيعة خفيَّة، والأولى تُكمل الثانية. فالذات ترى نفسها في الطبيعة، كما تُدرك الطبيعة نفسها في الروح (أي الذات أو النفس أو العقل)، فلو تأمَّلْتَ صنوف المادة لرأيتَ كلَّ شيءٍ فيها يرمز إلى الروح، وكل نبات وكل حيوان مهما دنَتْ مرتبته في سُلَّم الكائنات هو في حقيقة أمره خفقة روحية قد وجدَت سبيلها إلى الخارج، بل الكون بأسرِه عبارة عن كائن عضوي واحد يقَع في مراتب تختلف علوًّا وسفلًا، والغرَض من الطبيعة هو أن تبرُز فيها الروح وتتجلَّى، وهي إنما تصِل إلى ذروتها في الإنسان، ومعنى ذلك كله أنَّ الطبيعة والروح جانبان لحقيقةٍ واحد. ومن أجل هذا يرى «شلنج» أن معرفة الإنسان تتألَّف من الفلسفة والفيزيقا «الطبيعة»، فالأولى تبدأ دراستها بالبحث في الفكر، ثم تُحاول أن تخلُص منه إلى الطبيعة، والثانية تبدأ سَيرها من الطبيعة لتشقَّ طريقها صُعدا إلى الفكر المُطلق.
-
(أ)
أما فلسفة الطبيعة، فتصوِّر لنا العالم العقلي فيما نراه في عالم الظواهر الطبيعية من أشكالٍ وقوانين، وإذن فموضوع تلك الفلسفة الطبيعية هو أن تستمِدَّ صورة العقل من الطبيعة.
والطبيعة في فاعلية دائمة ونشاطٍ مُتواصِل، وكل ما ترمي إليه هو الحياة، ولكنها تسعى إلى الحياة الكاملة، ولذا ترى العقل المبثوث في ظواهر الطبيعة يُجاهد؛ لكي يصعد من صورةٍ مادية دُنيا إلى صورةٍ أعلى فأعلى، حتى تبلُغ إلى مرتبة الكائن العضوي الذي يتمكَّن فيها من الإدراك، ويُقسِّم «شلنج» فلسفته الطبيعية إلى أجزاءٍ ثلاثة:- (١)
الطبيعة العضوية.
- (٢)
الطبيعة اللاعضوية.
- (٣)
التبادُل بين الطبيعتَين.
أما الطبيعة العضوية ففاعلية لا نهائية، وهي عبارة عن قابلية للإنتاج لا تنتهي، ونتيجة هذه الفاعلية المُنتِجة هي تكوُّن مخلوقاتٍ نهائية (هم الأفراد طبعًا)، ولكن الطبيعة لا تُعنى بهؤلاء الأفراد عنايتها بالجنس كله، وهي في فاعليتها المُنتِجة تحاول — ما وسعها الجهد — أن تسمُوَ فيما تُنتِج من صور، وأهم ما يُميِّز الطبيعة العضوية التناسُل والشعور، وكلما رجحت كفَّة الشعور في الكائن علَتْ منزلته في سُلَّم الكائنات.
وأما الطبيعة اللاعضوية فتدأب على مُعارضة الطبيعة العضوية ومقاومتها، وبينما تُنتِج هذه فلا إنتاج لتلك، فهذه الأخيرة كتلة من المادة يُمسك بعضها إلى بعض عوامل خارجية.
ولكن لمَّا كانت الطبيعة العضوية والطبيعة اللاعضوية لا يمكن لإحداهما أن توجَد مستقلةً عن قرينتها، فهما مُتَّصِلتان تؤثر الواحدة في الأخرى، هذا وإنهما لا بدَّ أن تكون الاثنتان كلتاهما قد صارتا عن أصلٍ واحدٍ مُشترك، هو مبدأ الحياة أو هو نفس العالم الذي تتلاشى فيه أوجه الخلاف بين الطبيعتَين.
- (١)
-
(ب)
وتُكمل فلسفة الفكر فلسفة الطبيعة، فكما أن هذه نظرَتْ إلى الطبيعة لتُصوِّر العقل، فتلك تبحث في الفكر لتبنِيَ الكون من وجهة نظر العقل، ويُقسِّم «شلنج» هذه الفلسفة الفكرية إلى ثلاثة أقسام:
- (١)
الفلسفة النظرية وموضوعها شرْح العالم الباطني للذَّات وتعليله، وعليها أن تُبيِّن المراحل التي يجتازها العقل وهي الإحساس، فالإدراك الحسِّي، فالتأمُّل.
- (٢)
الفلسفة العملية وهي تبحث في تصرُّف الذات وعملها، أعني في الإرادة التي تحاول أن تُحقق نفسها فيما يعمل الفرد والدولة.
- (٣)
فلسفة الجمال والفن، وهنا يقول «شلنج» إنَّ العقل لا يُحقِّق نفسه في أسمى صُوَرِه إلا في الفن، فبالفنِّ يصِل العقل إلى ما لم يستطِع تحقيقه بجانبه النظري أو بجانبه العملي؛ لأنَّ العقل يُدرك نفسه في الفنِّ إدراكًا كاملًا، فالفنُّ هو أساس الفلسفة، بل هو مرتبة فوق الفلسفة؛ وذلك لأنَّ الاندماج بين الذات والشيء يكون تامًّا مُطلقًا في آيات الفنِّ كالشِّعر والتصوير، فقد رأى «شلنج» في الإنتاج الفني مثلًا مُجسَّدًا لاتِّحاد ذات الفنان بموضوع فنِّه.
- (١)
(٣) الفترة الثالثة: اندماج الذات بالشيء
وهذا التقابُل الذي تراه بين الحقيقي والمثالي، أو بلفظٍ آخر بين جانب المادة وجانب العقل، أو بعبارةٍ ثالثة بين الطبيعة من ناحيةٍ والتاريخ من ناحيةٍ أخرى (الطبيعة هي مجموع الأشياء مُتَّصِلة، والتاريخ هو فعل العقل المُستمر)، نقول إنَّ هذا التقابل الذي تلمحه بين الجانب الواقعي والجانب المثالي من الحقيقة، ترى تقابلًا نظيرًا له في مراحل التاريخ نفسه، فالعالم القديم بما كان يسُود فيه من دياناتٍ طبيعيةٍ يُمثِّل الجانب الذي ترجح فيه كفة الطبيعة، بينما ديانة العالم الحديث هي المسيحية التي نُرجِّح فيها النزعة المثالية التفكيرية. ولو أنتَ أنعمتَ النظر في سير التاريخ ألفيْتَه قد اجتاز مراحل ثلاثًا: مرحلة الطبيعة التي وصلت إلى عنفوانها في الشعر الإغريقي والدِّيانة الإغريقية، ومرحلة الرُّكون إلى القدَر التي جاءت ختام العالَم القديم، ثم مرحلة الحِكمة الإلهية التي بدأت بالمسيحية، إذ أصبح الله موضوعيًّا لأول مرةٍ في التاريخ بأنْ تمثَّل في المسيح.
(٤) الفترة الرابعة
يميل «شلنج» في آخر مراحلِه الفلسفية إلى النزعة الصوفية مُتأثرًا بالأفلاطونية الجديدة، كما تأثر كذلك «بجاكوبي وبوهمه»، ولقد كتَب في هذه الفترة كتُبًا ثلاثة تمثِّل وجهة نظره حينئذٍ، وهي «الفلسفة والدين»، «مباحث في طبيعة الحرية البشرية»، «فلسفة الأساطير والوحي».
وهو يُعالج — في كتابه عن الحرية — العلاقة بين إرادة الإنسان وإرادة الله، فيقول: إن إرادة الله هي التي خلقَتِ الأشياء كلها بما في ذلك الإنسان، ولكن للإنسان جانبَين، أو إن شِئتَ فقُل: إرادتَين، فهو حيث عقله أداةٌ لإرادة الله العامة، أعني أنه — ككائنٍ ذي عقل — ينسجم مع إرادة الله، ولا يكون ثمَّة مِن تَضادٍّ. أما من حيث جانبه الطبيعي — أي جسده — فله إرادة خاصة به لا تسير مع إرادة الله في اتجاهٍ واحد، ومن هاتَين الإرادتَين المُتعارِضَتَين اللتين تتجاذبان الإنسان يقع الخير والشر، فرُجحان إرادة الإنسان الخاصة هو الشر، ولا يمكن لأحدٍ سوى الله أن يوحِّد بين الإرادة الفردية والإرادة العامة، ثم لا يستطيع الله أن يقوم بذلك التوحيد إلا إذا اتَّخذ لنفسه طبيعة الإنسان، ولقد شهِدْنا على مسرح التاريخ ما وقع بين الإرادة الفردية والإرادة العامة من صِراع، فجاء المسيح إلهًا في إنسان؛ لكي يُوفِّق بين الإرادة الفردية وإرادة الله، حتى تتَّحِد الإنسانية بالله.
(٤) المِثالية المُطلقة Absolute Idealism
(٤-١) هجل Hegel
إنَّ سلسلة التفكير التي سار فيها «كانْت»، ثم «فخته»، ثم «شلنج» قد بلغَتْ ذروتها في فلسفة «هجل»، إذ تناولت عناصر الفكر المختلفة: الذات والشيء، والفردية ووحدة الوجود — تلك العناصر التي عجز الفلاسفة السابقون عن التوفيق بينها توفيقًا تامًّا — فصهرَتْها جميعًا في وحدةٍ مُتماسِكة، ولقد عمَد «هجل» فيما قام به من توفيقٍ بين العناصر المُتعارضة إلى نَبذِ كل المبادئ التي قرَّرتْها الفلسفة في تاريخها الماضي قائلًا إنها وإن تكن أمورًا لا بدَّ منها لوحدة الفكر، إلا أنها ناقصة في حدِّ ذاتها.
ولقد وضع «هجل» نُصب عينَيه أن يتجنَّب ما وقع فيه سلفاه — «فخته وشلنج» — من تطرُّف ومُغالاة، فالأول ذاتي مُسرِف، والثاني موضوعي مُسرف، فرأى «هجل» أن يُصحِّح خطأ الاثنين فيُوحِّد بين عُنصري المعرفة اللذين تركهما «كانْت» دون أن يوفِّق بينهما، واللَّذَين تصدَّى للتوفيق بينهما «فخته وشلنج» ففشلا؛ لأنَّ كلًّا منهما أراد أن يتخلَّص من الإشكال بمَحو أحد العُنصرين، فأراد «هجل» أن يصِل بينهما في وحدةٍ ساميةٍ تؤلِّف بينهما في غير تناقُضٍ ولا تضاد.
•••
وفي عام ١٨٠٥م عُيِّن «هجل» أستاذًا في يينا، ولكنه لم يلبَث أن فقَدَ منصبه هذا بسبب الكارثة السياسية التي عصفتْ بألمانيا في ذلك الحين. وشاءت المصادفة أن يُكمل «هجل» كتابه المُسمَّى «عِلم تجسد الروح» في نفس اليوم الذي دارتْ فيه رحى الحرب في يينا. ولقد كان ذلك المؤلَّف أول كتابٍ من كتُبه الهامة؛ إذ وضَّخ فيه معالم فلسفته الخاصة. ولا بدَّ أن يكون صدور هذا الكتاب قد ساء «شلنج» وآلَمَه؛ لأنَّ «هجل» أخذ يسخَر منه في مُقدِّمته سخرًا رقيقًا، وقد كان ذلك موقفًا فاصلًا بين الرفيقَين الصديقَين، وموضوع هذا الكتاب الذي يكاد يكون على غموضه أروَعَ ما كتب «هجل» هو أن يُبرهن على أنَّ الفكر بحُكم طبيعته الموروثة يطرأ عليه عدَّة تحوُّلات متعاقبة تنتقل به من الإدراك العادي صاعدةً إلى موقف الفكر المجرد، وأنَّ الفكر وهو في طريقه إلى تلك الغاية يرى بجلاءٍ أنَّ المراحل المتوسطة التي يجتازها أثناء السير ضرورية لا بدَّ منها، لا باعتبارها مواقف يستريح فيها العقل أثناء رحلته، ولكن باعتبارها مراحل ضروريةً في حدِّ ذاتها، بغيرها لا يتمُّ التطوُّر المطلوب.
وكان «هِجِل» أثناء إقامته ببرلين يُحاضر في كل فرعٍ من فروع الفلسفة: في تاريخ الفلسفة، وفي فلسفة التاريخ، وفي فلسفة الحقوق، وفي فلسفتَي الفنِّ والدين، وقد نُشِرت محاضراته بعد موته مأخوذةً من مذكِّرات طلَّابه، وجُمِعت مؤلَّفاته كلها في ثمانية عشر مُجلدًا، ولقد ظفر «هِجِل» في الفلسفة بمكانةٍ ممتازة، وهو لم يستمدَّ شهرته من فصاحة الإلقاء وقوة الأسلوب كما كانت الحال في «فخته وشلنج»، بل كان — على النقيض من ذلك — ثقيل اللسان، غامض العبارة، مُرتبِك الإلقاء، وإنما جذَب طلَّابه إليه عاملٌ واحد، هو ما في تفكيره من قوَّةٍ وعُمق.
وبينا هو في ذروة مكانته وشهرته إذ فاجأه الموت بغتةً إثر إصابته بالكوليرا، فأسلم الرُّوح في الرابع عشر من نوفمبر سنة ١٨٣١م.
•••
لقد كان «المطلق» في أول أمره فكرة خالصة أزلية، ثم هبط إلى الطبيعة حيث تحوَّل إلى لا شعور، ثم عاد فاستيقظ في الإنسان، ثم أخذ يُحقق نفسَه فيما ينشأ في العالم من نُظم اجتماعية وفنٍّ ودين وعِلم، فازداد بذلك ثروةً وكمالًا، ثم عاد إلى نفسه آخِر الأمر مرةً ثانية.
- (١)
ولعلَّ أمْيَزَ ما تمتاز به فلسفة «هجل» رأيه القائل بأنَّ الحقيقة النهائية التي هي أساس الحقائق جميعًا هي العقل أو الروح، الذي لا يبلُغ مرتبة إدراك نفسه إدراكًا كاملًا إلا إذا اجتاز عدَّة مراحل سابقة واستوعَبَها في نفسه … إنَّ قوام الحقيقة هو الفكر، والفكر وحدَه، ولا بدَّ من تفسير كلِّ شيءٍ تفسيرًا عقليًّا، وليس هناك للحقيقة مقياس تُختبَر به سوى الفكر. لقد كانت الحقيقة والفكر عند هِجل — كما كانا عند أرسطو — عبارتَين مختلفتَين لمدلولٍ واحد، فالفكر هو صُلب الحقيقة، أو بعبارةٍ أخرى: الفكر كلٌّ يحوي كل الحقائق الصُّغرى … الفكرة والشيء الواقعي حقيقة واحدة، وليست كل تلك الحقائق الواقعة إلا كشفًا عن الفكرة وتعبيرًا لها.
- (٢)
وينشأ من ذلك مُميِّزٌ آخر لوجهة نظر «هِجل» وأعني بها رأيه بأنَّ «الفكر وحدة عضوية» هو وحدة ذات أجزاء مُنفصِل بعضها عن بعض، ولكنها في الوقت عَينه مُتصِلة مرتبطة، فأنت ترى الكل ممثَّلًا في كلِّ جزء، كما أن كلَّ جزءٍ موجود في الكل، ولكنَّ هذا الكلَّ المشتمل على أجزائه يكوِّن في النهاية بهذه الأجزاء نفسِها كائنًا عضويًّا مُتَّحِدًا، إذ لم توضَع أجزاؤه فيه وضعًا آليًّا (أي شيئًا إلى جانب شيء)، بل هو مجموعة مُتدرِّجة متماسِكة مرتبطة الأجزاء، وكل جزءٍ من الكل له عِلَّتُه التي تُبرِّر وجوده، بل التي تفرِض وجوده وتُحتِّمه، وكل جزء موجود من أجل الكل وبسببه، ولكن على الرغم من أنَّ الأجزاء كلها ضرورية لا بدَّ من وجودها، فإنها تقِف بإزاء بعضها موقِف الأرفع والأوضَع، والمراتب السُّفلى منها تنتقِل إلى العُليا، ولكنها لا تنمحي من الوجود في عملية الانتقال، بل هي موجودة مُتَّصِلة الحياة، وكل ما حدَث لها تحوَّل من صورةٍ سُفلى إلى صورةٍ عُليا: «إنَّ كِمَّ الزهرة يختفي إذا ما تفتَّحت الزهرة، ويُخيَّل إليك أنَّ بين الكِمِّ والزهرة شيئًا من التضاد، ثم تجيء الثمرة بعدئذٍ فتُعلن بوجودها أنَّ الزهرة صورة زائفة من صوَر وجود النبات، وهكذا تنتقِل حقيقة كل واحدةٍ منها إلى حقيقة الأخرى. وليست هذه الصُّوَر مُتميزة بعضها عن بعض فحسْب، بل إنَّ الواحدة منها لتسحَقُ الأخرى باعتبارها مضادَّةً لها، ولكن طبيعتها التي تسري فيها كلها تكوِّن منها دقائق من الوحدة العضوية التي تتآخى فيها فلا تُعارِض إحداها الأخرى، بل إنَّ الأمر بينها لا يقِف عند حدِّ عدَم التعارُض، ولكن كلًّا منها يكون لوجوده من الضرورة ما للأخرى تمامًا، وهذه المساواة في الضرورة تؤلِّف حياة الكل.» فمراتب الفكر إذن أجزاء مُتعاونة من مجموع الحقيقة، ولا يعرف منطق الوجود تعاقبًا في الأفكار، أي أنْ يكون بين الأفكار سابق ولاحِق، بل إنَّ كلَّ فكرةٍ تتضمن الأخرى، وكلها معًا — السابق منها واللاحق، السافلة منها والعالية — يحوي بعضها بعضًا … والتاريخ هو تجلِّي الحقيقة المُطلقة التي ينقطِع وجودها.
- (٣)
ويتبَع هذا مُميِّز ثالث، وهو أنَّ هذه الوحدة في الفكر إنما هي «وحدة بين أضداد» في الحياة العادية، وبالنسبة للعقل العادي أعني أنَّ العقل العادي يتوهَّم أن أجزاء الكل مُتناقِضة مُتعارِضة لا اتِّساق بينها ولا انسجام، وهو يقَع في هذا الخطأ؛ لأنه يرى الجزء فيحسَبُه كلًّا في حدِّ ذاته. ويقول «هجل»: إنَّ الناس قد درَجوا على أن يرَوا أجزاء الكل مُنفصلة، كل جزءٍ على حِدة، دون أن يربطوا بينها برباط الوحدة الشاملة لها جميعًا، والواقع أنه ليس ثمَّة جزء مُستقل بذاته، بل كل جزء لا بدَّ أن يتضمن في نفسه شيئًا آخر، والنظرية الجزئية دائمًا باطلة، ولا يمكن أن يتخلَّص الإنسان ممَّا قد يراه بين الأشياء من تناقُضٍ إلا إذا علا بنظره إلى مجموعة الحقيقة ككلٍ واحد مُرتبط الأجزاء مُتصل الحلقات، ولكنَّنا لا نستطيع أن نسمو إلى الحقيقة في كُلِّيتها تلك إلا إذا علِمنا بالجانبَين معًا، الجزء والكل، أما أن نُغالي في التمسُّك بإحدى الطرفَين على حساب الآخر، كأن تقول إنَّ الجزء وحدَه هو الموجود الحقيقي (أي إنَّ الفرد حقيقة مُستقلة في حدِّ ذاته دون أن تربطه بسائر الأفراد صِلة ضرورية، بحيث تجعل وجوده لا معنى له إلا كجزءٍ من كل) نقول إذا نحن غلَوْنا فزعمْنا أنَّ الوجود الحقيقي إنما يكون للجزء وحدَه دون الكل، أو أنَّ الكل وحدَه هو موجود ولا أفراد هناك، فإن قوْلَنا عندئذٍ يحمِل عنصر هدمِه في نفسه، فليس ينبغي أن نقول إنَّ الذات وحدَها أو اللاذات وحدَها هي التي تتمتَّع بالوجود دون زميلتها، فكلاهما ضروري لتكوين الحقيقة العُليا، فلا بدَّ في رأي «هجِل» من الصراع بين أضداد، ثُم اتِّحادها كي نُدرِك الحقيقية المُطلقة؛ إذ المطلق هو عبارة عن الانسجام بين الأضداد.
هكذا يريد «هِجل» أن يتقبَّل الأطراف المُتناقِضة فيجمعها في وحدةٍ شاملة، وعندَه أن الأساس الأول للوصول إلى الحقيقة هو الاعتراف باتحاد الأضداد وانسجامها، زاعمًا أنَّ كل إثباتٍ يتضمَّن نفيًا، وكلَّ نفيٍ يتضمَّن إثباتًا … ذلك هو قلب فلسفة «هِجِل» وصميمها، وهو يُطبِّق قانونه هذا على كل موضوع بغير استثناء، ولو سلَّمنا به معه لانقلبَتْ نظرتنا للحياة رأسًا على عقب، فقانون التناقُض الذي يقول به المنطق الشكلي القديم، ذلك القانون الذي يُقرِّر أنَّ الشيء يستحيل أن يكون وألا يكون في آنٍ واحد، يجِب عليه الآن أن يزول من أجل حقيقة «هِجِل» العُليا التي تنسجِم فيها المُتناقِضات، والتي تذهب إلى أنَّ كلَّ شيءٍ يكون موجودًا وغير موجود، فلا حقيقة إلا لمجموعة الأجزاء مُتَّحِدةً في كل، ولا بدَّ لكل جزءٍ من الاتصال بذلك الكل لكي يكتسِب صحَّتَه؛ لأن الشيء إذا اعتزل وانفرد ضاعَتْ حقيقته، وكل شيء مرحلة — مرحلة زائلة فانية — تُوصِّل إلى غيره.
يقول «هِجِل»: إن الفكر في عمله يجتاز خطواتٍ ثلاثًا، فهو يبدأ بذاتية مجرَّدة، أعني بإدراكه لذاته المُفردة، ثم ينتقل إلى مجال يصادِف فيه ما يناقِضه ويعارضه، ثم يخطو بعد ذلك إلى الوحدة التي تضمُّه، وتضمُّ معه أضداده التي مرَّ بها في مرحلته الثانية. وليست تلك الحركة الثلاثية قاصِرة على الفكر، بل إنها تتناول العالَم بأسرِه، وكلَّ شيءٍ يؤيد صحة هذا تؤيده الطبيعة، ويؤيده التاريخ والفلسفة … إنَّ نجم النبات الضئيل يحمِل في باطنه الدَّوحة العظيمة، وهذه الدوحة تنسخ ذلك النجم وتُثبته في آنٍ واحد. وإنَّ الطفل ليتضمَّن الرجل، وهذا ينفي ويؤيد الطفل في وقتٍ واحد … وإنَّ التاريخ ليشهد كذلك بصحَّة هذا القانون بصورةٍ أوسع، فالمدنية تتقدَّم بفعلٍ وردِّ فعلٍ بين النزعات المُتضادَّة، فعصور السلطة يتبعها عصور إباحية وفوضى، ومن اتحاد الاثنين تنشأ مرحلة سامية من الحرية الدستورية.
إذن فالكون عند «هِجِل» عملية نمو وتقدُّم، هو عملية يتجلَّى بها الله ويظهر، ففي كل حركة ترى ذلك «المُطلق» كامنًا لا يزول، لا كعنصرٍ مستقل وحدَه، بل كروحٍ سارية في كلِّ شيءٍ لتكشف عن نفسها. وليس تقدُّم الفكر إلا ظهورًا بالفعل لما كان موجودًا بالقوة، فالله يكشف عن نفسه في الفكرة المنطقية، ويتجلَّى في الطبيعة والعقل، ولكن إذا كان الفكر يجتاز في تقدُّمه تلك المراحل الثلاث فليس يُدرك نفسه بدرجاتٍ متساوية في المراحل المختلفة، ولا يمكن للإنسان بغَير النظرة الفلسفية أن يرى الله مُتجليًا أولًا في المرحلة السابقة للوجود، أي مرحلة الكائن الخاص، وثانيًا في العالم الطبيعي بأن تحوَّلت قواه إلى مادة ليظهر هو في صوَر الحياة المادية، وثالثًا وأخيرًا في العالم الروحي مُمثَّلًا في روح الفرد، وفي نظام المجتمع، وفيما يُبدِعه الفنُّ والدين والفلسفة من آيات.
فلسفة «هِجِل» مثالية وواقعية في آنٍ واحد؛ لأنها وإن تكُن تُعلن أن الفكر أسبق في الوجود، بل تُعلن أنَّ الفكر في حقيقة الأمر هو كلُّ شيء، إلا أنها تعترِف بأن هذا الفكر قد وجد نفسه في عالمٍ من الحقائق الواقعة التي لا يكون لها معنى لو فصلناها عن الفكر، فليست الطبيعة عند «هِجِل» جسمًا صلبًا يُحدِّد الفكر ويُعارضه. كما كانت عند «فخته»، كلا ولا هي كما رآها «شلنج» تسير موازيةً للعقل؛ لأنها والمُطلق توأمان. نعم إنَّ الطبيعة والعقل قد تفرَّعا عن أصلٍ واحد، ولكنهما ليسا فرعَين مُتساوِيَين قد انبثقا من جذعٍ بعَينه، إذ قد نشأت «الفكرة» أولًا، ثم نشأ من الفكرة العالم الطبيعي والفكرة والطبيعة معًا يكوِّنان العالم الروحي … فأنت ترى الفِكر أساسًا لكلِّ حقيقةٍ في الوجود، سواء أكانت تلك الحقيقة طبيعية أم عقلية، ولكنه فِكر بالقوة أي أنَّ الفكر يسري في كلِّ جزءٍ من الكون، ولكنه يكون في صوَر الوجود الدُّنيا فكرًا بالقوَّة، ثم يُصبح إدراكًا، أي فكرًا بالفعل في الكائنات العُليا. ومعنى ذلك بعبارةٍ أخرى أنَّ الفكر هو أول المراحل وآخِرها معًا، يبدأ الكون بالفِكر (بالقوة) وينتهي بالفكر (بالفعل).
وعمَل الفلسفة هو أن تَتبع الفكر في تطوُّره هذا وانتقاله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وأن تُعين في إدراك الإنسان تلك المراحل التي سلَكَها «المنطق» أو إن شئتَ فقُل سلكتْها الحقيقة، أو إن أردت عبارة أوضح فقل «الله». وهذه المراحل عند «هجِل» ثلاث: إثبات الحقيقة لنفسها أولًا، ثم تبايُنها ثانيًا، ثم انسجامها ثالثًا، ولهذا يجِب أن تُعين الفلسفة في إدراكنا تلك الخطوات الضرورية التي اجتازها الفكر في سيرِه وتقدُّمه، وهذا ما بنى «هِجِل» فلسفته عليه وعُنِيَ ببيانه وشرحِه.
- (١)
المنطق الذي يعرض صور الفكر المجرَّدة.
- (٢)
فلسفة الطبيعة التي تبسُط صور العالم الطبيعي الخارجي الذي تَجسَّد فيه العقل؛ لكي يصير حقيقةً مُحسَّة.
- (٣)
فلسفة العقل أو الروح التي تُعالج المراحل التي يجتازها الفكر من أبسط الصور الفيزيقية إلى الإدراك الكامل، ثم إلى اتحاد العقل والطبيعة كما يظهر في الفنِّ والدِّين والفلسفة.
فقد بدأت الحقيقة أول الأمر فكرًا خالصًا، ثم أعلنَتْ عن نفسها في صورةٍ موضوعية، فبعد أن كانت فكرةً مجرَّدة أصبحت مادةً متحركة في مكانٍ وزمان — وهنا قد يسأل سائل: ولماذا أخرجت الفكرة نفسها وبرزَت من صورتها المجردة إلى طبيعة مُحسَّة؟ وجواب ذلك هو أنها فعلت ذلك؛ لكي تصبح حقيقة — فالطبيعة مرحلة ضرورية لا بدَّ من اجتيازها حتى تبلُغ الفكرة مرتبةَ الإدراك، ولكن الحقيقة إذا حقَّقت نفسها في الطبيعة تكون لا تزال ناقصة، فما الطبيعة إلا مرحلة سابقة تتلُوها مرحلةٌ أسمى، وهي أن تُحقِّق الفكرة نفسها في روح، وذلك هو الغرض الذي كانت تقصد إليه الفكرة منذ البداية، فالعقل إذن إنما يجسِّد نفسه في الطبيعة لكي يكون روحًا في نهاية الأمر … إن الفكرة لا تخرُج من نفسها إلى حيث الطبيعة المجسَّدة إلا لكي تعود إلى نفسها مرة أخرى أخصبَ ممَّا كانت وأغنى، فهذه الطبيعة التي تراها ليست إلا عقلًا في صورةٍ مُبهمة غامضة مهوَّشة حتى لتبدو كأنها لا عقل.
ويجمُل بنا أن نقِف عند هذه الفلسفة العملية فنبسُطها في شيءٍ من الإسهاب والتفصيل.
-
(١)
أما «الحق» أو إنْ شئتَ فسمِّه «القانون» فهو عبارة عن اعتراف بحرية إرادة الفرد، ولو أن «هِجِل» لم يُرِد أن ينظُر إلى الفرد منفصلًا عن الحياة الاجتماعية، إلا أنه استحسنَ أن يبحث الفرد قبلَ كلِّ شيءٍ كشخصٍ له حقوق فردية بإزاء الآخرين، وتناول بحثُه في هذا ثلاثة أشياء: المِلكية والتعاقُد والعقوبة. أما حق الملكية فهو المجال الذي تظهر فيه شخصية الفرد، ولمَّا كان مِلك الشخص جزءًا منه وجَب أن يكون مصُونًا محترمًا، ولا بدَّ لصيانتِه واحترامه أن يعترِف به أفراد المجتمع الآخرون، بحيث لا يكون لغير صاحب الملك حقُّ التصرُّف فيه. ومن الطبيعي أن حرية تصرُّف الفرد في مِلكه تستلزم التعاقد بين الناس على ذلك، حتى لا تتعارَض إرادة زيد مع إرادة عمرو، فإذا ما نشأ نزاع بين الإرادات بأنِ اعتدى هذا على حقِّ ذاك ونقَضَ ما بينهما من اتفاق، وجَبَ أن نوفِّق بينهما بالعقوبة نُوقِّعها على المخطئ، وتوقيع العقوبة كفيل بأن يُبين للمخطئ ما كان يستتبِعه عمله من تناقُض، وأن يُلزمه بالاعتراف بمبدأ العدالة بين الجميع.
-
(٢)
ويؤدي البحث في الحق القضائي إلى النقطة الثانية وهي الحق الأخلاقي الذي لا ترعاه القوانين القضائية، بل الدوافع الأخلاقية المحْضة، وبهذا ينتقِل الأمر من مجرَّد الحق إلى الواجب الذي يصدُر من صاحبه عن قصدٍ ونيَّة، ويلاحظ أنَّ هذا الواجب الأخلاقي لا يتَّفِق دائمًا مع إرادة الفرد، أي أنَّ هنالك تضادًّا دائمًا بين نِية الفرد وإرادته، أعني بين القصد والتنفيذ. والحَكَم الفصْل بين الخير والشر هو الضمير، ولكن الضمير وحدَه لا يكفي إذ «قد أريد الخير، ولكن لا يُتاح لي أن أعلَم ما هو الخير. فقد يأمُرني الضمير أن أعمل ما تستحِثُّني رغبتي الخاصة أو رأيي الشخصي أن أعمله.» وقد يكون العمل الذي ينبعث عن غريزةٍ عمياء سيئًا مهما كانت نِية عملِه خيِّرة، إذن لا يكفي للفرد أن يكون له دافعٌ شخصي، ولكنه يُريد إلى جانبه مقياسًا خارجيًا، كذلك يجب أن يكون ثمة نقطة أسمى تتَّحِد عندها الدوافع الأخلاقية للعمل مع شرعية العمل.
-
(٣)
هذه النقطة السامية التي تلتقي عندها أخلاقية العمل مع شرعيته هي: الأخلاق الاجتماعية، التي لا نشعُر معها بأن الدافع الأخلاقي مجرَّد غريزة شخصية ودافع ذاتي، بل أمْر عام يأتينا من الخارج، وهنا يتنازل الفرد عن فرديته الخالصة، وعن حُكمِه الشخصي لكي يعترِف بسلطة الجماعة القائمة … وليست تتحقَّق حياة الفرد وحُريته الصحيحتان إلا في علاقته بالأُسرة، والمجتمع، والدولة؛ ففي الجماعة وحدَها يتبيَّن الإنسان نفسه، ويُوجَد وجودًا حقيقيًّا، وفي الأخلاق الاجتماعية يُصبح عمل الخير عادةً، وطبيعةً ثانية:
- (أ)
ففي الأُسرة يتَّحِد الأعضاء برباطٍ حي من الحب، والأُسرة تقتضي الزواج الذي يتحوَّل فيه الحب الفيزيقي إلى اتِّحادٍ روحي كما تتضمَّن مِلْكية العائلة وتربية الأطفال.
- (ب)
وتتَّسِع الأُسرة فتُصبح جماعة، وعلى الرغم مما يتمتَّع به أعضاء الجماعة من استقلال، فإنهم مُرتبطون بحاجاتٍ مشتركة، وباعترافٍ مشترك بالقوانين المدنية التي تعمل على التوفيق بين المصالِح المُتنازعة، والتي تضمَن لكلِّ فردٍ إبراز شخصيته التي تؤهِّله لها ملَكته.
- (جـ)
واتحاد الأسرة والجماعة يكوِّن الدولة التي تتحقَّق بها الحرية تحقُّقًا كاملًا، فالدولة هي الغرَض الذي يقصد إليه الإنسان، وهي لا تمحو شخصية الفرد، بل واجبها أن تُعبِّر عنها وتظهرها، ولكن الشخصية هنا ليس معناها الفردية؛ لأن الشخص الحق هو كائن اجتماعي له واجبات، وعليه حقوق باعتباره عضوًا في جماعة.
ويرى «هِجِل» أنَّ خير نظام للحُكم هو المَلَكية المُقيَّدة كما تُمثِّلها بريطانيا، وتأسيس المَلَكية الدستورية وهو هدَف التاريخ.
- (أ)
ولعلَّ من أمتع ما كتَب «هِجل» مؤلَّفه في «فلسفة التاريخ» الذي يتتبَّع فيه قانون التقدُّم الذي سارت الإنسانية على أساسه في حياتها الماضية، وهو يُبين أنَّ كل شعبٍ يتاح له أن يرتقي ذروة المجد، ويقبض على صولجان الملك حينًا من الدهر؛ ليكون أداةً لا شعورية يُنفِّذ إرادةَ الروح العامة، ويظلُّ هكذا حتى ينهَضَ شعب آخر فيخلُفُه بفكرةٍ عن الحرية أوسع من فكرة سلفِه، وفَهمٍ أسمى لوظيفة الإنسان.
ويقول «هجل» إنَّ من يتأمَّل في سَير التاريخ وتقدُّمه يجده خاضعًا لعقلٍ عام، فما تاريخ العالم إلا عملية عقلية، وروح العالَم هي القوة الرائدة لتقدُّمه والأدوات التي تتَّخِذها تلك الروح للوصول إلى أغراضها هُم عباقرة الأُمَم وأبطالها، وكلُّ شعبٍ يعلو إلى المجد والقوة إنما يُعبِّر عن جانبٍ من جوانب الروح العامة، فإذا ما ظفِرَت الروح العامة بغايتها منه، تنازل ذلك الشعب عن قوَّتِه وسلطانه لشعبٍ آخر، فتاريخ العالم هو تحقيق لإرادة العالم كما يقول «شلر» وما نوابغ التاريخ إلا أدوات اتَّخذتْها تلك القوة العالمية لتنفيذ أغراضها، وإنْ توهَّموا أنهم يُحقِّقون أغراضهم الشخصية. ولقد أُعجِب «هِجِل» «بنابليون» إعجابًا عظيمًا، ورأى أنه يُمثِّل عصرَه ويجسِّده، فهو وسيلة لتحقيق غاية أعظم منه.
وإن رواية التاريخ لتكشِف لنا عن تزايُد الحرية كلَّما تطاول الزمن، فلم يكن يتمتَّع بالحرية بادئ بدءٍ إلا فردٌ واحد — هو الطاغية — ثم جاءت بعد ذلك مرحلةٌ تمتَّع بالحرية فيها طائفة من الناس لا فرد واحد، ثم تلا ذلك أن أصبح الناس كلهم أحرارًا.
ولمَّا كانت الأرض هي القاعدة الجغرافية للتاريخ، أو قل هي المسرح الذي تظهر فيه رواية التاريخ فصولًا مُتعاقبة، كان لها أقسام ثلاثة رئيسية: الجبال والوديان والمياه. فأما الأولى فتُمثِّل حياة الإنسان الأول بما فيها من مغاور وكهوف يأوي إليها الهاربون، وأما الثانية فهي موطن الزراعة التي تُمثِّل مرتبة أعلى من مراتب المدنية، وأما الثالثة — الأنهار والبحار — فيتجلَّى فيها أعلى ضروب النشاط الإنساني وأرقاها، إذ هي وسيلة التجارة وتبادل العلاقات بين الأمم.
ثم يُقسِّم «هجل» التاريخ إلى فتراتٍ ثلاث: (١) الشرقية. (٢) الإغريقية الرومانية. (٣) الجرمانية — وهو يتتبَّع نموَّ الحرية في هذه المراحل الثلاث باعتبارها العلامة الوحيدة التي يستدلُّ بها على تقدُّم الروح.
ففي الشرق الأقصى — حيث مهد الإنسانية وطفولتها — كانت الروح مُنغمسة في الطبيعة، ولم تتقدَّم الصين والهند من حيث فِكرتهما عن الدولة، وظلَّتا متلازمتَين للآراء الأولية: فالدولة في الصين أُسرة كبيرة، والملك فيها أب، وأما في الهند فعلى الرغم من تحوُّل الأسرة فيها إلى جماعة، إلا أن الجماعة بها لبِثَت ذات فوارق حادَّة تستعصي على التوحيد والإدماج، ولقد ظهرت المِلكية لأول مرةٍ في فارس، ولكنها كانت تقوم على عناصر مُتنافِرة تماسَكَت بالقوة الحربية، وأما في مصر، فهنالك تشهد أبا الهول بوجه الإنسان وجسم الحيوان ليكون رمزًا للانتقال من النزعة الطبيعية في الشرق إلى المدنية الفكرية في أوروبا، فمصر بتماثيلها المُحسَّة من ناحية، وبعبادتها الرُّوحية من ناحية أخرى، تتوسَّط بين الشرق والغرب وتُمهد الطرق للإنسانية الإغريقية.
انتقلت ثقافة الإغريق إلى روما تغزو، إذ بينما كانت روما تغزو الأمصار والأقطار، كانت ثقافة الإغريق تغزوها، وقد اعتُرِف في روما بالحرية الفردية، وبالمساواة السياسية. وقد كان العصر الروماني عصر النضوج والقوة النفعية، وانمحى ما عهِدناه في أثينا من مظاهر الروح والسرور، وجاء في مكانه عُنف العمل وقسوة الواجب. فلمَّا سقطت روما ظهرت الأمم الجرمانية على مسرح التاريخ، وهنا بلغَتِ الفكرة ذروة الإدراك الكامل لأول مرة، وجاءت الوحدة الروحية بين الناس مكان الوحدة الدُّنيوية، وكانت المسيحية بشيرًا للناس أجمعين بالحُرية، ولكنها كانت حُرية دينية في أول الأمر، ثم تحوَّلت بالتدريج إلى حرية سياسية أيضًا في الشعب الجرماني. ولمَّا سادت العقيدة المسيحية بين الأمم اعتُرِف للإنسان بإنسانيته كما أعلن الإخاء بين البشر. وتُمثِّل الأمة الجرمانية عصورًا ثلاثة: تبدأ العصر الأول من هجرة القبائل الشمالية وينتهي بحُكم «شارلمان» وهو عصر تَفكُّكٍ ونزاع، ويكشف العصر الثاني عمَّا بين الكنيسة والدولة من تبايُن، وأبرز ما في هذه الفترة الثانية من أحداثٍ هي الحرب الصليبية ونظام الإقطاع ونشأة الدول الحُرة، ولقد كان ذلك العصر الذي امتدَّ حتى عهد الإصلاح مظلمًا، تتنازَعُه الخرافة والعقيدة الدينية، ولكنه كان مع ذلك عصر الحرية الروحية. وأما العهد الثالث فيمتدُّ من عهد الإصلاح حتى يومِنا هذا، وهو عهد الحرية المدنية والحياة التي يتزايد فيها عنصر العقل.
لقد كان مؤلَّف «هِجِل» هذا في فلسفة التاريخ من أجلِّ ما جادت به قريحتُه، ولعلَّ نبوغَه وأصالته لم يظهرا في شيءٍ من كتُبه كما ظهرا في رأيه عن تطوُّر التاريخ، إذ كان «هِجِل» أول كاتبٍ حاول أن ينظُر إلى سَير العصور كلها كحركةٍ واحدة شاملة تتجلَّى فيها الروح وتظهر، ولو أنَّ هنالك من عدَم دقَّته في بعض التفصيلات، ومن اختياره للحقائق اختيارًا لا يقوم إلا على أساس هواه ما هو مَجالٌ لنقدِ الناقدين.
وأخيرًا بعد أن سارت الروح هذا الشوط الطويل، واجتازت تلك المراحل المُتتابعة، فإنها تصل — آخر ما تصِل — إلى مرتبة الروح المُطلق، حيث تنمحي كل الفوارق بين الذات والشيء، بين الفكر والوجود، بين اللانهائي والنهائي المحدود. نعم إنَّ الروح بعد هذه الشُّقَّة الطويلة لتبلُغ آخِر الأمر مرتبة إدراك نفسها. وتقع تلك المرتبة الأخيرة في ثلاثة عناصر: (١) الإدراك الحسِّي الذي يُعبِّر عنه الفن. (٢) والشعور الذي يُعبِّر عنه الدين. (٣) والفكر الذي تُعبِّر عنه الفلسفة.
-
(١)
أما الفن فهو الإدراك الحسِّي الذي تُدرك به الروح المطلقة المثَل الأعلى للجمال كما يتمثل في صورِهِ المُحسَّة الملموسة، سواء كانت تلك الصورة صخرةً أو لونًا أو صوتًا. ففي الفنِّ تنتصِر الفكرة على المادة؛ لأنها تستخدِمها لأداء أغراضها، ولكن المادة المُستخدَمة ليست قابلةً للتشكل قابليةً تامَّة، وهي تختلف من حيث مقاومة التشكُّل عُسرًا ويسرًا، فأدَّى هذا التفاوُت بينها — في مقدار عدَم القابلية — إلى اختلاف الفنون وتعدُّدها، ولكن مهما اختلفت ألوان الفن فهنالك عاملان مُتَّصِلان، هما اللذان يعملان على تكوين الجميل: المادة، والصورة أي الفكرة. فالمادة هي وسيلة التعبير عن الفكرة، وبالفكرة وحدَها تكتسب المادة معنًى وإشراقًا. ولقد سار الفن من المرحلة الرمزية إلى المرحلة الكلاسيكية، ثم انتهى إلى الرومانتيكية، أو بعبارةٍ ثانية سار الفن من مرتبةٍ لا فنية إلى مرحلة فنية، ثم انتهى إلى وإنك لترى ألوان الفنون كلها لا تزالمرتبةٍ فوق الفنية فبات عاجزًا عن التعبير عن كلِّ معناه.
أما الفنُّ الرمزي فتسُود فيه المادة، ولا تكون فيه الفكرة إلا شبحًا ضئيلًا، وأما الفن الاتِّباعي (الكلاسيكي) فهو فنٌّ تتوازَن فيه الفكرة والمادة، وكلٌّ من الجانبين يكون وسيلةً للجانب الآخر، أما الفن الابتداعي (الرومانتيكي) فتتحكَّم فيه الفكرة الروحية بحيث تُشكل المادة وتخضعها لأغراضها الخاصة.
ولقد جاءت الفنون مُتعاقبةً على هذا الترتيب الطبيعي: العمارة، فالنَّحت، فالتصوير، فالموسيقى، فالشعر.
ففنُّ العمارة يتميز بأنه رمزي، ولا تندمج فيه المادة والصورة، فلقد تلحظ في فنِّ العمارة الرَّزانة والعظمة، ولكنك لن تراه يُعبِّر عن العواطف الدقيقة.
ويقلُّ التبايُن بين الصورة والمادة في فنِّ النحت، حيث تُصاغ المادة لتُعبِّر عن فكرة الفنان، ولكنه مع ذلك عاجِز عن تمثيل الجوانب السامية من الروح الإنسانية، عن تمثيل الطبيعة الإلهية؛ إذ لا يمكن لهذه الأخيرة على الأخصِّ أن تُجسَّد في مادة صلبة محدودة كصخرة النحَّات.
وأما الفنون الابتداعية الثلاثة فهي التصوير والموسيقى والشعر، فالتصوير يتقدَّم عن النحت بخطواتٍ فسيحة؛ لأنَّ المادة فيه أقلُّ صلابة، والفكر فيه مُمثَّل على نحوٍ قريب من المثَل الأعلى. وفي الموسيقى تنمحي شقَّة الخلاف بين الجانبين: الفكرة والمادة، وهنا ينطلِق الفن من حدود المكان ويجتاز قيود المادة، حيث لا يُوجَد إلا على صورةٍ مثالية في الزمان. وأما الشعر فهو أعلى صور الفن جميعًا؛ لأنه يمزج بين التصوير والموسيقى، فهو يُضيف إلى ألحان الموسيقى المُبهمة تعبيرًا ومعنًى واضحًا محدودًا، ثم هو ينطِق بما لا يستطيع التصوير إلا أنْ يُشير إليه فحسْب.
وإنك لترى ألوان الفنون كلها لا تزال باقيةً تُعبِّر عن نواحٍ مختلفة من الشعور، ولكنها رغم ذلك قد تدرَّجَت ونمَتْ واحدةً بعد واحدة، على مدى العصور؛ فالفنُّ الشرقي الذي ظهر في مصر والهند يتميَّز بأنه رمزي؛ لأن المادة ترجح فيه على الصورة، وهو في ضخامته وفخامته إنما يُعبِّر عن شعور السموِّ والعظمة أكثر مما يُعبِّر عن الشعور بالجمال، ثم تتحوَّل هذه النزعة الرمزية إلى فنٍّ مُفصِح عن الجمال أكثر ممَّا يُعبِّر عن العظمة ألا وهو الفن الاتِّباعي (الكلاسيكي) الذي ظهر في اليونان، ثم يتَّحِد الشعوران بالعظمة والشعور بالجمال فيكوِّنان الفن الابتداعي (الرومانتيكي) الذي يظهر واضحًا في الفن المسيحي؛ إذ إنَّ تجسيد الأفكار الروحية قد أكسب التعبير الفني معنًى جديدًا، فاصطبغَتْ فكرة الجمال بصبغةٍ روحية، وأخلى الزُّخرُف الطبيعي للجمال مكانه للصفاء والطُّهر والقداسة، وحلَّت العذراء في الفنِّ محلَّ «فينوس». ولكن إذا كانت المسيحية قد وسَّعت من دائرة الفن، وأضافت إليه روحًا جديدة، فإنها إلى جانب ذلك قد سلبتْهُ شيئًا من جماله؛ إذ لم تعُد الصورة المادية تلائم المثَل الأعلى الأخلاقي الجديد، وقد لا تُرضي الآيةُ الفنية البالِغة حدَّ الكمال الفنانَ المسيحيَّ الذي بدأ يتطلَّع إلى عالمٍ أبدي تُدركه الأفئدة ولا تراه العيون، وأخذ ينشُد التناسُق السماوي والمَثَل الأعلى الإلهي، ولكنَّ الفن عاجز بغير شكٍّ أن يُعبِّر بالريشة أو القيثارة أو القلَم عن ذلك المثَل السامي، وهكذا أفلس الفن، وتدهور عندما اتُّخِذ أداةً للإفصاح عن الشعور الديني؛ لأنه كفيل أن يُعبِّر عن تلك الحياة على نحوٍ أكملَ وأتم.
-
(٢)
الدين: لقد كشف لنا الفن عن فارقٍ بين النهائي واللانهائي، أعني عن تبايُنٍ وخلاف بين المادة والفكرة، ولسْنا نستطيع أن نوفق بين هذَين الشطرين المُتباينَين إلا بالدِّين الذي يمسُّ فيه العابد معبودَه مسًّا مباشرًا دون أن يحتاج في ذلك إلى وسيطٍ من الصور المادية أو الرمزية، فلقد شهِدْنا في الفن كيف تتَّخِذ الفكرة الصوَرَ المُحسَّة وسيلةً لظهورها، أما في الدين فيكفي لتحقيقها مجرَّد الشعور الباطني؛ لأنَّ كُنْهَ الدِّين وجوهره تمجيد الروح للمُطلق تمجيدًا باطنيًّا، هو بعبارةٍ أخرى رغبة في الإنسان لاتحاد ذاته بالله. ويقول «هِجِل» إنَّ وجود الله لا يمكن أن يُقام عليه الدليل على نحو ما يحدُث في البرهنة على نظريةٍ رياضية؛ وذلك لأنَّ الله هو فكرتنا عنه، فهو إذن موجودٌ في داخل نفوسِنا لا في خارجها، وكلَّما عمقتْ فكرة الإنسان عن الله واتسعَتْ ظهر له الله أكثر وضوحًا وجلاء.
ولقد مرَّ الدين في سيرِه التاريخي خلال مراحل عدَّة، وأحطُّها مرحلة «عبادة الطبيعة» التي تَصَوَّر الإنسان فيها أنَّ الله مادة أو قوة طبيعية، ثم جاءت سلسلةٌ من الديانات في الشرق هي «ديانة السِّحر» في الصين، والديانة البرهمية وغيرها في الهند، وعبادة النُّور في فارس، وديانة الألَم في سوريا، وديانة السِّر والخفاء في مصر … وقد مهَّدَت كل هذه الدِّيانات الطريق لديانة «الحرية» عند الإغريق، حيث أخذ الإنسان يُدرك تفوُّقَه على الطبيعة وسيادته عليها.
كذلك اجتازت ديانات الفردية الروحية مراحلَ ثلاثًا: اليهودية، دين الجلال، والهِلينيَّة، دين الجمال، والرومانية، دين النفعية والغرَض. فالأولى هي ديانة التوحيد، والثانية هي القدَر والضرورة وتعدُّد الآلهة، والثالثة ديانة العقل العملي والقوة السياسية … وأخيرًا جاءت المسيحية، وهي تلك الديانة التي هبط بها الوحي، والتي تُناقِض عبادة الطبيعة وعبادة الإنسانية كلَيهما، هي اتِّحاد الواحد والكثير، هي تناسُق الجلال والجمال والقوَّة، هي التوفيق بين الضرورة والحرية. لقد بلغَتِ المسيحية أسمى فكرة عن الله؛ لأنها تتصوَّر الله قد خرج من نفسه، ثم تجسَّد في الإنسان، ثم عاد إلى نفسه مرةً أخرى. إنَّ في المسيحية ذلك السِّر العجيب الذي يلائم بين النهائي واللانهائي، بين الإنسان وخالقه. ولقد تمَّ ذلك التوفيق بين الضِّدَّين في شخص المسيح؛ لأنه إنسان إلهي. ويقول «هِجل» إنه لكي يتَّحِد الإلهي مع الطبيعة البشرية لا مندوحة عن أن تكون وسيلة ذلك الاتِّحاد هو الإنسان، فيكون إنسانًا من ناحية، وفكرةً إلهيةً من ناحيةٍ أخرى.
أراد الله أن يُحقِّق وجوده ويُقرِّر ذاته، فخرج من نفسه وتجسَّد في الإنسان، ثم عاد إلى نفسه مرةً أخرى، وهكذا ينبغي أن يفعل الإنسان إذا أراد لنفسه حياةً صحيحة، وإذا ابتغى لذاته تقريرًا وتحقيقًا، «يجِب أن يموت الإنسان ليحيا.» هذه هي الحقيقة التي عبَّر عنها المسيح وضرب لها مثلًا بنفسه، فمات لتحيا بمَوته الإنسانية، فواجِبٌ حتْم على كلِّ فردٍ أن يحذوَ ذلك الحذو الصالِح القويم، إذ لا سبيل لتقرير الذات إلَّا بإنكارها، فحياتنا هي بدء المرحلة ونهايتها في آنٍ واحد، هي الوسيلة وهي الغاية معًا، فنحن لا ننشُد إلا حياةً كاملة، ولن نظفر بتلك الحياة إلا بتضحية الحياة! إنَّ الإنسان ليحمِل في نفسه بذور الوجود الروحي الكامل، فحتْمٌ عليه أن يُضحِّي بنفسه لينبُتَ ذلك الكمال الكامن ويتحقَّق، «إذا لم تقَعْ حبَّةُ القمح في الحقل، ثم تموت فستظلُّ وحدَها.» ولن ينمو للقمْح منها نبات.
-
(٣)
الفلسفة: ذلك هو الدِّين وما يدل عليه، ولكن ما يُعبر عنه الدِّين بالشعور والبصيرة يبسُطه الفكر في وضوحٍ وجلاء. إنَّ الفلسفة هي الحقيقة في تجريدها وإطلاقها، هي فِكر «الفكرة» إذ تُفكِّر في نفسها، أو هي فكر العقل للذي يفهم نفسه ويُدركها.
إنَّ موضوع الفلسفة هو هو موضوع الدين، فغاية الاثنين تحديد طبيعة الله وبيان غرَضه من العالم، ولكن الأول يسلك إلى الغاية طريق القلب، بينما تستعين الفلسفة لأداء مهمَّتها بالعقل، ولكن لمَّا كانت الحقيقة لا تتَّضِح إلا إذا أُخرِجت من دائرة المشاعر إلى ضوء الفكر الساطع كانت الفلسفة أعلى مرتبةً من الدين. إنَّ الدين يشعُر بالله ويُدركه، أما الفلسفة فتشرَحُه وتوضحه.
ويتبع سير الفلسفة وتقدُّمها في عصور التاريخ نفس المراحل الثلاث التي اتَّبعها الفكر نفسه كما اتبعها كل شيءٍ آخر: مرحلة الوجود المجرد، ثم الوجود الطبيعي، ثم الوجود الروحي في نهاية الأمر.
تلك الحركة الثلاثية تشمل الكون جميعًا بكلِّ مظاهره. لقد اجتازها التاريخ في سَيره، وسلكَها الفنُّ والدِّين والفلسفة، بل ومرَّ بها المُطلق نفسه في تطوُّره وتقدُّمه … الوجود أولًا، فالطبيعة ثانيًا، فالروح ثالثًا، هذا هو سِرُّ العالم وجوهر الله.
تلك هي فلسفة «هجل»، وكأنما هي قصيدة فكرية عظيمة، إنها بناء شامخ مُتناسق الأجزاء، فكل جزءٍ منها يُمثل الكل، وكل شيءٍ فيها يؤكد ذلك التثليث الشامل: الوجود فالطبيعة فالروح.
(٤-٢) شُوبِنْهَوَر Schopenhauer
(١) عصرُه
سادت في أوروبا روح التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتملَّك النفوس يأسٌ قاتل، وارتفعت بذلك أصوات الشعراء والفلاسفة في كل ناحيةٍ من نواحي القارة الأوروبية: «بيرون» في إنجلترا، و«دي موسيه» في فرنسا، «وَهِيْني وشوبنهور» في ألمانيا.
ولقد يقِف المرء أمام هذه الظاهرة العجيبة وقفةً لا تطول كثيرًا، حتى يجد أسبابها في طبيعة ذلك العصر وظروفه التاريخية، فقد انفجرَتِ الثورة في فرنسا، ودوَّت أرجاء أوروبا دويًّا اهتزت من هوله عروش، وكان لصَوتها صدًى في كل الصدور، وأثَر عميق في كل النفوس، فمن أشرافٍ ناقِمين ساخطين، إلى زُرَّاع يُهلِّلون لها ويكبِّرون، ثم كانت واقعة واترلو، فَخَفَت ذلك الصوت الداوي، وعُزل نابليون على صخرة سنت هيلانه الصامتة المُوحِشة في عرض المُحيط، وعاد «البوربون» إلى مُلكهم في فرنسا، وعاد في ذَيلهم أشراف الإقطاع يُطالبون بأملاكهم، وانتشرت في أوروبا حركة رجعية تعمل على طمس معالم الثورة.
كم من ملايين الشباب فاضَتْ أرواحهم، وكم من عامر الأرض بات خرابًا بلقعًا، فكنتَ لا ترى على وجه أوروبا إلا آثارًا خربة، وأنقاضًا هنا وهناك؛ ذلك لأنَّ الجيوش النابليونية الجرَّارة من ناحية، وأعداءها من ناحيةٍ أخرى، أخذت تروح وتجيء على وجه أوروبا أكثر من عشرين سنة قضَتْ فيها على الأخضر واليابس، وخلَّفَت القُرى والمدائن ينتابها فقر مُدقع وبؤس شامل.
ماتت الثورة الفرنسية، وكأنما انتُزِعت معها روح الحياة من أوروبا؛ لأنَّ قلوب الشباب الطامح في كل بقعةٍ من بِقاعها كانت قد صغَتْ إلى الجمهورية الناشئة، وعاشت في ظلال الأمل الوارِفة حيث أمَّلت في مستقبلٍ ذهبي زاهر، فما هي إلا أن وقعَت الواقعة في واترلو حتى تحطَّمَت كل هذه الآمال، وتبدَّلت مأساة سنت هيلانه ومؤتمر فينا، فدبَّت في النفوس روح اليأس وسُدَّت في أعين الناس سُبل الحياة، وأثر ذلك في النزعة الدينية أثرَين مختلفَين: أما الطبقة الفقيرة الجاهلة فقد التجأت إلى الدِّين تجد في كنَفِه السَّلوى والعزاء، وأما الطبقة المُفكرة فطغت على قلوبهم موجة إلحادية، ولم تعُد عقولهم تُسيغ أن يكون ثمَّة مدبِّر أعلى لهذا الكون.
فأما فريق العقيدة والدين فقد اقتنع بأن هذه النَّكبات ليست إلا إذلالًا للنفوس جزاءً وفاقًا بما نزعت إليه من الاعتداد بحُكم العقل، ونبذ العقائد وراء الظهر، وأما فريق الإلحاد فقد ارتأى أن اضطراب أوروبا ينهض دليلًا قويًّا على فوضى الحياة وعبَثِها، وعلى رأس هؤلاء «بيرون وهيني وشوبنهور».
(٢) الرجل
ولد «أرثر شوبنهور» في دانزج في الثاني والعشرين من فبراير سنة ١٧٨٨م، وكان أبوه تاجرًا امتاز بالكفاءة واستقلال الشخصية، كما عُرِف بحدَّة الطبع وحب الحُرية، حتى إنه غادر بلدته دانزج حين سُلِبت حُريتها بضمِّ بولندا لها سنة ١٧٩٣م، فارتحل إلى هامبورج، وكان ابنه «أرثر» عندئذٍ في الخامسة من عمره، وأنت ترى من ذلك كيف شبَّ «شوبنهور» اليافع في جوٍّ مُشبع بروح العمل، وكسب المال، والنزوع إلى الحرية. ومع أنه سرعان ما هجر حياة التجارة التي أقحمه فيها أبوه إقحامًا، فقد كانت قد طبعَتْه بمَيسمِها الذي يمتاز به رجال الأعمال من برودٍ في الطبع، ونزوع إلى الحقائق الملموسة الواقعة، ومَيل إلى تعرُّف الناس والعالَم. ولعلَّه ممَّا يدلُّ على شذوذ أفراد أسرة «شوبنهور» أنَّ أباه قد مات مُنتحرًا سنة ١٨٠٥م، وأن جدَّته لأبيه تُوفِّيت بعد أن أصابها الجنون.
هذا ما ورثه «شوبنهور» عن أبيه: خلق وإرادة، وأما أمُّه فقد أورثته ذكاءها المُرهَف الذي اشتُهرت به شُهرة واسعة، فلقد كانت من أنبغ من نبَغَ في عصرها من كتَّاب القصة. وكان نبوغها هذا في عالم الأدب مما نغَّض عليها الحياة مع زوجها الذي لم يكن لدَيه من تذوُّق الأدب ما يلائم بينه وبينها، فما كاد هذا الزوج الذي يتنافر طبعه وطبعها حتى اندفعت إلى حياة الحبِّ المُتحرِّر من قيود الزوجية، وقد ارتحلت إلى «فيمار»؛ لأنها أنسب بلدٍ في ذلك الحين لتلك الحياة التي نزعت إليها، فلم يقَعْ سلوك الأم من ابنها موقعًا حسنًا، وساءت العلاقة بينهما سوءًا انتهى إلى خصومةٍ مُتَّصلة ونزاع لا ينتهي، ولعلَّ هذه العلاقة السيئة بينه وبين أمِّه هي التي أوحت له بذلك المقت الشديد الذي يصبُّه على المرأة، ويصوِّر لنا هذا الخطاب من الأم إلى ابنها سوء ما كان بينهما من صِلة: «إنك عبء ثقيل لا يُحتمَل، وإنَّ الحياة معك لعسيرة شديدة العُسر، فلقد أطفأ غرورُك كلَّ صفاتك الحميدة حتى أصبحْتَ، ولا رجاء فيك يرجوه العالَم، وذلك لعجزِك عن ضبط رغبتِك القوية في تسقُّط هفوات الناس.» فلمَّا تعذَّرت الصلة بينهما على هذا النحو، اتفقا على أن يعيشا منفصلَين، حتى إنه لم يكن «شوبنهور» يغشى دار أمِّه إلا كما يغشاها سائر الأضياف والزائرين، وكانا يُعامل أحدُهما الآخر حينئذٍ في كثيرٍ من الأدب والتكلُّف كما يفعل المُضيف مع زائره الغريب، ولكن حتى هذه الصِّلة الواهنة لم تلبَثْ أن انقطعت أسبابها، وذلك أنَّ «جوته»، وقد أحبَّ الأم، قد أنبأها يومًا أن ابنها لا بدَّ بالِغ أوْج الشهرة وذروة المجد، وكانت الأم ترى أن الأيام طوال التاريخ لم تسمح بنابغتَين في أسرةٍ واحدة، فأدركَتْ من فورها أن نبوغ ابنها معناه انتقاصٌ في نبوغها، فضاقَتْ بهذا الابن ذرعًا ولم تعُد تطيق أن ترى ذلك المنافس القوي، فما هي إلا أن اشتجرَتْ معه في إحدى زياراته في معركةٍ حادَّة عنيفة، ثم دفعته على دَرَج السلم فانحدَر هاويًا بضع درجات، ثم وقف وصعَّد بصرَه إليها قائلًا في غضبٍ وحِدَّة: إنها مع ذلك كله لن تعرفها الأجيال المُقبلة إلا بأنها أمُّ «شوبنهور». ولم يلبَثْ فيلسوفنا بعد تلك الوقعة أن غادر «فيمار» ولقد لبثتْ أمُّه بعدئذٍ على قيد الحياة أربعةً وعشرين عامًا لم يرَها خلالها قط، وإنه لممَّا يستحقُّ الذكر في هذا الصدد أن «بيرون» الشاعر الإنجليزي قد وُلد في نفس العام الذي ولد فيه «شوبنهور» (١٧٨٨م)، وأنه لاقى من أُمِّه نفس العنَت الذي أصاب «شوبنهور» من أُمِّه، وأنه انتهى آخر الأمر إلى ما انتهى إليه فيلسوفنا من تشاؤم، ولا غرابة؛ فمن لم يعرف حبَّ الأم وحنانها، كلا بل من لقِيَ من أمِّه الكُره والإساءة، لحقيق أن يُقَلِّب النظر في وجوه الأرض، فلا يجد فيها ما يغري بالتعلُّق بأسباب العالَم.
وهكذا وجد فيلسوفنا من دُنياه غدرًا فتحدَّاها، وتلوَّنت حياته وفلسفته بالكآبة والتشاؤم والشك، فكان في حياته لا يتوقَّع أن يُصيبه من الناس إلا السوء والشر، ولذا عاهد نفسه ألا يترك بابًا واحدًا في داره إلا أغلقه وأحكم إغلاقه، ولم يرضَ لنفسه مرةً أن يُسلِّم عنقَه للحلاق، وكيف يفعل والحلاق لا يني مُمسكًا بموساه؟ ولم ينَمْ ليلةً إلا بعد أن استوثق من حشو غدَّارته التي كان يضعها تحت وسادته!
وممَّا يستلفِتُ النظر من أخلاقه عدَم احتماله للجلبة والضوضاء، وقد كتَب في ذلك يقول: «إن من رأيي أن مقدار الضوضاء الذي يمكن للإنسان أن يحتِمله دون أن يُثيره، يتناسَب تناسُبًا عكسيًّا مع مقدِرته العقلية، فيُمكننا بهذا أن نتَّخِذ الضوضاء مقياسًا للكفاءة بالغًا في الدقة … الضوضاء تعذيب لكلِّ من يعمل بعقلِه من الناس.» فلقد كان يدرك «شوبنهور» أنه عظيم رغم إنكار الناس لعظمَتِه، ولمَّا أفلتتْ منه الشهرة والتوفيق ارتدَّ إلى نفسه مع الناس وأخذ ينهَشُ في نفسه بأنيابه.
عاش «شوبنهور» وحيدًا فلا أمَّ ولا زوجة ولا ولد ولا أُسرة ولا وطن ولا صديق، ولم يكن يشاطر مُعاصريه فيما ملأ صدورهم من نار الوطنية المُشتعلة وقتئذ. ومما يروى في ذلك أنه في عام ١٨١٣م كان قد تأثَّر بحماسة «فخته» حتى استجاب لدعوته لحربٍ وطنية ضد نابليون. وفكر فعلًا في التطوُّع بنفسه في تلك الحرب، وابتاع لنفسه ما يلزَمُه للقتال من عدَّة وسلاح، ولكنه لم يلبَثْ بعد ذلك أن استنكر من نفسه ذلك التصرُّف قائلًا: «إن نابليون لم يفعل في كل ما قام به من عملٍ إلا أن أفصح بتعبيرٍ حُر مختصر عن تقرير الذات وعن الشهوة للاستزادة من الحياة التي يُحِسُّها من هُم أضعف منه من الناس، ولكنهم يكتمونها في صدورهم مُرغَمين.» وبدل أن يذهب لمشاركة قومه في القتال كما اعتزم. قصد إلى هدوء الريف حيث كتب رسالته التي نال بها لقب الدكتوراه في الفلسفة.
ومنذ ذلك الحين قصر «شوبنهور» مجهوده ووقته على تأليف كتابه المُسمَّى «العالم كإرادة وفكرة» وهو آية نبوغه وبرهان عبقريته، ولقد كتب هو نفسه عن هذا الكتاب حين أرسل صورته الخطية للناشر يقول: ليس كتابه هذا مجرد تكرار للآراء القديمة، ولكنه بناء شامخ من فكر مُبتدع، وأنه «قوي واضح ولا يخلو من جمال.» فهو كتاب «سيكون بعدئذٍ مُعينًا وسببًا لمائة كتاب.» يبعث هو على تأليفها فلم يشكَّ «شوبنهور» في أنه حلَّ في كتابه ذاك كل مسائل الفلسفة الهامة، حتى إنه فكر في أن يتَّخِذ لنفسه خاتمًا منقوشًا عليه صورة أبي الهول وهو يُلقي بنفسه في الهاوية؛ إذ قيل إن أبا الهول قد أخذ نفسه بأن يفعل هذا إذا ما حُلَّت ألغازه وزال عنها الغموض.
ولكن الكتاب رغم هذه المكانة كلها لم يجد في الناس قارئًا، لقد كان الناس مَنهوكي القُوى يتمرَّغون في حمأة الفقر فما حاجتهم إلى قراءة كتاب يُحدِّثهم عن فقر العالم وشقائه؟! ومهما يكن من أمر، فقد طُبع الكتاب ولبِث أكداسًا مركومة في المخازن، فلمَّا مضَت بعد طبعِه ستة عشر عامًا أُنبئ «شوبنهور» أنْ قد بيعت الكثرة العُظمى من نُسَخ الكتاب ورقًا تالفًا، وقد كتَب في مقالٍ له عن «الشهرة» مشيرًا إلى كتابه ذاك: «إنَّ مثل هذه الكتب كالمرآة إذا نظر فيها حمار فلا يتوقعنَّ أن يرى فيها ملَكًا.» «وهل إذا ما تصادم رأسٌ وكتاب، ثم انبعث من أحدِهما صوتٌ أجوف، أويكون الأجوف هو الكتاب دائمًا؟» ثم يستطرد «شوبنهور» في هذا المقال فيزهو بنفسه كأنما يريد أن ينتقم لكبريائه الجريح: «كلَّما كان الرجل تابعًا للخلف — أو بعبارةٍ أخرى كلما كان تابعًا للإنسانية بصفةٍ عامَّة — كان أبعدَ عن مُعاصريه؛ لأنه إذا كان كتابه لا يقصد إليهم كمُعاصرين، بل يخاطبهم كجزءٍ من الإنسانية عامة، فلن يصطبغ الكتاب باللَّون المحلي الذي يألفونه، ويمسُّ قلوبهم»، ثم يقول في لغةِ ثعلب العنب: «هل يَغْتَرُّ الموسيقيُّ عندما يضجُّ سامعوه باستحسانه إذا علم أن كثرتهم الغالبة صمَّاء وأنهم أوصوا شخصًا أو شخصَين ليُصفقوا عنهم لكي يُخْفُوا من أنفسهم عاهة الصَّمم؟ وماذا هو قائل إذا ما عرف أن ذلك الشخص أو الشخصين لم يصيحا باستحسانه إلا بعد أن ارتشيا ليفعلا هذا؟»
أما مؤلَّفاته الأخرى فأهمُّها وأوسعها انتشارًا «المقالات» التي نشرَها في سنة ١٨٥١م، وهو كتاب مُفعَم على صغره بالحكمة. وجدير بنا أن نذكر أن الفيلسوف لم يأخذ من ناشر الكتاب ثمنًا لكتابه إلا عشر نُسَخ منه.
لبِث «شوبنهور» في وحدته وعُزلته بعد أن غادر «فيمار» ولبث يُعاني تلك الحالة الرتيبة التي لا تأتيه بجديد، حتى تهيَّأت له في عام ١٨٢٣م فرصة طالما تمنَّاها، وهي أن يُتاح له أن يحاضر في فلسفته في إحدى الجامعات، فلمَّا كانت تلك السنة دُعِي إلى جامعة برلين ليبسُط فلسفته للطلاب، فتعمَّد أن يُحدد لإلقاء محاضراته نفس الأوقات التي كان يلقي فيها «هجل» محاضراته، وكان «هجل» في ذلك الحين في ذروة مجدِه وقمة شُهرته، له صوت بعيد في الطلَّاب، وكان «شوبنهور» يحسَب أن جموع الطلاب لن تلبَث أن تُقبل عليه، وقد كان يكون هذا لو لم يكن الطلاب قد ملأهم الإعجاب بهجل وملَك عليهم نفوسهم، ولم يعُد فيها مجال للإعجاب بأحدٍ غيره، ولكنه أحسن الظنَّ بتقدير الطلاب إلى حدٍّ بعيد، فخاب فَألُه، إذ ألفى نفسه يلقي محاضراته وليس أمامه إلا صفوف من المقاعد الخاوية، فلم يسعْه إلا أن يستقيل من هذا المنصب الذي طالما رجاه، وكأنما أحسَّ بشيءٍ من الغيط نحو «هِجِل» الذي سيطر على نفوس الطلاب جميعًا، فراح ينتقِم لنفسه منه بما نشَر عنه من نقد. وفي عام ١٨٣١م انتشرت الكوليرا في برلين، ففر «هِجِل وشوبنهور» استبقاء لحياتهما، ولكن «هِجل» عجَّل بالعودة إلى برلين حيث لقِيَ حتفه، أما «شوبنهور» فواصل السير حتى استقرَّ في فرانكفورت، وهنالك طاب له المقام، فعاش بها اثنين وعشرين عامًا انتقل بعدَها إلى جوار ربه.
لقد أنكرت الجامعات «شوبنهور» كما أنكرت كتُبه، فكانت بذلك الإنكار كأنما تؤيد ما زعمه هو نفسه من أنَّ الفلسفة لم تتقدَّم خارج جدران الجامعات، ولكن «شوبنهور» لم تُخامره خلجةٌ من الشك في أن الناس لا بدَّ معترفون يومًا بمكانته، أسرع ذلك اليوم أم أبطأ، ولقد حقَّقت الأيام رجاءه بعد أعوامٍ طوال، فأقبل على فلسفته المُثقفون من الطبقات المتوسطة كالمُحامين والأطباء والتجار؛ لأنهم لم يجدوا فيه الفيلسوف الذي يرطن بضخام الألفاظ عمَّا وراء الطبيعة، ولكنهم ألفَوه يشرح بفلسفته ظواهر الحياة شرحًا يسير الفهم سهل الإساغة.
جاءته الشهرة التي تمنَّاها وتوقَّعها، ولم يكن من الشيخوخة بحيث لا يستطيع أن يتمتَّع بها، بل كان له من حيوية الشباب ما مكَّنه من التمتع بشهرته، فأخذ يقرأ كل ما كان يُنشَر عنه من مقالات، وطلب من أصدقائه أن يُرسلوا إليه كل ما يقعون عليه في الصحف وغير الصحف ممَّا يتصِل به بسبب وعليه أجرة البريد! وقد بعث إليه «فاجنر» في سنة ١٨٥٤م بتقديره وإعجابه بفلسفته في الموسيقى، فسُرَّ «شوبنهور» بذلك سرورًا كاد ينقلب معه تشاؤمه إلى تفاؤل … وقد كان في كهولتِه يضرب على القيثارة كلَّ يومٍ بعد الغداء ويحمد الأيام التي خلَّصته من نيران الشباب المحتدِم، وبلغ في سنة ١٨٥٨م عامه السبعين، فتدفَّقت إليه جموع غفيرة من كل حدبٍ وصوب ليرَوه، كما انهالت عليه رسائل التهنئة بذلك العيد.
ثم عاش بعد ذلك عامين، وفي اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر سنة ١٨٦٠م جلس وحدَه على مائدة الإفطار وعليه علائم الصحَّة، ولكنَّ سيدة الدار رأته بعد ساعةٍ كاملة لا يزال جالسًا إلى مائدته ساكنًا لا يتحرَّك. لقد مات.
(٣) العالم فكرة
أول ما يفجؤك من كتاب «شوبنهور» «العالم كإرادة وفكرة» أسلوبه الذي صِيغ فيه، فلن يصادفك منه إلا عبارة سهلة المأخذ، يسيرة الفهم، لا يشُوبها شيء من تلك المصطلحات المُعقَّدة التي نراها عند «كانْت» ولا شيء من ذلك الغموض الذي يصدمك عند «هِجِل». وممَّا يلفِت نظر القارئ في هذا الكتاب فضلًا عن سهولة عبارته سَبْك الأفكار سبْكًا يستدعي الإعجاب الشديد، ففكرته الأساسية هي أنَّ العالَم إرادة، ثم يترتَّب على الإرادة كفاح وجهاد، ثم يَنبني على الكفاح بؤس وشقاء، فقد جاء هذا الكتاب جديدًا في كلِّ شيء، جديدًا في وضوح عبارته بعد ما رأيناه ممَّن قبله من غموضٍ وإبهام؛ وجديدًا في اتصال ما فيه من أفكار بالحياة الواقعة، وجديدًا بكثرة ما فيه من الأمثلة التوضيحية التي لم يرَ «شوبنهور» — وهو ابن رجل الأعمال — بدًّا منها لجلاء الفكرة؛ وجديدًا حتى في فُكاهته؛ لأنَّ وجود المُلَح الفكاهية في كتابٍ فلسفي كان ظاهرةً تلفت النظر بعد «كانْت».
ولكن إذا كانت تلك منزلة الكتاب، فلِمَ نَبذُه وكسادُه؟ والجواب على ذلك أنه إنما نُبِذ وكسَد؛ لأنه هاجم أساتذة الجامعة، وهم الطائفة الوحيدة التي كان في وُسعِها أن تذيع الكتاب وتنشُره، فقد كان «هِجِل» هو الآمِر المُسيطر على ميدان الفلسفة في ألمانيا سنة ١٨١٨م، ومع ذلك لم يعبأ به «شوبنهور»، وبدأ كتابه بأعنف النقد «لهجل».
ويبدأ الكتاب بهذه العبارة: «العالَم هو فكرتي عنه» وهو يقصد ما ارتآه «كانْت» من قبلُ من أنَّنا نعلم العالم الخارجي بوساطة الحواسِّ والأفكار، ثم يستطرد «شوبنهور» فيعرض المذهب المِثالي عرضًا واضحًا قويًّا، ولكنه مع ذلك أضعف أجزاء الكتاب وأقلُّها أصالةَ رأي، وكان خيرًا له وللكتاب أن يؤخِّر هذا الجزء من أن يقدِّمه ويصدِّر به الكتاب، فلقد لبِث الناس جيلًا كاملًا وهم لا يعلمون أنَّ «شوبنهور» قد استهلَّ الكتاب بأضعف فصوله ليتَّخِذ منها ستارًا يُخبئ وراءه فِكرَه المُمتع الطريف. ولعلَّ أهم ما جاء في هذا الجزء الأول هو هجومه على المذهب المادي، فقد تساءل كيف نُفسر العقل بأنه مادة ما دُمنا لا نعلم المادة إلا بواسطة العقل؟ ثم يقول إنه من المُستحيل أن نستكشف كُنه الحقيقة بأن نبدأ ببحث المادة، ثم ننتقِل منها إلى الفِكْر، بل يجب أن نبدأ بذلك الذي نعرفه معرفةً مباشرة قريبة أعني أنفسنا «إنَّنا لن نصل إلى طبيعة الأشياء الحقيقية إذا بدأنا السير من الخارج، فمهما طال البحث فلن نُدرك شيئًا، اللهم إلا صورًا وأسماء.» أما إذا عرفْنا طبيعة عقولنا أوَّلًا فلقد ظفِرْنا بمفتاح العالم الخارجي.
(٤) العالم إرادة
فكِّر في كفاح الناس للحصول على طعامهم وزوجاتهم، ثُم في تربية أطفالهم، وسائل نفسك: هل يمكن أن يكون هذا من عمل الفكر؟ كلا ولا رَيْب، إنما هو نتيجة لإرادة الإنسان أن يحيا حياة كاملة «فقد يبدو على الناس أنهم مقُودون من الأمام، والواقع أنهم مسُوقون من الخلف.» فهم يظنُّون أنهم مُسيَّرون بما يرون لأنفسهم، وهم في الحقيقة مدفوعون بإحساسٍ غريزي ما أكثر أن يسلبهم إدراكهم الواعي، فليس العقل من الإنسان إلا وزيرًا لخارجيته «قد أنتجته الطبيعة ليخدُم إرادة الفرد، والقصد منه أن يتعرَّف الأشياء بمقدار ما هي دوافع للإرادة، لا أن يَسبر غورَها أو يفهم حقيقة وجودها» أما الإرادة «فهي العنصر الوحيد الدائم الثابت.» وهي التي تعمل بما ترمي إليه من غرضٍ على توحيد مشاعر الإنسان وربط أفكاره وآرائه بعضها ببعض، والجمع بينها في وحدةٍ متناسقة دائمة.
هذا وإن شخصية الإنسان لتُشكلها إرادته لا عقله، وما أصدقَ العامة حين يُؤثِرون «القلب» على «العقل»؛ لأنهم مُوقنون أن الإرادة الطيِّبة أعمق من العقل الخالص، وإنا لنلاحِظ أن الناس إذا ما أطلقوا على رجلٍ اسمًا من تلك الأسماء التي تتضمَّن حدَّة الذكاء «كالداهية» أو «العليم» أو «الماكر»، فإنهم إنما يُبطنون وراء هذه التسمية رِيبتَهم في ذلك الرجل وكُرهَهم له؛ «لأن نبوغ العقل يستثير الإعجاب، ولكنه يستحيل أن يستتبع المحبَّة.» ألستَ ترى «جميع الديانات تُبشِّر بالجزاء … لحسنات الإرادة أو القلب، ولكنها لا تَعِد نبوغ العقل والفهم شيئًا؟»
بل إنَّ الجسم نفسه لثمرةٌ أنتجتْها الإرادة، فالدم الذي تدفعه تلك الإرادة التي نُسمِّيها — على وجه التقريب — بالحياة، يبني أوعيتَه التي يجري فيها بأن يشقَّ لنفسه قنواتٍ في الجنين، ثم تزداد تلك القنوات تعمُّقًا، ثم تُصبح بعدُ عروقًا وشرايين. وإرادة الإنسان أن يَعْلَم تَبني المخ، كما أنَّ إرادته أن يقبِض على الأشياء تكوِّن الأيدي، وإرادة أن يأكل تهذب الجهاز الهضمي، وليس هذا الازدواج؛ صورة الإرادة من ناحية، والصورة الجسدية من ناحيةٍ أخرى إلا جانبَين لعملية واحدة، ولعلَّ أوضح ما تتَّضِح فيه العلاقة بين الإرادة والجسَد هي العواطف، حيث ترى الشعور المُعيَّن يتبعُه تغيرات بدنية مُعينة، وهذه وتلك تكوِّنان كلًّا واحدًا مُرَكبًا.
«إنَّ عمل الإرادة وحركة الجسم ليسا شيئَين مختلفين تُفرِّق بينهما تفرقةً موضوعية، ويتَّحد أحدهما بالآخر برباط السببية، أي أن ما بينهما من صِلةٍ هي صلة العِلة بمعلولها. بل هما شيء واحد، ولو أنهما يحدُثان بطرقٍ مختلفة أتمَّ الخلاف … إن عمل الجسيم ليس إلا عمل الإرادة مجسدًا، وهذا صحيح في كل حركةٍ من حركات الجسم … فليس الجسم كله إلا إرادة تجسَّدت … فيجِب لذلك أن تُقابِل أجزاء الجسم الرغبات الرئيسية التي تتجلَّى فيها الإرادة تقابلًا تامًّا، فلا بدَّ أن تكون تلك الأجزاء هي التعبير المرئي لهذه الرغبات، فالأسنان والحلق والأمعاء هي الجوع قد تجسَّد، وأعضاء التناسُل هي الرغبة الجنسية قد تجسَّدت … ويكون الجهاز العصبي في جُملته أداة الحسِّ التي تشعُر بها الإرادة فتمدُّها لتتحسَّس بها في الداخل وفي الخارج … وكما أن الجنس الإنساني بصفةٍ عامة يقابِل الإرادة الإنسانية بصفةٍ عامة، فإن البنية الجسدية للفرد تُقابل إرادة الفرد، أي شخصيته.»
الإرادة إذن هي جوهر الإنسان، فماذا يمنع أن تكون جوهر الحياة في كل صورها، بل ماذا يمنع أن تكون جوهر الجماد؟ لم لا تكون الإرادة هي «الشيء في ذاته» الذي طالما بحثنا عنه، وطالما يئسنا من الوصول إليه؟ ألا إنَّ الإرادة هي الحقيقة النهائية، وهي كُنْه الأشياء الخفي.
إذن فلنحاوِل أن نُفسِّر مظاهر العالم الخارجي بالإرادة، ولنضرب من فورِنا إلى أعماق الموضوع فنرفُض ما قاله السابقون من أنَّ الإرادة ضرب من القوة، ونزعُم أن القوة هي صورة من صوَر الإرادة، فإذا أُلقي علينا سؤال «هيوم»: ما هي السببية؟ أجبنا: إنها الإرادة، فكما أن الإرادة هي العِلة العامة التي توجِّه أنفسنا، فهي كذلك عِلة الأشياء، وما لم نفهم العِلة على أنها إرادة، فسنظلُّ نردِّد ألفاظًا غامضة «كالقوة» «الجاذبية» وما إليهما، فنحن لا نعلم ما هذه القوى، ولكنَّنا نعلم — ولو إلى حدٍّ ما — ما هي الإرادة؟ فلماذا لا نقول إنَّ الطرد والجذب، والكون والفساد، والمغناطيسية والكهرباء، هي إرادة؟ ولقد أشار «جوته» إلى هذه الفكرة في عنوان إحدى قصصه إذ سمَّى تجاذُب الحبيبَين الذي لا مندوحة عنه «بالتشابُه الانتخابي»، ولعلَّه يريد أنَّ القوة التي تجذِب المُحبَّ إلى حبيبه هي هي القوة التي تجذب كوكبًا إلى كوكب.
هذا وإنا لنلاحِظ في حياة النبات أننا كلما هبطنا إلى أسفل صور الحياة صغُرَ الدور الذي يلعبه العقل، ولكن الإرادة تظلُّ هي هي «إنَّ ما فينا من إرادة تُتابع أغراضها في ضوء المعرفة، ولكن الإرادة هنا (أي في النبات) … تكافح كفاحًا أعمى وأبكم على صورةٍ محدودة لا تتغيَّر … إنَّ اللاشعور هو الحالة الأولية والطبيعية لسائر الأشياء، ولذا فهو الأساس الذي تفرَّع عنه الشعور — وبخاصة في الأحياء — كجوهرها الأسمى، ولكنَّ اللاشعور تظلُّ له السيطرة حتى في الكائنات ذوات الشعور. وعلى ذلك فمُعظم الموجودات تعمل بلا شعور، ولكنها تسير تبعًا لقوانين طبيعتها أعني إرادتها. فالنباتات ليس لها من الإدراك الشعوري إلا ما يُشبه الإدراك شبهًا غايةً في الضعف، وليس لأحوَطِ أنواع الحيوان إلا بصيص من الإدراك فقط، وحتى بعد أن يصعد الشعور مُجتازًا مراحل الحيوان إلى أن يصِل إلى عقل الإنسان، فإنَّ اللاشعور الذي رأيته في النبات الذي بدأ منه الشعور يظلُّ هو الأساس، ويُمكننا أن نلمس وجوده في ضرورة النوم.»
إن المهارة الآلية العجيبة التي نشاهدها في الحيوان لتُبيِّن لنا في جلاءٍ كيف أنَّ الإرادة أسبق من العقل. ألم ترَ إلى ذلك الفيل الذي سِيق إلى القارة الأوروبية، والذي عبَر في رحلته تلك مئاتٍ من الجسور (الكباري) كيف أبى أن يعبُر على جسرٍ ضعيف على الرغم من أنه رأى كثيرًا من الجياد والناس يعبرونه، ثم ألا ترى كيف يُحجِم الجرو الصغير عن القفز من المائدة؛ لأنه يخشى عواقب تلك القفزة، وهو لا يخشاها بناءً على البرهان العقلي (لأنه لم يسبِق له تجربة من هذا النوع حتى يتسنَّى له الحُكم) إنما هو يُحجِم بغريزته، بل انظر إلى قرود «الأورانج أوتانج» كيف تسعى إلى النار لتصطلِيَها، ولكنها يستحيل أن تُخطئ فتحاول أكلها، فليس هناك سبيل إلى الشكِّ في أنَّ هذه الأمثلة وأضرابها غريزة وليست نتيجةً لمنطق، إنها أعمال الإرادة لا العقل.
هذه الإرادة التي طال حديثنا عنها هي إرادة الحياة — أعني الحدَّ الأقصى من الحياة — وليست تقتصِر هذه الإرادة للحياة على كائنٍ دون آخر، بل كلها يريدها ويسترخِص كلَّ شيءٍ في سبيلها، انظر إلى حبة القمح كيف تحتفظ بقوَّة الحياة الكامنة فيها ثلاثة آلافٍ من السنين، حتى إذا ما ظفرت بالظروف المُلائمة للنموِّ ترعرَعَت نباتًا، بل فكِّر في هذه الضفادع الأحياء التي وُجِدت في ثنايا حجَر الجير، والتي لبِثَت في مخبئها ذاك عدة آلاف من السنين ترقُب العودة إلى الحياة في صبرٍ جميل، نعم إنها إرادة الحياة هي التي تُسيطر على الكائنات كلها، وأما عدوُّها الأبدي فهو الموت.
أفلا تستطيع أن تهزِم الموت؟
«إن الإرادة لتبدو في التناسُل مستقلةً عن المعرفة، فهي تسير في هذا المجال سيرًا أعمى، كما تعمل في الطبيعة اللاشعورية … وبناء على هذا كانت أعضاء التناسُل هي بؤرة الإرادة بعَينها، وهي المركز الذي يُقابله المخ الذي يمثل المعرفة من ناحية أخرى … وأعضاء التناسُل هي أساس حِفظ الحياة … لأنها تتضمَّن حياةً لا تنتهي، ومن أجل هذا عَبَدها منذ القِدَم اليونان واليهود … إنَّ العلاقة بين الجنسَين … هي في الواقع النقطة المركزية الخفية لكلِّ عملٍ وسلوك، وهي تتجلَّى في كل شيءٍ برغم ما نحاول سترَها به من الأقنعة، إنها سبب الحروب، وهي الغاية من السلام، هي أساس الجدِّ والغاية من المزاح، وهي الينبوع الفيَّاض بمُستملَح النكات، وهي مفتاح كل تلميح، ومعنى كلِّ ما غمض من العبارات … إنَّنا نراها لا تني في رفع نفسها لتكون سيدةَ العالم سيادةً وراثية حقيقية، تريد أن تتربَّع على عرش الآباء بفضل اكتمال قوَّتِها، وتُلْقِي من أوْجها نظرةً كلها السخرية والاستخفاف بما يتَّخِذه الناس لها من قيودٍ وأغلال، أو بما يُعَدُّ لتحديدها على أقلِّ تقدير، أو لمَحوِها إن أمكن، بل إنها لتهزأ من السيطرة عليها سيطرة تنزل بها إلى منزلةٍ من الحياة ثانوية فرعية.»
إن فلسفة الحبِّ لتدور حول تبعية الأب للأم، أو تبعية الوالد لولدِه، أو تبعية الفرد للنوع، وقانون الجاذبية الجنسية هو قبل كلِّ شيء اختيار الأليف اختيارًا لا شعوريًّا، بحيث يتلاءم الأليفان لإنتاج النَّسْل.
«كلٌّ يبحث عن أليفه الذي يمحو منه جوانب النقص حتى لا تورَّث … فالرجل الضعيف البنية يبحث عن امرأةٍ قوية … وكل إنسانٍ سيرى ما في أليفه من نواحي الكمال التي تعوزه هو جميلًا، كلا بل إنه ليصِف بالجمال نواحي النقص من أليفه التي تُناقِض نواحي نقصه هو … إن الصفات الجسدية لأليفَين تكون بحيث تحتفظ للنوع بصفاته المُميزة بقدْر الإمكان، ومن أجل هذا يكون الواحد منهما متمِّمًا للآخر، ولذلك تراه يرغب فيه رغبةً قوية … إنَّ الفرد ليفقد جاذبيَّتَه للجنس الآخر بمقدار ما ابتعد عن أنسَب فتراتِ حياته للإنسال … ولذا فللشباب جاذبيَّته دائمًا حتى وإنْ خلا من الجمال، ولكن لا جاذبية في جمالٍ بغير شباب …»
ولكن ممَّا تجدُر ملاحظته في هذا الصدد أنَّ أشقى حالات الزواج هو ما تمَّ على أساسٍ من الحب (ولو أنه أصلَحُها لبقاء النوع)، وعلَّة هذا أن الغرض الأسمى من الاتحاد الجنسي هو بقاء النوع لا لذَّة الفرد. أما أسعد زواجٍ في رأي «شوبنهور» فهو ما يتمُّ بإشراف آباء الزَّوجَين، ولو أنَّ هذا الضرب من الزواج — على ما فيه من سعادة الزوجين — أقل ملاءمةً لحفظ النوع من زواج الحُب، ولهذا فإنَّ الفتاة التي تندفع وراء حُبِّها مُعرِضةً عن نُصح والديها تستحقُّ الإعجاب؛ لأنها آثرَتْ بطبيعتها ما هو أهمُّ وأكثر نفعًا؛ لأنها في مثل هذه الحالة تُفضِّل واجبها نحو جنسها عن سعادة شخصها، فالحبُّ هو أدقُّ وسيلة لاختيار الأزواج اختيارًا صالحًا، بحيث يؤدِّي إلى أحسن النتائج، وما دام الحبُّ خديعة تُدبِّرها الطبيعة لأداء أغراضها، فخير الزواج ما يمحو هذه الخديعة، ولا يستطيع أن يفعل ذلك، وبعبارةٍ أخرى لا يستطيع أن يسعد بزواجه، إلَّا الفيلسوف، ولكن الفلاسفة لا يتزوَّجون.
ومما يدلُّ أيضًا على خضوع الفرد لحاجات جنسِه، وعلى أنه مجرد أداة يتخذها الجنس لاستمرار بقائه، هو أن حيوية الفرد تتوقَّف على حالة خلاياه التناسُلية.
«يجِب أن تُعتبَر الغريزة الجنسية روح شجرة النوع التي تنمو عليها حياة الفرد، فالفرد من نوعه كالورَقة من الشجرة تتغذَّى منها وتغذوها، وهذا هو السبب في قوة الغريزة الجنسية، وفي أنها تنشأ من أعماق طبيعتنا. فإذا خُصِيَ فردٌ كان ذلك بمثابة قطعِه من شجرة النوع التي ينمو عليها، وإذا ما انفصل من شجرته فلا بدَّ أن يذبُل ويذوي، ومن ثم تنحطُّ قواه البدنية والعقلية، وممَّا يلاحظ أنَّ خدمة الفرد للنوع — أعني قيامه بعملية التلقيح — يتبعها دائمًا تعَبٌ مؤقَّت وانحطاطٌ في كلِّ القوى، وقد يتبعها الموت العاجل عند مُعظم الحشرات، أما عند الإنسان فخمود القوى التناسُلية معناه أنَّ الفرد يدنو من الموت، والإفراط في استخدام هذه القوة في أية سِنٍّ مَدعاة لتقصير الحياة، والاعتدال من ناحيةٍ أخرى يزيد قوى الإنسان كلها، وبخاصةٍ القوى العضلية، وقد رُوعي هذا الأساس في تدريب الرياضيين الإغريق … وإنَّ ذلك ليدلُّ على أنَّ حياة الفرد في أعماقها ليست إلا جزءًا مستعارًا من حياة النوع … التناسُل هو الأوْج الأعلى الذي يهوي منه الفرد بعد بلوغِه إيَّاه هُوِيًّا سريعًا أو بطيئًا، بينما الحياة الجديدة (التي أنسلها) تؤكد للطبيعة بقاء النوع، ثم هي تُكرِّر الظاهرة بعينها … وهكذا يكون تعاقُب الموت والإنسال بمثابة نبضات القلب للنوع … إنَّ الموت بالنسبة إلى النوع كالنوم بالنسبة إلى الفرد … هذا هو مذهب الطبيعة العظيم في الخلود … إذ العالم بأسرِه — بكل ما فيه من ظواهر — هو تجسيد إرادة واحدة خفية … ويقول جوته: «إنَّ لأرواحنا طبيعة تستعصي على الفناء، وإنَّ فاعليتها لتمتدُّ من الأزل إلى الأبد. إنها كالشمس التي تبدو غاربةً لأعيُنِنا الأرضية، ولكنها في الحقيقة لا تغرُب أبدًا وتضيء بلا انقطاع.» ولقد أخذ منِّي «جوته» هذا التشبيه، لا أنا الذي اقتبستُه منه.
نحن كلُّنا أجزاء من حقيقةٍ واحدة، ولكن وجودنا في زمانٍ ومكان يظهرنا بمظهر الكائنات المنفصلة، فالزمان والمكان هما أصل الانفصال الفردي الذي تنقسِم به الحياة إلى كائناتٍ عضوية متميزة تبدو كأنما هي أشتاتٌ متفرِّقة في أمكنةٍ مختلفة، وفي فتراتٍ من الزمان مُتباعدة، فليس الزمان والمكان إلا نقابًا وهميًّا يخفي عن أعيُنِنا اتحاد الأشياء، إذ ليس في واقع الأمر إلا نوعٌ واحد، أو قل: حياةٌ واحدة، أو إن شئتَ فقل إرادة واحدة، وكُنه الفلسفة هو أن «تُفهمك في جلاءٍ أنْ ليس الفرد إلا الظاهرة لا الشيء في ذاته»، وأن تريك «دوام الصورة الثابتة من خلال تغيُّر المادة المُتصل».
إن من لا يستطيع أن ينظُر إلى الناس والأشياء جميعًا وفي كلِّ عصور التاريخ كأشباحٍ وأوهام فليستْ له ملَكة الفلسفة … إنَّ فلسفة التاريخ الصحيحة هي إدراك وجود ثابتٍ لا يتغيَّر، وإن بدا كما تراه مُتغيرًا تغيُّرًا لا نهاية له في الحوادث المُتشابكة. فهو يتابع اليوم نفس الأغراض التي كان بالأمس ينشُدها إلى الأبد. فعلى فيلسوف التاريخ أن يتعرَّف — بناءً على هذا — تلك الصفة الواحدة في كل الحوادث … وعليه أن يرى أنَّ الإنسانية هي في كلِّ مكانٍ على الرغم ممَّا توجِبه الظروف الخاصَّة من أوجه الخلاف في العادات والأخلاق والأزياء … فقراءتك «لهيرودوتس» — من وجهة نظر فلسفية — تكفي لدراسة التاريخ … في كلِّ زمانٍ وفي كل مكان، ورمز الطبيعة الحقيقي هو الدائرة؛ لأنها تُعبِّر عن التكرار.»
إنَّنا نميل إلا الاعتقاد بأنَّ مراحل التاريخ كلها إنما كانت خطواتٍ تمهيدية ناقصة في ذاتها، قُصِد بها أن تؤدِّي إلى عصرنا الذي نعيش فيه، ولكن هذه الفكرة بتقدُّم العالَم خداع وضلال «لقد نطق حكماء العصور كلها قولًا بعَينه، وكان السُّوقة في العصور كلها الذين يكوِّنون الأغلبية الساحِقة مُتشابهين في أعمالهم وأساليبهم … وهكذا ستستمرُّ الحال؛ لأنَّنا كما يقول «فولتير» سنترك الدنيا كما وجدناها في جهلها وشقائها.»
وإنا لنلمَح في هذا معنًى جديدًا للجبرية، يقول «سبينُوزا» إنه لو كان للصخرة التي تُلقى في الهواء إدراك لأيقنَتْ أنها إنما تتحرَّك بإرادتها الحرة. وأنا أُضيف إلى قوله هذا أنَّ الصخرة لو فعلتْ هذا لأصابت؛ لأنَّ القوة التي تندفِع بها الصخرة هي كالقوة التي تدفعني أنا، وإنَّ ما يظهر في الصخرة من تماسُكٍ وجاذبية وصلابة هو في جوهره نفس ما أراه في نفسي وأُسمِّيه بالإرادة، وهو ما كانت الصخرة كذلك تُسمِّيه بالإرادة لو وُهِبَت المعرفة، ولكن الإرادة ليستْ حُرَّة لا في الصخرة ولا في الفيلسوف، نعم إنَّ الإرادة في مجموعها — ككل مُتَّحِد — حرة؛ لأنه ليس ثمة إرادة إلى جانبها تُحَدِّدُها، ولكن كل جزء من تلك الإرادة العامة — كل نوع على حِدة، ثم كل كائن عضوي من النوع، ثم كل عضو من هذا الكائن — محدود بما يَرسُمه له الكل.
«إنَّ كلَّ إنسانٍ ليعتقد أنه حرٌّ منذ الأزل حريةً كاملة، حتى في أعماله الضرورية، وهو يظن أنه في كل لحظةٍ قادر أن يبدأ ضربًا جديدًا من الحياة، وليس معنى ذلك إلَّا أنه يستطيع أن يكون شخصًا آخر، ولكن التجربة سرعان ما تُعلِّمه أنه ليس حرًّا، وأنه خاضع للضرورة، وأنه لا يتسنَّى له أن يُغيِّر من سلوكه على الرغم من كلِّ ماله من عزمٍ وتأمُّل، وأنه لا بدَّ له — من بدء حياته إلى نهايتها — أن يُنفِّذ نفس الأخلاق التي قد يُنفِّدُها هو نفسه، وأن يلعب الدور الذي أسند إليه حتى ختامه.»
(٥) العالم شر
ولكن إذا كان العالَم في جوهره عبارة عن إرادة كما بيَّنا، فلا بدَّ أن يكون مليئًا بألوان الشقاء والعناء.
(١) فهو عالم شر وسوء؛ لأن الإرادة معناها الحاجة، وهي دائمًا تتطلَّع إلى أكثر مما تظفر به، فإذا تحقَّقت لك رغبة وجدتَ إلى جانبها عشر رغباتٍ قد أعوزها التحقُّق؛ إذ الرغبة لا نهائية لا يحدُّها شيء، أما بلوغها وتحقُّقها فمَحدودان، فإذا بلغتَ مأربًا أو حقَّقتَ رغبة فما ذاك إلا «كالحسَنة نقذِف بها إلى الفقير، فتحفظ حياته اليوم لكي يمتدَّ شقاؤه إلى الغد … إنه ما دام إدراكنا مغمورًا بإرادتنا، وما دُمنا خاضعين لمُزدحِم الرغبات بآمالها ومخاوفها التي لا تنقطع، ما دُمنا مدفوعين لإرادة هذا الشيء أو ذاك، فيستحيل أن نحيا في سعادةٍ كاملة أو في سلامٍ دائم.» هذا فضلًا عن أنَّ بلوغ الأمل لا يستتبع القناعة والرضا، فليس أقتَلَ للمَثَل الأعلى من تحقُّقه، «وإنَّ العاطفة الراضية القانعة تؤدي إلى السعادة؛ لأنَّ حاجاتها كثيرًا ما تتعارض مع المصلحة الشخصية لصاحب تلك العاطفة حتى ينتهي الأمر إلى سحْق تلك المصلحة.» وإنَّ كل فردٍ ليحمل في طوية نفسه عوامل شقائه؛ لأنه إذا تحقَّقت له رغبة فإنها لا بدَّ أن تستتبع رغبةً جديدة تريد التحقُّق. وهكذا تتسلسل الرغبات إلى ما لا نهاية، «وعلَّة هذا هي أن الإرادة لا بدَّ أن تعيش على نفسها؛ لأنه ليس ثمَّة شيء سواها، وهي إرادة أبدًا جائعة.»
«إن في كلِّ فردٍ حوضًا من الألَم لا محيص له عنه … وهو حوض يستحيل أن يظلَّ فارغًا كما أنه لا يمكن أن يسَع أكثر مما يملؤه … فإذا ما أزيح عن صدورنا عناءٌ جسيم مُضنٍ … حلَّ مكانه على الفور عناءٌ آخر، ولقد كانت مادة هذا العناء موجودة فعلًا، ولكن منعها أن تجد سبيلها إلى الشعور بها أنْ لم يكن هنالك من القوى ما يفرغ لها … أمَّا الآن وقد خلا لها مكان، فإنها تندفع وتتبوَّأ مكانها.»
(٢) وهو أيضًا عالم شر وسوء؛ لأنَّ الألم هو دافعه الأساسي وحقيقته الجوهرية، وليست اللذَّة إلا امتناعًا سلبيًّا للألم، ولقد أصاب «أرسطو» إذ قال: إنه لا ينبغي للحكيم أن ينشُد اللذَّة، وحسبُه أن يتخلَّص من الألم والشقاء.
«إن كلَّ ما يُقنِع الناس أو ما يُسمُّونه عادة بالسعادة سلبيٌّ في حقيقته وجوهره … فنحن لا نشعُر تمام الشعور بما لدَينا من أسباب النعيم ولا نحمدها، بل ننظُر إليها باعتبارها شيئًا طبيعيًّا لا أكثر؛ وذلك لأنها لا تنفعنا إلا على نحوٍ سلبي فقط، بأن تقِف أسباب العذاب، لا نُدرِك قيمتها إلا إذا فقدناها؛ لأنَّ الحاجة والحرمان والأسى هي الجانب الإيجابي الذي يتَّصِل بنا اتصالًا مباشرًا، ماذا دفع الكلْبييِّن إلى نبذ اللذَّة في كل صورها إنْ لم يكن الألَم في واقع الأمر دائمًا يمتزِج باللذَّة بمقدارٍ يكثر أو يقل؟ …»
(٣) والحياة شر وسوء؛ لأنه «لا تكاد الحاجة والألم يسمَحان للإنسان بشيءٍ من الراحة حتى يشعُر بالسآمة على الفور، بحيث لا يكون له غنًى عن التسلية.» أعني مزيدًا من الألم. وحتى لو ظفرنا للإنسان بالمدينة الفاضلة، فإنه لا بدَّ أن يتبقَّى من الشرور ما لا يُحصيه العد؛ لأن بعضها — كالجهاد مثلًا — جوهري للحياة، وإذا نحن مَحَونا كلَّ شر، وامتنع الجهاد امتناعًا تامًّا أصبحت السآمة عبئًا غير مُحتمَلٍ كالألم سواء بسواء، ولهذا ترى «الحياة تتأرجَح كالبندول إلى الأمام والخلْف بين الألَم والسأم … إنَّ الإنسان بعد أن كوَّن من آلامه وعذابه فكرة الجحيم، رأى أن يبقى لدَيه شيء يكوِّن منه الجنة إلا الملل.» والواقع أنَّنا كلما ازدَدْنا في الحياة نجاحًا ازدَدْنا ضجرًا ومللًا.
(٤) والحياة شر؛ لأنه كلَّما علا الكائن العضوي في سُلَّم الارتقاء، وارتفع ازداد ما يُعانيه من ألَم، وإنَّ زيادة معرفته لا تحلُّ من الإشكال شيئًا؛ «لأنه كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالًا ازداد العناء ظهورًا ووضوحًا. ففي النَّبات لا يكون قد تمَّ الإحساس بعد، ولذا فلا ألم، ثم يُعاني أحطُّ أنواع الحيوان مقدارًا يسيرًا جدًّا من الألم … وحتى في الحشرات تكون قابلية الشعور والألم لا تزال محدودة، وأول ما تظهر تلك القابلية بدرجةٍ عظيمة حينما يكمُل تكوين الجهاز العصبي للحيوانات آكلة العُشب، ثم تزداد باطِّراد كلما نما العقل. وهكذا يزداد الألم كلما ارتفع الإدراك، أي بمقدار اقتراب المعرفة من الدقَّة، حتى يصِل إلى ذروته العُليا في الإنسان، ثم يزداد ما يُحسُّه الإنسان من ألمٍ كلما دقَّت معرفته واشتدَّ ذكاؤه، ولذا كان أشدَّ بنى الإنسان مُعاناة للألَم هو العبقري الموهوب.»
إذن فمتى ازداد قسط الإنسان من المعرفة ازداد الشقاء أيضًا. وإنَّ ذاكرة الإنسان التي يستعيد بها الماضي، وبُعد نظره الذي يستطلِع به المستقبل يُضيفان كثيرًا إلى بؤسِه وألَمِه؛ لأنَّ الشطر الأعظم مما تُعاني الإنسانية من ألَم، هو في استعراض الماضي أو في استطلاع المُستقبل، أما الألم في حدِّ ذاته فقصير. انظُر مثلًا كم يتألَّم الإنسان من فكرة الموت أكثر مما يؤلِمه الموت نفسه.
(٥) والحياة شر؛ لأنها قتال لا ينقطع، فأينما توجَّهتَ ألفَيتَ جهادًا وقتالًا ومنافسة، فكل نوع «يُقاتل لينتزِع ما يملكه الآخر من مادةٍ ومكان وزمان.»
حقًّا إن صورة الحياة في مجموعها لتحوي من صنوف الألم ما يربو على طاقة العقل المتأمِّل، فلا يسَع هذا العقل أن يُلم بكل ما هنالك من الألم وصنوف العذاب، وإن الحياة لتعتمِد على جهلنا بها بعض الجهل وعدَم إمكاننا معرفتها حقَّ المعرفة.
نحن تُعساء إذا تزوَّجنا، تُعساء إذا بَقِينا بغير زواج، تُعساء لو اعتزلْنا، تُعساء إذا خالطنا المجتمع، وإنَّ الحياة لمأساةٌ مُبكية ومَلهاة مضحكة «فلو ألقيتَ نظرك على حياة الفرد في مجموعها … بحيث ترى أبرز ملامحها وأدلَّها معنًى، لما وجدْتَها في حقيقتها إلا مأساة مُتَّصِلة، أما إذا تناولتَ بنظرك تفصيلاتها فإنك تراها ملهاة.» انظر إلى الحياة نظر باحثٍ مدقِّق.
فليس التفاؤل أمام كل هذه المصائب إلا سخرية من كوارث البشر. وصفوة القول: «إن طبيعة الحياة تبدو لنا في كلِّ ما تبدو فيه من صُوَر كأنما هي مقصودة ومُدبَّرة، بحيث تدعونا إلى العقيدة بأنْ ليس فيها البتَّة ما هو جدير منَّا بالجهاد والمجهود والقتال، وما طيِّبات الحياة كلها إلا عبثًا، والعالَم في كل ما يقصد إليه فاشِل، فهو كالعمل الذي لا يُغطِّي مصاريفه.»
لكي تكون سعيدًا ينبغي أن تكون في جهل الشباب الذي يحسب أنَّ العزم والجهاد سببان للسعادة؛ لأنه لم يعلَم بعدُ ظمأ الرغبة الذي لا ينطفئ وما ينجُم عنه من بلاء، ولم يعلَم أيضًا أن الرغبة حتى لو تحقَّقت فليس في تحقيقها نفع ولا ثمرة، ثم هو لم يستيقِن بعد أنَّ خاتمة الجهاد هزيمة ليس منها مَفر، «وإنَّ فرح الشباب ونشاطه يرجعان من ناحيةٍ إلى أنَّ الموت يكون خافيًا عنَّا حينما نكون صاعِدِين أكَمَة الحياة؛ لأنه يكمُن هنالك في الجانب الآخر … فإذا ما دَنَونا من ختام الحياة، فإنَّ كلَّ يومٍ نحياه يبعَث فينا نفس الإحساس الذي يحسُّه المجرِم في كل خطوة يخطوها في طريقه إلى المقصلة … لكي يعلَم الإنسان أنَّ الحياة قصيرة لا بدَّ أن يعيش طويلًا … فإلى عامنا السادس والثلاثين نكون — من حيث طريقة بذلنا لنشاطنا الحيوي — أشبَهَ بالذين يعيشون على أرباح أموالهم، يأخذون في الغد ما يُنفقونه اليوم، ولكن موقفنا بعد السادسة والثلاثين من عمرنا يكون كموقف صاحب المال الذي يبدأ في الإنفاق من رأس ماله … وإنَّ فزَع الإنسان من هذه الكارثة هو الذي يجعل حُبه للامتلاك يزداد كلما تقدَّم في السن … إنَّ أسعد أوقات الحياة ما بَعُد عن الشباب، وما أصدَقَ أفلاطون في ملاحظته التي أوردها في مستهلِّ جمهوريته من أنَّ الأفضل أن يُعطى أحسن الجزاء لِذي السنِّ المُتقدِّمة؛ لأن الشيخوخة تُحرِّر صاحبها من العاطفة الحيوانية التي لم تفتأ تُحرِّكه حتى ذلك الوقت … ومع ذلك فلا يجوز لنا أن ننسى أنه إذا ما خمدتْ هذه العاطفة ذهب معها لبُّ الحياة الحقيقي، حيث لا يبقى إلا القشرة الجوفاء، ومن ناحيةٍ أخرى تُصبح الحياة حينئذٍ كالمهزلة التي بدأت بمُمثِّلين حقيقيِّين، ثم استمرَّت هكذا، وانتهت آخِر الأمر بأشباحٍ آلية ارتدت ملابس أولئك.»
ثم يلاقي الإنسان مَنيَّته آخِر الأمر، ومن العجب أنه إذ أخذَتِ الخبرة والتجربة في التحوُّل إلى حكمة، بدأ المخ والجسم عامَّة في التدهوُر «إنَّ كل شيءٍ لا يلبَث إلا لحظة، ثم يُسرع في طريقه إلى الموت.» وإذا سوَّفَتِ المنية للإنسان فصبرتْ عليه ومدَّت في أجلِه قليلًا، فهي إنما تلعَب به كما تلعب القطة بالجرذ الذي لا حول له ولا قوة «فمن الواضح أنه كما أنَّ المشي ليس بالبداهة إلا سقوطًا نُقاوِمه مقاومةً مُستمرَّة، كذلك حياة أبداننا ليست إلا مَوتًا نستمرُّ في مقاومته، هي موت نُسوِّف في حدوثه طول الحياة.» ومن أجل هذا ترى «طُغاة الشرق يضعون في ثنايا حُلِيِّهم الفاخرة ولباسهم الزاهر قارورة ثمينة من السُّم.» ففلسفة الشرق تفهم وجود الموت وجودًا مُتَّصلًا دائمًا، وهي تخلع على طلَّابها مظهرًا هادئًا ومشية بطيئة رزينة، ناشئان من إدراكهم لقِصَر الوجود الشخصي. إنَّ خشية الموت هي بدء الفلسفة، وهي العِلة النهائية للدين، ولمَّا كان أوساط الناس يعجزون عن التوفيق بين أنفسهم وبين الموت، تراهم يتَّخذون فلسفاتٍ وديانات لا يكاد يحصُرها العد، وإنَّ ما يسُود الناس من عقيدةٍ في الخلود لدليلٌ على خوفٍ مُفزع من الموت.
«وإذا كنَّا نصطنِع اللاهوت ليكون مهربًا من خوف الموت، فكذلك قد ينتابنا الجنون ليكون مهربًا من الألَم.»
يجيء الجنون وسيلةً يتَّخِذها ليتجنَّب بها ذكرى الألم، فهو قطع في سلسلة إدراك الإنسان، وقد تكون فيه نجاتُه.
«ما أكثر ما يفكر الإنسان في أشياء — رغم إرادته — تُسيء إلى مصلحته أشدَّ الإساءة وتجرَح عزَّته، وتُعطِّل رغباته. فما أعسر أنْ يصرَّ الإنسان على وضع هذه الأشياء أمام عقله للبحث الجدي الدقيق … ففي مقاومة الإنسان لإرادته وقسرِها على أنْ تسمح لما هو نقيضها أن يوضَع تحت بحث العقل، تقع الثغرة التي يمكن للجنون أن ينفذ منها إلى العقل … فإذا قاومت الإرادة العقل في استيعاب معرفةٍ ما، بحيث تمكَّنَت من تعطيل عملية العقل تعطيلًا لم يستطع معه العقْل أن يؤدي عملَه على الوجه الأكمل، عندئذٍ يتكوَّن في العقل عناصر وظروف مُعيَّنة تُكبَت فيه كبتًا تامًّا؛ لأن الإرادة لا تتحمَّل رؤيتها، فتنشأ بذلك فجوات لا بدَّ من ملئها كما تهوى الإرادة، وبهذا ينشأ الجنون؛ لأنَّ العقل في هذه الحالة قد تنازل عن طبيعته لكي يُرضي الإرادة فيصوِّر الخيال للإنسان ما ليس له وجود، ولكنَّ الجنون الذي نشأ على هذا النحو هو في الواقع نسيان لألَمٍ لم يكن للإنسان به قِبَل، إنه آخر وسيلة تُنجينا من الإرادة المُضنية.»
أما آخر أبواب الهرَب فهو الانتحار، حيث يتغلَّب الفكر والخيال على الغريزة وهذا عجيب، ويُقال في هذا الصدد أنَّ «ديوجنيس» قد وضع حدًّا لحياته برفضه أن يتنفَّس، فما أروَعَه انتصارًا على إرادة الحياة، ولكنه انتصار فردي فقط؛ لأنَّ الإرادة لا تزال مُستمرَّة في حياة النوع. إن الحياة لتضحك من الانتحار وتبتسِم للموت؛ لأنه إذا تعمَّد الموت فردٌ واحد، أنسل إلى جانبه آلاف الأفراد نسلًا عن غير عمدٍ «إنَّ الانتحار وهو قضاء إرادي على الوجود الظاهري للفرد، عبَث وحمق؛ لأن الشيء في ذاته — أعني النوع والحياة والإرادة بصفةٍ عامَّة — لا تتأثَّر به وتظلُّ كما يظلُّ قوس قزح، حتى ولو أسرعَتْ نُقَط الماء التي تكوِّنه إلى السقوط.» إنَّ العناء والكفاح يبقَيان بعد موت الفرد، ولا بدَّ أن يستمرَّا ما دامتِ الإرادة تسُود الإنسان، ويستحيل أن ينتصِر الإنسان على أمراض الحياة، إلا إذا أخضع الإرادة خضوعًا تامًّا للمعرفة والعقل.
(٦) حِكمة الحياة
فليتَ الثروة هي الطريق القويم، وإنما هي الحِكمة. ففي الإنسان جانبان: فهو من ناحية جهادٌ عنيف من الإرادة التي مركزها الجهاز التناسُلي، وهو من ناحيةٍ أخرى شخص خالد حُرٌّ حكيم ذو معرفة خالِصة ومركزها المخ، ومن العجيب أن يكون في إمكان المعرفة أن تُسيطر على الإرادة مع أنها وليدتها، وإنَّ إمكان استقلال المعرفة عن الإرادة ليبدو أولًا في استخفاف العقل أحيانًا بمطالب الرغبة «فقد يرفُض العقل أن يُطيع الإرادة، مثال ذلك حينما نحاول عبثًا أن نركِّز عقولنا في شيءٍ ما (أعني تريد الإرادة أن يُفكر العقل فيرفض العقل أن يطيع) أو حينما نُطالب الذاكرة في غير طائلٍ أن تتذكَّر شيئًا ما ائتمنتْها الإرادة على حفظه، وإنه لتتَّضِح العلاقة بين الإرادة والعقل واختلافهما وضوحًا تامًّا في غضب الإرادة من العقل في مِثل هذه الأحوال. وقد يتأثَّر العقل أحيانًا من غضب الإرادة فيستحضِر ما أريد منه بعد بضع ساعات، أو في اليوم التالي، وقد يفعل هذا على غِرَّة وبغير مناسبة.» ثم قد ينتقل العقل فيكون سيِّدَ الإرادة بعد أن كان تابِعَها، فقد يُقدِم الإنسان مثلًا على عملٍ فيه عناؤه بعد تفكيرٍ طويل، فقد ينتحِر أو يُقتَل أو يبارِز أو يأتي بعملٍ آخَر ممَّا فيه خطر على الحياة، ومما تثور ضدَّه طبيعته الغريزية، ولكنه مع ذلك يُقدِم مدفوعًا بعقله وتفكيره، فأنت ترى من ذلك إلى أيِّ حدٍّ استطاع العقل أن يسيطر على الطبيعة الحيوانية في مثل هذه الظروف.
إنَّ هذه القوة التي يتمتَّع بها العقل والتي يمكنه بها أن يؤثِّر في الإرادة تسمح للإنسان أن يرسُم لنفسه طريقًا يضمَن له الرُّقي والتقدُّم، فهو بالمعرفة يستطيع أن يُعَدِّل الرغبة أو أن يُخمدها، كما يمكنه أن يُعدِّلها أو يخمِدها بما قد يُدركه من الفلسفة الجبرية التي تعترِف أن كل شيءٍ نتيجة حتمية لسوابقه، فبين كلِّ عشرة مُثيرات مما يعرِض لنا ويعكِّر صفوَنا نستطيع أن نتغلَّب على تسعةٍ منها، ولا ندعها تنال من نفوسنا شيئًا إذا نحن أدركْنا عِلَلها إدراكًا تامًّا، أي إذا عرفنا حقيقة طبيعتها وضرورة وقوعها، ففي مُكنة العقل أن يكون من إرادة الإنسان ما يكون السرْج والشكيمة من الجواد الجموح، فليس أدعى إلى ضمان الانسجام والتوفيق بين الإنسان وبين الحادثات الخارجية أو المشاعر الباطنية إلا المعرفة الدقيقة، فكلَّما ازدَدْنا عرفانًا لعواطفنا قلَّتْ سيطرتها علينا. وأمنعُ قلعةٍ نحتمي بها هي ضبطنا لنفوسنا. فإذا أردتَ أن يخضع كل شيءٍ لسلطانك فلتُخضع نفسك لعقلك. وإنَّ أعجب من يسترعي الإعجاب ليس من يقهر الدُّنيا ويحكمها، ولكنه الذي يُخضع نفسَه ويلجِمُها.
وهكذا تصفو الإرادة بفِعل الفلسفة، ولكن ينبغي أن نفهم أن معنى الفلسفة هو التجربة والفكر، وحذارِ أن تظنَّها مجرد القراءة والدرس.
فأول ما نتقدَّم إليك به من النُّصح هو أن الحياة قبل الكتُب، والنصيحة الثانية هي أن يكون المتْن قبل الشرح. فاقرأ إنتاج الخالِقين المُبدعين قبل أن تقرأ العارِضين والنقَّاد «فلا يمكنك أن تحصِّل الأفكار الفلسفية إلا من المؤلِّفين أنفسهم؛ ولهذا فمن يرى في نفسه ميلًا إلى الفلسفة ينبغي أن يبحث عن مُعلميها الخالدين في محراب مؤلفاتهم الهادئ.» فكتاب واحد من كتُب العباقرة يساوي ألفًا من كتُب الشُّرَّاح.
لن يكون تحصيل الثقافة مُجديًا إلا إذا أخذتَ نفسك بهذه الحدود، فإن فعلتَ ذلك استطعتَ أن تحصل على وسيلةٍ للسعادة؛ لأنَّ سعادتنا تعتمد على ما في عقولنا أكثر ممَّا تتوقَّف على ما تحويه جيوبنا، بل إنَّ الشهرة نفسها عبَث وحُمق «إذ لا تصلح رءوس الناس أن تكون دارًا لسعادة الرجل الحقيقية؛ لأنها مكان خبيث.»
«إنَّ السعادة التي نستمدُّها من أنفسنا لَأعظم من تلك التي نحصل عليها ممَّا يحيط بنا … إن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تتشكَّل حسب الكيفية التي ينظر بها إليها … وما دام لا يوجَد شيء بالنسبة لإنسان، ولا يحدُث له إلا ما يوجَد وما يحدُث في إدراكه فقط، فأهمُّ شيءٍ له هو تركيب إدراكه … ولذا فقد صدَق أرسطو حين قال: «إن الإنسان إذا أراد أن يكون سعيدًا فليكف نفسه بنفسه».»
لا سبيل لخلاص الإنسان من شرِّ رغبات الإرادة التي لا نهاية لها إلا في تأمُّل الحياة تأمُّلًا عقليًّا، ودراسة ما كتبه نوابغ العصور كلها من جميع الأمم «فالعقل غير الأناني يصعَد كالرائحة الزكية فوق أخطاء الإرادة ومهاتراتها.» وإن الجمهرة العُظمى من الناس ليُعجزهم أن يرتفعوا بأنفسهم عن النظر إلى الأشياء باعتبارها مواضع شهوةٍ ورغبة، ومن هنا ينشأ ما هم فيه من بؤس، فنظرُك إلى الأشياء نظرًا خالصًا باعتبارها موضوعًا للفَهم معناه ارتفاعٌ عن القيود إلى حيث الحرية.
«إذا ما جَذَبَنا فجأةً من سبيل الرغبات المتدفِّق عاملٌ خارجي ومَيل داخلي فخلَّص المعرفة من استبداد الإرادة، بحيث لا يعود انتباهنا يتَّجِه إلى دوافع الرغبة، بل إلى تفهُّم الأشياء، وهي حرَّة مما يربطها بالإرادة من روابط، ثم ينظُر إليها نظرةً لا يشوبها شيء من الهوى الشخصي والنزعة الذاتية، أي ينظُر إليها نظرةً موضوعية خالصة إذا انصرف العقل بكليته إلى الأشياء باعتبارها أفكارًا لا باعتبارها دوافع مُثيرة للرغبة، عندئذٍ يُرفرِف علينا السلام الذي طالما نشدناه، والذي ما فتئ يُفلِت منَّا في ذلك السرداب؛ سرداب الرغبات … وعندئذٍ نحيا حياة لا ألَمَ فيها، وهي الحياة التي امتدحها «أبيقور» وقال إنها الخير الأسمى، وإنها حياة الآلهة؛ لأنَّنا سنكون حينئذٍ أحرارًا من كفاح الإرادة التعس.»
إذا تخلَّص العقل من الإرادة استطاع أن يرى الشيء كما هو «فالعبقرية تعرِض علينا المرآة السحرية التي يظهر لنا على سطحها كلُّ ما هو حيوي ذو معنى مُتجمِّعًا بعضه إلى بعض، وموضوعًا في ضوءٍ ساطع، أما ما هو عرضي زائد فيُنبَذ جانبًا.» إن الفكر لينفُذ خلال العاطفة كما يتدفَّق ضوء الشمس خلال السحاب، فيكشف عن لبِّ الأشياء وصميمها، إنه يذهب إلى ما وراء الفرد والجزئي حتى يصِل إلى «المثال الأفلاطوني» أي إلى الجوهر الذي يكون الشيء الجزئي صورةً من صُوَره، فالمصوِّر الفنان هو الذي لا يقصر نظرَه على الشخصية الفردية التي يرسُمها وعلى ملامحه المُعينة المرئية، ولكنه ينفُذ من خلال هذا الفرد فيرى وراءه صفات الإنسانية عامة، وحقيقتها الدائمة التي ليس هذا الفرد المُعين إلا رمزًا لها ووسيلة للكشف عنها، وقل هذا في كل ضروب النبوغ. فسِرُّ العبقرية إذن يقع في إدراك الحقيقة الموضوعية والجوهرية العامة إدراكًا واضحًا، لا تشوبه شائبةٌ من مَيل شخصي أو هوًى ذاتي.
إذن فالعبقري يُحاول أن يمحو شخصه ويُنكر ذاته ليرى الحقائق الخارجية كما هي، وهذا ما يجعله نابيًا في قومه؛ لأنَّ هؤلاء ينظرون إلى الأشياء من خلال ذواتهم، ولذا ترى العبقري غريبًا بين الناس لا يلتقي معهم في وجهة النظر، فهو لا يرى ما هو قريب منه، بل يُلقي ببصرِه إلى الأفق البعيد النائي، وقد يَعلَق نظرُه في النجم فيسقط في هوةٍ اعترضت طريقَه ولم يُلقِ باله إليها، ومن ثم نشأ شذوذ العبقري في المجتمع وعدَم مخالطته للناس؛ لأنه يفكِّر في أصل الأشياء الشامل الخالد، أما هُم فيفكِّرون في الصور المؤقتة الفردية المباشرة، فليس بين عقله وعقولهم قدْر مشترَك تلتقي عنده «إنَّ القاعدة أنَّ الرجل يكون اجتماعيًّا بمقدار ما هو مُجدِب في عقله تمامًا.» ولكن صاحب العبقرية له ما يُعوِّضه عن هذه العُزلة الموحِشة، فليس هو بحاجةٍ إلى العشير والرفيق كعامة الناس الذين يعتمدون في حياتهم دائمًا على ما هو خارجي عنهم، «فاللذَّة التي يستمدُّها من صور الجمال كلها، والسلوة التي يُصادفها في الفنِّ … يُمكِّنانه من نسيان مشاغل الحياة.» إذ هما «يُعوِّضانه عن الألَم الذي يزداد في الإنسان بنسبة وضوح إدراكه، ويُعوِّضانه عن وحدته المُنعزِلة في جنسٍ من البشر يختلف عنه.»
ومهما يكن من الأمر فالعبقري مُضطر إلى الوحدة، وكثيرًا ما تؤدي به إلى الجنون، فإن دقَّة حساسيته التي تُسبِّب له الألَم بالإضافة إلى خياله وبصيرته، ثم إلى عزلته ونَبوِه في الحياة تعمل جميعًا على قطع الصلة التي تُمسك أجزاء العقل، بحيث يتمكَّن من حصر تفكيره في الحقيقة، ولم يخطئ أرسطو حين قال: «إنَّ الممتازين من الرجال في الفلسفة أو في السياسة أو في الشعر أو في الفن ذوو مزاج مُكتئب.» وإنَّ العلاقة المباشرة بين الجنون والنبوغ تؤيدها تواريخ العظماء كروسو وبيرون وغيرهما «وبالبحث الدقيق في مستشفيات المجانين وُجِدت حالات فردية لمرضى كانوا بغير شكٍّ ذوي مواهب عظيمة، وكانت عبقريتهم تظهر جليَّةً من خلال جنونهم.»
ومع ذلك فهؤلاء النوابغ، وهم بحقٍّ أنصاف مجانين، هم الطبقة الأرستقراطية الحقيقية للجنس البشري «إذ الطبيعة من حيث العقل أرستقراطية إلى حدٍّ كبير؛ لأنها فرضَتْ بين الرجال من الفوارق ما يفوق ما اصطنعته الأُمَم من الفوارق التي تقوم على ميلادٍ أو رُتبة أو ثروة أو دم.» فالطبيعة لا تهَبُ النبوغ إلَّا للقلائل؛ لأنها تعلَم أنَّ مزاج النوابغ يعوق مجرى الحياة العادية التي تشترط التركيز في الجزئي المباشر فلا ينبغي أن تجود منهم إلا بالقليل.
إن استمتاعَنا بالطبيعة وبالشِّعر وبالتصوير، أساسُه أننا نتأمَّل الشيء ونفكر فيه دون أن نمزج به الإرادة الذاتية، فالنهر بالنسبة إلى الفنان عبارة عن سلسلةٍ مُتباينة من المناظر الساحرة التي تُثير فيه الحسَّ والخيال بما تُطلِعه عليه من جمال، أما المُسافر الذي يُعنى بشئونه الشخصية، فيرى في النهر وشُطآنه «خطًّا تقطعه خطوط أخرى هي الجسور المُقامة عليه.» هكذا يُحرِّر الفنان نفسه من الشواغل الشخصية، بحيث «يكون سواءً لدى إدراكه الفني أن يرى غروب الشمس من سجنٍ أو من قصر.»
تلك هي اللذَّة التي تنشأ من الإدراك اللاإرادي الذي يخلع على حوادث الماضي، وعلى الأشياء البعيدة سحرًا خلابًا، ويُقدِّمهما لنا في ضوءٍ جميل، وحتى الأشياء القبيحة إذا نحن تأمَّلناها بغير تدخُّل الإرادة ودون أن نُلقي بالًا لما قد ينجُم عنها من خطرٍ مباشر، بدَتْ لنا في أروع صور الجمال. إنَّ الفنَّ يُخفِّف من أمراض الحياة؛ لأنه يُطلِعنا على العنصر الخالد الشامل وراء الصور الفردية الزائلة، وما أصدَقَ «سبينُوزا» في قوله: «إنَّ العقل يُساهم في الأبدية بمقدار ما يرى الأشياء في مظهرها الخالد.»
ولعلَّ الموسيقى أقوى ضروب الفن في قُدرتها على رفع الإنسان فوق إرادته ومكافحتها «ليست الموسيقى بأية حالٍ كسائر الفنون نسخةً من المثل (أي جواهر الأشياء)، ولكنها نسخة من الإرادة نفسها.» فهي تُصوِّر لنا الإرادة في حركتها البدائية وكفاحها الدائم، تلك الإرادة التي لا تنفكُّ تعود إلى نفسها لكي تبدأ كفاحها من جديد، فالسبب الذي جعل تأثير الموسيقى أقوى وأنفذ من الفنون الأخرى هو أنَّ هذه الفنون تتحدَّث عن خيالات فقط، أما الموسيقى فتُعبِّر عن الأشياء نفسها، وهي تختلف أيضًا عن الفنون الأخرى في أنها تؤثر في شعورنا تأثيرًا مباشرًا، لا عن طريق الأفكار، وإنها لتخاطِب فينا جانبًا أرقَّ من العقل. ومما تجدُر ملاحظته أن التناظُر (السمترية) في فنون المعمار تقوم مقام النغَم في الموسيقى، إذ إنَّ فنَّ النحْت كما يقول «جوته» عبارة عن موسيقى مُتجمِّدة والتناظُر فيها نغَم صامت.
«إنَّ القوة التي استطاعت بها المسيحية أن تتغلَّب على اليهودية أولًا، ثم على وثنية اليونان والرومان، إنما تنحصِر في تشاؤمها فقط، أي في اعترافها بأنَّ حالنا شديدة البؤس ومُسرفة في الخطيئة، مع أنَّ اليهودية والوثنية جميعًا كانتا مُتفائلتين.» لقد حسبت اليهودية والوثنية أن الدين رشوة يُقدِّمها الإنسان إلى الآلهة لتُعينهم على نجاحهم الدنيوي، أما المسيحية فقد رأت للدِّين غرضًا غير طلب السعادة في هذه الدنيا؛ لأنها رجاءٌ هيهات أن يتحقَّق، ولقد نهضت في عالمٍ يملؤه الترَف والزهو بالسلطان الدنيوي فرفعت مثَلَها الأعلى الذي صوَّرته في حياة القديس المتعبد الذي يستطيع أن يهزم الإرادة الفردية هزيمة مُنكَرة.
والبوذية أعمق من المسيحية؛ لأنها تجعل عدَم الإرادة غاية الدين، ولا رَيب في أن الهنود أبعدُ غورًا من مُفكِّري أوروبا؛ لأنهم يفسِّرون الدنيا بالشعور والبصيرة لا بالحسِّ والعقل، إن العقل يُقسِّم كل شيء، أما البصيرة فتوحِّد كل شيء، وقد رأى الهنود أنَّ اﻟ «أنا» وهْم وخداع، وأنَّ الفرد شبَح زائل، أما الحقيقة الوحيدة فهي «الواحد اللانهائي». إن كل من يصفو بصرُه وبصيرته، بحيث يرى أنَّنا جميعًا أعضاء من كائنٍ عضوي واحد، وأنَّنا تيَّارات ضئيلة في خِضم الإرادة فهو «لا شكَّ بالغٌ كل فضيلة وكلَّ نعيم، وهو سائر على طريقٍ قويم نحو التحرُّر.» ولا يظن «شوبنهور» أن المسيحية مُستطيعة أن تحصل مكان البوذية في الشرق، ولا يرى لها من أثرٍ في البوذية أكثر من رصاصةٍ أُطلِقَت في جبلٍ شامخ، بل يرى أنَّ الأصحَّ هو أن الفلسفة الهندية تتدفَّق في أوروبا، وأنها ستُغيِّر من معرفة الأوروبيين وتفكيرهم تغييرًا عميقًا، وأن الأدب الهندي (السنسكريتي) سيقلِب وجه الأدب الأوروبي كما فعلتِ الآداب اليونانية حين ابتُعِثت في القرن الخامس عشر.
(٧) حكمة الموت
ولكن مهما يكن من أمر الدين، فما زلنا بحاجةٍ إلى ما هو أكثر منه، نعم يستطيع الفرد أن يمحو الإرادة، وأن يتحرَّر بفضل النرفانا، ولكن ماذا يخلِّص الإنسانية بأسرها؟ إنَّ الحياة لتضحك من فناء الأفراد؛ لأنها تُبقيهم أحياء في نسلِهم، ولو أمكن لفردٍ واحدٍ أن يقهرها بما يختاره لنفسه من العُقم، فهنالك إلى جانبه ألوف وألوف تستجيب لداعي الحياة، وتنسل ما يضمَن لها البقاء والخلود، فكيف إذن نُخلِّص الإنسان؟ أليس ثمَّة نرفانا للجنس عامَّة كما وجدناها للفرد؟
ولئن أردْنا أن نهزِم الإرادة هزيمة مُنكرة لا يكون لها قيام بعدَها، فلن يكون لنا هذا إلا في استئصال مَعين الحياة أعني في مقاومة إرادة النَّسل. «إنَّ إشباع الغريزة الجنسية هو الذي يستوجب المنع البات؛ لأنه أقوى ما يُثبِت شهوة الحياة.» وليت شعري ماذا جنى هؤلاء الأطفال فندفع بهم إلى الحياة؟
«إنَّنا لو تأمَّلنا الحياة المُصطخبة لرأينا الناس جميعًا يشتغلون بما تتطلَّبه من حاجةٍ وشقاء، ويستنفدون كلَّ قواهم لكي يُرضوا حاجات الحياة التي لا تنتهي، ولكي يمحوا أحزانها الكثيرة، أوليس عجيبًا بعد هذا ألا يكون لدَيهم من الجرأة ما يجعلهم يفكرون — في شيءٍ آخر سوى الاحتفاظ بهذا الوجود المعذَّب — أمدًا قصيرًا من الحياة، أوليس عجيبًا أن نرى وسط هذا الصخب نظرات الغزل يتبادلها الحبيبان حين يلتقِيان في شوق؟ ولكن لماذا يلتقي الحبيبان تحت ستْر الخفاء، وفي شيءٍ من الوجَل؟ لأنهما الخائنان اللذان ينشُدان دوام هذه الحاجة، وهذا الاستعباد الذي كان سرعان ما ينتهي لولاهما … ها هو السبب العميق لما يُحيط عملية التناسُل من خجل.»
وتَبِعة هذه الجريمة إنما تقع على المرأة؛ لأنه إذا نمَتْ معرفة الرجل نموًّا يرجح على الإرادة، بل يمحوها فإنَّ فتنة المرأة التي لا معرفة فيها ولا فكر تعود، فتهبط بالرجل إلى التناسُل، وليس لدى الشباب من الذكاء ما يكفي أن يعلم أن فتنة المرأة قصيرة الأجل، فإذا ما نضج الذكاء واكتمل العقل ليُدرك هذه الحقيقة تكون الفرصة السانحة قد أفلتت، والوقت المناسب قد انقضى.
لقد وهبَتِ الطبيعة الفتاة قسطًا من الجمال تغزو به أفئدة الرجال لينهضوا بعبئها عن رضًا وطواعية، ولكن الطبيعة في عطائها كانت كعهدنا بها مُقتِّرة، فلم تهَبِ المرأة من الجمال إلا بمقدار ما تستطيع أن تتَّخذ منه أداةً لحفْز الرجل على التناسُل ليستمرَّ بقاء الحياة، حتى إذا ما انقضت مهمَّتها في ذلك عادت فسلبتْها ما كانت وهبتْها من فتنةٍ وجمال، وتطوُّع الرجل للإنفاق على المرأة لم يكن ليتمَّ لو كان العقل وحدَه هو الذي يُوجِّه أفكار الرجل.
وإنَّ «شوبنهور» ليعجَب أشدَّ العجب لهذا الاسم الذي يُطلَق على النساء جزافًا «الجنس اللطيف»، فلا شكَّ أنَّ من يُطلِق هذا اللقب على ذلك الجنس الضئيل القصير الشائه، هم أولئك الذين أفسدت غرائزهم الجنسية عقولَهم، فجمال المرأة كله قائم على الغريزة الجنسية وحدَها، وإنه لأقرب إلى الصواب أن نُسمِّي النساء بالجنس الذي لا ذوق له في الفن؛ إذ ليس في مقدورهنَّ تقدير الجمال في شتَّى الفنون، ولكنهنَّ كثيرًا ما يُغالطنَ في الحقائق فيدَّعين أنهن ذوات فنٍّ جميل، بأن يعزفن على الآلات الموسيقية أو يُعالجن التصوير، ولكن ذلك منهنَّ كذب ورياء، فهن لا يُشغفْنَ إلا بما خلقنَ من أجله؛ أعني حفظ النوع. إنَّ الرجل يجاهد في العلوم والفنون لتتمَّ له السيطرة على الأشياء سيطرةً مباشرة، إما بفهمها أو بالتحكم فيها، أما المرأة فهي بطبيعتها لا تحبُّ أن تسيطر على الأشياء سيطرةً مباشرة، ولكنها دائمًا تقصد إلى السيادة عليها عن طريق سيادتها على الرجل، فالرجل وحدَه هو ما تصبو المرأة إلى التحكُّم فيه والسيطرة عليه، ومعنى ذلك أنَّ المرأة ترى في كلِّ شيءٍ وسيلةً فقط لغزو الرجل، فإذا ما تظاهرت بميل إلى الموسيقى أو الشعر مثلًا فليس ذلك ناشئًا عن رغبة طبيعية فيها نحو هذه الفنون، إنما هي تتَّخذ منها أداة تتجمَّل بها لتروق في عين الرجل، ولو استعرضتَ عصور التاريخ جميعًا لما وجدْتَ أحدًا من النساء قد أبدع في الفن آيةً فيها أصالة ونبوغ.
ولعلَّ هذا الاحترام الذي يُبديه الرجل للمرأة إحدى نتائج الديانة المسيحية، وهو سبب لتلك الحركة الرومانتيكية التي تُمجِّد الشعور والغريزة والإرادة، وتضعها جميعًا فوق العقل والذكاء. ولقد أدرك أهل القارَّة الآسيوية في ذلك ما لم يُدرِكه الأوروبيون؛ لأنهم يعترفون اعترافًا صريحًا بِضَعة المرأة، إذ لا رَيْب في أنَّ كل قانون يُعامِل المرأة على أساس مساواتها بالرجل باطل من أوَّلِه، فإذا أراد القانون أن يُسوِّيها في الحقوق بالرجل فليُعْطها أولًا عقلًا كعقول الرجال، هذا ولقد أصاب الشرقيُّون مرةً أخرى في تقريرهم لمبدأ تعدُّد الزوجات؛ لأنه مبدأ تُحتِّمه الطبيعة وتُبرِّره. والعجَب أنَّ الأوروبيِّين في الوقت الذي يستنكرون فيه هذا المبدأ نظريًّا يتَّبِعونه عمليًّا، فما أحسب أنَّ بينهم من يُنفِّذ مبدأ الزوجة الواحدة على وجهه الصحيح.
ومن الخرْق أيضًا أن نسمح للمرأة بوراثة مال زوجها؛ لأنها مُسرفة بطبعِها، وقد نشأ إسرافها من تعلُّق أطماعها بالأشياء المادية، فتراها تبذُل بغير حسابٍ في تجمُّلها وزينتها، وهي في ذلك مخالفة للرجل الذي يتوجَّه بطموحه إلى نواحٍ غير مادية كالعِلم والشجاعة وما إليهما، وهو بذلك يستنفِد مجهوده فيما لا يحتاج إلى البذْل والإسراف.
يقول «أرسطو» في كتاب «السياسة»: إنه إذا سُمح للمرأة بالزيادة من حقوقها كان ذلك نذيرًا بزوال الدولة ودمارها، وهو يستشهِد على ذلك «بإسبرطه»، ولقد جاء التاريخ الحديث بأمثلةٍ تؤيد ما ذهب إليه ذلك الفيلسوف العظيم، فزيادة نفوذ المرأة في فرنسا منذ عهد لويس الثالث عشر أدَّى إلى تدهور الحكومة والبلاط، وهذا أنتج الثورة الفرنسية الكُبرى وما أعقبَها من ثورات.
نرى من ذلك كله أنه كلما وهنَتْ علاقة الرجل بالمرأة كان خيرًا وأفضل، فليس النساء «شرًّا لا بدَّ منه.» كما يقولون، إذ الحياة بغيرهنَّ آمَن وأمتع، فليتدبَّر الرجال الأمر، وليفكِّروا طويلًا في هذه الأحبولة التي نُصِبت لهم في النساء، وفي هذه المهزلة الساخرة التي ترمي إليها الإرادة من التناسُل، إن تقدُّم العقل سيَحدُّ بل سيمحو إرادة النسْل. فلستُ أدري لماذا نرفع الستار عن حياةٍ جديدة كلما أُسدِلت على عزيمةٍ وموت؟ لستُ أدري لماذا نخلق بأنفسنا معركةً جديدة وهزيمة جديدة كلما فرغْنا من كفاحٍ ينتهي بالاندحار؟ حتامَّ تخدع الناس هذه الزوبعة التي تثُور حول لا شيء، حتامَّ نصبِر على هذا الألَم الذي لا ينتهي، والذي لا يؤدي إلا إلى عناءٍ وشر، متى نتذرَّع بالشجاعة فنتحدَّى الإرادة ونُنبئها أنَّ حبَّ الحياة أكذوبة، وأنَّ أعظم نعيمٍ للناس جميعًا هو الموت؟
نقد
لم يكن عجيبًا أن ينطق «شوبنهور» بهذه الفلسفة المتشائمة بعد ما شهدته أوروبا من كوارث الحروب النابليونية التي أنهكتْها وذهبت بريحها؛ لأنه إذا ما اشتدَّتِ الكروب بالإنسان أسلم نفسه لليأس القاتل، وغاضَتْ منه كلُّ بواعث الأمل؛ لشعوره العميق حينئذٍ بضَعف إرادته أمام إرادة الكون القوية الجبَّارة، هكذا حدَث في اليونان بعد حروب الإسكندر، فنشأت بها الرواقية الشاحبة، والأبيقورية المُتعثِّرة اليائسة، وهكذا حدَث في روما بعد قيصر، ففي كلتا الحالَين تدفَّقت في الصدور تلك العقائد التي توقِن يقينًا جازمًا بقوَّة إرادة الطبيعة وجبروتها إذا قِيست بإرادة الإنسان الواهية العاجزة، التي تُسلِّم بأنَّ لا حول لهذا الإنسان أمام قوة القدر. ثم هكذا كانت الحال في أوروبا بعد عام ١٨١٥م حيث خارت قواها، وأظلمَتِ الدنيا أمام ناظريها، فاتَّخذت من «شوبنهور» لسانًا يُعبِّر عما في نفسها من خيبةٍ ويأس.
ولا شكَّ أنه ممَّا عمل على إيجاد هذا الروح اليائس في نفس «شوبنهور» ما كان يعيش فيه من فراغ؛ إذ الحياة المليئة بالعمل والنشاط تخلق غالبًا المرَح والتفاؤل. ومن العسير أن تنعَم النفس بالهدوء والطمأنينة إذا خلَتِ الحياة من العمل. ولقد كان لدى فيلسوفنا من المال ما يكفيه، فعاش في فراغٍ مُتَّصل، حتى أيقن أنَّ العمل المُتواصِل أخفُّ احتمالًا من الفراغ الدائم. ولعلَّ نزوع الفلاسفة عامَّة إلى الكآبة راجع إلى خلوِّ حياتهم من النشاط والحركة.
- (١)
فلا رَيب أنه بالَغ في رأيه في النساء، وأسرَف في سُوء ظنِّه بهنَّ إسرافًا شديدًا، فما كل النساء خادِعات ماكرات كما ظن، وليس جمالهنَّ ناشئًا عن الغريزة الجنسية وحدَها كما ذهب، وليْتَ شعري كم يبقى لدَينا من الجمال إذا نحن أنكرْنا جمال النساء؟ ولكن لعلَّ «لشوبنهور» عُذره في رأيه هذا لِما وجد من أمِّه من مقتٍ وحِقد.
- (٢)
ثُم ما هذا التشاؤم كله من الحياة؟ أليس في التشاؤم كثير من الأنانية؟ أوكلَّما تبرَّمَ الإنسان بنفسه انقلب إلى الكون بأسرِه فألقى عليه التَّبِعة؟ لقد نسينا إذن ما أرشدَنا إليه «سبينُوزا» من أنَّ ما نحسُّ به نحن من سخط ومن غضب أحكام بشرية، نخطئ غالبًا إذا طبَّقناها على العالم، فلربَّما كان كُرهنا للعالم هو كُره لأنفسنا قد تنكَّر واستخفى، فما ينبغي أن تكون الإساءة منَّا، ثم نقذف بالتُّهمة جزافًا على «البيئة» أو على «العالم» إنكالًا منَّا على أن البيئة أو العالم صامتان ليس لهما ألسنة يُدافعان بهما عن نفسيهما. إنَّ الرجل السليم المُعافى ذا العقل الناضِج الرشيد، ليَقبل الحياة بما فيها من قيود؛ لأنه لا يتوقَّع من السماء أن تكون خادمًا طيِّعًا رهْن إشارته، وهو يعلَم أنه من حُمق الرأي — كما يقول كارليل — أن نلعَن الشمس؛ لأنها لا تُشعِل لنا «السجائر» حينما نريد منها ذلك، ومع ذلك فلعلَّها فاعلة لو أوتينا العِلم والذكاء، فلقد ينقلِب هذا الكون الفسيح إلى ميدان لذَّةٍ وسعادة إذا نحن عاونَّاه بشيءٍ من الإشراق في نفوسنا، وعلى كلِّ حالٍ فليس العالَم صديقًا لنا كما أنه ليس بِعدوِّنا، فما هو إلا مادة أولية في أيدينا، تكون منه الجنة، أو يكون منه الجحيم حسب ما تكون عليه نفوسنا.
- (٣)
أما أنَّ ما تُثيره فينا الإرادة من رغباتٍ ينتهي عادةً بالفشل، وأنه حتى إذا تحقَّقت الرغبة، فإنها تبعَث وراءها رغبةً ثانية وهلمَّ جرًّا، فلسْنا ندري أين العيب في هذا؟ أولَمْ يدْرِ «شوبنهور» أنَّ لذَّةَ الحياة في الكفاح حتى ولو أخفق؟ وماذا علينا في أنْ تبعَث الرغبة المُتحقِّقة رغبةً أخرى؟ إنه خير لنا من غير شكٍّ ألا نقنَع ونرضى، فالسعادة كما قال القُدامى: هي في حالة السَّعي وراءها لا في حالة الرِّضا والتشبع، والرجل الكامل لا ينشُد السعادة بقدْر ما يبحث عن ظرفٍ سانح يُمارس فيه ملَكاته وقُواه، فإذا كان لزامًا عليه أنْ يدفع عناءه وشقاءه ثمنًا لهذا، فما أرخَصَه من ثمن، إنَّنا لفي حاجةٍ إلى المقاومة لكي نرتفع كما ترتفِع بالمقاومة الطائرة والطائر، نحن بحاجةٍ إلى العقبات لترهف بها قوانا، فليستِ الحياة الهيِّنة جديرة بالإنسان.
- (٤)
ولقد زعم «شوبنهور» أنَّ الزيادة من المعرفة تستتبِع الزيادة في الألَم، وأن أرقى الكائنات هي أشدُّها معاناةً للألم، وهذا صحيح لا رَيب فيه، ولكن أليس صحيحًا كذلك أنَّ زيادة المعرفة تزيد الألم، وأنَّ أرقى الكائنات يتمتَّع وحدَه بأسمى الملاذِّ كما يُعاني ألذَعَ الألم؟ لقد أصاب «فولتير» حين آثَر لنفسه أن يشقى بالحكمة عن أن ينعم نعيم الجهالة والسذاجة. إنَّنا لا نتردَّد في أن نُعالِج من الحياة أقواها وأعمقها، حتى ولو كان ذلك على حساب ما نُقاسيه من ألَم.
- (٥)
أمَّا أنَّ اللذَّة سلبية كما يقول «شوبنهور» فلا نظنُّ ذلك صحيحًا على إطلاقه. إنَّ اللذَّة هي انسجام ما تقوم به غرائزنا من عمل، فلا تكون اللذَّة سلبيةً إذا كانت الغريزة الدافعة إليها غريزة تقهقُر وتراجُع. لا تُقدُّم وإقدام، كلذَّة الهرَب والراحة والخضوع والأمن والوحدة والهدوء، فهذه كلُّها لذَّاتٌ سلبية؛ لأنها ناشئة عن غرائز سلبية، فهي ألوانٌ من الفرار والخوف، ولكن من ذا يزعُم أنَّ الملاذَّ التي تنشأ عن الغرائز الإيجابية كغرائز التحصيل والامتلاك والحُكم والسيادة والاجتماع والحُب، ملاذُّ سلبيَّة؟ مَن ذا يخطئ فيظنُّ أنَّ الضحك ومرَح الطفولة وأغنية الطير لأليفِه والاستمتاع بالفنِّ ملاذُّ سلبية؟
- (٦) ويقول فيلسوفنا إنَّ الموت مُروِّع مُفزع، فهل كان يُرضيه ألَّا نموت؟ من ذا يغبِط «أهاسُورَس» Ahasuerus الذي أرادتِ الآلهة أن تُنزِل به أمرَّ ما ينزِل بإنسانٍ من عقاب، فأرادت له ألا يموت؟ ثم لماذا يكون الموت مُفزعًا إذا لم تكُن الحياة حلوةً مريئة؟ هذا، وإنَّ امرأً نيَّف على السبعين من عُمره لا يحقُّ له أن يدَّعي أنه صادقٌ في تشاؤمه، وفي ذلك يقول «جوته»: إنَّ الإنسان لا يتشاءم قبل العشرين ولا بعد الثلاثين؛ لأنَّ التشاؤم في حقيقته فيْض الشعور بالذات وما لها من أهميةٍ وخطر، وإنما يشعُر بهذا الشعور شابٌّ انسلخ لتوِّه من صدْر أسرته الحنون المملوء حبًّا وتعاونًا وأمنًا، إلى عالَمٍ لا يعرف إلا التنافس بين الأفراد وما يلازمه من شراهةٍ وجشع، عندئذٍ يحسُّ مثل ذلك الشابُّ شرَّ الحياة وسوءها، حينما يشهد مُثُلَه العُليا تنهار واحدةً بعد واحدة. أما قبل العشرين فتكون لذَّة الجسد، ثُم تكون لذَّة العقل بعد الثلاثين.
- (٧)
ويظهر أنَّ «شوبنهور» لم يُصِبْ حين ارتأى أنَّ إرادة الحياة هي القوة الحقيقية الدافعة لهذا الوجود، فبماذا نُعلِّل الانتحار؟
- (٨)
ولقد زعم أنَّ النبوغ مُرتبط بالجنون، فما قوله في «سقراط» و«أفلاطون» و«أرسطو» و«سبينُوزا» و«بيكون» و«نيوتن» و«فولتير» و«جوته» و«دارون» وغيرهم؟
ولكن مهما يكن في فلسفة الرجل من أخطاء، فما ذلك إلا كالكَلَف في الشمس، ولقد أفلح في أن يفرِض فلسفته على الوجود فرضًا، وفي أن يُضيف اسمه إلى سجلِّ الخالدين.
(٤-٣) هربرت سبنسر Herbert Spencer
(١) «كومت» و«دارون»
كان القصد من دراسة ما وراء الطبيعة في مراحل تاريخ الفكر كلها هو محاولة الكشف عن طبيعة الحقيقة النهائية، ولكن ها هم الناس قد أيقَنوا في القرن التاسع عشر أنه يستحيل على الإنسان أن يُصادف الحقيقة فيما يُصادف في حياته من خبرةٍ وتجربة، وعرفوا أنَّ الحقيقة هي معنًى نتصوَّره، ولكنَّا لا نعرفه، وأنَّ جبابرة العقول التي شهدتها الإنسانية فيما مضى لم تستطِع أن تعدو الظواهر، وعجزتْ عجزًا تامًّا عن أنْ تنفُذ إلى الجوهر واللباب، ولقد شهدنا كيف أسرف «فخته» و«شلنج» و«هجل» في بحوثهم الميتافيزيقية إسرافًا شديدًا، وجاء كلٌّ منهم ينسخ الآخر، فكانت نتيجة دراستهم في النهاية صفرًا، ولبِث الكون بعد كلِّ ما تجشَّموه من إعناتِ الفكر يحتفِظ بسرِّه المكنون، شهِد العقل الأوروبي هذا التطرُّف في الفكر المجرَّد، فلم يسَعْه إلا أن يُحدِث ردَّ فِعل، وأنْ يقفِز من النقيض إلى النقيض، فوقف مِن كل ضروب الميتافيزيقا موقف المقْت والعداء.
وقد تصدَّى «كومت» بالفعل إلى هذا الإصلاح، على أنه كان — كأكثر من تصدَّوا لإصلاح العالم — عاجزًا عن تنظيم داره، فكان يُعاني حياةً منزلية مليئة بألوان الشقاء الزوجي، ثم أُصيب في سنة ١٨٢٧م بمرَضٍ عقلي دفعَه إلى محاولة الانتحار في نهر السين، ولكن أراد الله أن يكتُب له النجاة والبقاء لكي يُنتِج لنا فيما بعدُ ما أنتجَه؛ خمسة مجلدات في «الفلسفة الإيجابية» نشرَها بين عامي ١٨٣٢م، ١٨٤٢م، وأربعة مجلدات في «السياسة الإيجابية» نشرَها بين عامي ١٨٥١م، ١٨٥٤م.
حاول «كومت» في هذه المؤلَّفات أن يُبوِّب العلوم تبعًا لتدرُّج مادَّتها في البساطة والتعميم، فرتَّبها على هذا النحو: الرياضة، فالفلك، فالطبيعة، فالكيمياء، فعِلم النبات، فعِلم الاجتماع. وكل واحدٍ من هذه العلوم يرتكز على نتائج العلوم التي قبلَه، وإذن فعِلم الاجتماع هو — من العلوم كلها — ذُروتها العالية، ولا يُبرِّر وجود عِلم من العلوم الأخرى إلا بمقدار ما يمدُّنا به من شرْح وتوضيح لعِلم الاجتماع، وهكذا يرى «كومت» أنَّ العِلم بمعنى المعرفة اليقينية يسير على الترتيب السابق من موضوعٍ إلى موضوع، ومن الطبيعي أنْ تكون ظاهرة الحياة الاجتماعية المعقَّدة آخِر ما يخضع للطريقة العلمية. ويستطيع مؤرخ الفكر أن يلحظ في كل ميدانٍ من ميادين التفكير قانونًا ذا مراحل ثلاث.
فقد كان الإنسان أول الأمر ينظُر إلى الموضوع من وجهة نظرٍ لاهوتية، وكان يُعلِّل كل مسائله بإرادة إلهٍ ما، مثال ذلك ما كان منه حين اعتبر النجوم آلهةً أو محفَّات للآلهة، ثم تقدَّم حتى أخذ ينظُر إلى الموضوع من وجهة نظرٍ ميتافيزيقية حيث يُعلِّل كل شيءٍ بفكرةٍ مجردة مما وراء الطبيعة. مثال ذلك موقفه حين ظنَّ أنَّ النجوم تسير في دوائر؛ لأنَّ الدائرة هي أكمل الأشكال. وأخيرًا أخضع الإنسان موضوع بحثِه للعلم اليقيني بما يقوم عليه هذا العِلم من الملاحظة الدقيقة والفروض والتجارب، وأصبح يُعلِّل الظواهر باطِّراد قانون العِلة والمعلول.
لذلك لم يتردَّد «كومت» في أن يُعلن بأن مرحلة البحث الميتافيزيقي يجب أن تنقضي؛ لأنها عبَثٌ صبياني، وبأنَّ الفلسفة شيء لا يختلف عن العلم؛ إذ هي تعاون العلوم كلها، ويجب الاتجاه بها إلى تقويم الحياة الإنسانية وتحسينها.
وكان يسُود إنجلترا عندئذٍ حركة علمية قوية عنيفة تناولت فروع العلم بأسرها، وبخاصةٍ علم النبات ومذهب التطوُّر الذي اشتركت في بحثه الدول الأوروبية كلها منذ بضعة قرون، ولكنه كان حتى منتصف القرن التاسع عشر حديثًا مُفكَّكًا تنقُصه الصياغة والإتمام، حتى نشر «دارون» كتابه «أصل الأنواع» الذي ارتجَّ له عالم الفكر رجَّةً عنيفة، إذ لم يكتفِ هذا الكتاب بالإشارة المُبهمة لمذهب التطوُّر، وبأنَّ الإنسان قد تطوَّر على نحوٍ ما من أجناسٍ أوطأ منه، ولكنه شرَح الفكرة شرحًا مفصلًا تؤيده الأمثلة تأييدًا قويًّا، وأطنب في الطريقة التي يتمُّ بها التطوُّر بواسطة الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأجناس القوية الموهوبة في تنازُع البقاء، ولم يكدْ ينقضي بعدَ نشر الكتاب عشرون عامًا، حتى كان التطوُّر حديث العالم أجمع. ثم جاء «سبنسر» فتناول فكرة التطوُّر بالتطبيق على كلِّ مناحي التفكير والدراسة، فكما أن الرياضة سادت الفلسفة في القرن السابع عشر حيث أنجبَتْ للعالَم «ديكارت وهوبز وسبينُوزا وليبنتر وبسكال»، وكما أنَّ عِلم النفس ساد الفلسفة في القرن الثامن عشر في «بركلي وهيوم وكانْت» فقد كان علم الحياة في القرن التاسع عشر هو النزعة السائدة، تلمِسها في «شلنج وشوبنهور وسبنسر ونيتشة وبرجسون».
(٢) نشأته
إذن فمن أين استمدَّ هذه الملايين من الحقائق التي يسُوقها لتأييد أقواله؟ لقد اكتسبَها بالملاحظة المباشرة التي كان يمتاز بحِدَّتها ويقظتها، فلم يكد يحدِّد لنفسه موضوع بحثه، ويقرِّر الفكرة الرئيسية — وهي التطوُّر — التي أراد أن تكون قطبًا لرحى تفكيره، حتى أصبح عقله كالمغناطيس يجذِب إليه سيلًا دافقًا من الحقائق التي لها علاقة بموضوعه، ثم يأخُذ فكرَه — وقد كان فكرًا لا يُضارع في قوة التنظيم — في تبويب المادة المكسوبة، فلا عجَب أن جاءت كتُبه سائغة لشتَّى رجال الأعمال، إذ لم يكن يستمدُّ مادته من الكتُب، بل من الحياة الواقعة.
لقد اضطرَّ «سبنسر» إلى العمل لكسب عيشه، فاشتغل بحرفةٍ كانت تتَّجه نحو ما ينزع إليه بطبيعته، إذ كان مَسّاحًا فرسَّامًا للخطوط الحديدية والجسور فمُهندسًا، فكانت هذه المهنة العملية مجالًا خصبًا لملاحظته القوية، وكانت له في كل يومٍ فكرة جديدة واخترع جديد، ولو أنَّ كثيرًا منها كان ينتهي بالفشل، وقد لبِثَ نباتيًّا في طعامه مدَّةً من الزمن، ولكنه لم يلبَث أن رأى صديقًا له نباتيًّا يُصاب «بالأنيميا» كما أحسَّ في نفسه بالضَّعْف يدبُّ في قواه جميعًا، فأقلع عن ذلك، وهو يُشير إلى ذلك بقوله: «لقد رأيتُني مضطرًا إلى إعادة ما كتَبتُه أيام أن كنتُ نباتيًّا؛ إذ كانت تعوزُني فيها القوة.» ومما يروى عنه أنه كان يُخضِع كلَّ شيءٍ للتجربة والتفكير العميق، حتى إنه فكَّر يومًا في الهجرة إلى زيلنده الجديدة، فأعدَّ كشوفًا يرصُد فيها الأسباب التي تُبرِّر الرحلة، والأسباب التي تقتضي إلغاءها، مُقدِّرًا كلَّ سببٍ بمقدارٍ رقمي، فكان المجموع النهائي ١١٠ درجة تقضي ببقائه و٣٠١ درجة في جانب السفر، ولكنه رغم ذلك لم يرحَل!
وكان ممَّا يُميز شخصيته أنه لا يدَع برهانًا لتأييد حُجَجهِ إلا أورَدَه، ولكنه كان في الوقت نفسه لا يستمع إلى وجهة نظَر سواه، وإن أنصتَ فلا يفهم، وكان مُحبًّا لنفسه شاعرًا بعظمتها شعورًا أسرَفَ فيه، حتى بلغ حدَّ الغرور، وكان يرفض كل ضروب المداهنة والرِّياء، ويأبى أن يتقبَّل من الحكومة ما تمنَحُه من ألقاب الشرَف، وقد لازم عملَه المُضني أربعين عامًا في عزلةٍ من الناس، ومرَضٍ ملازمٍ لم يبرَحْه، ولعلَّ انعزاله وامتناعه عن الزواج وتكوين أُسرة كان سببًا في إقفار نفسه من العواطف الإنسانية التي تنشأ بالمُعاشَرة، فكان جافًّا تعوزُه الفكاهة، وجاء أسلوبه بعيدًا عن الرقَّة والسلامة.
ويُخيَّل إلينا أنَّ ما اضطلع به من عبءٍ ثقيل جليل اضطرَّه أن ينظُر إلى الحياة نظرةً صارمة أكثر مما ينبغي، فقد اشتغل بتحليل الحياة ووصفِها حتى لم يبقَ له من الوقت ما يعيش فيه لنفسه.
ومن أظهر الصِّفات التي تُميز «سبنسر» مقدرة رائعة في المنطق، ولعلَّه أقدَرُ من شهِدَهم التاريخ الحديث في عرض الموضوعات مهما اشتدَّ تعقيدها، فقد كتب في أعوَصِ المسائل وأعمقها كتابةً أخذ العالم كلُّه يقرؤها مدى جيلٍ كامل، وهو مشغوف طروب مُقبل على الفلسفة إقبالًا لم تعهده الفلسفة في الناس من قبل. وكان «سبنسر» يميل إلى التعميم، ويُغرَم بالنظام غرامًا لا حدَّ له، ويظهر أن حبَّه للنظام تولَّد من دءوبه على تنظيم الأمثلة واستخراج القاعدة.
ولمَّا كان عام ١٨٥٨م أخذ «سبنسر» يراجع مقالاته المُتناثِرة لنشرها في كتابٍ واحد، فراعَه منها وحدة التفكير، ولمعَتْ على الفور في رأسه فكرة، وهي أن نظرية التطوُّر يمكن تطبيقها على كل فروع العِلم كما أمكن تطبيقها على عِلم الحياة، وأنها لا تقتصِر على تعليل الأنواع والأجناس، ولكنها أيضًا تتناول بالتفسير كلَّ شيءٍ؛ الكواكب والتاريخ والأخلاق والجمال. وما لبِث أن اشتعل حماسةً لإخراج سلسلةٍ من الكتُب يُبيِّن فيها تطوُّر المادة والعقل من السديم إلى الإنسان، ومن الوحش الضاري إلى «شكسبير»، ولكنه نظَرَ فرأى عمرَه قد قارب الأربعين، فيئس من إتمام مشروعه؛ إذ كيف يتسنَّى لرجلٍ قطع من العمر أربعين عامًا أن يجد من الوقت مُتسعًا ليفكر في كل ما وعَتِ الإنسانية من معرفة؟
ولكن لم يكَدْ ينشُر كتاب: «المبادئ الأولى» سنة ١٨٦٢م حتى أعرض الناس عنه، واستردَّ مُعظم المشتركين قِيَم اشتراكهم، وكان سبب هذا النفور والإعراض ما جاء في الجزء الأول من هذا الكتاب، إذ حاول فيه «سبنسر» أن يوفِّق بين العِلم والدين، فهاجَم رجال الدين والعُلماء على السواء، وبذلك أصبح كتاب «المبادئ الأولى» وكتاب «أصل الأنواع» ميدانًا لقتالٍ عنيفٍ بين الكُتَّاب، ونُشِر للردِّ عليهما وتفنيدهما سَيلٌ دافق من الكتب، وساد الرأي في القوم بأنَّ مَن يأخذ بنظرية التطوُّر ويُشايعها فهو زنديق خارج على قواعد الأخلاق، وهكذا أدبَرَ عن «سبنسر» كل من أقبل عليه في بادئ الأمر، فنفد منه الصبر والمال ولم يعُد في مصقدوره مواصلة العمل، فأرسل إلى من بقِيَ له من المُشتركين يُعلِنُهم أنه قد عجز عن المضيِّ في تأليف ما أراد تأليفه من الكتُب.
صديقي العزيز
لمَّا عُدْت في الأسبوع الماضي، ألفَيتُ عدد شهر ديسمبر من كتابك في علم الحياة، ولستُ بحاجةٍ إلى ذِكر ما ساءني من رؤية هذا الإعلان الذي أرفقتموه بالكتاب. من رأيي أن تكتُب بقيَّة رسالتك، وسأتعهَّد للناشِر بدفع ما قد يتعرَّض له من الخسارة، أرجو ألا تنظُر إلى هذا الرأي بأنه عطف شخصي — وحتى لو كان كذلك لرجَوتُ أن تسمح لي أن أتقدَّم به — ولكنه ليس كذلك، بل هو اقتراح للتعاون على غايةٍ هامَّة قومية، تلك الغاية التي من أجلها تعمل وتنفق صحَّتَك.
فرفض «سبنسر» أن يقبَل ما عرَضَه عليه «مل»، فانطلق هذا الأخير بين أصدقائه، وحمل كثيرًا منهم على أن يشترِك كلٌّ منهم في مائتين وخمسين نسخة، ولكن «سبنسر» رفض هذا أيضًا، وحاولوا إقناعه فلم يقتنِع، ثم جاءه خطاب من أستاذ في أمريكا يرسِل له فيه مبلغًا من المال، على أنه اشتراك طائفة من المُعجَبين به في أمريكا، فتقبَّله «سبنسر» وأقبل على العمل في عزيمةٍ قوية، وظلَّ يُتابعه أربعين عامًا حتى أكمل فلسفته كتابةً وطباعة، فكان انتصارًا أيَّ انتصارٍ من العقل والإرادة على العقبات الشائكة والأمراض المُنهِكة، وذلك وحدَه صفحة مجيدة في سجل البشر.
(٣) المبادئ الأولى
ابدأ بالدين وانظُر كيف يُعلل لك الكون، هذا مُلحِد يحاول بأن يُقنعك بأنَّ العالَم وجد ذاته، لم ينشأ عن عِلة، وليس له بدء ولا ختام، فلا يسعك أن تُقابل قوله هذا إلا بالجحود والإنكار؛ لأنَّ العقل لا يُسيغ معلولًا بغَير عِلة، وموجودًا سار في الحياة شوطًا لا بداية له. ثم استمِعْ إلى هذا الناسِك المُتديِّن، ها هو ذا يقصُّ عليك عِلة الكون وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يُفسِّر بهذا الرأي من المشكلة شيئًا، ولم يزد على صاحبه سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء، وكأني بك تُسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟ فالدِّين بصورتَيه — الإيمان والإلحاد — لم يستطع أن يُقدِّم تعليلًا واضحًا معقولًا.
خُذ العلوم فلعلَّك واجِد عندها ما يُشبع غُلَّتك؟ سائل العلم ما هذه المادة التي أراها وألمسها، والتي تملأ جوانب الكون؟ تَرَه يُحلل لك المادة إلى ذرات، ثُم إلى ذُرَيرات أدق، ثم إلى أُخريات أكثر منها دقَّة، ثم ماذا؟ هنا يقِف العِلم بين اثنَين: فهو إما أن يعترِف بأن المادة قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، وليس من اليسير أن تُسيغ هذا القول، وإما أن يُقرِّر بأن ثمَّة حدًّا يقف عند التقسيم، وهو ما يستحيل عليك أن تقنَع به، ثم سائلِ العِلم عن القوة ما هي؟ فلستُ أحسَبُه يستطيع جوابًا، وإذن فالعلم كذلك عاجز عن شرح حقائق الكون.
وأي غرابة فيما يُصادف العقل البشري من إبهامٍ لا يقوى على معرفته؟ إنه أُعدَّ لكي يفهم ظواهر الأشياء، ولا يعدُوها إلى ما خفِيَ وراء أستارها، ولكنَّا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نُنكِر هذا الشعور الذي تضطرِب به نفوسُنا من أنَّ وراء هذا الغشاء الظاهر حقيقةً كامنة، حسْب العقل أن يُدرك وجودها، أما إذا همَّ نحوَها بالتحليل والتعليل خرَّ صريعًا عاجزًا.
وعلى هذا الأساس من وجهة النظر يُصبح التوفيق بين العِلم والدين هيِّنًا ميسورًا، فليقصر العِلم دائرة بحثِه على ظواهر الأشياء دون أن يتورَّط في البحث عن حقائقها المستورة، له أن يتناول المادَّة تحليلًا وتركيبًا دون أن يبحث في ماهية المادة، وله أن يستنبِط قوانين الحرارة والضوء والصوت وما إليها من القوة دون أن يعلَم ماهية القوة؛ لأنَّ هذه وتلك فوق مقدوره، وكل محاولة له في هذا السبيل ضربٌ من العبَث، أما الدين فخَير له أن يترُك هذا العقل العنيد الذي لا يطمئنُّ لغير الحجَّة المنطقية، خيرٌ له أن يترُك هذا العقل، وأن يُناشِد العقيدة من الإنسان؛ لأن من طبعها ألا تلزم بالحجة العقلية، قُل للعِلم أن يكفَّ عن إثبات الله أو إنكاره فليس اللاهوت ميدانه الذي يصُول فيه ويجُول، وقُل للدين أن يكفَّ عن مُناشدة العقل؛ لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير، ترى الدين والعِلم أخوَين مُتصافحين لكل منهما حلبة ومجال.
لقد تكوَّنت الجبال الشامخة من ذرَّات الحصى، وامتلأت المُحيطات الفسيحة بقطراتٍ من الماء، واجتمعت عناصر دقيقة من الأرض فكوَّنت الأدواح العالية، ووجبات مُتعاقبة من الطعام تُشيد أجسام الرجال، وتآلفتْ طائفة من المشاعر والذكريات فألَّفَت فكرًا ومعرفة، ثم تآخَتْ جزئيات المعرفة، فأنتجت علمًا وفلسفة. لقد تطوَّرت الأسرة إلى القبيلة، ثم إلى الدولة، ثم إلى تحالُف بين دول الأرض قاطبة. كلُّ هذه أمثلة لأجزاء المادة المُتناثرة كيف تأتلِف ويجتمع بعضها إلى بعض. ومن جهةٍ أخرى يُسبِّب هذا التآلُف حدًّا من حركة الأجزاء وشلًّا لقوَّتها، فقوة الدولة مثلًا تحدُّ من حرية الأفراد، والحبَّة من الهباء حرَّة الحركة، وهي منفصلة، مشلولة مُقيدة إذا اجتمَعَت مع أخواتها في صخرةٍ أو جبل، ولكنَّ تجمُّع الأجزاء يستتبِع نتيجةً أخرى هي التنوُّع والتنافُر في العمل الذي يؤدِّيه كل منها، فقد كان السديم الأول مُركبًا من مادة متجانِسة يُشبِه بعضها بعضًا، ولكنها سرعان ما تنوَّعت في غازاتٍ وسوائل وأجسام صلبة. انظر فهذه قطعة من الأديم قد افترشت سندسًا أخضر، وتلك جبال قد اكتست ثلوجًا ناصعة البياض، وذلك بحْر قد تسربل بلباسه الأزرق، أنعِمِ النظر في هذه الخلية الواحدة المتجانسة، وما سينشأ عنها من مختلف الأعضاء، هذا للغذاء، وذلك للإفراز، وثالث للحركة، ورابع للإدراك. اللغة الواحدة لا تكاد تسري في بطاح الأرض، حتى تتنوَّع في ألسنةٍ ولهجاتٍ لا يفهم بعضها بعضًا. العِلم الواحد يتفرَّع عنه عشرات من العلوم، المنظر أو الحادثة تُوحي صورًا من الفن والأدب ليس إلى حصرها من سبيل، كل هذه أمثلة على التنوُّع والتنافُر اللذَين يعقبان التشابُه والتجانس.
وهكذا أسطورة الحياة تَجمُّع وتَفرُّق، تآلُف وتنافُر، تأتلف الأجزاء وتجتمع في وحدة لا تزال تطَّرِد في النمو حتى يُدركها تنافر الأجزاء، ثم يشتدُّ هذا التنافُر ويشتد، حتى تتلاشى وتنحل.
سُنَّة الوجود هذا الانحلال والتكوُّن، ولكنه بين جذبةِ المدِّ ودفعة الجزر يلتمِس التوازن لكي ينتهي إليه، فكل حركة تعاني من المقاومة ما يؤدي بها إلى البطء، ثم إلى السكون عاجلًا أو آجلا … الكواكب السيارة يضيق فلكُها شيئًا فشيئًا، حرارة الشمس وضوءُها يقِلَّان كلَّما تقادَم عليها الزمان. الأرض تتلكَّأ في سرعتها عهدًا بعد عهد. الدماء في عروقنا سيُصيبها البرودة والبطء، وهكذا سيسعى الوجود نحو الانحلال، أو سيسعى الانحلال إلى الوجود خطوة خطوة، وهي خاتمة محتومة للتطوُّر. سينحلُّ المجتمع وتتفرَّق الشعوب، وتذوب المُدن، وبمِثل هذا تتمُّ دورة التطور والانحلال، ولكنها ستبدأ السير ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية له من المرَّات، وكل تكوينٍ جديد لا بدَّ أن ينتهي بالفناء والموت.
وهكذا كان كتاب «المبادئ الأولى» مأساة مروِّعة تروي لنا قصَّة العالم: صعود وهبوط، تكوُّن وانحلال، حياة وموت، تطرأ مُتتابعةً على الأحياء والأشياء، أفيكون عجيبًا أن يُقابِل هذا المؤلَّف عند إخراجه، وإذاعته في الناس ثورةً عنيفة؛ لأنه لم يدَعْ مجالًا للعقيدة والأمل؟
رأينا فيما سبَقَ أنَّ التطوُّر عند «سبنسر» هو القانون الذي تنشدُه الفلسفة لكي تضمَّ بين دفَّتَيه علوم الإنسان بأسرِها فمهما قلَّبْتَ النظر في مظاهر الكون وجدتَها تسير في سبيل التطور، أي من البساطة إلى التعقيد، ومن التجانُس إلى التبايُن.
ويختم «سبنسر» كتابه هذا برأيه في الحياة بأنها تافهة حقيرة لا تستحقُّ البقاء، فأصابه بهذا الرأي ما أصاب الفلاسفة جميعًا من محنةِ النَّظر البعيد، إذا ألقى ببصرِه إلى الأفق النائي، فمرَّتْ صوَرُ الحياة الخلَّابة تحت أنفِه دون أن يراها.
(٤) تطوُّر الحياة
يبدأ «سبنسر» كتابه عن تطوُّر الحياة بتعريف الحياة نفسها، بأنها التوفيق بين الكائن الحي وبيئته، ويتوقَّف كمالها على كمال هذا التوفيق، فهذا حيوان يكتسي بالفراء ليتَّقِي لذعة البرد، وذلك قد أعدَّ لاختزان الطعام لما عساه أن يصادفه من عُدمْ وإجداب، وثالث يستطيع أن يتلوَّن بلَون الأرض التي يدبُّ فوقها حتى لا يُبصِره العدو فيفتِك به إلى آخر هذه الوسائل التي زَوَّدت بها الطبيعة الأحياء، أو بعبارةٍ أصح، التي قسَرَها الأحياء قسرًا على أن تزوِّدهم بها للذَّود عن حياتهم، وبديهي أنَّ هذه المُلاءمة لم تبلُغ ولن تبلغ درجة الكمال، ما دام الحيوان مخلوقًا ناقصًا يعتريه الضَّعْف والموت، ولكن مهما يكن من أمرٍ فهو دائب لا يَني عن السعي الحثيث في زيادة هذه الملاءمة شيئًا فشيئًا، بأنْ يكمِل هذا النقص تارة، وذاك طورًا، ويُنقِّح من أعضائه حتى تتمكَّن من مجاوبة الطبيعة ومقاومتها، ومعنى ذلك أنَّ الكائن الحي يشعُر بالحاجة أولًا، ثم ينطلِق في سعيِه جيلًا بعد جيلٍ يستمدُّ من الطبيعة عضوًا يسدُّ له ما أحسَّ من نقص، فهو مثلًا قد شعَر بحاجته إلى النظر؛ لكي يتبيَّن ما يُحيط به في دقةٍ ووضوح، فكوَّن لنفسه على مرِّ الدهور عضوًا للإبصار، وهكذا قُل في سائر الأعضاء.
وليست الحياة إلَّا هذا التوفيق الذي لا ينقطع أسبابه، ولا تقتصر هذه المحاولة على أفراد الحيوان، بل تعدوها إلى الأنواع، إذ يسعى كلُّ نوع باعتباره كلًّا إلى الملاءمة بينه وبين البيئة، ويرى «سبنسر» توافُقًا عجبًا بين تكاثُر الحيوان، وبين ما يُحيط به من الظروف الطبيعية، فهو يرى الأصل في التناسُل هو تخلُّص الكائن الحي من زيادةٍ في حجمه لا تتناسَب مع جهازه الهضمي، أي أنَّ كتلة الكائن الحي إذا اطَّردَتْ في النمو، تصِل إلى حدٍّ لا تستطيع معه المعدة أن تسُدَّ حاجتها من الغذاء، وعندئذٍ يضطرُّ الحيوان إلى أن يقِف نموه عند حدٍّ معين، وكل زيادة تجيء بعد ذلك يتخلَّص منها بأن يُخرجها نسلًا. وتطبيق ذلك أنَّ الإنسان — ذكرًا كان أم أنثى — يأخُذ جسمه في النموِّ إلى حدٍّ محدود، ثم يقِف نموُّه إذا ما جاءت مرحلة التناسُل، ولذا ترى أنَّ عدد النَّسل يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع درجة النمو، فكلما كبر حجم الحيوان، كان نسلُه أقلَّ عددًا، فبينما تُنسِل الذبابة عشرات الذباب لا يلِد الفيل إلا واحدًا، كذلك يتناسَب عدد النَّسْل مع مقدرة الحيوان على مقابلة الأخطار، فإن كان ضعيفًا عاجزًا عن صدِّ ما يتهدَّدُه من الكوارث لجأ إلى كثرة النَّسل ليعوِّض فناء أفراده الناشئ من ضعف المقاومة، وإلَّا تلاشى النوع. والعكس صحيح، أي إذا كان النَّوع قادرًا على الاحتفاظ ببقائه، وجبَتْ قلَّة النَّسل، وإلا رجحت كثرة العدد على كمية الطعام، ومعنى ذلك بعبارةٍ أخرى أنه كلَّما ارتقى النوع في سُلَّم الحياة، كان أقدر على الاحتفاظ بوجوده، فكان قليل النَّسل، وهذه القاعدة صحيحة إلى حدٍّ كبير حتى في الأفراد، إذا ارتقى الفرد في عقليته وذكائه كان أقلَّ نسلًا. وممَّا هو جدير بالذكر أنه كلَّما ازدادت عند الفرد كمية الاستهلال العقلي — أي التفكير — قلَّ عدد النَّسل أو انعدم، ولعلَّ أبلغ آية على ذلك عُقْم الفلاسفة. وقد يُشير هذا الدليل إلى أنَّ الإنسانية تسير في تطوُّرها نحو مرحلةٍ تزيد فيها القوة العقلية ويقلُّ عدد النَّسْل.
وعلى الرغم من أنَّ الطبيعة ساهرة على هذا التوفيق بين نسبة التناسُل وحاجة النوع، فقد يظهر أنها أخطأت الحساب، ومالت نحوَ الإكثار من السكَّان، بغضِّ النظر عن كمية الغذاء، وحُقَّ «لمالتوس» أن يجهَر بدعوته إلى ضبط النَّسْل لما لاحظَه من زيادة السكان على مواد الغذاء.
(٥) تطوُّر العقل
ولكن ما يلفِتُ نظر القارئ على الفور هو أن يرى للمرة الأولى في تاريخ علم النفس باحثًا يبحث السيكولوجية من وجهة نظرٍ تطوريةٍ محضة؛ إذ بذل «سبنسر» مجهودًا جبارًا في تعقُّب حقائق الفكر المعقدة المتشابكة، فأرجعها إلى عمليات عصبية بسيطة، ثم إلى حركةٍ بين أجزاء المادة.
ورأته — حقًّا — مجهودًا قد انتهى بالفشل، ولكن مَن ذا الذي كُتِب له في هذا الموضوع توفيق أو نجاح؟ ويرى «سبنسر» أنَّ عمليةً تطوُّرية واحدة تناولت الكون بادئةً من السديم مُنتهية إلى العقل! ولقد سار العقل في مراحل مُتعاقبة، فترَقَّتْ طرائق استجابته للبواعث الخارجية من صورٍ بسيطة إلى أُخرى معقدة، من الانعكاس إلى الغريزة، ثم من الذاكرة والخيال إلى الذكاء والعقل. ويقول «سبنسر» إن ليس هنالك بين الغريزة والعقل من فارقٍ اللَّهم إلا في الدرجة فحسْب، فكلاهما يعمل على الملاءمة بين حالة الكائن الباطنية، وبين الظروف الخارجية، وكل الفرق بينهما هو فرق في الدرجة، فالغرائز تُنظِّم العلاقات البسيطة نوعًا ما، أما العقل فيستجيب للمواقف المُعقَّدة، فليس العمل العقلي إلا إجابة غريزية كُتِب لها البقاء بعد عراك نشِب بينها وبين إجابات غريزية أخرى، وذلك لصلاحها هي بالنسبة إلى الإجابات الأخرى، فالعقل والغريزة في صميمهما شيء واحد، أو إن شئتَ فقُل لا فرق بين العقل والحياة.
أما «الإرادة» فهي كلمة نُطلِقها على مجموع الدوافع التي تدفعنا إلى العمل، فهي في حقيقة الأمر فكرة تحوَّلت إلى عملٍ لم تجِد ما يعوقها دون ذلك، فالفكرة هي المرحلة الأولى للعمل، والعمل هو المرحلة الثانية للفكرة.
(٦) تطوُّر المجتمع
ليست دراسة المجتمع باليسيرة المُمهدة، بل يعترض سبيلها من العقبات والصعاب ما لا يستطيع التغلُّب عليها إلا الأفذاذ الفحول، فقد حدَث مرةً أن رحل رجل فرنسي إلى إنجلترا يقضي بأرضها بعض الوقت ترويحًا للنفس وحبًّا للاستطلاع، فلم يكدْ ينقضي على إقامته بها أسابيع ثلاثة، حتى اعتزم أن يُصدِر كتابًا عن إنجلترا، إذ خُيِّل إليه أنه قد درس شعبَها فأتقن الدراسة، فلمَّا انقضت شهور ثلاثة همَّ بوضع كتابه، ولكنه أدرك أنه لم يُتقِن الدراسة بعد، بحيث يستطيع أن يُخرج الكتاب الذي يريد، وآثر الرويَّة والأناة، فلما انقضت سنوات ثلاث، اتَّسع شعوره بالعجْز والقصور، وأيقن أنه لا يعلم من موضوعه شيئًا … وهذا صحيح، فقد يُخيَّل للإنسان للوهلة الأولى أن دراسة المجتمع سهلةٌ ميسورة، ولكنه كلما ازداد علمًا بدقائقه ازداد يقينًا بجهله وعجزه.
فما بالك بالجهود التي بذلها «سبنسر»، وهو لا يريد أن يدرس شعبًا بعَينه فحسْب، بل يقصد إلى دراسة المجتمع الإنساني بأسرِه، وكيف تطوَّر كيانه من حالةٍ إلى حالة؟ فهو يرى أن المجتمع كائن عضوي، له أعضاء للتغذية وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الأعضاء، وله فوق ذلك تناسُل وإفراز، شأنه في كل ألوان الحياة شأن الأفراد سواء بسواء، فهو ينمو، وكلَّما ازداد نموًّا اشتدَّ تعقدًا، وكلما تعقَّد ازدادت أجزاؤه استقلالًا، وحياة المجتمع — باعتباره كُلًّا — طويلة جدًّا بالنسبة إلى حياة أجزائه التي يتألَّف منها، والمجتمع كالفرد، يتعاوَرُه التكوُّن والانحلال، وهما وجها التطوُّر، فنمو الوحدة السياسية من الأسرة إلى الدولة، ثم إلى عُصبة الأمم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المنزلية الصغيرة إلى نظام الشركات، ثم إلى الاحتكار، ونمو وحدة السكان من القرية إلى المدينة … كل هذه ظواهر للتجمُّع والتكوُّن، ولكنك من جهةٍ أخرى ترى تقسيم العمل وتعدُّد المِهن والصناعات، وتنوُّع الإنتاج بين الريف والمدن، وبين أمَّةٍ وأمة، وهي دلائل تُشير إلى التنوُّع والتنافُر، وتستطيع كذلك أن تلمس التطور بشطرَيه — تآلُف الأجزاء في وحدة، ثم تنافُرها داخل تلك الوحدة — في كل جانبٍ من جوانب المجتمع: في الدين والحكومة والعلم والفن وغيرها.
فقد كان الدين أول الأمر عبادة طائفةٍ من الآلهة والأرواح، فأخذت هذه تتجمَّع وتأتلِف حتى تركَّزت في إلهٍ واحد، ثم عاد التوحيد فتفرَّع إلى جملةٍ من الأديان وطائفةٍ من العقائد، ولم يتحوَّر الدين في شكله فقط، بل تبدَّل موقعه من النفوس كذلك، فقد كان المحور الذي تدور حوله رحى الحياة بأسرِها؛ ذلك لأنه ألقي في روع الإنسان الأول أنَّ هذه الحياة الدنيا غرور ولهو. ويجِب أن يربأ بنفسه أن تنغمِس في حمأتها أو تتلوَّث بأدرانها، ولتكن الآخرة وحدَها محطًّا لآماله ومعقِدًا لأمانيه، فهي خير من الأولى وأبقى، ولكن ما لبثت وجهة النظر أن تطوَّرت، وتوجَّه الإنسان بشطرٍ من عنايته نحوَ هذه الحياة التي يعيش فيها، وأخذت تلك العناية تزداد شيئًا فشيئًا كلَّما اتَّسع نطاق العمل الصناعي.
أما نظام المجتمع فلعلَّ أبلغ ما طرأ عليه من تغيُّر هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي الذي ساد أوروبا إبَّان العصور الوسطى إلى النظام الاقتصادي الصناعي. ويعتقد «سبنسر» أن تقسيم الحكومات — إلى ملَكية وأرستقراطية وديمقراطية وما إلى ذلك — إنْ هو إلا عرَض تافِه لا يمسُّ الجوهر والصميم، وأما الحدُّ الفاصل الذي يميز دولةً من دولة فهو أساس بنائها الاجتماعي: هل يقوم على النزعة الحربية أم يصطبغ بصبغة الصناعة؟ وبعبارةٍ أخرى تنقسم نظم الاجتماع نوعَين: جماعة تعيش من أجل النزال والقتال، كما كانت الحال في نظام الإقطاع، وجماعة لا تجد في الحياة هدفًا تتَّجه صوبه وتحيا به ومن أجله سوى العمل، فتلك تحارب من أجل الحياة، وهذه تعمل من أجل الحياة.
وللدولة الحربية صفات تُلازمها؛ منها أن السلطة تتركَّز في قبضة الحكومة وحدَها، ويغلُب أن تكون حكومةً ملَكية لا تدَّخِر وسعًا للتفريق بين أفراد الشعب الواحد إلى طبقاتٍ بعضها فوق بعض، فتكون الحرب والفروسية صناعة الأشراف، وللسُّوقة الصناعة وفلاحة الأرض. كذلك تعظُم في الدولة الحربية سيطرة الرجل في الأسرة؛ ذلك لأنَّ الرجال هم عماد الحروب، وأين منزلة الرجل في حَومة الوغى من منزلة المرأة قابعة في عُقر دارها؟ ويمقُت «سبنسر» هذا الضرب من الاجتماع الذي تدور رحى الحياة فيه حول الحرب؛ لأنَّ مصلحة الفرد تذوب وتتلاشى في صالح المجموع، ولأنَّ الدولة لا تقوم إلا على القتل والسرقة، ونحن إن كنَّا نصِم الإنسان الأول بالوحشية؛ لأنه كان يلتهِم لحوم البشر فما أجدَرَنا أن نزدري هذه الدول التي تأكُل شعوبًا بأسرِها في وجبةٍ واحدة! ويعتقد «سبنسر» أنَّ رُقيَّ الإنسانية مرهون بإلغاء الحروب، وهو لا يرى سبيلًا لتحقيق هذا المثَل الأعلى سوى أن تقطع الأمم شوطًا بعيدًا في الصناعة؛ لأنها تعمل على المساواة والسلام، وهي تٌقسِّم السلطة بين أعضاء المجتمع جميعًا، ولا تركزها في أيدي الحكومة وحدَها، وفضلًا عن ذلك فهي تشحذ العقول وتدفعها إلى الابتكار، وهو المِعوَل الهدَّام الذي يكفُل لنا تحطيم التقاليد الوراثية التي تقوِّي من شوكة الحكومة، وستُصبح الوطنية في ظل الصناعة حبًّا للوطن لا كراهية للأوطان الأخرى، ثم إذا اطَّرد نموُّها فستؤدي حتمًا إلى إزالة الحواجز الجمركية التي تفصل الدول بعضها عن بعض، وعندئذٍ تُورِق دَوحة السلام وتمتدُّ فروعها حتى يتفيَّأ ظلها أبناء الإنسانية جميعًا، وإذا ما خفقت راية السلام وانمحت الحروب زالت دولة الرجل، ولا يعود له في أُسرته كل هذه السلطة التي ينعم بها، ويرتفع قدْر المرأة حتى تقِف معه كتفًا إلى كتف؛ لتَشابُهِ ما يؤدِّيان من عمل، وعندئذٍ فقط يتحقَّق تحرير المرأة الذي تنشُده.
ولمَّا كانت الصناعة تستقي ماء حياتها من العلوم، فلا رَيب في أن تقدُّمها وانتشارها يُنتجان تربية التفكير العلمي وصحة الاستنتاج للأسباب من المُسببات، ولن يلجأ الإنسان بعدئذٍ إلى قوى الطبيعة الخارجة والأبالسة والشياطين يُعلِّل بها أحداث الحياة، وفوق هذا كله سينقلِب التاريخ رأسًا على عقب، فستزدهِر صحائفه بذِكر الرجال العاملين بدلًا من الملوك المُحاربين، وسيُفسِح في مجاله للمخترعات والأفكار، سيزداد الشعب سلطانًا وقوة وتتقلَّص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوَهم العتيق الذي يفرِض على الفرد أن يحيا من أجل دولته، وأن يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقًّا أنَّ الدولة إنما وُجِدت وأنشئت لصالح الفرد، إنْ كان هذا هكذا فلا يجوز أن تُضحي الحياة من أجل العمل، بل يجِب أن يكون العمل أداة تستغلها الحياة في تحقيق السعادة.
(٧) تطور الأخلاق
ولكن تحدَّثْ بهذا المنطق إلى غير «سبنسر»! لا بدَّ أن تخضع مبادئ الأخلاق للانتخاب الطبيعي وتنازُع البقاء، وليبْقَ من أخلاقنا ما يقِف أمام التجربة القاسية، وليفْنَ منها ما تذرُوه هذه الريح العاصفة، الأخلاق — كأي شيءٍ آخر — تعود على الإنسان بالخير أو بالشر بمقدار ما تُساير أغراض الحياة «فالخُلُق السامي هو ذلك الذي يسير مع الحياة ويشاطرها فيما ترمي إليه.» فلنقبَلْ من الأخلاق ما يلائم الحياة، ولنرفُض منها ما يعترِض سبيلها ومجراها، أو بعبارةٍ أخرى يجِب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد على البقاء في مُضطرِب الأهواء المختلفة المُتنازِعة التي تصدُر من أعضاء المجتمع، ولمَّا كانت هذه الملاءمة بين الفرد والمجتمع تختلِف باختلاف الزمان والمكان كانت فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسعَ اختلاف. ويرى «سبنسر» أنَّ الطبيعة قد زوَّدتْنا بمقياسٍ دقيقٍ نُميِّز به الطيِّب والخبيث، وهو مقياس اللذَّة والألم، فإذا صادف سلوكنا من أنفسنا ارتياحًا ورضًا كان ذلك دليلًا على مُلاءمته للحياة الكاملة؛ لأنَّ ذلك الاطمئنان الباطني علامة على أنَّ الطبيعة قد اختارت ذلك السلوك ليكون سبيلًا إلى حفظ الحياة، فأنت تستطيع إذنْ أن تُفرِّق بين الخير والشر بما يبعَثُه العمل المُعيَّن من لذَّةٍ أو ألم؛ لأنهما دليلٌ ساقتْه الطبيعة نفسها للتفريق بين هذا وذاك.
تَعلم ممَّا تقدَّم أن الأخلاق يختلف لونها باختلاف البيئة الطبيعية أو الاجتماعية؛ لأن الأولى صدى الثانية وانعكاسها. ولمَّا كان نظام المجتمع في العصور الوسطى أخذ يتطوَّر في كثيرٍ من أسُسه وقواعده كان حتمًا أن ينشأ عن هذا التحوير انقلابٌ في فكرة الأخلاق، فقد كانت أكاليل المجد والفخار لا تعرِف موضعًا غير هامات الفُرسان المُقاتلين، فأمَّا هؤلاء الذين يقضون نهارَهم في الزراعة والصناعة فعبيدٌ أرقَّاء حقَّت عليهم الذلَّة والهوان، ولكن وجهة النظر أخذت تتطوَّر منذ حلَّت الصناعة ورسَّخَت قدمَها؛ لأنها تعتمِد كما قدَّمْنا على القوة العقلية، فأضحى العمل أشرَفَ ما يمارسه الإنسان؛ لأنه عماد المجتمع وسناده، ولمَّا كان العمل لا ينمو ولا يستقيم إلا في ظل العدالة، وهذه لا تُورِق وتزدهر إلا في جوٍّ من الحرية، كانت هذه الحرية أول واجبٍ في عنق الدولة، وقد عرَّف «سبنسر» العدالة بأن: «كل إنسان حُر في أن يفعل ما يشاء، على شرط ألا يتعارَض ذلك مع حرية إنسانٍ آخر له ما له من حقوق.» ولا يستقيم هذا التعريف مع نزعة الحرب؛ لأنها تعبُد سلطان القوة وتفرِض الطاعة العمياء، ولكنه شرط أساسي لنجاح الصناعة؛ لأنها تعتمد على السلام والحرية في الرأي والابتكار.
تلك هي حقوق الإنسان الأساسية عند «سبنسر»: حق الحياة، وحق الحرية، فأمَّا شكل الحكومة فلا يُقيم له وزنًا، فليكن ملَكية مُطلقة، أو دستورية، أو ما شئتَ من نُظم، فما لنا ولها ما دُمنا نتمتَّع بالحياة والحرية، وفي هذا يسخَر «سبنسر» من النساء اللائي يُلحِحْنَ في طلب الحقوق السياسية؛ لأنها في رأيه وهْمٌ باطل لا يُسمن ولا يغني من جوع، فضلًا عن أنه يتوجَّس من المرأة خِيفة إنْ هي وثبت إلى مقاعد النيابة والحكم، إذ يخشى أن تدفعها غريزة الإيثار إلى تقوية الضعيف الذي يجِب أن يُترَك للطبيعة لتسحقَه، حتى لا يبقى من الأحياء غير الأقوياء. نعم، يجِب أن تتحكَّم الأنانية وأن تظلَّ أساسًا لأعمالنا، بحيث لا تخضع لعاطفة الإيثار، فهي أسبق منه في الوجود، وهي أصلح للحياة والبقاء … وهل الإيثار إلا أثَرَة في لُبه وصميمه؟ أليستِ الأبوة حبًّا صريحًا للنفس؟ والوطنية، ما هي؟ ألا تراها أثرَة مجسَّمة؛ إذ إنك لا تنتصِر لهذه البُقعة من الأرض إلا لأنك تعيش بين أرجائها؟ وإذن فالمثَل الأعلى للأخلاق هو مزيج مُتَّزِن بين الأثرَة والإيثار، الإيثار الذي يُشبع الأنانية ويغذوها.
نقد
- (١)
فأول ما نُصادفه في كتاب «المبادئ الأولى» ممَّا قد يؤخَذ عليه قوله بأنَّ هنالك حقيقة مُغلقة لا سبيل إلى إدراكها، ونحن وإن كنَّا نعترِف أنَّ المعرفة الإنسانية قاصرة عاجزة لا تستطيع بحالٍ من الأحوال أن تسبر أغوار محيط الوجود، الذي ليس الإنسان إلا موجة طفيفة على سطحه، تلعَب بها يدُ الفناء، إلا أنَّنا نُخطئ منطقيًّا إذا ذهبنا إلى أن شيئًا ما قد أغلق دون المعرفة إغلاقًا تامًّا، واستحال العِلم به استحالةً كاملة؛ لأنَّ في القول بعدَم إمكان معرفة الشيء اعترافًا ضمنيًّا بأنَّنا قد عرفنا عنه شيئًا. ومهما يكن من أمرٍ فلا ينبغي أن نُلقي السلاح ونستسلِم إلى ما نحن فيه من قصورٍ وعجز زاعِمين أن العقل محدود. إذ إنَّنا — كما قال «هجل» — لو قيَّدْنا العقل بالعقل كنَّا كمَنْ يحاول أن يسبح بغير أن يدخل الماء.
- (٢)
يُعرِّف «سبنسر» التطوُّر بأنه سير من البسيط إلى المُركب، فهل هذا التعريف يفسِّر من الكون شيئًا؟ كلَّا، بل هو كما يقول عنه «برجسون» يُحلل الطبيعة، ولكنه لا يُفسِّرها. ولعلَّ أضعف أجزاء التعريف قوله بعدَم استقرار المادة المتجانسة وانتقالها إلى حالة التنافر، فهل يريد «سبنسر» بذلك أن يكون الكل المُتشابِه الأجزاء أشدَّ تعرُّضًا للتغير والتحوُّل من الكل المتنافر الأجزاء؟ أليس المعقول أن يكون المتنافر، وهو بحُكم تنافُره مركَّب معقَّد، أقربَ إلى التحوُّل من المتجانس البسيط؟ هذا ولا رَيب أن «سبنسر» قد أخطأ حين قرَّر أن التطوُّر والرُّقي يسيران بالشيء من البسيط إلى المُعقد، ففنُّ العمارة القوطي كان بلا ريب أشدَّ تعقيدًا من العمارة اليونانية، ولكنه ليس أرفع منه من حيث مراتب الفنِّ وتطوُّره.
ثم يؤخَذ على تعريف «سبنسر» للتطوُّر — فوق ذلك — أنه لم يذكُر شيئًا عمَّا تكاد تُجمع الآراء اليوم على أنَّ له اليد الأولى في إحداث التطوُّر، ألا وهو الانتخاب الطبيعي. ولعلَّ أصدق ما يُوصَف به التاريخ أنه تنازُع على البقاء وبقاء الأصلح — أصلح الكائنات، وأصلح الجماعات، وأصلح الأخلاق، وأصلح اللُّغات، وأصلح الأفكار، وأصلح الفلسفات … إلخ — فهذا وصفٌ لتطوُّر التاريخ، وإن يكن به بعض النقص، إلا أنه أصدق وأوضح من قول «سبنسر» بأنه يسير من التفكك إلى التماسُك، ثم من المتجانِس إلى المُتنافِر.
لقد صدق «سبنسر» حين قال عن نفسه: «إنَّني ضعيف الملاحظة في الإنسانية المجسَّدة؛ لأنَّني قد تعمَّقتُ إلى حدٍّ كبيرٍ في التفكير فيما هو مجرد.» والحق أن «سبنسر» قد أسرف في استعمال الطريقة الاستنتاجية فبَعُد عن المثل الأعلى «لِبيكون»، بل عن الطريقة الحقيقية للتفكير العلمي، فلقد بدأ «سبنسر» كما يبدأ رجل العلم بالملاحظة، ثم مضى كما يمضي رجل العِلم في تكوين الفروض، ولكنه بعدئذٍ زلَّ فيما لا ينبغي لرجل العِلم أن يزلَّ فيه من حيث ترْكِه للملاحظة والتجربة المُحايدة، لا بل لجأ «سبنسر» إلى اختيار الأمثلة التي تؤيد حجَّتَه، وكان صدرُه أضيقَ من أن يتَّسِع للأمثلة المُعارضة، فكان بذلك على نقيض «دارون» الذي صادف أثناء بحثه بعض الأمثلة التي تعارِض نظريته فأسرع إلى تسجيلها، قائلًا إنَّ مثل هذه الأمثلة كثيرًا ما تُسرع إلى الإفلات من الذاكرة، فيجِب لذلك إثباتها، أما الأمثلة المؤيِّدة فهي بطبيعتها أمْيَلَ إلى البقاء في الذاكرة.
- (٣)
قال «سبنسر»: إنَّ النسْل يقلُّ كلما تقدَّم النوع في طريق التطور، ولكن ذلك لا يتَّفِق مع الحقيقة الواقعة وهي زيادة النسْل في أوروبا عنه في الشعوب المتوحِّشة.
- (٤)
ويزعم «سبنسر» أن الحياة عبارة عن ملاءمة الكائن الحي لحالاته الداخلية مع ظروف البيئة الخارجية، وأنَّ هذه الملاءمة تتمُّ بطريقةٍ آلية قابلة، وكان خيرًا له أن يقول إنَّ هذه الملاءمة تتمُّ بما لدى الكائن من قوةٍ عاقلة؛ لأنَّنا لو سلَّمْنا بالمُقدِّمة التي يضعها وهي الملاءمة الآلية بين الكائن وبيئته، كانت النتيجة هي انعدام الحياة؛ إذ الملاءمة التامَّة بين الكائن الحي والبيئة معناها الموت (لأن الحياة تتضمَّن شيئًا من مقاومة الخضوع الجمادي للطبيعة).
- (٥)
فرض «سبنسر» أنَّ الدولة الصناعية أكثر سلامًا وأمنًا وأرفع أخلاقًا من الدولة الإقطاعية الحربية التي سادت في العصور الوسطى، ولكن هذا الفرض جدير بالتفكير الطويل قبل التسليم بصحَّته. ألم تجئ الحروب المُخرِّبة في أثينا في عصرٍ سيطرَت فيه الطبقة الوسطى (البورجوازي) التي كانت تتألَّف من رجال التجارة، بعد أنْ أسلَم لهم الأشراف الإقطاعيون الأمر بزمنٍ طويل؟ ثم أليست الحروب قائمة في الدول الأوربية الحديثة رغم قيامها على الأساس الصناعي؟ أليست الدولة الصناعية قد تدعو إلى نشوب الحرب أكثر ممَّا تدعو إليه دولة إقطاعية؟ فنحن نرى اليوم أن أقوى الدول من الوجهة الحربية هي أعظمها من الناحية الصناعية! إنه ليلُوح لنا أنَّ ما دعا «سبنسر» إلى هذا القول في سلام الدول الصناعية هو ما رآه في إنجلترا في عصره من اعتزالٍ نسبي عن المعارك الأوروبية، فعلَّل ذلك بانتشار الصناعة وحرية التجارة فيها، والأرجح أنه لو عاش ليرى إنجلترا مُدجَّجة بسلاحها في الحرب العظمى، تُدافع عن عزلتها التي كان يتهدَّدها الخطر، ثم لو عاش ليرى إنجلترا تستبدل بحرية التجارة تقييد التجارة لتصُون صناعاتها من المُزاحمة والمنافسة لغيَّر كثيرًا من رأيه.
خاتمة
ولكن ماذا يفعل النقد في هذا البناء الشامخ والطود الراسخ الذي شيَّده «سبنسر»؟ إنه لم يكد يُخرج للناس كتاب «المبادئ الأولى» حتى اعتُرِف له على الفور بأنه أعظم فيلسوف في عصره، وسرعان ما نقل الكتاب إلى معظم اللغات الأوروبية، وحتى إلى اللغة الروسية مع ما فيه من هجومٍ عنيف على تسلُّط الحكومة واستبدادها، مما كان يسود شبيهه في بلاد الروسيا حينئذٍ. ولم يقتصر تأثير «سبنسر» في الحركة الفكرية في أوروبا فحسب، بل إنه تعدَّاها إلى الحركة الواقعية في الأدب والفن.
وقد زاره الأستاذ الشيخ محمد عبده في ١٠ أغسطس سنة ١٩٠٣م، وكان «سبنسر» مصطافًا في «برايتون»، وكانت قد تقدَّمَت به السن، ونهاه الأطباء عن كثرة مقابلة الناس، وعن الحديث مع أحد أكثر من عشر دقائق، ولكنه سُرَّ من حديث الأستاذ فدَعاه للغداء معه، ودار الحديث بينهما على الدِّين والأخلاق.
سأله «سبنسر»: هل زار إنجلترا قبل اليوم؟ فلمَّا أجاب بأنه زارها قبل اليوم بعشرين سنة سأله «سبنسر»: ماذا رأى من الفرْق بين أخلاق الإنجليز اليوم والإنجليز من قبل؟ فاعتذر الأستاذ بأنَّ إقامته بإنجلترا كانت قصيرة لم تسمح له بدرس حالة الناس.
فقال «سبنسر»: إنَّ الإنجليز الآن دون ما كانوا عليه من عشرين سنة، فهم يرجعون القهقرى إلى الأخلاق، وسبب ذلك تقدُّم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلِنا، ثم سَرَت إلينا عدواها، وستفعل ذلك في سائر شعوب أوروبا، ولا أمل في صدِّ هذا التيار المادي، ولا بدَّ أن يأخذ مدُّه غاية حدِّه … إنَّ الحق عند أهل أوروبا الآن للقوة.
وقد علَّق الأستاذ على هذا الحديث بقوله:
«ماذا حرَّكَت منِّي كلمة الفيلسوف: «الحق للقوة» إلخ؟ جاءت منه مصحوبة بشعاع الدليل فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، ولو جاءت من ثرثارٍ غيره كانت تأتي مقتولةً ببرْد التقليد، فكانت تكون جيفةً تعافها النفس فلا تحرِّك إلا اشمئزازًا وغثيانًا.»
دنا «سبنسر» من الموت، فنظر وراءه يستعرِض حياته، فإذا هي أيام تنقضي كلها في كسب الشُّهرة الأدبية دون أن يتمتَّع فيها بشيءٍ من الحياة نفسها، فضحك من نفسه وسخِر، وتمنَّى لو قضى تلك الأيام الدابرة في حياةٍ بسيطة سعيدة، ولمَّا جاءته منيَّتُه سنة ١٩٠٣م، كان على يقينٍ أنه لم يعمل في حياته إلا عبثًا.
ولكن لا، لم يكن عبثًا ما أنتجه «سبنسر»، على الرغم من المُعارضة القوية التي قُوبل بها في آخِر أيامِه من العلماء ورجال الدين، معارضة كادت تمحو اسمَه من الأذهان محوًا. فلقد كان بحقٍّ أعظم فيلسوف إنجليزي في القرن التاسع عشر، وكان ممَّا عمِلَه أن قرَّب المسافة بين الفلسفة والأشياء الواقعة.
لقد ننظُر الآن فنرى أنفسنا على قمَّةٍ من الفكر لم يرتفع إليها «سبنسر»، فلنذكُر أنَّ هذا الفيلسوف العظيم هو الذي رفعَنا فوق أكتافه حتى أصبح منَّا في أسفل، ولئن كان العالَم حتى اليوم لم يُنصفه حقَّ الإنصاف، فيقينُنا أنه مصادف عند الأخلاف خيرَ الجزاء، بعد أن يكون قد انمحى من القلوب ما استكنَّ فيها نحوَه من حفيظةٍ وحقد.
(٤-٤) فردريك نيتشه Friederich Nietzhe
(١) مقدمات نيتشه
كان «نيتشه» وليد «دارون»، وصنوًا لمواطنه «بسمارك» في نزعته، ولا يخدعنا منه أنه سخِر من أشياع التطوُّر في إنجلترا، ومن أتباع الوطنية في ألمانيا، فلقد عوَّدَنا أن يهاجم أولئك الذين كان لهم عليه أقوى الأثر، وأن يجحَد الفضل باتِّهام من أسدى إليه فضلًا.
جاء «نيتشه» فانتزع من نظرية «دارون» نتيجتها الحتمية في الأخلاق في غير خوفٍ ولا وجَل، فإذا كانت الحياة هي تنازُع البقاء وبقاء الأصلح دون غيره، فالقوَّة إذن هي الفضيلة السامية، والضَّعف هو النقيصة والشر. الخير هو الذي يستطيع أنْ يحيا ويظفر، أما الشرُّ فهو ما يخُور ويهوي. هذه هي النتيجة اللازمة لمبدأ تنازُع البقاء، ولكنَّ أشياع «دارون» في إنجلترا، ورجال الفلسفة اليقينية في فرنسا، ودُعاة المذهب الاشتراكي في ألمانيا، جزعوا من هذه النتيجة المروِّعة فأحجموا عن انتزاعها وإعلانها. ومِن العجيب أنَّ هؤلاء جميعًا كان لهم من الجرأة ما يُنكرون به الديانة المسيحية، ولكنهم لم يجرءوا أن يكونوا مَناطقة صريحين في منطقِهم، وأن يرفضوا الأخلاق السائدة، فأكبروا مع الناس الدعةَ والرِّقَّة والإيثار، وما إليها من أخلاق تتفرَّع عن المسيحية، ثم أتى «نيتشه» فسلَّم بمُقدِّمة التنازع في الحياة، ولم يتردَّد في أن يولِّد منها نتائجها المحتومة في الأخلاق.
لقد أتمَّ «دارون» بغير قصدٍ منه ما بدأه الموسوعيُّون (الانسيكلوبيديون) من حيث إزالة الأساس اللاهوتي الذي تقوم عليه الأخلاق، ولكنهم تركوا مبادئ الأخلاق نفسها دون أن يمسُّوها بنقدٍ أو بهدم، فكانت كالبناء المُعلَّق في الهواء الذي لا يرتكز على أساسٍ ثابت، فأصبحت الحاجة ماسَّةً إلى مَن يُعيد بناءها، ولكن على أساسٍ بيولوجي، إنَّ كلَّ ما نريده في هذه المعركة التي نُسميها الحياة هو القوة لا الطيبة، هو الكبرياء دون الخنوع، هو الذكاء المُصمم لا الإيثار، أما المساواة والمبادئ الديمقراطية فمُناقِضة لنظرية بقاء الأصلح، فلا يقصد التطوُّر في سيرِه إلا العباقرة دون السُّوقة، إنَّ الكلمة في كلِّ مواضع الخلاف للقوة لا للعدالة.
فإنْ كان هذا حقًّا، فليس أعظم من «بسمارك» ولا أقوى منه دلالةً على المثَل الأعلى، فهو رجل عرف حقائق الحياة، فأعلن في غير استحياء: «أنَّ لا إيثار بين الأمم.» وأن شئون الدولة لا ينبغي أن تقرِّرها أصوات النائبين ولا بلاغة الخطباء، ولكن أداتها هي الدَّم والحديد، فيا له من ريحٍ عاتية عصفت بأوروبا لتقتلِع من أرضها الأوهام الفاسِدة والديمقراطية السائدة، إنه في شهورٍ قلائل فرَض قيادته على النمسا المُحطَّمة فرضًا، وفي شهور قلائل أخضع فرنسا التي كانت لا تزال تترنَّح تيهًا بذكرى نابليون، وفي تلك الشهور القلائل عيْنِها اضطرَّ الدويلات الصغيرة في ألمانيا أن تندمج كلها لتكوِّن إمبراطورية جبَّارة، هذه هي الأخلاق الجديدة، هذه هي أخلاق القوة، ولكن هذا الاتجاه الحربي الذي أخذ يتزايد في ألمانيا كان لا بدَّ له من صوتٍ يُعبِّر عنه، كما كان لا بدَّ لإرادة القتال — التي كانت تَجيش في صدر ألمانيا — من فلسفةٍ تُبرِّرها وتؤيدها؛ لأنَّ الديانة المسيحية لا تدعمها، وفي الفلسفة الداروينية لها دعامة قوية إذا ما أسعَفَها قليل من الجرأة، فصادفَتْ هذه الجرأة في نيتشه، فأصبح هو اللسان المُعبِّر عن دخيلة أُمَّتِه.
(٢) نشأته
وعجيب أن ينحدِر هذا الثائر من أبٍ قسِّيس، بل إنَّ أجداده لأبيه وأمِّه كانوا سلسلةً متتابعة من رجال الدين، ولكن أي عجب؟ إنه هو نفسه في أعماقه مُبشِّر بالمسيحية، إنه لم يهاجِم المسيحية إلا لأنَّ فيه كثيرًا من روحها الأخلاقية، وليست فلسفته إلا محاولة الإصلاح، فهي مَيل قويٌّ نحو الرقَّة والرحمة والسلام … وكانت أمُّه سيدة تقيَّةً ورِعة تتمسك بمذهبها في تزمُّت، فجاء ابنها على مثالها من الورع والعِفَّة، وإن هذا نفسه لهو السبب في هجومه على التقوى: لَكَمِ اشتاق ذاك القديس التَّقيُّ أن يرتكِب خطيئة.
ومات أبوه وهو ما زال طفلًا، فتناول تربيته طائفة من النساء المُتمسِّكات بأهداب الدين، وكنَّ يُدلِّلنَه ويعاملْنَه في رقَّةٍ ولطف، حتى نشأ حساسًا يمقُت أبناء السوء من جيرانه، إذا ما سلبوا الأوكار من أطيارها والحدائق من أثمارها، ويكرَه أن يرى لِداته من الصبية يلعبون «جنودًا»، وينطقون بالكذب ولعلَّ رفاقه في الدراسة لم يخطئوا حين أطلقوا عليه اسم القسِّيس الصغير. وقال فيه أحد هؤلاء الأصدقاء إنه «كالمسيح في معبد.» وكان يلذُّ له أن يعتزل الناس ليُطالِع الإنجيل لنفسه أو يتلوه على مُستمعين في حماسة مُشتعلة وشعور مُلتهب، حتى إن عينَيه كثيرًا ما كانتا تجودان بالدمع أثناء القراءة، ولكن إلى جانب هذا كانت فيه قوة خُلقية، وكبرياء كامن، وقد أنفق حياته كلها يبحث عن الوسائل الجسدية والعقلية التي تقوِّي من نفسه وتخلُق منه رجولةً مُثلى.
ولمَّا بلغ سنَّ الثامنة عشرة فقد الإيمان في إله آبائه، وقضى ما بقي من حياته يلتمِس لنفسه إلهًا جديدًا، ثم أيقن أنه وُجِد في السوبرمان (الإنسان الأعلى)، ولقد قال فيما بعد إنه لم يلقَ عناءً في أن يتخذ لنفسه ذاك الإله الجديد، ولكنه كان مخدوعًا في ذلك بغير شك، أو هو على الأصح يُخطئ الرواية عن نفسه، فما ولَّي عن إلهه القديم حتى ولَّت عنه ابتسامة الحياة وبهجتها، إذ كان الدين زبدة حياته ولُبابها، فلمَّا نبذَه لم يعُد للحياة في نفسه معنى.
فلمَّا كان عام ١٨٦٥م عثر بكتاب «شوبنهور» «العالم كإرادة وفكرة» فوجَد فيه كما قال: «مرآة طالعْتُ فيها العالم والحياة، بل وطبيعة نفسي، مرسومة في جلالٍ مُخيف.» تناول «نيتشه» هذا الكتاب وأقبل عليه إقبالًا قويًّا يقرؤه في نَهمٍ شديد: «إنه ليبدو لي أن «شوبنهور» كان يُخاطبني أنا. لقد أحسستُ فيه شعوره المتحمِّس، وخُيِّل إليَّ أني أشهدُه ماثلًا أمامي في كل سطرٍ كأنما يُناديني نداء صارخًا أن أنهض لإنكاره وتفنيده.» وكان لقراءة «شوبنهور» في نفسه أثر عميق إذ طبعَتْه بمَيسمِها القاتم، ولوَّنَتْ فكره بصِبغةٍ من التشاؤم لم تفارقه، فلبث تعِسًا في أعماق نفسه حتى حين أراد أن يُنكِر التشاؤم ويُفنِّده باعتباره صورةً من صور الضعف والتدهور.
ولمَّا بلغ فيلسوفنا سنَّ الثالثة والعشرين انخرط في سلك الخدمة العسكرية، وكان يرجو أن تُعفِيه الدولة من الجندية لِما في بصرِه من ضعف؛ ولأنه الابن الوحيد لأمِّه الأرملة، ولكنَّ رجاءه لم يفلح، إذ كان الجيش عندئذٍ لا يتعفَّف حتى عن الفلاسفة، ولكن حدَث أن هوى مرةً من ظهر جواده هويًّا تأثَّرتْ له صحته تأثرًا بالغًا لم يسَع قائد فرقته أمامه إلا أن يُطلِق سراحه، فغادر «نيتشه» الجيش وذِهنه مليء بالأوهام الخاطئة عن رَوعة الجندية؛ لأنه لم يلبَثْ في خدمة الجيش مدَّةً تكفي للحُكم الصحيح. غادر الجيش وهو ما يزال مأخوذًا بالحياة الأسبرطية العنيفة، بحياة الأمر والطاعة والصبر على العناء والنظام … لقد قدَّس الجندية؛ لأنَّ صحته حالت دون أن يحيا حياة الجنود.
ماذا عساه يصنع وقد أتاه هذا النبأ؟ ها هي روح اليونان وآلهات الشِّعر والقصة والفلسفة والموسيقى كلها قد أسلسَتْ له القياد واستسلمت، أيظلُّ في عزلته ليمضي في كتابه؟ ولكنه لا يستطيع أن يُقاوِم نداء أُمته، وإنَّ في هذه التلبية الوطنية نفسها لشعرًا بالغًا … هبط من مَرقاه في أعلى الجبل، وأخذ سبيله إلى الحدود ليشترك في القتال، فلمَّا بلَغ مدينة فرانكفورت شاهد فريقًا من الجنود الفرسان يسيرون خلال المدينة في رهبةٍ وعظمة وجلال يأخُذ بالألباب. ها هنا وفي تلك اللحظة — كما يروي عن نفسه — لمعَتْ في رأسه فكرة كانت أساسًا فيما بعد لفلسفته كلها «أحسَسْتُ للمرة الأولى أنَّ أسمى وأقوى إرادة للحياة لا تُعبِّر عن نفسها في التنازُع التَّعِس من أجل البقاء، بل في إرادة القتال، إرادة القوة، إرادة السيطرة.» ولكن لم يُمكِّنه بصرُه العليل من ممارسة الجندية فاكتفى بالتمريض في الجيش. وعلى الرغم من أنه في مِهنته هذه شهد كثيرًا من ألوان الشقاء، إلا أنه مع ذلك لم يرَ هول القتال في ميدانه، ولو رآه لما جعل منه مثلَه الأعلى. وغريب أن تصبو نفسه إلى حياة الحرب، وهو ذلك الذي كان يتأثَّر للجرحى عندما يقوم بتمريضهم تأثُّرًا شديدًا، والذي كانت تُصيبه العِلَّة إذا شهد دمًا يتدفَّق، حتى إنه مرض ولم يقوَ على متابعة مِهنته التي اختارها لنفسه، فانتقل إلى بلدِه عليلًا مهدمًا، ومنذ ذلك الحين ظلَّت له روح الفتاة في رقَّتِها وضَعفها، ولكنها تستَّرَت بدرع الجندي المحارب.
(٣) نيتشه وفجنر
ولكن ألا يقدر عصر «ديونيسوس» أن يعود، ألم يهدم «كانْت» العقل النظري بضربةٍ قاضية فدكَّه دكًّا من أساسه؟ ثُم ألم يبشِّر «شوبنهور» بأصالة الغريزة؟ وها هو ذا «ريتشارد فجنر»، أليس هو «اسخيلوس» آخر جاء ليُجدِّد الأساطير، ويوحِّد بين المأساة والموسيقى من جديدٍ على نحو «ديونيسي»؟ لقد تفرَّع من جذور «ديونيسوس» المتأصِّلة في الروح الألمانية قوة لا تُشبِه الثقافة السقراطية في شيء، أعني الموسيقى الألمانية في فلكها الفسيح، من «باخ» إلى «بيتهوفن»، ومن «بيتهوفن» إلى «فنجر». ولئن كانت الروح الألمانية كثيرًا ما تأثَّرت بفنِّ «أبولو» الذي يسود في إيطاليا وفرنسا، فليس ذلك عن طبيعةٍ متأصِّلةٍ فيها، بل هو محض استهواءٍ وتقليد، وليوقِن الشعب الألماني أن غرائزه أسلَمُ من هذه الثقافات المتدهورة، وعليه أن يصلح الموسيقى كما أصلح الدين، وأن يصُبَّ قوة كقوة «لوثر» الجبَّار في الفن والحياة، فمن يدري؟ عسى أن تلِد ألمانيا مما تتمخَّض به الآن من روح حربية عصرًا جديدًا من عصور الأبطال، وعسى أن تُولِّد المأساة روح الموسيقى مرةً أخرى.
ولكن لم يلبث «نيتشه» أن خاب رجاؤه في فنِّ فجنر.
(٤) أنشودة «زرادشت»
ها هو ذا «نيتشه» يلوذُ بالعِلم والفلسفة بدل الفن الذي خاب فألُه فيه بعد أن علَّق عليه الآمال الجِسام في أن يُعيد عصر البطولة والرجولة، ولقد أراد أن يُهدِّئ من عواطفه المُضطرِمة، فلجأ إلى تحليلها — كما فعل «سبينُوزا» — تحليلًا دقيقًا، وأثبت نتائج بحثه في كتابٍ أهداه إلى «فولتير».
وشاء الله لهذا الفيلسوف أن يُصاب بالعِلة المُضنية في جسمه وعقله، وهو لا يزال في زهرة عمره، فأخذ يدنو من الموت رويدًا رويدًا، وقد حدث أنِ اشتدَّت عليه وطأة المرض. فقال لأخته: «عِديني إذا متُّ ألا يقِف حول جدثي إلا الأصدقاء، فلا يُسمَح بذلك للجمهور المتطلِّع. ولا تَدَعي قسيسًا أو غيره ينطق بالأباطيل بجانب قبري في وقتٍ لا أستطيع أنْ أُدافع عن نفسي فيه، إنِّي أريد أن أهبط إلى قبري وثنيًّا شريفًا.» ولكنه أبلَّ من مرضه ولم يمُت، فنهض من فراش الموت مُحبًّا للصحة والشمس والحياة والضحك والرفض، كما نشأت له من مرضِه أيضًا إرادة قوية سبَّبتْها محاربته للموت، وأخذ يحسُّ حلاوة الحياة ونعيمها، حتى في أشدِّ أوقاتها مرارةً وألمًا، هكذا وقد كان من نتائج المرَض كذلك رأيٌ له يوافق به فلسفة «سبينوزا» من حيث الجبر والإيمان بالقدَر، فقد سلَّم بهذا وقَبِله عن رضًا وغبطة: «عندي أنَّ العظمة ليست فقط في أن تصبر لأحكام الضرورة، بل أن تُحبَّها كذلك، ولكن وا أسفاه، ما أرخصَ القول وأغلى العمل!»
لقد قال بهذا، ولكنه عجز أن يعمل به إذ عزَّ عليه ما كان ينشُد من طمأنينةٍ وهدوء، ولم يستطع البتَّة أن يعيش بين الناس، فانتقل إلى مُرتفعات الألب، لا يريد أن يرى رجلًا ولا امرأة، بل ولا يشعُر للإنسان بحُب، وإنما يريد أن يَخلُق من يفُوق هذا الإنسان، وهنالك في عُزلته على ذُرى الجبل أوحي إليه بكتابه الأعظم:
مرَّ به «زرادشت» وهو في عُزلته «فارتفعَتْ روحُه، وطغتْ على كلِّ ما يحدُّها.» لأنه قد وجد فيه مُعلمًا جديدًا، وإلهًا جديدًا — هو «السوبرمان» — كما وجد دينًا جديدًا هو التكرار الأبدي للإنسان. انظر كيف صعدت الفلسفة إلى مستوى الشِّعر بقوة حماسته وصِدق إلهامه! «إنَّني أستطيع أن أغنِّي أنشودة، وسأغنِّيها على الرغم من وحدتي في بيتٍ منعزل، ومن أنه لن يُصغي إليها إلا أُذناي وحدهما: يا أيها النجم الساطع، ماذا عسى أن تكون سعادتك لو لم ينعم بضوئك من تضيء أنت من أجلهم؟ انظر! لقد أعيتْني حِكمتي، وأصبحتُ كالنحلة التي جمعَتْ من العسل أكثر مما تحتمِل، إني بحاجةٍ إلى أبدٍ تمتدُّ لقطفه.» نعم لم يستطيع «نيتشه» أن يختزن حِكَمَه في نفسه كما اشتهى، إذ امتلأت بها نفسه حتى فاضت، ولهذا كتَب مؤلَّفه «هكذا قال زرادشت» عام ١٨٨٣م.
كان هذا الكتاب آية «نيتشه»، وقد أدرك هذا بنفسه، فكتَب عنه يقول: «إنه مؤلَّف فريد.» ويقول: إنه شعرٌ لم يرتفِع إليه الشعراء، وإنَّنا لو جمعْنا كلَّ من شهِد العالَم من عظماء الرجال لما استطاعوا مُتكاتفِين أن يأتوا بحوارٍ واحد من محاورات «زرادشت» … يا لها من مبالغة! ولكنه بغير شكٍّ من أغرب ما أنتج القرن التاسع عشر من كتُب، ومع ذلك فقد أبتْ سخرية الأيام إلا أن يؤجَّل طبع الكتاب حين تقديمه للناشر؛ لأنه كان يشتغل بإعداد كتابٍ ديني، فلمَّا فرغ الناشر رفض أن ينشُر الجزء الأخير من الكتاب؛ لأنه تافِهٌ من الوجهة التجارية، ولذلك اضطرَّ المؤلِّف أن يطبعه على حسابه الخاص. فلمَّا تمَّ طبع الكتاب لم يُبَع منه إلا أربعون نسخة، وأهدى منه سبعَ نسخٍ فلم يرُدَّ عليه منهم إلا واحدٌ يقرِّر أن قد وصلَه الكتاب دون أن يذكُر كلمةً واحدة في تقريظه … ليتَ شعري هل شهِد التاريخ رجلًا في مثل هذه العُزلة الموحِشة؟
وهاك موجزًا له:
يهبط زرادشت، وهو رجل في سنِّ الثلاثين، من ذروة جبله التي كان قد اعتكف فيها ليسبَحَ في تأمُّله وفِكره يهبط لكي يُذيع آراءه في أغمار الناس كما فعل زميلُه الفارسيُّ القديم «زرادشت»، ولكنَّ أغمار الناس لا تكاد تُصغي إليه حتى تشهد على مقربةٍ منها رجلًا يلعَب على الحبْل، فتنصرِف عن «زرادشت» وتلتفُّ حول ذلك اللاعب، ولكن اللاعب لا يلبَثُ أن يسقُط ويموت، فيُقبل عليه «زرادشت» ويحمله على كتفَيه؛ لكي يُودِعه مُستقرَّه الأخير، قائلًا يُناجيه: «إنك ملأتَ حياتك بالمغامرة ولذلك فسأدفنك بيديَّ.» لأنَّ أولى تعاليم «زرادشت» هي: «املأ حياتك بالخطر. شيِّد مدائنك على مقربةٍ من بركان فيزوف، ابعَثْ بسفائنك إلى البِحار المجهولة، عِشْ في حربٍ دائمة.»
ولكن يقول «نيتشه» تذكَّر فَوق كل ذلك أن تُنكِر العقائد جميعًا … لقد صادف «زرادشت» وهو هابط إلى أسفل الجبَل ناسكًا شيخًا أخذ يُحدِّثه عن الله، فانفرد «زرادشت» وخاطب نفسه قائلًا: «هل يمكن أن يكون ذلك حقًّا؟ يظهر أنَّ هذا القديس لم يسمع بعدُ في غابته أنَّ الله قد مات!» نعم لقد مات الله وماتت الآلهة جميعًا.
«لقد اختتم الآلهة القُدامى حياتهم منذ عهدٍ بعيد. حقًّا لقد كانت خاتمةً جميلة مرحة.»
إنهم في موتهم لم يتلكَّئوا، بل أضحكوا أنفسهم حتى الموت، وفي تلك اللحظة نهض إله، فألقى كلمةً هي أبعدُ ما تكون عن صفات الآلهة؛ إذ قال: «ليس ثمَّة إلَّا إله واحد! فليس من قَبْلي آلهة.»
فضحك الآلهة جميعًا حتى اهتزُّوا على مقاعدهم، ثم صاحوا: «أليس من عدالة الإيمان أن يكون هنالك آلهة عدَّة لا إله واحد؟» ألا فليُصْغِ كل من له أذنان.
هكذا قال «زرادشت».
يا له من إلحادٍ مرِح، فليس هنالك إله ولا آلهة «وإلَّا فماذا عسى أن ينخلِق لو كان ثمَّة آلهة؟ إذا كان هنالك آلهة فكيف أُطيق ألا أكون إلهًا؟ وإذن فلا آلهة هناك.» «إني أهيب بكم يا إخواني أن تُخلِصوا عهدكم للأرض، وألا تصدِّقوا من يحدِّثونكم عن أملٍ سماوي، إنهم ينفُثون فيكم بذلك السُّمَّ سواء أعلموا بذلك أم لم يُعلموا.»
أليستْ هذه زندقة؟ ولكن «زرادشت» يشكو أنه لم يعُد بين الناس من يعرِف العبادة، ويقول عن نفسه إنه أتقى من لا يعتقدون في الله، إنه ليتطلَّع إلى العقيدة ويُشفِق على كل من يتألَّمون مثل ألَمِه من السأم والضجر. فلقد مات الله القديم وليس ثمَّة حتى اليوم إلهٌ جديد وُلِد في المهد. وهنا يُعلن اسم الإله الجديد فيقول:
«لقد ماتت الآلهة جميعًا ونريد الآن أن يعيش السُّوبَرْمان (الإنسان الأعلى) … إنني أُبشِّركم بالإنسان الأعلى. يجِب أن يأتي من الإنسان من يفُوق الإنسان، فماذا فعلتم لتسمُوا عليه؟ إنَّ أجلَّ ما في الإنسان هو أنه جسر لا هدف. إن ما يُحَبُّ في الإنسان هو أنه انتقال وتمهيد.»
إنَّني أحبُّ أولئك الذين لا يعرفون الحياة إلا بالموت، فهؤلاء هم الذين يتسامَوْن.
إنَّني أحبُّ أولئك الذين لا يبحثون وراء النجوم عن سببٍ ليموتوا ويُضحُّوا بأنفسهم من أجله، الذين يُضحُّون بأنفسهم للأرض لكي تُصبح الأرض يومًا مهبِط الإنسان الأعلى.
لقد حان الحين للإنسان يُحدِّد غايته. لقد آنَ الأوان للإنسان أن يبذُر جرثومةَ مثَلِه الأعلى.
حدِّثوني يا رفاقي، أهيَ الغاية التي تحتاج إلى الإنسانية أم الإنسانية هي التي تعوزها الغاية؟
وهنا خَشِي «نيتشه» أن يظنَّ كل قارئٍ في نفسه بأنه الإنسان الأعلى المنشود، فصرَّح بأن الإنسان الأعلى لم يُولَد بعد، وأنَّنا لسنا إلا مُقدِّماته التي يتفرَّع عنها، والتربة التي ينبُت فيها، ثم قال: إنَّ السعادة لم تُخلَق لنا، إنما قد خُلِقت للإنسان الأعلى وحدَه.
هكذا خلق «نيتشه» الله في صورة نفسه، ثم لم يكتفِ بهذا، بل كتَب لنفسه الخلود، فقال: إنَّ التكرار الأبدي موعِده بعد وجود الإنسان الأعلى. فسيعود كلُّ شيءٍ بالتفصيل الدقيق مرةً ومرة إلى ما لا نهاية، حتى «نيتشه» سيعود، وهذه الأمَّة الألمانية التي يعيش بين ظهرانيها، والتي تُمجِّد الدم والحديد ستعود، كما تعود كل مجهودات العقل البشري من ظُلمة الجهل إلى «زرادشت». إلا ما أعجبَه من رأي، ولكن كيف يمكن ألا يكون رأيًا مُصيبًا؟ إنَّ الصُّوَر التي يمكن أن تتشكَّل فيها الحياة محدودة مهما كثُرت، ولكنَّ الزمان لا نهائي غير محدود، فلا بدَّ يومًا أن تجتمع الحياة والمادة على صورة سبَق لهما أن اجتمعا بها، وهكذا سيعيد التاريخ سَيرَه من بدئه إلى مُنتهاه. إلى هذا الحدِّ المتطرِّف من التناسُخ ذهب «نيتشه»، فلا غرابةَ إذا رأينا «زرادشت»، حين يصِل في حديثه إلى هذا الدرس الأخير يفزَع ويُمسِك عن الحديث إلى أن سمِع صوتًا يُناديه قائلًا: «ما بك يا زرادشت؟ قل كلمتك، ثم تقطَّع إربًا.»
(٥) أخلاق البطولة
لم يكدْ يفرَغ «نيتشه» من كتابه «زرادشت» حتى اتَّخذه إنجيلًا، بحيث لم تكن كتُبه التالية إلا شروحًا له وتعليقًا عليه، حتى إذا لم تكن أوروبا قد استساغت شِعره، واستطاعت أن تفهَم نثره.
ولقد بلَغَ هذا التقدير الأخلاقي مُنتهاه بتعاليم المسيح الذي أعلن أنَّ الناس سواسية في أقدارهم وحقوقهم، فتفرَّعت عن مذهبه هذا الديمقراطية والاشتراكية، وأصبح تقدُّم الإنسانية يُوصَف وفق الفلسفة الشعبية في عبارات المساواة وما في معناها، ولعَمري إنَّ حياةً ترتكِز على مِثل هذه الآراء لَهي حياة تنحلُّ وتنزلق إلى الهاوية. ولعلَّ آخِر مراحل هذا التدهور هو تمجيد الرحمة والتضحية بالنفس، والشعور بالعطف على المُجرمين، فذلك عجز من المجتمع عن إفراز ما يضرُّ ببنائه من الأفراد. إنَّ الرحمة ضرب من الشلل؛ لأننا نفقد بها بعض قوَّتِنا الشعورية نصرِفها في مخلوقاتٍ مرقَّعة لا يرجى لها إصلاح، إذ ننفقها نحو العاجز والمعطوب والشرير والمريض والجاني، ثم إنَّ في الرحمة شيئًا من الغِلظة والاعتداء، فزيارتك لجارك المريض هي نزعة استعلاءٍ منك ترجو من ورائها أن ترى بعينَيك عجز صديقك.
الأخلاق هي قبل كل شيء إرادة للقوة، حتى الحب، إنْ هو إلا رغبة في الامتلاك، فالغزَل نوع من المُقاتلة، والزواج ضرب من السيادة، ولكَم أهلك الحبيب حبيبته ليحُول بينها وبين من يُريد حيازتها من دونه «ولقد يُخيَّل إلى الناس أنهم في الحب بُرَآء من الأنانية؛ لأنهم عندئذٍ إنما ينشُدون الخير لمخلوقٍ آخر، وكثيرًا ما يكون هذا الخير معارضًا لخيرهم، ولكنهم لم يفعلوا هذا إلا ليملكوا هذا الكائن الآخر …» وحتى حبُّ الحقيقة عبارة عن رغبةٍ في امتلاكها، وقد يتُوق الباحث أن يكون أوَّل مالك لها، لينعم بها وهي عذراء أمام إرادة القوة هذه ترى العقل والأخلاق عاجزَين لا حول لهما ولا قوة، بل هما ليسا إلا سلاحَين في يدِها لا يملكان عِصيانها، فهذه النظم الفلسفية كلها لا تدلُّ على الحقيقة المنشودة، ولكنها تصوير لرغباتنا ليس إلا، وإنك لترى الفلاسفة جميعًا يُطرِقون مُفكِّرين كأنما يريدون أن يظفروا بالحقيقة المُجرَّدة، وما دَرُوا أنَّ أفئدتهم توحي بالفكرة قبل أن يأخذوا في التفكير، وكل عملهم هو أن يلتمِسوا الأدلَّة التي تؤيد هذه الرغبة القلبية السابقة (ومعنى ذلك أن الإنسان يريد أولًا، ثم يحاول أن يبرهِن بالمنطق على ما يريد، أي إنه لا يبدأ بالمنطق، ثم ينتهي بالرغبة كما يظن).
إنَّ هذه الرغبات الباطنية — وهي بمثابة النبضات لإرادة القوة — هي التي تُحدِّد أفكارنا «ولقد يمضي الشطر الأعظم من نشاطنا العقلي دون أن نشعُر به، ولعلَّ التفكير الشعوري هو أضعف التفكير.» وذلك لأنَّ الغريزة هي العمل المباشر لإرادة القوة دون أن تَشوبها شوائب الإدراك الشعوري «فالغريزة هي أشدُّ ما عرف الإنسان حتى الآن من ألوان الذكاء.» ولا رَيب أن الإنسان قد بالَغ في تقدير إدراكه العقلي مُبالغة لا مُبرر لها، إذ الإدراك عملية ثانوية سطحية.
وإنك لترى الأقوياء من الرجال قلَّما يحاولون أن يُخفُوا رغباتهم بستارٍ من العقل، فلهم منطقهم البسيط، وهو «أنا أريد»؛ لأنَّ الرغبة عندهم هي التي تُبرِّر نفسها؛ وذلك لأنَّ نفوسهم لا تزال قويةً سليمة خُلِقت للسيادة والسيطرة، وليس فيها ثلمة يتسرَّب منها شيء من الضمير والرحمة والندَم، ولكن سادت في العصور الحديثة وجهة النظر اليهودية المسيحية الديمقراطية، حتى أصبح الأقوياء أنفسهم يستحْيُون من قوَّتِهم وصحَّتِهم، فأخذوا يتلمَّسون «الأسباب» لِما يريدون. إنَّ الفضيلة الأرستقراطية مع الأسَف تختفي من الوجود شيئًا فشيئًا، وإنَّ أوروبا لتُهدِّدها «بوذية جديدة»، فحتى «شوبنهور» و«فجنر» قد انقلبا بوذِيَّين، في نفسيهما شيء من الرأفة، وباتَتْ أخلاق أوروبا اليوم قائمةً على أساس منفعة السُّوقة، حتى حيل بين الأقوياء وبين استخدام قوَّتهم لكي يهبطوا إلى مستوى الضعفاء، وأصبح الخير «ألا نفعل شيئًا مما لا يَقْوَى غمار الناس على فعله.»
إنَّ الفضائل الصالحة للسُّوقة لو انتقلَتْ عدواها إلى القادة الأقوياء، فحوَّلتهم إلى طين السفلة كان ذلك سبيلًا إلى التدهور والسقوط، فينبغي قبل كلِّ شيءٍ أن تنحني مبادئ الأخلاق أمام «اختلاف الطبقات وتدرُّج المراتب.» ويجِب أن تعلم جيدًا أنه ممَّا يُنافي الأخلاق أن نقول، إنَّ ما يصلح وما يحقُّ لفردٍ يصلح ويحق لفردٍ آخر؛ فاختلاف الوظائف يتطلَّب اختلافًا في الصِّفات، والفضائل «الشريرة» التي يتميَّز بها الأقوياء ضرورية للمجتمع كالفضائل الخيرة التي يتَّصِف بها الضعفاء سواء بسواء، فالقسوة والعُنف والمغامرة والقتال لها قيمتها كالطيبة والسلام، وأعظم الشخصيات لا تظهر إلَّا في أوقات الخطر، حيث يلزم العُنف والقسوة التي لا تعرِف الرحمة، وأسمى جوانب الإنسان هو قوة الإرادة وثبات العاطفة، إذ بغير العاطفة يكون الإنسان رخوًا لا يصلُح للعمل، الشرَه والحسَد والكراهية شروط لا بدَّ منها لسَير التنازُع والاختيار والبقاء، لا بدَّ أن نُحْيي الخير بجانبٍ من الشرِّ كما نُصلِح العادة بشيءٍ من التجربة والتجديد، فيستحيل للإنسانية أن تخطو إلى الأمام إلا إذا حطَّمَت ما اعتادته، وهدمت النظام الثابت، وإن لم يكن الشر خيرًا لاختفى من الوجود، فحذارِ من الإسراف في الخير، ولا بدَّ للإنسان أن يتقدَّم في خيره وفي شرِّه على السواء.
يجب أن نُشيِّد الأخلاق على أساس بيولوجي فنحكُم على الأشياء بقيمتها للحياة، والمقياس الحقيقي الذي نَخْبُر به الفرد أو الجماعة أو الجنس هو النشاط والمَقدِرة والقوَّة، وهذه قائمة على الحالة الجسدية، فنقطة واحدة من الدم تزيد في المُخِّ أو تنقُص يكون لها في الإنسان أفعل الأثر، وللأغذية آثار عقلية مختلفة، فالبوذية وليدةُ الأرز والميتافيزيقا الألمانية ناشئة عن شُرب الجعة، والفلسفة تكون صحيحة أو باطلة تبعًا لتعبيرها عن حياةٍ صاعدة نامية أو حياة هابطة متدهورة. يقول الضعيف المُتهدِّم: «إنَّ الحياة لا تساوي شيئًا.» وخير له أن يقول: «إنَّني لا أساوي شيئًا.»
نعم إنَّ الحياة تفقد كلَّ قيمتها إذا سمحْنا لعوامل الفساد والانحلال أن تدبَّ في أخلاق البطولة، ثم إذا نحن أخذْنا بمذاهب الديمقراطية التي لا تعني شيئًا إلا الكُفر بعظماء الرجال.
(٦) «السوبرمان» (الإنسان الأعلى)
إذا كانت القوة وحدَها دون الرحمة والشفقة هي محور الأخلاق، وجب ألا تكون غاية الإنسانية السموَّ بالسُّوقة والكافة، بل ترقية الصفوة الجميلة القوية وحدَها «إنَّ غاية الإنسانية هي الإنسان الأعلى لا الجنس البشري بأسره.» فآخِر ما ينبغي للمفكرين أن يتصدَّوا له هو تحسين الإنسانية وإصلاحها، فلا إصلاح للإنسانية، بل ليس للإنسانية وجود على الإطلاق، وهي لفظ مجرَّد فقط، وكل ما يُوجَد هو مجموعة من أفراد، هم أشبَهُ ما يكونون بعمَّالٍ في مصنع يُجْرون التجارب العدَّة فينجحون قليلًا ويفشلون كثيرًا، وليس الغرَض المقصود من التجارب إسعاد الأفراد كلهم، بل تحسين النوع، ولو علِمْنا أنه لن يظهر من الإنسان نوع أسمى لكان خيرًا للمجتمع أن يفنى. المُجتمع أداة للزيادة من قوَّة الفرد وشخصيته، وليس غايةً في ذاته؛ لأنَّنا إذا قُلنا إنَّ واجب العمَّال جميعًا هو صيانة الآلة، فلأيِّ شيءٍ صُنِعت هذه الآلة؟
فلا ينبغي أن نترك الحرية للأفراد المُمتازين أن يتزوَّجوا ممن يُحبُّون من النساء، فيتزوَّج الأبطال البواسِل من خادمات، والعباقرة من بنات السُّوقة. لقد أخطأ «شوبنهور» حين ظنَّ أن الحب عامل «يوجيني»، فإنَّ الرجل إذا أحبَّ سقطت عنه رجاحة الحكم؛ لأنه لم يُكتَب للإنسان أن يجمع بين الحب والحكمة، فواجبٌ حتْم علينا أن نجعل الحبَّ مانعًا من الزواج، فخير الرجال لخير النساء، أما الحبُّ فلنترُكه لحثالة البشر، فليس الغرض من الزواج هو مجرَّد النسْل، بل يجِب أن يكون وسيلةً للتسامي والرُّقي.
«إنك شابٌّ يرغب في الزواج والبنين، ولكني أسألك: أأنت من الجرأة بحيث تطمع في البنين؟ أأنت الرجل الظافر الكابح لنفسه المُسيطر على حواسِّه المتحكِّم في فضائله؟ أم أنَّ رغبتك لسان يتكلم به الحيوان منك وتنطلِق به الضرورة؟ أم دعتْك إلى ذلك العُزلة والسأم؟ أرجو أن يكون ظفرك وحريتك هما اللذان يرغبان في البنين. إنك ستبني آثارًا حيَّة لظفرك وحُريتك، إنك ستبني من هو أسمى منك، ولكن يجِب أوَّلًا أن تُشيِّد نفسك قويًّا في الجسم والروح، لا ينبغي أن تكون غايتك نشر نفسك فقط، بل لا بدَّ أن تنشُر نفسك في صعود.
الزواج: هذا ما أُسمِّي به إرادة اثنين ليخلُقا إنسانًا يسمو على خالقَيْه.»
يستحيل أن تسمو الإنسانية بغير طيب العنصر «إنَّ العقل وحدَه لا يؤدي إلى النُّبل، بل إن العقل نفسه ليحتاج إلى ما يرتفع به، فماذا نريد إذن؟ نريد الدم (سلامة العنصر)»، ولكنَّا إذا وفَّقنا تهيئة العنصر الطيب والتربية اليوجنية كانت الخطوة الثانية لصياغة الإنسان الأعلى هي مدرسة عنيفة قاسية تقصد بتلاميذها إلى الكمال، فتلقي عليهم بواهظ الأعباء دون أن ينعموا بكثيرٍ من أسباب التَّرَف، ويؤخَذ الجسم بالتعذيب والقسوة ليحتمِل البلاء في صمت، وتتعلم الإرادة كيف تأمُر، ولا يجوز أن يتسرَّب إلى تلك المدرسة شيء من هذا اللغط الفارغ عن الحرية التي تُضعِف القوتَين الجسدية والخلقية، ولكن ينبغي إلى جانب هذا أن تكون المدرسة مجالًا يتعلم فيه الطالب كيف يضحك بكلِّ قلبه، فمن يرتفع عن مستوى الإنسانية يهزأ من مآسيها، ويجِب ألَّا يكون في المدرسة تنسُّك ولا زُهد ولا احتقار للجسد.
إنَّ رجلًا ذلك نَسَبه وهذه تربيته يجِب أن يكون أسمى من الخير والشر ولا يمنعنَّه عن الوصول إلى غايته أن يقول الناس عنه إنه شاذٌّ خارج عن قواعد الأخلاق. يجِب أن يأخذ بأسباب البسالة دون الخير «وما هو الخير؟ لأنْ تكون شجاعًا فذلك خير.» «الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة، هو إرادة القوة، هو القوة نفسها. والشر هو كل ما ينشأ عن الضعف، هو الضعف.» قد يكون أمْيَزَ ما يميز الإنسان الأعلى هو حبُّه للمغامرة والجهاد على شرط أن يكون لهما غرض، فلا يجوز له أن يسعى أولًا إلى السلامة، فلقد ترك السعادة لغمار الناس، وإذن فالحرب خيرٌ محض بالرغم من حقارة أسبابها في العصور الحديثة، حتى الثورة خير، ولكنها ليست خيرًا في ذاتها؛ لأنها تؤدي إلى سيادة السُّوقة، وهو أتعس ما يُصادف البشر من نكبات، ولكن لأنها جهاد، والجهاد يُبرِز العظمة الكامنة في الرجال، فمن فوضى الثورة ينبغ العظماء كما تخرج النجمة الساطعة من الهيولي. ولقد أنتجَتِ الثورة الفرنسية نابليون على عبَثِها وفوضاها.
النشاط والعقل والكبرياء؛ هذه هي مقوِّمات الإنسان الأعلى، ولكن على أن يكون بينها انسجام واتِّساق، ولن تكون العواطف قوةً دافعة إلا إذا وَحَّد بينها غرَض جليل يصُوغ شتَّى الرغبات في شخصيةٍ مُتَّزنة قوية، فوَيل للمفكر الذي لا يقِف من أفكاره وعواطفه موقف البستاني الذي يهذِّب ويشذِّب، ويقنع بأن يكون تربةً ينمو فيها النبات.
إنَّ من ينساق لعواطفه وغرائزه هو الضعيف الذي تعوزه قوة الكبح، والذي ليس لدَيه من القوة ما يقول به «لا» إذا وجَبَ قولها، «فأسمى ما يسمو إليه الإنسان هو أن يُنظِّم نفسه، فإذا أردتَ ألا تكون نكِرة من غمار الناس وسُوقتهم فما عليك إلَّا أن تُعسِّر على نفسك الحساب.» علامة الإنسان الأعلى أن يتَّخذ لنفسه غرضًا يسمو به فوق الناس، ويسلك في سبيل تحقيقه ما يشاء من الوسائل.
وواجب الناس إذا كانوا يحبُّون الحياة، ويريدون أن يخطوا بها إلى الأمام أن يرَوا في مِثل هذا الرجل ضالَّتَهم المنشودة. فإذا أخطأتنا العظمة، فلنكُن خدَّامًا للعظيم وأدواتٍ لتحقيق غاياته. ألا ما كان أروَعَه من منظرٍ حين وهب الملايين من الأوروبيين أنفسهم لنابليون بونابرت كي يتَّخِذ منهم وسائل لأغراضه، وحين كانوا يُقدِّمون أرواحهم من أجلِه في غبطةٍ وسرور، فإذا ما سقط منهم جندي تغنَّى باسم «بونابرت» قبل أن يُسلِم الروح، ولئن كنَّا عاجزين أن نكون ذلك الإنسان الأعلى فينبغي أن نُمهِّد له الطريق، ويجِب أن نتعاون جميعًا لخلْقِه على اختلاف ما بيننا في المواطن والزمن. إنَّ «زرادشت» لو رأى الناس مُتكاتفين مُتآزِرين يعملون للوصول إلى غاية الإنسانية — وهي الإنسان الأعلى — إذن لأنشد لهم — رغم ما به من ألَمٍ وعناء — قائلًا: «أنتم يا من تَحْيَون اليوم مُفرَّقين، ستَّتحِدون يومًا في شعبٍ واحد. فمنكم سينشأ شعبٌ مختار، ومن هذا سيُولَد الإنسان الأعلى.»
(٧) التدهور
فالطريق إلى الإنسان الأعلى إذن هي الأرستقراطية، أما الديمقراطية — وأعني طريقة عدِّ الأنوف — فيجب أن تنمحي قبل أن يتأخَّر بنا الزمن، فتُفلت الفرصة السانحة، وأول خطوة لتحقيق ذلك هي تحطيم المسيحية بالنسبة إلى الممتازين من الرجال، فقد كان انتصار المسيح بدء الديمقراطية «لقد كان المسيحي الأول في أعماق نفسه ثورةً على كل ضروب الامتياز، لقد عاش وجاهد في سبيل المساواة بين الناس في الحقوق.» ونحسب أنه لو عاش اليوم لقُضِي عليه بالنفي والإبعاد إلى أقاصي سيبريا. أليس هو القائل بأنَّ «من يكون عظيمًا بين الناس وجَبَ أن يكون خادمهم.» فأي قلْبٍ هذا للحقائق السياسية، بل ولِما يقضي به العقل السليم؟ إنَّ ما جاء في الإنجيل من آراءٍ لا يسود وتتأصَّل جذوره في الطبقات السُّفلى إلا في عصرٍ ينحطُّ فيه الحكام، بحيث لا يحكمون بمعنى الحُكم الصحيح.
طغت موجة المسيحية على أوروبا، فقتلت الأرستقراطية القديمة ومحَتْها، وذلك نقيض ما حدث حين غزا أوروبا السادة النيوتون ذوو النزعة الحربية، فأحيوا فيها الفضائل القديمة، والرجولة الذاهبة، وغرسوا في أرضها جذور الطبقات الأرستقراطية الحديثة، لم يكن هؤلاء السادة مُثقَلين «بالأخلاق»، بل كانوا أحرارًا من كلِّ القيود الاجتماعية، وهؤلاء السادة هم الذين كوَّنوا الطبقات الحاكمة في ألمانيا واسكندناوة وإنجلترا وإيطاليا والروسيا.
إن أردت أن تعلم كيف نشأت الدولة، فصور لنفسك جماعة من ضواري الرجال، وأعني بهم السادة الغُزاة، يفِدون في نظامٍ حربي وفي طبيعتهم قوة التنظيم، فيضعون مخالِبَهم المُخيفة المروِّعة على قطعان السكان مع وفرة عددهم، دون أن يشعروا في ذلك بشيءٍ من وخْز الضمير، فهذه الجماعة المُسيطرة هي أساس الدولة، ولا صحَّة لذلك الحلم الذي يُقال من أنَّ الدولة نشأت بتعاقُد الأفراد. ماذا تُجدي العقود عند من يستطيع أن يبسط سلطانه، وهو من خُلِق بطبعه سيدًا وحاكمًا، لا يعرف في سلوكه إلا العنف والقسوة؟
ولكن تلك الجماعة الحاكمة قد تسرَّبَت إليها الفضائل المُخنَّثة المسيحية فأفسدتها، كما أفسدها التزاوُج بينها وبين أفراد الطبقات الدُّنيا.
لقد عملت بعض العوامل — ومنها المذهب البروتستانتي، ومنها الأوبرا الفجنرية — على تدهور الذكاء الألماني، والنتيجة التي انتهى إليها الألماني اليوم هي أنه أصبح من ألدِّ أعداء الثقافة، ولا شكَّ أن هذه الحالة الحاضرة في ألمانيا مما يؤخِّر استساغة فلسفتي وهضمها، فلئن كان الزمن الطويل وحدَه هو الكفيل بمَحو العالم كما يقول «جبون»، فكذلك الزمن الطويل وحدَه هو القادر على أن يهدم الفكرة الباطلة إذا سادت في ألمانيا. إنَّ ألمانيا حين هزَمَت نابليون، كان ذلك ضربةً قاضية على الثقافة، فأخذت ألمانيا منذ ذلك الحين تستبدُّ بنوابغ رجالها أمثال «جوته» و«شوبنهور» و«بيتهوفن»، وأخذت تعبُد «وطنيَّتها»، فكان ذلك خاتمة الفلسفة الألمانية، ولكن الشعب الألماني يمتاز بطبيعته برزانةٍ وعمق، مما يُفسح أمامنا الأمل في أن تنهض ألمانيا يومًا لتخلِّص أوروبا، إذ إنَّ لهم من فضائل الرجولة ما ليس للشعبَين الإنجليزي والفرنسي، كما يتَّصفون بالمثابرة والجد والنشاط ممَّا أدَّى إلى تبحُّرهم في العلم، وإلى نظامهم الحربي، ولعلَّه مما يلفِتُ النظر أن ترى أوروبا كلها قلقةً من قوة الجيش الألماني، فلو أمكنَنا أن نوجِد شيئًا من التعاون بين ألمانيا والروسيا حتى يتَّحِد ما لألمانيا من قوة التنظيم بما في الروسيا من الرجال والمواد الغُفْل لأشرق عصر السياسة العظمى، فلا يعوزنا إلا أن نمزج بين الجنسين الألماني والسلافي، ثم نضيف إليهم أمهر المُموِّلين من اليهود، لنكون سادة العالم.
النقيصة في ألمانيا هي خرق في التفكير يُضيِّع ما لها من صلابةٍ في الأخلاق. فهي لم تفلح في تحصيل الثقافة التي جعلت الفرنسيين أكثر الشعوب الأوروبية تهذيبًا «إنَّني لا أدين إلا بالثقافة الفرنسية، أما كل ما يُسمَّى بهذا الاسم في أنحاء أوروبا فهو تخليط.» فيكفي أن تقرأ «مونتيني» و«لاروشفوكو» لتقرب من الروح القديمة، كذلك أنجبت فرنسا «فولتير» الذي يسيطر على العقل، كما أنجبت «تين». بل إنَّ الكتَّاب الحديثين منهم ليمتازون بوضوحٍ في الفكر هيهات أن يبلُغه كتَّاب الأمم الأخرى، فأي وضوح وصفاء ودقة يُصادفها القارئ في «فلويير» و«بورجيه» و«أناتول فرانس» وغيرهم؟
إن ما تراه في أوروبا من سموٍّ في الذوق ونُبل في الشعور، ورفعة في الأخلاق لهو صنيعة فرنسا، وأعني فرنسا القديمة التي نبغَتْ في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، فلمَّا جاءت الثورة وهدَمت قوائم الأرستقراطية حطَّمت معها دعائم الثقافة، حتى أصبحت الروح الفرنسية اليوم هزيلةً شاحبة إذا قِيست بما كانت عليه قبل، ومع ذلك فلا تزال في فرنسا بعض الصفات التي تمتاز بها، فلها دقَّة في البحث العلمي — وعلم النفس بصفة خاصة — وسموٌّ في الفن، مما لا تدنو منه ألمانيا. ففرنسا بغير شكٍّ ممتازة في عالم الثقافة.
أما الروسيا فهي وحش أوروبا الضاري، ولشعبها عزْم مصمم ثابت امتاز عن الشعوب الغربية. وتُسيطر على الروسيا حكومة قوية لا تعرِف هذه «الوقاحة البرلمانية»، وقد أخذت قوة الإرادة تتراكَم فيها خلال عصرٍ طويل، وهي الآن تحاول أن تجد مُتنفَّسًا، ولن يكون عجيبًا أن نرى الروسيا تبسط سلطانها وسيادتها على أوروبا.
وأما أسوأ الشعوب قاطبةً فهم الإنجليز؛ لأنهم هم الذين أفسدوا العقل الفرنسي بوهْم الديمقراطية الباطل، والنفعيَّة الإنجليزية هي من الثقافة الأوروبية بمثابة الحضيض الأسفل، فلا يمكن للعقل أن يتصوَّر أن الحياة نزاع على مجرَّد البقاء إلا في بلدٍ بلغ التنافُس فيه حدَّ التناحُر، ثم لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ وتزكو إلا في أرضٍ تكاثَرَ فيها التجار والملَّاحون كثرةً مكَّنتْها من التغلُّب على الطبقة الأرستقراطية، ألا من يخلِّص أوروبا من إنجلترا، ومن يخلِّص إنجلترا من الديمقراطية؟!
(٨) الأرستقراطية
الديمقراطية معناها تقويض المجتمع، معناها أن يُسمح لكل جزءٍ في الكائن العضوي أن يفعل كما يشاء، معناها انحلال التماسُك وزوال التعاون بين الأعضاء وانتشار الفوضى، معناها تقديس الكفاية المتوسِّطة ومقْت التفوُّق والنبوغ، معناها الحيلولة دون ظهور العظماء، إذ كيف يمكن للعظماء أن يُذعِنوا لتُرَّهات الانتخاب وعبثه؟ إنَّ صفوف الشعب لتكرَه صاحب الروح الحرة، ومحطِّم القيود كما تكرَه الكلاب الذئب الجسور. كيف ينبُت الإنسان الأعلى في مثل هذه التربة، ثم كيف تصبح الأمة عظيمة إذا ما حِيل بين عظمائها وبين استخظام قواهم؟ إنَّ مثل هذه الجماعة سرعان ما تفقد أخلاقها، ما دامت تُمجِّد صاحب الأكثرية دون العبقري النابغ، فبهذا تزول الفوارق بين الأفراد، بل إنَّ الجنسَين — الرجال والنساء — ليتقاربان فيصبح الرجال نساء، والنساء رجالًا.
إذن فالتخنُّث هو النتيجة المحتومة للديمقراطية والمبادئ المسيحية، فها هنَّ النساء يحاولنَ أن يترجَّلْنَ لمَّا رأينَ أن ما يكفي للرجل من رجولته يكفل الأنوثة للمرأة (أعني أنَّ المرأة تستطيع أن تستخدِم عناصر الرجولة القليلة التي فيها فتكون بذلك رجلًا، ثم يبقى لها مع ذلك من شخصيتها ما يكفي أن يجعلها أنثى كذلك).
ولكن المرأة حين حاولت أن تترجَّل وتتحرَّر فقدتْ قوَّتها وطابعها، وإلا فأين اليوم للنساء تلك المكانة التي احتللْنها في ظلِّ البوريون؟ والمساواة بين الرجل والمرأة مستحيلة؛ لأن بينهما حربًا سجالًا، فلن يكون بينهما سلام إلا إذا ظفر منهما ظافر فسيطر على الآخر، نعم لن يكون بين الجنسين سلام إلا إذا سلَّم أحدُهما بسيادة الآخر، هذا وإنه لمن الخطر أن نسعى إلى المساواة بين المرأة والرجل؛ لأنها لن تقنع بالمساواة، إذ لا رَيب في أنَّ المرأة تُؤثِر الخضوع بطبيعتها للرجل، ولكن على شرط أن يكون رجلًا، فسعادة المرأة وكمالها ينحصران في الأمومة، فليس الرجل لدَيها إلا وسيلةً تستخدمها لغايتها التي هي الطفل دائمًا. يجب أن نُنشئ الرجال للحروب والقتال، وأن تُعَدَّ المرأة للترويح عن المحاربين، أما ما عدا ذلك فحُمق وضلال. ويرى «نيتشه» أنَّ المرأة الكاملة أعلى في مراتب البشرية من الرجل الكامل، ولكنها ندرَ أن توجَد.
ولعلَّ من الأسباب التي تؤدي إلى الشقاء الزوجي أن المرأة تجد في الزواج كل ما تبغي، في حين أنَّ الزواج يضيِّق من أفق الرجل ويستنفد قواه، فمعنى أن يتزوَّج رجل من امرأة أنه قد قبِل أن يتنازل عن العالَم بأسره من أجلها، فإذا ما رُزق طفلًا وجب أن يكون هذا الطفل دُنياه ولا دُنيا سواه. ويقول «نيتشه» إنه من الحمق أن يُقْدِم رجل يسبَح بفكره في جوانب العالم كله على زواج وأُسرة تُثقله بمشاغلها وكسْب القوت من أجلها، وكم من فيلسوفٍ خفَت صوته بعد أن رُزق البنين. «… صفرَت الريح في ثُقب الباب كأنما تصيح بي قائلةً: «أقبل» وكان الباب خبيثًا فانفتح قائلًا: «اذهب»، ولكنِّي لبثتُ في مكاني مكبلًا بحب أطفالي.»
ومن الديمقراطية وتخنُّثها تنتُج الاشتراكية والفوضوية؛ لأنه إذا كانت المساواة في القوة السياسية عدلًا، فلماذا لا يسوَّى بين الناس في القوة الاقتصادية؟ ولماذا يكون بين الناس زعماء وقادة؟ «ألا إنَّ العدالة لتصرخ في دخيلتي معلنةً أنَّ لا مساواة بين البشر.» إنَّ طبيعة الإنسان تأبى عليه هذه المساواة، وإنَّ من يدعون للمساواة إنما يفعلون ذلك لعجزهم أن يكونوا جبابرة طُغاة. الطبيعة تنادي باختلاف الأفراد والطبقات والأنواع، وهذه الاشتراكية التي يدعو إليها بعض القوم لا تتَّفِق مع الأسس البيولوجية. أليس يستلزم التطوُّر أن تستخدِم الأجناس والأنواع العُليا من هي أحط منها؟ إنَّ كل حياة قائمة على افتراس حياةٍ أخرى، فالحوت الكبير يلتهم السمك الصغير ويأكُله، وفي ذلك خلاصة لقصة الحياة بأسرِها. أما الاشتراكية فمعناها حسَدٌ صريح «إنهم يريدون أن يظفروا بما نملكه.» إن الطبقات السفلى تثور مطالبةً بالاشتراكية ظنًّا منها أن ذلك يُنجِّيها من رقِّها وتبعيتها مع أن هذه نتيجة طبيعية لعدَم كفايتها، ومع ذلك فليثوروا، فالعبد لا يكون نبيلًا إلا حينما يثور.
ومهما يكن من أمر هؤلاء العبيد الثائرين فهم خير من سادة العصر الحديث؛ أعني البرجوازي (الطبقة المتوسطة)، ولعمري إنها لوصمة عار في جبين ثقافة القرن التاسع عشر أن يكون رجل المال موضوع هذا التقديس والتبجيل والحسَد، فأفراد هذه الطبقة — وهم من رجال الأعمال — عبيد أيضًا، هم عبيد العمل الآلي الرتيب، إذ ليس لدَيهم من وقتهم مُتَّسع للتفكير والابتكار، حتى بات التفكير شيئًا لا يفهمون له معنى، وأصبحت لذائذ العقل فوق مستواهم، ومن هنا نشأ ما هُم فيه من ضجَر، ونشأ بحثهم الذي لا ينقطع عن السعادة. فمنازلهم مجرد مساكن وليست دورًا ترفرف عليها الطمأنينة والهدوء، ولذائذهم كلها حسِّية تهبط بالعقل ولا تسمو به، وترفهم سوقي لا ذوق فيه، إنهم يحصِّلون الثراء الذي يزيدهم فقرًا. وهم يقلِّدون الطبقات الأرستقراطية فيكبِّلون أنفسهم بقيودها دون أن ينعموا بما تنعم به من لذَّة التفكير والتأمُّل «انظر كيف يصعدون! إنهم كالقردة يصعد بعضهم فوق بعض، إلى أن يجذبوا أنفسهم في الهاوية والوحل …» لا خير في هؤلاء الذين يجمعوا المال؛ لأنهم لا يستطيعون أن يخلعوا عليه جلالًا باستخدامه استخدامًا نبيلًا، بأن يرعوا به الآداب والفنون. إنه لا ينبغي لغَير ذوي الذكاء الراجح أن يُحرزوا المال؛ لأنَّ سواهم من الناس يخطئون فينظرون إلى المال غايةً في ذاته، ولذلك يتعقَّبونه ويفنون أنفسهم في جمعه. انظر إلى جنون الأمم الحديث كيف تندفع في زيادة الإنتاج ما وَسِعها ذلك لتبلُغ من الثراء أبعد حدٍّ مستطاع.
ومن رأي «نيتشه» أن الجندي أعلى من رجل الطبقة المتوسطة، وإن يكن أدنى من الأرستقراطي. فالقائد الذي يستهلك جُنده في ميدان القتال حيث يستمرئون طعم الموت ثَمِلين بنشوة الظفر أنبل من صاحب العمل الذي يستهلك الرجال في آلاته التي تدرُّ له المال. ويكفي أن ترى كيف يغادر الصنَّاع مصانعهم مُهرولين إلى حَومة الوغى، حيث القتال والموت. إنَّ «نابليون» لم يكن جزارًا، بل صاحب خير وفضل، إذْ هيَّأ للناس مجالًا يموتون فيه موتًا شريفًا بدل أن يموتوا في ميادين التنافس الاقتصادي، ولقد ازدحم حوله الرجال؛ لأنهم آثروا مخاطر المعارك على الحياة المملولة الرتيبة التي يَحيَونها في المصانع كأنهم آلات من الآلات. إنَّ في الحرب علاجًا ناجعًا للشعوب التي دبَّ في بِنيتها الضعف والترَف والانحطاط؛ لأنها تُثير الغرائز التي تفسد أثناء السلام، فالحرب هي الدواء لما نشأ عن الديمقراطية من تخنُّث. «فإذا رغب مُجتمع عن الحرب والظفر، فاعلم أنه في سبيل التدهور، وأنه قد تهيَّأ للديمقراطية وسيطرة أصحاب الدكاكين (التجار)، ومع ذلك فأسباب الحروب الحديثة أبعدُ ما تكون عن النبل، فالحروب التي تثيرها الخصومة بين الأُسَر المالكة أو الخلاف الدِّيني أروع جمالًا من هذه الحروب التي تنشِب لتفضَّ بالبنادق خصومةً تجارية، ولكن من يدري، فلعلَّ هذا الجنون يولِّد الوحدة الأوروبية، وهي غاية يرخُص في سبيلها كل ثمنٍ مهما غلا، حتى ولو كان ذلك الثمن حربًا تجارية، فالأرستقراطية العُليا لن تنشأ إلا من أوروبا المتَّحِدة، وخلاص أوروبا مرهون بهذه الأرستقراطية وحدَها.»
أما المشكلة السياسية فحلُّها أن يُحال بين رجال الأعمال والحُكم؛ إذ ليس لهم ذلك النظر البعيد والأفق الواسع اللذَان يرثهما الأرستقراطي في دمائه. أجمل الرجال وأقواهم هو أحقُّهم بالحكم، فأما السُّوقة الساذجة فلها مكانها، ولكنه ليس العروش. وإن الرجل الساذج ليسعد بمكانه ذاك، وفضائله ضرورية لبناء المجتمع كفضائل السيد الزعيم. إنَّ المدنية السامية كالهرَم، لا تستقر إلا على قاعدة فسيحة من الطبقات الوسطى والدنيا، فلا مندوحة للناس عن أن يكون بعضهم قُوَّادًا وبعضهم الآخر تابِعين، وهؤلاء التابعون يشعرون بالسعادة في انقيادهم لسادتهم.
فالمثَل الأعلى للجماعة هو أن تنقسِم إلى طبقات: مُنتجين وموظفين وحكَّام، فللحُكَّام أن يحكموا على ألا يكونوا كسائر الموظفين؛ لأنَّ هؤلاء يقومون بعملٍ آلي حقير، أما أولئك فينبغي أن يكونوا فلاسفةً سياسيين ليجتمِع العلم والقيادة في هيئةٍ واحدة، ولا بدَّ لهذه الطبقة الأرستقراطية الحاكمة أن تكون جنسًا وراثيًّا إلى حدٍّ كبير، فلا تمزج دمًّا جديدًا إلى دمها إلا نادرًا؛ لأنه لا يُضعِف الأرستقراطية ويمحوها إلا الزَّواج من السُّوقة الأغنياء كما هو متبع في الأرستقراطية الإنجليزية، فلقد دمَّر هذا التزاوج أعظم طبقةٍ حاكمة شهِدَها التاريخ؛ أعني الأرستقراطية الرومانية.
سيؤذي هذا القول آذانًا طالما أصغَتْ لأناشيد الديمقراطية، ولكن ليس في ذلك من بأسٍ ولا خطر، فهؤلاء الذين لا يحتمِلون هذه الفلسفة فانون بغير شك، وأما من يرون فيها نعمة كبرى فهم الذين كُتِب لهم أن يكونوا سادة العالم، هذه الأرستقراطية وحدَها هي التي تستطيع أن تجعل من أوروبا أمةً واحدة، وأن تقضي على هذه النزعات الوطنية السائدة. فلنكن «أوروبيين صالحين» كما كان «نابليون» و«جوته» و«بيتهوفن» و«شوبنهور» و«هيني». لقد طال بنا الانحلال والتفكُّك ووجب أن نتماسَك ونتَّحِد، لقد انقضى زمن السياسة الصغيرة، وجاء عصر السياسة العظيمة. ليت شِعري متى ينشأ هذا الجنس الجديد وهؤلاء السادة الجديدون؟ متى تُولَد أوروبا؟
نقد
لقد غالى «نيتشه» في نظامه الأخلاقي وأسرف، فنحن نوافِقه على وجوب استحثاث الرجال أن يكونوا أقوى مراسًا وأشدَّ بأسًا، وتكاد كل فلسفةٍ أخلاقية تأخُذ بهذا، ولكن لماذا نطالبهم أن يكونوا أشدَّ قسوةً وأكثر شرًّا؟ هذا وليس من الإنصاف أن نشكو من أنَّ الأخلاق سلاح في يدِ الضعيف يُهدِّد به القوي ويحدُّ من سلطانه، فما نحسب الأقوياء قد تأثَّروا بالأخلاق تأثُّرًا يُذكَر، بل إنهم ليستخدمونها استخدامًا نافعًا لهم، ثم أليس عجبًا أن يُقال إنَّ الأخلاق قد فرضها الضعفاء على الأقوياء؟ فعهدُنا بمبادئ الأخلاق تهبط من الأعلَين إلى الأدنَين، ولا تصعد من هؤلاء إلى أولئك.
أما آراؤه في السياسة فلا تخلو من أخطاء. وأول ما يسترعى منها النظر أن الأرستقراطية لا تميل إلى توحيد العالم كما ظن، بل هي تشجع النزعة الوطنية الإقليمية؛ لأنهم لو فقدوا الوطنية فقدوا معها أصلًا من أصول قوَّتِهم ألا وهو إدارة السياسة الخارجية. هذا وقد لا تكون الدولة العالمية صالحة للثقافة كما ذهب «نيتشه»، فألمانيا قد خدمت الثقافة وهي دويلات متفرِّقة ينافِس بعضها بعضًا في رعاية الفن وحمايته أكثر مما خدمتها وهي إمبراطورية متَّحِدة.
ومِن الأخطاء الشائعة أنَّ فترات الثقافة العُظمى كانت عصور أرستقراطية وراثية، بل الصحيح هو عكس ذلك. فعصور «بركليس» و«مديتشي» و«اليصابات» كانت تُغذِّيها ثروات الطبقات المتوسِّطة. وأروع آيات الأدب والفن لم تُنتجها أُسَر أرستقراطية، بل أبناء الطبقة المتوسطة؛ أنتجها أمثال «سقراط» ابن القابلة، و«فولتير» ابن المحامي، و«شكسبير» ابن الجزَّار. فالصواب أن يُقال إن الثقافة كانت تزدهِر دائمًا في العصور التي تشهد تغيُّرًا جديدًا في الطبقات بأن تنشأ فيها طبقة جديدة تصعد إلى المجد والقوة.
وقُل في السياسة ما قلته في الثقافة، فقد نبغ فيها أفراد لم يهبطوا من أصلابٍ أرستقراطية، وإذن فيجِب أن يُعدل قانون «نيتشه»، بحيث تكون صيغته: «الميدان مُتَّسِع لذوي المواهب.» فليتسلَّم زمامنا الصالحون، ولا عبرة بميلادهم وأنسابهم.
خاتمة
قال «زرادشت»: «إني أحبُّ من يسعى إلى خَلْق شيءٍ أسمى منه، ثم يموت.» وهذا ما فعله «نيتشه»، فلا ريب أن تفكيره العميق قد أودى بحياته، وهي في ذروة النضوج، ولقد كان من آثار المعركة الحامية التي أعلنَها على عصره أنِ اختلَّ عقله في أواخر عمره، لم يحيَ «نيتشه» حياةً فيها شيء من الهدوء والسعادة، بل عانى من الألَم ما يرزح تحت عبئه أقوى الرجال، وقد قال مشيرًا إلى ذلك: «إنَّني أعلم جيِّدَ العلم، لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؟ لأنه وحدَه الذي يُعاني أشدَّ العناء، فاضطرَّه ذلك أن يخترع الضحك.» وقد شاءت الأيام أن تزيده شقاءً على شقاء، فأصابته بالعِلَل المُمضَّة، وبضعف البصر الذي أخذ يتزايد كلما دنا من ختام الحياة، حتى كاد يُصيبه العمى، ثُم أتاه ما زاد الطين بلة، إذ أصيب بالصرَع عام ١٨٨٩م. وأرسل إلى «البيمارستان»، ولكن سرعان ما جاءت أُمُّه العجوز، فأخرجته إلى دارها وسهِرت على تمريضه، حتى توفَّاها الله، فكفلته أختُه وقامت برعايته.
وفي عام ١٩٠٠م فاض روح الفيلسوف، وهو في هذه الحالة من الجنون، فما أقلَّ بين العباقرة من دفع ثمنًا لعبقريته ما دفعه «نيتشه» من عناء التفكير والعُزلة والمرض والعمى والجنون.
(٥) الفلاسفة المعاصرون في أوروبا
(٥-١) هنري برجسون Hennri Bergson
وُلِد «برجسون» في باريس عام ١٨٥٩م من أبوَين فرنسيَّين يهوديَّين، وكان طالبًا نابغًا لم ترصد المدرسة جائزةً لمتفوقٍ إلا نالها. قد تخصَّص بادئ الأمر في عِلمَي الرياضة والطبيعة، ولكن موهبته التحليلية كانت تأبى إلا أن تواجهه بالمشاكل الميتافيزيقية الكامنة وراء كلِّ علم، فلم يسعه إلا أن يتَّجِه إلى دراسة الفلسفة. وفي سنة ١٨٧٨م دخل مدرسة المعلمين حتى إذا ما تخرَّج فيها عُين أستاذًا للفلسفة في إحدى المدارس، وعندئذٍ كتب مؤلَّفه «الزمن والإرادة الحرة»، ثم أعقب ذلك ثماني سنواتٍ لم يُخرج فيها شيئا، وبعدئذٍ ظهر كتابه الثاني «المادة والذاكرة»، ولمَّا كان عام ١٨٩٨م عُين أستاذًا في المعلمين العُليا، وفي سنة ١٩٠٠م أستاذًا بالكوليج دي فرانس التي ظلَّ فيها منذ ذلك الحين. ولم يكَدْ في سنة ١٩٠٧م يذيع آية تآليفه «التطوُّر المبدع»، حتى ذاع اسمه وطبق الخافِقَين، وأصبح أشهر رجال الفلسفة في العالم.
(١) ثورة على المادية
كثيرًا ما يبدأ الفكر الإنساني بدراسة نفسه، ثم ينتهي إلى إحدى نتيجتَين: فهو إما أن يَنظُم العقل في سلك المظاهر المادية التي تخضع للقوانين الآلية الصارمة، ثم ينصرِف بناءً على ذلك إلى دراسة الوجود المادي بما فيه من صُوَر وأوضاع، وإما أن ينتهي إلى إنكار ذلك الوجود المادي جملةً وتفصيلا، واعتباره من خلق العقل وتكوينه، ثم يتَّجِه على هذا الأساس إلى دراسة العقل وحدَه؛ لأنَّ في دراسته دراسةٌ للوجود بأسره ما دام العقل هو الذي خلق الوجود خلقًا وأنشأه إنشاء.
إذن فقد انقسم الفلاسفة قِسمَين مختلفَين: فريق ينصرف بأسرِه إلى العلوم الطبيعية؛ لأنها السبيل إلى تفهُّم مظاهر الكون، وفريق ينكبُّ على دراسة النفس انكبابًا؛ لأنها هي كل شيء. ونحن نستطيع أن نقول في شيءٍ من الدقَّة إن تاريخ الفلسفة الحديثة ينحصِر في هذا العراك العنيف القائم بين علم النفس والعلوم الطبيعية، فهذه الأخيرة تنشُد الحقيقة في دراسة الظواهر المادية، وقد نرى في طريقها من بوارق الأمل الباسم ما تمضي معه في بحثها ثابتة اليقين موطَّدة العزيمة، أما عِلم النفس فيلتمسها في دراسة النفس دون المادة، وهو مؤمِن أن ليس أقوَمَ من تلك السبيل.
ولكن جاء القرن التاسع عشر، فانعرَج ذلك المجرى الفكري بعض الشيء، واتَّجَه إلى دراسة المظاهر المادية اتِّجاهًا مباشرًا، دون أن يقِف عند النفس الإنسانية وقفةً تحليلية، ولعلَّ ذلك راجع إلى الإنسان قد خُيِّل إليه أنَّ العلوم الرياضية والميكانيكية وما إليها هي التي دفعت به في العصر الحديث هذا الدفع السريع، وله عُذره في هذا الظن، ما دامت الصناعة التي تدوي أرجاؤها في أوروبا، والتي قلبَتِ الحياة رأسًا على عقب، هي ربيبة تلك العلوم، إذن فلماذا لا تُدرَس هذه العلوم الطبيعية دون سواها؟ هكذا اصطبغَتْ الفلسفة في القرن الماضي بصبغةٍ مادية، وضاعت في الفضاء صيحة «ديكارت» التي ألحَّ بها في أن تبدأ الفلسفة سيرَها من النفس، ثم تُتابع طريقها إلى العالم الخارجي.
انطوى القرن التاسع عشر أو كاد، فبدأ الإنسان يَضيق بعض الشيء من تلك الفتنة التي أخذَه بها الانقلاب الصناعي، وأخذ الفكر ينزِع عن نفسه شيئًا فشيئًا ذلك الثوب المادي الذي اشتمله واحتواه حينًا من الدهر، ويبحث عن حقيقة الوجود في «الحياة» التي تدبُّ في أنحاء الكون. لا في الحركة التي تنتظم الجماد، وما زال الفِكر يُمعِن في هذه النزعة الجديدة حتى كادت الحياة تدبُّ في المادة نفسها، واصطبغت العلوم الطبيعية بصبغةٍ حيوية، وهكذا كُتب عليها أن تلقي السلاح أمام علم النفس فيما نشِب بينهما من عراك.
ولعلَّ «شوبنهور» هو أول من فطن إلى أنَّ «الحياة» هي أساس الوجود، ثم جاء «برجسون» في عصرنا الحاضر، وتناول هذه الفكرة بحثًا واستقصاء، حتى استطاع بقوَّة إيمانه أن يجذِب إليها أنظار هذا العالم الذي طغتْ عليه رُوح اللاأدرية والشك طغيانًا مروِّعًا.
عكف «برجسون» على دراسة المذهب المادي، وخلاصته أنَّ العالَم كتلة مَوات من المادة والحركة، وأنَّ الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليستْ سوى أعراضٍ مختلفة لتفاعل المادة والقوة. فكان كلما أمعن في تلك الدراسة ازداد يقينًا بفساد ذلك المذهب وهو يتساءل في دهشة: إذا كان العقل مادة، وكانت كل عمليةٍ عبارة عن هزَّة عصبية لا أكثر ولا أقل، فما فائدة الشعور؟ أليس مجرَّد وجود الإدراك دليلًا قويًّا على ضرورته؟
يقول المذهب المادي ليس ثمَّة حياة إرادية، أي ليس في الوجود تلك القوة الحيوية التي تريد هذا فتعمله، ولا تريد ذاك فتنبِذه، وكل ما هنالك حالات مادية مُتتابعة، كل حالة نتيجة لِما قبلها ومُقدِّمة لما بعدَها، وهنا يتساءل «برجسون»: إذا كان الوجود بكلِّ ما يحوي في لحظةٍ مُعيَّنة نتيجة آلية للحظة التي سبقتْها، دون أن تكون هنالك قوة مُدركة تنشئ وتخلق وتختار؟ وإذا كانت تلك اللحظة السابقة كذلك أثرًا آليًّا للتي سبقتْها، وهكذا دواليك، فنحن إذن سنرجع في هذا التسلسُل إلى أن نصِل إلى السديم الأول ونتَّخِذ منه سببًا لكلِّ ما طرأ على الكون من أحداث، لا فرق بين دقيقِها وجليلها، ماذا؟ هل يريدنا ذلك المذهب على أن نعتقد بأن السديم هو السبب فيما كتبه «شكسبير» مثلًا؟ وأنه العِلَّة في خطابة «أنطونيو» و«هملت»؟
هكذا أخذ «برجسون» من منطق الماديين ما يكفي وحدَه للرد عليهم ودكِّ مذهبهم من أساسه.
(٢) العقل والجسم
لعلَّ ما حدا بالإنسان إلى النزعة المادية في تفكيره هو ارتباطه بالمكان ارتباطًا وثيقًا، حتى خُيِّل إليه أن الحياة ليست إلا هذه الصور المكانية التي يحسُّها، ولكن الحق الذي لا ريب فيه أن جوهر الحياة وروحها إنما ينحصِران في الزمان أكثر مما يتعلقان بالمكان. والزمان في الواقع عبارة عن تراكُم صورٍ كونية بعضها فوق بعض، أو إنْ شئتَ فقل صورة كونية واحدة امتدَّت وأخذت تنمو وتتزايد شيئًا فشيئًا، ومعنى ذلك أنَّ الماضي من بدئه الأزلي لم يفنَ، وإنما أخذ يتقدَّم فتتزايد أحداثه قليلًا قليلًا إلى أن تضخَّم فكوَّن الزمان الحاضر.
وإذا كان الزمان عبارة عن مجموع الصور التي مرَّت على الوجود، فيستحيل أن يكون المستقبل مشابهًا للماضي؛ لأنَّ في كل خطوة زيادة تُضاف إلى تلك الكومة المتراكمة، وفي كل دقيقة ينشأ شيء جديد ليس نتيجةً لمقدِّمةٍ سابقة، ولكنه خُلِق خلقًا، ولا يمكن استنتاجه قبل حدوثه، فالتغيُّر سنة الحياة وألزم صفاتها.
والذاكرة عند الإنسان هي الوعاء الذي يمتدُّ مع الزمن، فيختزن فيه هذه الصور المتراكمة المُتزايدة، لكي تكون لنا عونًا في حياتنا؛ إذ كلَّما اتَّسعَت دائرة الحياة اتَّسَع معها نطاق الاختيار، أي إنه يعرض للإنسان مؤثرات عدَّة تستدعي منه سرعة اختيار للتلبية المناسبة لكلٍّ من تلك المؤثرات وتلبياتها تكوِّن في الإنسان إدراكًا يستعين به في كل ما يعرِض له من مشكلات.
فالكائن الحي كتلة فعَّالة مؤثِّرة؛ لأنه يُضيف إلى العالم قوةً ونشاطًا، وليس الإنسان كما صوَّره الماديون آلة ميكانيكية لا حول لها ولا قوة، ينفعِل ويتأثَّر بعوامل البيئة دون أن يكون مركزًا للخلق والزيادة، ففي قولِنا إنَّ الإنسان مُدرك لما يعمل اعترافٌ ضِمني بحريَّة اختياره.
قُلنا إنَّ وظيفة الذاكرة هي استدعاء الصور الذهنية التي مرَّت بنا في التجارب الماضية مقرونة بما سبقَها وما تلاها، فنتمكن بذلك من الحكم في المواقف المشابهة التي قد تعرِض لنا حكمًا صادقًا، ولكن للذاكرة فوق هذا عملًا آخر، فبوساطتها نستطيع أن نستوعِب الخلود بأسرِه في دقيقةٍ واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الضرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة. يخطئ إذن من يحسَب الإنسان آلةً صمَّاء في يدِ القوانين المادية، إنما هو كائن مُدرك، حُر الإرادة، قادر على اختيار سلوكٍ معين، والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيبًا في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه.
وإذن فليس العقل والمخ (أي الجسم) شيئًا واحدًا. صحيح أنَّ الإدراك العقلي يعتمِد على المخ، فيسمو وينحطُّ تبعًا لسلامة هذا أو انحطاطه، ولكن كما تعتمِد الملابس على المِشْجَب، تظلُّ عالقةً ما دام المِشجَب مثبَّتًا في الحائط، وتهوي إذا ما سقط من مكانه، وبديهي أنَّ ذلك لا يدلُّ على أن الملابس والمِشجَب شيء واحد.
فالمخ مجموعة من التصوُّرات وردود الأفعال. أما الإدراك فهو تلك القوة التي تختار من بين تلك المجموعة ما تريد. المخ هو المجري الذي يسير فيه تيَّار الإدراك، ولكن ليس الماء ومجراه شيئًا واحدًا، وإن يكن ذلك محدودًا بهذا، ولا بدَّ له أن يخضع لتعريجه والتوائه.
وإذا كان هذا هكذا، فما الذي حدا بنا إلى الاعتقاد بأن العقل والمخ شيء واحد؟ لعلَّ ذلك راجع إلى أن جزءًا من عقولنا — وهو ما نُسمِّيه بالذكاء — قد نشأ وتطوَّر؛ لكي يمارس الأجسام المادية ويتفهمها، فاكتسب من هذا الميدان المادي كل تصوراته وقوانينه. وهكذا أخذ الارتباط الذهني بين العقل والمادة ينمو شيئًا فشيئًا، حتى انتهى بنا الأمر إلى الظنِّ بأنهما شيء واحد، ولكن هذا الذكاء الذي يكشِف لنا عن العلاقات التي تصِل المظاهر الكونية بعضها ببعض عاجز كلَّ العجز عن إدراك الامتداد الزمني وما يعرِض فيه لتلك المظاهر من تغيُّر وخلق. أو بعبارةٍ أخرى هذا الذكاء الذي يفكِّر في الصور المادية لا يستطيع أن يُدرك ما في الكون من حياة؛ لأنه يلتقط صورًا متلاصِقة بعضها يجيء في إثر بعض، أي إنه يلتقِط صورة الكون في هذه اللحظة، ثم صورته في اللحظة التي تليها، ثم صورة ثالثة في التي تليها وهكذا. ومعنى ذلك أن الخارجي في نظر العقل عبارة عن جُملة صورٍ لحظية تملأ كل صورةٍ منها الكون بأسرِه، وهذه الصورة تتلو الواحدة منها الأخرى لحظةً بعد لحظة، وكل صورة لحظية من هذه الصور تمثِّل الحقيقة الخارجية في لحظةٍ من اللحظات، ثم من تتابعها يتألَّف مجموع الحقائق الخارجية من أول الماضي إلى آخر المُستقبل، إلا أنَّ الصور تظلُّ مستقلةً في الذهن، لا يتناولها الاستمرار أو الحركة التي تربطها جميعًا، مع أنَّ الحياة ليست إلَّا في وصْل هذه الصورة المجزَّأة، ومثل العقل في ذلك كمثل الشريط السينمائي الذي يلتقِط عددًا من الصور المتلاحِقة، لا حياة في كلٍّ منها على حدة، فإذا ما دبَّت فيها الحركة والاستمرار، واتَّصَل بعضها ببعض، كوَّنت حياةً أو شيئًا يُشبه الحياة، ولن يكون في هذه الصور التي تصِلنا عن طريق الحواسِّ شيء من الحياة، حتى يتناولها تيار الحركة الدائم الذي يربط أشتاتها، ويكوِّن منها حقيقةً واحدة يطرأ عليها التغيُّر والتبدُّل كلما مرَّ عليها شطر من الزمان.
صحيح أنَّ كل صورة حسِّية هي جزء من الحياة، ولكن مجموعها لا يكوِّن مجموعة الحياة، إلى أن يتحقَّق في أجزائها شرط الاتصال والربط، فكما أنَّ كلَّ جزء من الخط المنحني يمكن أن يكون جزءًا من خطٍّ مستقيم بدليل أن المنحنى والمستقيم يتكوَّنان من نقط، غير أنك لا تستطيع أن تقول. بما أنَّ أجزاء هذا هي بعَينها أجزاء ذلك، إذن فالخط المنحني هو الخط المستقيم، كذلك قُل في الحياة والمظاهر الطبيعية، فليستِ الحياة هي مجموعة المظاهر الطبيعية، على الرغم من أنَّ تلك الظواهر هي الجزئيات التي تتكوَّن منها الحياة.
يُستنتَج من هذا أن العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة؛ لأنَّ هذا مطلب فوق مقدوره، وأكثر مما يستطيع، إذ العقل كما بيَّنَّا يميل إلى استعمال الوجود لصالحه، وهذا يتطلَّب منه وقْف تيار الحياة الذي يدبُّ في الكون وتجزئة الوجود ليتمكَّن من دراسته جزءًا جزءًا، فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود، أي إنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفُذ إلى باطنه، ولمَّا كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشَّى مع الوجود في تحوُّله، وتتغلغل في بواطن الأشياء، وتحسُّها إحساسًا مباشرًا كما يحسُّ الحَمَل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدَها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة؛ لأنها حاسَّة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود.
(٣) التطوُّر الخلاق
لا يمكن أن يكون تطوُّر الحياة على تلك الصور البشعة القاسية التي رسمها «دارون» و«سبنسر»، إنما التطوُّر خَلْق مُستمر، وتجديد متواصِل، وتغيُّر لا ينقطع.
الانتخاب الطبيعي عند «دارون» هو الأساس الذي تقوم عليه نشأة الأعضاء والوظائف والأنواع، ولكن لم يكَدْ يستوي ذلك المذهب على قدميه، حتى أحاط به من الصعاب والمشكلات ما لم يقوَ على ردِّه، فكاد يخرُّ صريعًا وهو لا يزال في يفاعَتِه.
كيف يستطيع الانتخاب الطبيعي أن يُفسِّر نشأة حاسة الإبصار مثلًا؟ أولًا لا بدَّ أن نُسلِّم أنه من المستحيل أن تكون العين قد نشأت على هذه الصورة المعقَّدة من بادئ الأمر، فإذا فرضْنا أنها تكوَّنت بعد سلسلة من الأطوار، فهل من اليسير أن تُقنع عقلًا سليمًا أن تلك الأدوار التي مرَّت بها عَين الإنسان تُطابق تمام المطابقة الأدوار التي مرَّت بها الحواس الإبصارية لأنواع الحيوان جميعًا؟ مع أنَّ الانتخاب الطبيعي أساسه المصادفة المحْضة، وهل من الجائز أن تكون سلسلة المصادفات التي تعاقبَتْ على عين الإنسان وأذنه وأنفه وسائر أعضائه الأخرى هي التي تعاقبَتْ على أعضاء الحيوانات كلها؟
وإذا سلَّمنا — جدلًا فقط — بأن تلك المصادفة السحرية العجيبة جائزة في أنواع الحيوان لتشابُه المؤثرات التي تحيط بها جميعًا، فما قولك في الحيوان والنبات، وهما نوعان يسيران في طريقَين مختلفين أتمَّ اختلاف؟ كيف يتفق الاثنان على طريقةٍ واحدة للتناسُل؟ كيف يُوفَّق الحيوان عن طريق المصادفة إلى اختراع الذكورة والأنوثة أداةً للتكاثر، ثم يوفَّق النبات إلى الطريقة عينِها وبالمصادفة أيضًا؟
كلا، يستحيل أن يكون هذا الأساس الواهي قاعدة للتطوُّر، ولا بدَّ أن يكون في أجزاء الوجود — مهما تنوَّعت أشكالها — قوة كامنة متشابهة في الجميع هي الحياة، وهذه الحياة الحالَّة في كل شيءٍ تخلق فيما تحِلُّ فيه ميلًا خاصًّا وتوجيهًا مُعينًا يؤثران في كل جزئيٍّ من جزئياته، وهكذا يظلُّ الجسم المادي يتشكل ويتغيَّر حسب ذلك التوجيه الذي تُمليه تلك الحياة الدافعة الكامنة فيه. وليس ثمة قوة خارجية تعمل على التطوُّر كما خُيِّل إلى «دارون» وأشياع مذهبه.
هذه الحياة الشاملة تسعى جهدها للتغلُّب على الجمود المادي، فهي تتغلَّب على الموت بالتناسُل وإن ضحَّت في سبيل ذلك بالأفراد. وهي تبذُل كل ما تملك من قوةٍ لتحرير نفسها من قوانين المادة وأغلالها، فوقوف الحيوان وسَيرُه وسعيُه وكل ما يأتي من ضروب الحركة والنشاط هو في الواقع تحدٍّ من الحياة لتلك الأغلال والقيود.
كانت الحياة في مبدأ ظهورها أشبهَ ما تكون بالمادة في جمودها واستقرارها؛ لأنها كانت تتمثَّل في النبات وحدَه، والنبات كالجماد في سكونه واستحالة سَعيِه وحركته، ولكنها ما لبِثَتْ أن نشدت الحرية من القيود المادية، وراحتْ تسعى وراء ذلك المثَل الأعلى، فاخترعت أنواع الحيوان، وزوَّدتْها بشتَّى الأعضاء التي تستطيع أن تُحقِّق بها شيئًا من الحرية المنشودة، ثم ما لبِثت أن عقدَتْ آمالها في واحدٍ من تلك الحيوانات جميعًا وهو الإنسان، ولا شكَّ أنَّ الحياة تحاول ما استطاعت أن تسخَر من قيود المادة، ونحن نضحك ونسخر إذا ما رأيْنا كائنًا حيًّا يتصرَّف كما تتصرَّف الكتلة المادية الجامدة، كأن تزلَّ قدمُه فيسقط بقوَّة من الجاذبية كما تسقط قطعة الحجر.
- الأولى: مرحلة النبات إذ كانت أقربَ ما تكون إلى سكون المادة وجمودها.
- الثانية: مرحلة الحيوان الغريزي كالنحل والنمل الذي يتحرَّك ويسعى، ولكن في حدودٍ مرسومة وخطة معلومة.
- الثالثة: مرحلة الحيوان الفقري الذي أخذ يسير في طريق الفكر، ولن يزال هذا الفكر ينمو ويشتدُّ ويستقيم، فهو ذُخر الحياة وأملها الذي سيُحقِّق لها ما تنشُد من حرية.
هذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتُغيِّر وتبتدع، والتي تلتمِس الحرية من قيود المادة هي الله، فالله والحياة اسمان على مُسمًّى واحد، وأغلب الظنِّ أنَّ هذه الحياة الدائبة في التخلُّص من أغلالها وأصفادها ستظفر آخِر الأمر بما تريد، فتتغلَّب على الموت، وتتحقَّق لها الحرية والخلود.
ألا ما أجمل أن يرتفع صوت «برجسون» بشيرًا بما في الكون من حياة فعَّالة خالقة، ليقِف تيَّار المادية الذي طغى على أوروبا في القرن الماضي، حتى غمرها بين ثناياه.
نقد
أراد «برجسون» أن يقطع على ناقِديه الطريق، فقال: «إنَّني أعتقد أن الزمن الذي يُنفَق في نقد الفلسفة ضائع في مُعظم الأحيان. فماذا بقي لدَينا الآن من الهجمات الكثيرة التي وجهها المُفكرون بعضهم لبعض؟ لم يبقَ شيء، أو إن شئتَ دقَّةً فقل بقِي نزر يسير جدًّا. إنَّ ما له قيمة وما يبقى إنما هو القليل النادر، وهو الحقيقة الإيجابية التي يُضيفها كل منهم. إنَّ القول الحق قادر بنفسه على أن يحتلَّ مكان الفكرة الباطلة، إذن فتلك خير وسيلة لتفنيد الباطل دون أن نُكلِّف أنفسنا عناء نقد هذا أو ذاك.» لعمر الحق إنَّ هذا لصوتُ الحكمة الحق، فإنَّنا حين نُبرهن على صحة فلسفة أو على خطئها، فنحن بذلك نُنشئ فلسفةً جديدة هي كالأولى عُرضة للخطأ؛ لأنها مثلها مزيج من التجربة والأمل، فإذا ما اتَّسعَت تجربة الإنسان، وانفسح أملُه فقد يجد حقًّا ما كان في اعتباره باطلًا منكورًا، أو قد يجد باطلًا ما كان في رأيه من قبل حقًّا خالدًا. إنَّنا إذا ارتفعنا على أجنحة الثورة كنَّا أميَلَ إلى مذهب الجبرية وإلى النزعة المادية الآلية، ولكن إذا ما افترت الحياة ولاحَت فيها بوادر الموت، حاول الإنسان أن يُرسل بصرَه بعيدًا ليبحث له عن أملٍ جديد، فالفلسفة إذن هي تعبير صريح عن حالة العصر السائدة، ولا خير في إثباتها أو تفنيدها، هكذا يقول «برجسون»، ولكنَّا مع ذلك سنعرض له بلمحةٍ موجَزة بما له وما عليه.
فأول ما يصادف القارئ في «برجسون» ويلفِت نظره هو هذا الأسلوب الرائع الذي كتَبَ به ما كتب. ولعلَّ روعة الأسلوب ووضوحه راجعان في الأغلب إلى طبيعة اللغة الفرنسية نفسها التي لا تحتمل الغموض والإبهام، ولقد تجد «برجسون» غامضًا في بعض مواضعه، ولكن ذلك راجع إلى ثروته الوفيرة الغزيرة في الأمثلة والتشبيه والاستعارة التي أخذ ينثُرها في كتُبه نثرًا بغير حساب.
هاجم «برجسون» العقل، وأرادنا على أن نأخذ بحُكم البصيرة؛ لأنها أصدق نظرًا، ولكن كان الأجدر به أن يهدِم العقل ليعقد رجاءه على عقلٍ أرقى؛ لأنَّ البصيرة الباطنية التي وثِق بأحكامها قد تُخطئ كما تخطئ الحواس، فكلاهما يجِب اختباره وتقويمه بالتجربة العملية، ولقد بالغ «برجسون» حين زعم أنَّ العقل لا يُدرك إلا حالات متقطعة من الحقيقة والحياة وهو عاجز عن أن يُدرك ما في هذين من حركةٍ واستمرار؛ إذ الفكر — على نقيض ما ذهب — عبارة عن مجرًى متَّصِل من الأفكار كما قال «جيمس»، وهذا التيار العقلي يعكس الحياة المُستمرة ويصوِّرها أدقَّ تصوير.
لقد كان جميلًا من «برجسون» أن يصرُخ هذه الصرخة العالية ليقِف تطرُّف المذهب العقلي الذي يعتدُّ بالعقل اعتدادًا كبيرًا، ولكنه لم يُصِب حين دعا إلى اتخاذ البصيرة وحدَها بدل العقل؛ لأنَّ ذلك كمن يُصحَّح خيال الصِّبا بخرافات الطفولة. ولكن يظهر أنَّ الهجمة العنيفة التي صُوِّبت إلى التفكير العقلي، والتي امتدَّت من «روسُّو» إلى «شاتوبريان» و«برجسون» و«جيمس» كان لها في النفوس أثر قوي. إنَّنا نوافق «برجسون» على ثل العرش الذي يتربع عليه العقل في غرورٍ وكبرياء، ولكن على شريطة ألا يُطالبنا بأن نجعل كل القيمة للبصيرة وحدَها، فلئن كان الإنسان يعيش بغريزته وبصيرته، فهو يتقدَّم بعقله وذكائه.
ولعلَّ أروع جوانب «برجسون» هو حربه الشعواء التي شنَّها على النزعة الآلية المادية، فلقد أسرف علماء المعامل في تقدير عِلمهم إسرافًا بلغ حدَّ الشطط حتى ذهب بهم الوهْم أنهم قادرون على وضع الكون كلِّه في أنبوبة من أنابيب اختبارهم.
لقد ارتفع «برجسون» إلى أوْج الشهرة في أعوام قلائل؛ لأنه دافع عن الأماني الإنسانية وآمالها، فكم اغتبط الناس واطمأنُّوا حين رأوا فيلسوفًا يصُون لهم ما يرجون من خلود وما يعتقدون من إله.
ولا عجَب أن كان أعظم الفلاسفة المعاصرين، فقد كان الناس من قبل فلسفته تروسًا وعجلات في آلة الكون الميِّتة، ولكنهم بعد «برجسون» علموا أنهم يستطيعون إنْ أرادوا أن يُساهموا بأنفسهم في قصة الحياة.
(٥-٢) بندتو كروتشي Benedetto Croce
(١) الرجل
من الظواهر التي تسترعي النظر ما أصيبت به إيطاليا في العهد الأخير من إجدابٍ في الفلاسفة، ولعلَّ ذلك راجع إلى احتفاظ إيطاليا بالأساليب والطرائق المدرسية حتى من المُفكرين الذين اطَّرحوا اللاهوت ونبذوه، فلئن كانت إيطاليا مهدًا للنهضة إلا أنها لم تكن موطنًا للإصلاح، إنها تتشكَّك في وجود الحقيقة، ولكنها تعتقد في الجمال وتُخصِّص نفسها له، حتى إنها لتودُّ أن تفنى من أجله، ومن يدري؟ لعلَّ الإيطاليين قد وُفِّقوا إلى الحقيقة حين أُلهِموا أنَّ الحقيقة سراب، وأن الحق كل الحق هو الجمال. فقد كان أعلام الفنِّ في إيطاليا أيام النهضة (إذا استثنينا ميخائيل أنجلو) لا تعنيهم أخلاقٌ ولا دين، ما دامت الكنيسة قد اعترفت بفنِّهم، حتى أصبح العُرف في إيطاليا ألَّا يُثير رجال الثقافة جانب الكنيسة، ولا يتعرَّضون لها بسوء، ولا غرابة في هذا؛ إذ كيف يقسو إيطالي على كنيسةٍ استعبدت العالم يومًا لإيطاليا، وجمَعَت من الدول أموالًا وفيرة؛ لكي تجعل من إيطاليا مُتحَف فنٍّ لأوروبا، بل للعالم أجمع؟ من أجل هذا ظلَّتْ إيطاليا مُستسلِمة للإيمان الدِّيني القديم.
ولكن لم تسلَم هذه القاعدة من الشواذ، فقد خرج عليها «بندتوكروتشي» الذي وُلِد في عام ١٨٦٦م من أبٍ كاثوليكي كان هو ابنه الأوحد، ومن أسرةٍ عُرفت بالمحافظة والجمود، فنشأ الفيلسوف نشأةً دينية صارمة انقلبَتْ في آخر الأمر إلى نقيضها وهو الإلحاد. وممَّا هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد أنَّ الأمم التي لم تشهد إصلاحًا دينيًّا لا ترى فيها منزلة متوسطة بين الجمود الدِّيني من ناحية، والكُفر المتطرِّف من ناحيةٍ أخرى.
ولقد رَمتْه الأيام سنة ١٨٨٣م بسهمٍ نافذ كان كفيلًا أن يردَّه إلى إيمانه وعقيدته لو كان رجلًا كسائر الرجال، إذ زُلزِلت الأرض زلزالًا عنيفًا هدَم المدينة التي كان يعيش فيها بين أُسرته، فقضى على والِدَيه وأختِه الوحيدة، ولبِث هو نفسه تحت الأنقاض بضع ساعاتٍ حتى أُنقِذ، وقد اعتلَّتْ صحَّته، وتكسَّر بعضُ عظامه. وظلَّ عدَّة أعوام في علَّته، ثم استردَّ صحته، وعادت إليه روحه كما كانت قوية مليئة بالحياة، ولم يُضطرَّ أن يعمل من أجل قُوتِه لِما ورِثَه عن أبيه مما جعله ذا يسار، وقد أنفق بعض ماله في إعداد مكتبةٍ كانت تُعدُّ من أفخم المكاتب في إيطاليا كلها، فهو إذن من الفلاسفة القليلين الذين لم يدفعوا ثمن فلسفتهم فقرًا وحاجة.
(٢) فلسفة الروح
كان أول كتابٍ أصدره «كروتشي» عبارة عن مجموعة من المقالات (١٨٩٥–١٩٠٠م) موضوعها مادية التاريخ ومبادئ «كارل ماركس» الاقتصادية، فقد تأثَّر بما كتبه «ماركس» وبالمبادئ الاشتراكية تأثرًا عظيمًا، غير أن نشوة تلك المبادئ رغم ذلك لم تبلُغ منه الرأس، فسرعان ما انصرف عنها إلى الفلسفة.
تأثر «كروتشي» بالماركسية، ولكنه لم يُسلِّم مع ذلك بمبدأ تفسير التاريخ على أساسٍ اقتصادي كما رفض أن يعترف بصحة الفلسفة المادية قائلًا: إنَّ العقل — لا المادة — هو الحقيقة الأولى والأخيرة، حتى إنه لمَّا كتب فلسفته أطلق عليها اسم «فلسفة الروح».
وذلك لأنَّ «كروتشي» مثالي لا يعترف بفلسفةٍ بعد فلسفة «هجل»، وعندَه أنَّ الحقيقة بأسرها عبارة عن فكر، فنحن لا نعلَم شيئًا إلا كما تُصوِّره لنا حواسُّنا وأفكارنا. فهو كما ترى إيطالي بالمَولد والنشأة، ألماني في التفكير والنزعة، فقد كان يحاول أن يُبرهن على أن جوهر الكون أفكار خالصة مجردة، فلا يعنيه مثلًا أن يوضِّح فكرة أو يعرفها بما ينشأ عنها من نتائجَ عملية، بل كان على النقيض من هذا يحاول أن يردَّ مظاهر الحياة العملية إلى أفكارٍ وعلاقاتٍ بين أفكار.
والفكرة المجردة معناها عنده الفكرة الكلية، مثال ذلك الكم والكيف والتطور، وما شابَهَ ذلك من الأفكار التي تُطبَّق على الوجود الواقع بأسره، وهنا أخذ «كروتشي» يتحدَّث عن الأفكار الكلية حديثًا غامضًا، حتى لتحسَبُه «هجل» آخر، أو كأنما هو يريد أن ينافس أستاذه في غموضه وإبهامه. وقد أطلق «كروتشي» على بحثه هذا اسم المنطق؛ لكي يُقنع نفسه أنه لم يتورَّط في المباحث الميتافيزيقية التي لا طائل وراءها، والتي كان يقول عنها إنها بقية من بقايا اللاهوت القديم الذي يمقُته، إذ هو يُنكر الدين، ويرفض خلود الروح، ويقول إنه خير للإنسان أن يعبُد الثقافة والجمال.
والحق أنَّ فلسفة «كروتشي» شاذة متناقضة، فهي طبيعية روحية، عملية مثالية، تجلُّ المبادئ الاقتصادية وتقديس الجمال، فهو مثالي يتَّخِذ الروح أساسًا لفلسفته، ولكنه من ناحيةٍ أخرى يُعنى بجوانب الحياة، وبمظاهر الطبيعة، حتى كتَب مجلدًا سمَّاه «فلسفة الجانب العملي». كذلك ألَّف كتابًا عنوانه «في التاريخ» يقول فيه إنَّ التاريخ فلسفة متحرِّكة، وإنَّ المؤرخ ينبغي أن يصَوِّر الطبيعة والإنسان في صورٍ من الحقيقة العملية التي تؤثر فيها الأسباب والمُسبِّبات، ولا خير في أن يكتُب عنهما من الناحية النظرية المجردة. ويقول: إنَّ التاريخ لا بدَّ أن يكتُبه فلاسفة. ويرى أنَّ هذا التاريخ العلمي الشائع قد بلغ من الدقَّة التفصيلية حدًّا بعيدًا، بحيث ضاعت من المؤرِّخ الحقيقة المنشودة لكثرة ما يعرِف.
ويقول «كروتشي»: إن استكشاف الماضي على حقيقته مُتعذِّر إن لم يكن مستحيلًا، وهو يتمثَّل بتعريف «روسو» للتاريخ بأنه «فنُّ اختيار الأكذوبة التي تُشبه الحقيقة من بين كثيرٍ من الأكاذيب.» وهو لا يُحبُّ البحث النظري في التاريخ بحجَّةِ أنه يُفسِده وينقل الماضي في صورةٍ باطلة، يجب أن يكون التاريخ صورةً للطبيعة ومرآة للإنسان.
(٣) ما هو الجمال؟
إنَّ جوهر الفاعلية الفنية هو هذا المجهود الساكن الذي يبذُله الفنان وهو صامت ليرسُم في ذهنه الصورة كاملة، بحيث تُعبِّر عن موضوعه تعبيرًا جليًّا واضحًا. فليست معجزة الفن في إبراز الصورة وإخراجها، بل في مجرد تصوُّرها تصورًا دقيقًا، وما إخراجها بعد ذلك إلا أمرٌ آليٌّ ومهارة يدوية.
«إذا نحن استطعْنا أن نُسيطر على الكلمة الباطنية، أو أن ندرك صورةً أو تمثالًا إدراكًا جليًّا واضحًا، أو أن نكوِّن موضوعًا موسيقيًّا، فإنَّ التعبير لا بدَّ أن يجيء بعد ذلك كاملًا، وذلك كل ما نريد. فلو انفتحت أفواهنا عن كلام أو غناء، فكل ما نفعله حينئذٍ هو أن نُفصِح في العلَن ما قُلناه بالفعل قولًا باطنيًّا، وأن نُنشِد في صوتٍ مسموع ما أنشدناه فعلًا في دخيلة نفوسنا. أما إذا مسَّت أيدينا مضارب البيانو، أو تناوَلْنا قلمًا أو إزميلًا، فلسْنا نعمل إلَّا عملًا إراديًّا (يتعلق بالجانب العملي من الإنسان لا بفاعليته الفنية) أعني أنَّنا عندئذٍ نفعل في حركاتٍ كبيرة ما فعلناه باطنيًّا في سرعةٍ وإيجاز.»
أنستطيع بعد ذلك أن نُجيب على ذلك السؤال المُربك: ما هو الجمال؟ إنَّ في الجمال آراء بقدْر ما في الأرض من رءوس، فكل إنسانٍ يأبى إلا أن يُدلي بدلوه في موضوع الجمال، وأن يتمسَّك برأيه ويدافع عنه، ولكن «كروتشي» يريد مع ذلك أن يعرِّف الجمال، فيقول إنه التكوين العقلي لصورةٍ ذهنية — أو لسلسلةٍ من الصور — يتمثَّل فيها جوهر المُدْرَك. فالجمال يتعلَّق بالصورة الباطنية أكثر منه بالصورة الخارجية التي هي تجسيد للباطنية. فقد يتبادَر إلى أذهاننا أنَّ الفرق بيننا وبين «شكسبير» هو فرق في التعبير الخارجي فقط، وأنَّ لدَينا نفس الأفكار والصور التي اختلجَتْ في نفس ذلك الشاعر الكبير، غير أنَّنا لا نجد العبارة البليغة التي تفصح عنها، ولكن هذا وهْم باطل، فليس الفرْق في قوة إخراج الصورة، بل في القدرة على تكوين الصورة الباطنية التي تُعبر عن الشيء الخارجي.
وليس الأمر في ذلك مقصورًا على خلق صور الجمال، بل إنه ليتعدَّى ذلك إلى الإحساس بالجمال، فهو كذلك تعبير باطني، فدرجة فَهْمنا أو تقديرنا للآية الفنية إنما تعتمد على قُدرتنا أن نرى الحقيقة المصوَّرة ببصائرنا، أعني قُدرتنا على أن نكوِّن لأنفسنا صورة ذهنية تُعبر عن الشيء «إنَّنا حين نستمتِع بالعمل الفني الجميل إنما نُعبِّر عن بصائرنا نحن، فحين أقرأ «شكسبير»، فبصيرتي أنا هي التي تكون الصورة الذهنية لهَمْلت أو عطيل.» إذن فسرُّ الجمال هو الصورة الذهنية المعبِّرة، سواء في ذلك الفنان الخالق لصور الجمال، أو المتفرِّج المتأمِّل لتلك الصور. الجمال هو تعبير دقيق مضبوط، فلو سُئلنا ما الجمال؟ أجبنا إنه تعبير.
•••
ولكن أصحيح أنَّ الإنسان يكون فنانًا بمجرد تكوينه للصور الذهنية؟ هل ينحصِر جوهر الفن في التصوُّر الباطني لا في الإخراج؟ ألا يحدُث كثيرًا أن تكون لدَينا أفكار ومشاعر أروع وأجمل من كلامنا الذي يعبِّر عنها؟ كلا، إنه ليلُوح لنا أن «كروتشي» قد أخطأ في هذا، وأنَّ قداسة الفن وسمُوَّه في تكوين الصور وفي إتقان إخراج الفكرة وتجسيدها معًا.
(٥-٣) برتراند رسل Bertrand Russell
(١) رسل المنطقي
كان «برتراند رسل» يُحاضر عام ١٩١٤م في جامعة كولومبيا في نظرية المعرفة، فكان حينئذٍ كموضوعه الذي يحاضر فيه تحيلًا شاحبًا يبدو كأنما يدنو من الموت بخطواتٍ سريعة. ولعلَّه قد اختار هذا الموضوع الذي لا يمسُّ الحياة العملية ليبعُد ما استطاع عن الحياة؛ إذ لم يعُد يُطيقها بعد أن أعلنت الحرب الكبرى فجزع أشدَّ الجزع حين رأى أرقى قارات الأرض تنحدِر إلى بربرية متوحِّشة، وهو ذلك الفيلسوف الذي اختصَّه الله بذوقٍ حسَّاس رقيق وحبٍّ جمٍّ للسلام، ثم انقضت بعد ذلك عشر سنوات فانقلب مليئًا بالحيوية والنشاط يضطرِم صدره بالثورة على ما ينتاب المجتمع الإنساني من أمراضٍ ويتُوق إلى إصلاحها، غير أنَّ الأيام ما لبِثت أن حطَّمت له هذه الآمال الطامحة، وصرفَتْ عنه أصدقاءه الذين كان يجد فيهم بعض السلوى، فارتجَّت حياته وامتلأت بالعناء بعد إذ كانت بادئ الأمر حياةً أرستقراطية على كثيرٍ من الدعة والهدوء.
لم يكن «رسل» شخصيةً واحدة متصلة، بل خرج منه رجلان، فرجل انقضت أيامه أثناء الحرب العظمى، ومن أكفانه نشأ رجل جديد ذو شخصيةٍ جديدة، إذ تَولَّد عن «رسل» المنطقي الرياضي «رسل» آخر اشتراكي. ولعلَّ العنصر المشترك بين ذَينك العهدَين هو نغمة وادعة هائمة رقيقة تمثَّلت في الشطر الأول في أكداس الصِّيَغ الجبرية التي كان يَرْكمُها في كتبه، ثم تمثَّلت في الشطر الثاني في اشتراكيته، ومن أدلِّ عنوانات مؤلَّفاته على روحه مؤلَّفُه المُعَنْون «التصوُّف والمنطق» الذي مجَّد فيه الطريقة العلمية بما فيها من منطقٍ تمجيدًا عظيمًا.
أكبَرَ «رسل» المنطقَ وقدَّس الرياضة، ولم يؤمن بشيءٍ بعد ذلك، فلقد قرأ ما كتبه «برجسون» من أنَّ هناك حاسَّة قوية تُدرك الزمن وحركة الحياة، وأنَّ الأشياء كلها كائنات حيَّة تندفع بدافعٍ حيوي، ثم قرأ تشبيهه للحياة بشريط السينما — وكان لم يشهد السينما قطُّ من قبل — يذهب إلى دار السينما مرة لا ليستمتع بما يشاهد، بل ليتَّخِذ منه دراسة فلسفية — كما قال هو — ولكنه بعد ذلك كله لم يوافق على ما ارتآه «برجسون»، وقال عنه إنه قصيدة جميلة لا أكثر ولا أقل.
وذلك لأنَّ «رسل» لا يتَّخِذ معبودًا سوى الرياضة، ولم يرغب قطُّ في دراسة الآداب القديمة، وأخذ يجادل بالحجج الصارمة، كأنه «سبنسر» آخر، مطالبًا بإدخال الجانب العلمي في تربية النشء، بحيث يَرجَح على الجوانب الأخرى، وزعم أن كوارث العالم إنما ترجع — إلى حدٍ كبير — إلى ما فيه من غموضٍ في التفكير. وعنده أن قانون الأخلاق الأول هو أن يفكر الإنسان تفكيرًا مستقيمًا، «إنه لخير للعالم أن يَفنى من أنْ أُصدِّق، أو يُصدِّق أي إنسان آخر، أكذوبةً … تلك هي ديانة الفكر التي تشتعِل فتحرق بجوهرها نفاية العالم.»
هكذا كان «رسل» يُطالب بجلاء الفكر ووضوحه، لقد أدَّت به هذه النزعة إلى دراسة الرياضيات لِما أدهشه من دقَّة هذا العلم الأرستقراطي الهادئ «إنك إذا نظرتَ إلى الرياضيات من وجهةٍ صحيحة لَما وجدتَ فيها الحقيقة وكفى، بل لرأيتَ فيها الجمال الرائع أيضًا، ولكنه جمال الجدِّ والصرامة، كالجمال في النحت، لا يُثير من الإنسان جوانب طبيعته الضعيفة، ولا ينصِبُ للإنسان من الحبائل ما تنصبه الموسيقى أو التصوير. وإنه مع ذلك لجمال فيه العظمة والصفاء، وفيه الكمال الجادُّ الذي لا يُتاح إلا لأعظم الفنون.» ويعتقد «رسل» أن تقدُّم الرياضة في القرن التاسع عشر كان من أمجد ما يُفاخِر به هذا العهد، وبخاصةٍ حين أزال الغموض الذي كان يكتنِفُ فكرة اللانهاية في الرياضيات. فللقرن التاسع عشر أن يُباهي بأنه استطاع أن يَدُكَّ الهندسة القديمة التي سيطرتْ في عالم الرياضة مدى ألفي عام، وأنتج من الكُتُب ذلك العلم ما احتلَّ مكان كتاب «أقليدس» الذي هو أقدمُ كتابٍ مدرسي في العالم، «فيا لها من وصمة عارٍ في جبين إنجلترا أن تظلَّ تُدرِّسه لأبنائها.»
ولعلَّ ما عاون الرياضيات الحديثة أن تُنتج ما أنتجت هو نبذُها لما كان يسمَّى بالبدهيَّات، ولكن اغتبط «رسل» حين سمِع برجالٍ نهضوا فتحدَّوا قداسة البدهيات، وألحفوا في المُطالبة بإقامة الدليل على كلِّ بدهية، نعم اغتبط حين سمع بمن أثبت أنَّ الخطَّين المتوازِيَين قد يلتقِيان في نقطةٍ ما، وأنَّ الكل قد لا يكون أكبر من أحد أجزائه. وهنا يقدِّم «رسل» إلى قارئه البريء ما يُثير فيه القلق والتفكير من ألغازٍ مُحيِّرة مُربكة، هاك مثالًا منها: الأعداد الزوجية نصف الأعداد كلها، ومع ذلك فهنالك من الأعداد الزوجية ما يساوي في عدده كلَّ ما يُوجَد من أعداد؛ لأن لكل عدد — زوجيًّا كان أم فرديًّا — ضعفًا زوجيًّا. ثم يقول «رسل»: إنَّ في هذا حلًّا لمشكلة اللانهاية الرياضية التي لبِثَتْ غامضة، فهي كلٌّ يحتوي على أجزاء في كل جزءٍ منها من الأجزاء ما في الكل.
ويُحب «رسل» الرياضيات؛ لأنها فوق ذلك تتصف بموضوعيةٍ صارمة لا دخل للشخصية فيها، ففيها وحدَها الحقيقة الخالدة والمعرفة المُطلَقة، ونظرياتها الثابتة هي مُثُل «أفلاطون» ونظام «سبينُوزا» الخالد، أو هي — على الجملة — جوهر العالم، فينبغي أن تكون غاية الفلسفة أن تُشبِه الرياضيات في كمالها، بأن تُقيِّد نفسها بأقوالٍ لها من الدقَّة ما للرياضة، ولها من الحق الذي لا يحتاج إثباته إلى بحثٍ ما للرياضة، فلا يجوز لفروض الفلسفة أن تتعلَّق بأشياء، بل يكفي أن تبحث فيما بين الأشياء من صلات؛ لأنها يجِب أن تكون مستقلَّة عن الحقائق الفردية والحوادث الجزئية، حتى لو تبدَّل كل جزئي في العالَم وتغيرت كل أحداثه لظلَّت تلك الفروض الفلسفية صحيحة كما هي، مثال ذلك إذا فرضْنا أنَّ كل الألِفات باءات، ثم فرضْنا أن «س» تساوي «أ» لكانت «س» تساوي «ب». فهذا حق مهما تبدَّل ما في العالم وتغير، فلو استطعْنا أن نحصُر كل الفلسفة في هذه الصورة الرياضية، وأن نمحو منها كلَّ ما فيها من الحقائق الجزئية، وأن نُقرِّب الشبَهَ بينها وبين الرياضة لظفرنا بما نريد. هذا ما كان يطمح إليه فيثاغورس العصر الحديث.
«لا تتألَّف الرياضيات البحتة إلا من القول بأنه إذا صحَّ فرض مُعين كائنًا ما كان عن أي شيء، ففرْض مُعيَّن آخر صحيح عن كل ذلك الشيء، ولا يعنينا أن يكون الفرْض الأول صحيحًا حقًّا، أو أن نذكُر الشيء الذي زعمنا صحَّة الفرض بالنسبة إليه، وإذن فيُمكننا أن نُعرِّف الرياضة بأنها العِلم الذي لا نعلم فيه الشيء الذي نتحدَّث عنه كما لا نعلم إنْ كان ما نقوله صحيحًا أو غير صحيح.»
ولكن مما يسترعي النظر أنَّ «برتراند رسل» بعد أن كتَب مجلدات عدة في هذا الاتجاه، هبط فجأة إلى الحياة العملية، وأخذ يحاجُّ بعاطفته القوية عن الحرب والحكومة والاشتراكية والثورة، دون أن يستخدِم في مُحاجَّته منطقه الرياضي، ولا عجَب فالحجَّة يجِب أن تدور حول الأشياء نفسها؛ لكي تعود علينا بما نريد منها، أما الأقوال المجردة فيستحيل أن تصلُح كأدواتٍ للنقاش والجدل، ولو نحن حاولنا ذلك لانتكسْنا إلى مدرسية العصور الوسطى من جديد.
تلك كانت بداية «برتراند رسل» في تفكيره: الرياضة ومنطقها. فأدَّت به تلك البداية إلى خاتمةٍ محتومة من الشك، فقد وجَد في المسيحية كثيرًا مما يستعصي على المنطق الرياضي فنبذَها نبذًا، ولم يُبقِ منها إلا قانونها الأخلاقي، وأخذ يتحدَّث في احتقارٍ وازدراء عن مدنيةٍ تضطهِد أناسًا ينكرون المسيحية، وتزجُّ في السجن كلَّ من يحاسب الدين حسابًا عسيرًا، أما هو فقد نظر في الكون فلم يُسِغْ أن يكون ثمَّة إله في مثل هذا العالم المتناقِض الذي هو جدير أن يكون صنيعة شيطان هازل، وهو يتابع «سبنسر» في رأيه عن نهاية العالم — أعني الفناء والموت — ولكنه يشكُّ فيما قِيل في مذهب التطوُّر من أن العالم سائر إلى الأمام، ويقول إنَّ هذا ما يزعمه الإنسان عن نفسه: «هم يقولون لنا إنَّ الحياة العضوية قد تطوَّرت تدريجًا من الخلية إلى الفيلسوف، ويؤكدون لنا أن هذا التطوُّر تقدُّمٌ لا سبيل إلى الشكِّ فيه، ولكن من سوء الحظ أنَّ من يؤكد لنا هذا الفيلسوف لا الخلية.» أما الرجل الحر فلا يرضى لنفسه أن تسبَح في آمالٍ صبيانية وآلهة تُصَبُّ في صورة البشر، بل عليه أن يصبِر ويثبُت، حتى ولو أيقن أنه والأشياء جميعًا صائرون إلى الموت، وإنَّ له في هذا الكفاح الفكري الظفر والانتصار؛ لأنه إن لم يستفِد به فقد استمتع بلذَّة الجهاد نفسه، وإنه حين يتنبَّأ بخاتمته وهزيمته، فإنما يعلو بنفسه — لما له من عِلم — على القوى العمياء التي ستعمل على هدمِه وفنائه، نعم إنَّ الرجل الحر لن يعبُد قوى العالم الخارجي الغشوم التي تغزوه بمتابعة هجومها، وليستْ تقصد من هجومها إلى غايةٍ معلومة، فهي تقوِّض له كل ما يبني من دُورٍ وكلَّ ما يُشيِّد من مدن، ولكنه سيعبُد ما في باطنه من قوى خلَّاقة مُبدعة، تلك القوى التي لا تني تجاهد وتكافح أسباب الفشل، والتي تمجِّد آيات الجمال التي تبدو في روائع الفنِّ من نحتٍ وتصوير.
تلك كانت فلسفة «برتراند رسل» قبل نشوب الحرب العظمى.
(٢) رسل المصلح
فلمَّا وضَعتِ الحرب أوزارها انفجر «برتراند رسل» الذي ظلَّ هذا الأمَدَ الطويل صامتًا دفينًا تحت أكداس المنطق والرياضة ونظرية المعرفة، وانطلق في العالم كالشُّعلة المندلِعة يخطف الأبصار ويأخذ الألباب، فدُهِش العالم أن يرى تلك الشجاعة النادرة، وذَينك الحب والعطف للإنسانية من ذلك الأستاذ الذي تراه العَين نحيلًا، عليلًا، فلقد تفتَّح من المنطقي رجلُ عِلمٍ أخذ يصبُّ على أعلام الساسة في وطنه سيلًا دافقًا من المهاجمة والنقد، حتى طُرِد من كُرسيه في الجامعة وحُصِر — كأنه «جاليليو» آخر — في حيٍّ ضيِّق في لندن، ولئن شكَّ بعض القوم في سلامة حكمته فلم يَرتَبْ أحد في إخلاصه. غير أنهم جميعًا — إذ صُعِقوا بذلك التحوُّل العجيب في شخصية الرجل — قاوَموه بتعصُّبٍ ذميم لا يتَّفِق مع النزعة البريطانية أبدًا، وهكذا قضي على هذا الرجل المُحبِّ للسلام، والذي زجَّ بنفسه في المعركة الحامية، أن يحيا طريد المجتمع كأنه مجرم شريد، وهو ما هو في نَسَبه النبيل، فقد أنكره الناس كخائنٍ للوطن الذي تربَّى فوق أرضه.
غير أنَّ وراء هذه الثورة المُتأجِّجة، كان يكمُن في نفسه شيء من الجزَع لما كان يشهد في العالم من صراع وقتال، فقد كان «برتراند رسل» — الذي حاول أن يكون عقلًا صِرفًا غير مجسَّد — مجموعةً من المشاعر، وبدتْ له مصالح الإمبراطورية كلها غير جديرة بأرواح الشباب الذين شهدهم يسيرون في زهوٍ إلى حَومة الوغى ليُقْتَلوا ويموتوا، فبدأ يفكر في وسيلة الخلاص، وما لبث أن وجد في الاشتراكية — وقد حلَّلها تحليلًا دقيقًا — ما يصِف عِلَلَنا الاقتصادية والسياسية، وما يدلُّ على العلاج، نعم فالدَّاء هو المِلكيَّة الخاصة والدواء هو الاشتراكية.
ولمَّا كانت الملكية الخاصة تحميها الدولة، والسرقات التي تتألَّف منها المِلكية يقدِّسها التشريع، وتؤيدها الأسلحة والحروب، فالدولة شرٌّ عظيم، وخير لنا إذن أن نسلُبها معظم وظائفها لنلقي بها إلى نقابات التعاون وإلى المُنتجِين.
إنَّ المجتمع عامل قوي على هدم شخصية الفرد وسحقها، فالحرية هي الخير الأسمى؛ لأنها السبيل الوحيد إلى صيانة تلك الشخصية، فلقد تعقَّدت الحياة وتعقَّد العِلم، حتى أصبحنا لا نستطيع أن نسلك طريقنا إلى الحقيقة وسط ما يحيط بنا من أغلاط وأوهام إلَّا بالنقاش الحُر، فمن صالح الناس أن يختلفوا في الرأي، بل إنَّ واجِب المُعلِّمين أن يدبَّ بينهم هذا الخلاف وأن يشتد، لعلَّه يُنْتج لنا رأيًا ناضجًا ذكيًّا يزيد من حكمة الإنسان فلا يعود سريع الاستجابة لدعوة الحرب والقتال؛ لأنَّ الحروب ترجع إلى حدٍّ كبير إلى الآراء الجامدة والعقائد الموروثة، فستجيء حرية الفكر والقول كالسَّيل الدافق يُطهِّر العقل الحديث من أوهامه وخُرافاته.
ذلك أنَّنا لم نبلُغ من التعليم إلى الحدِّ الذي نتوهَّمه، فنحن قد بدأنا تجربة تعميم التعليم، ولم يتَّسع أمامها الوقت بعدُ لتؤثِّر أثرها العميق في طرائق تفكيرنا وفي حياتنا العامة؛ لأننا لا نزال مُبتدئين من حيث أسلوب التفكير. ومن العجيب أنَّنا لا نعمل على إصلاح ذلك في تربيتنا لأبنائنا، فنظنُّ أن عملية التربية لا تعني أكثر من تحويل كميةٍ مُعيَّنة من معرفةٍ مُسلَّم بصحتها إلى الرءوس، في حين أنها يجب أن تكون تطورًا وتقدمًا لطريقة العقل العلمية، حتى تصبح عادةً مغروسة، فإنَّ أميز ما يُميز الرجل الغبي الجاهل هو سرعة تكوينه للرأي العام، وإطلاقه بغير تحفُّظ، مع أنَّ العالِم ينبغي أن يكون بطيئًا في قبوله لرأيٍ ما، وأن يكون معتدلًا متحفظًا في الأخذ به، فلو استخدَمْنا العلم والطريقة العلمية في تربية أبنائنا لأنشأنا فيهم ذلك الضمير العقلي الذي لا يعتنق الرأي إلا بمقدار ما تحتَ يدَيه من الشواهد والأدلة، والذي لا يتحرَّج عن الظنِّ بإمكان خطأ هذا الرأي، فبهذه الوسائل تُصبِح التربية أنجع علاجٍ لأمراضنا، وتُنشئ من أبناء أبنائنا الرجال والنساء الجديدين الذين ينتجون المجتمع الجديد المنشود، فإنَّ للتربية قدرة على تشكيل النشء كما تريد، فهي تستطيع مثلًا أن تميل بالناس إلى الإعجاب بروائع الفن أكثر من إعجابهم بالمال، كما كانت الحال أيام النهضة الأوروبية، وبذلك تفِلُّ من هذه الرغبة الحادَّة في الامتلاك والثراء. هذا هو مبدأ النمو الذي نتيجته اللازمة قاعدتان ينبغي أن تكونا أساسًا لأخلاقنا الجديدة؛ الأولى: ألا نضع من الحوائل ما يعوق حيوية الأفراد والجماعات، بل نعمل على السموِّ بها ما استطعْنا إلى ذلك سبيلا. والثانية: ألا يكون نموُّ الفرد أو الجماعة على حساب فردٍ آخر أو جماعةٍ أخرى.
إنه لا يستحيل على الإنسان شيء لو تطوَّر نظام مدارسنا وجامعاتنا تطوُّرًا يلائم الغرض المنشود، ولو كانت تديرها أيدٍ قادرة على السير بها نحو الكمال، فتوجِّهها — على هدى — إلى إصلاح الأخلاق البشرية وتقويمها. ذلك هو سبيل النجاة ممَّا ينتاب العالم من جشعٍ اقتصادي ووحشية دولية، ثم لا حاجة لنا بعد ذلك إلى الثورة العنيفة، أو إلى تشريعٍ مسطور على ورق. لقد بلغ الإنسان حدًّا أصبح معه سيدًا على أنواع الحياة الأخرى؛ وذلك لأنه أنفق في نموِّه وتربيته وقتًا طويلًا مما أنْفَقَت. فلو هيَّأنا لتربيته وقتًا أطول من هذا، ثم استغلَلْناه بحكمةٍ أوفر، فربما استطاع الإنسان آخِر الأمر أن يُسيطر على نفسه أيضًا، وأن يعيد خلقَها من جديدٍ على نحوٍ أقربَ إلى الكمال، فدَور التعليم هي مفتاح المدينة الفاضلة.
خاتمة
نخشى أن يكون «برتراند رسل» قد أسرَف في التفاؤل، ولو أنَّنا نؤثر الخطأ في جانب الأمل على الخطأ المُرجِّح لكفة اليأس والقنوط، وذلك أنه لا يُمحِّص نظرياته في الاقتصاد والسياسة بالدقَّة التي كان يدرُس بها في أول حياته الرياضة والمنطق، والتي كان ينشدها ويعبُدها، فلقد ساقَه حبُّه «للكمال أكثر من الحياة» إلى تصوُّرٍ رائع قد نحب أن نستخدِمه طُرفة شعرية تخفِّف من عبء الحياة، ولكنها لا تصلُح أداة علاج لمشكلات الحياة، فنحن نغتبط مثلًا أن يشهد العالم جماعةً تُؤثِر الفنَّ على الثراء كما كان يرجو، ولكن ما حيلتُنا ونشأة الأمم وسقوطها، والانتخاب الطبيعي للجماعات، أساسها جميعًا القوة الاقتصادية لا القوة الفنية؛ إذ القوة الاقتصادية دون الفنية هي التي تقوى على البقاء، فطبيعي أن تجِد من الناس أشياعًا لها. أما الفنُّ فلا يكون إلا زهرة تتفتَّح على تربةٍ من الثروة والمال، ولكنه يستحيل أن يكون لهما بديل يُغني عنهما، لقد جاءت أسرة «مديتشي» الثرية أولًا فتبِعها «ميخائيل أنجلو» الفنان.
ولكن ما حاجتنا إلى تلمُّس الأخطاء في هذا الحلم الجميل الذي أخذ به «برتراند رسل» يومًا ما وتجربته الشخصية كانت أقوى ممَّن هاجمه من النقَّاد؟ فلقد اصطدم في الروسيا وجهًا لوجه بمجهودٍ جبار يُنفَق لخلق جماعةٍ اشتراكية، ورأى كيف تكون الصعاب التي تعترِض مثل هذه التجربة، حتى كاد إيمانه في إنجيله الجديد يتقوَّض من أساسه، إذ خاب رجاؤه حين وجد أنَّ الحكومة الروسية ليس في مُكنتها أن تخاطر بديمقراطية متطرِّفة، وهي ما كان يحسبها بدهية تُبنى على أساسها الفلسفة الحرة، وقد ساءه أشدَّ الإساءة أن يرى حرية الكلام مكبوتة والصحافة مُلجَمة، وراعَه هذا الاحتكار من الحكومة لكلِّ وسائل الإعلان حتى اغتبطت لجهل الشعب الروسي وأُمِّيته؛ لأن معرفة القراءة في مثل هذا العصر الذي أُلجِمت فيه الصحافة وخضعت لسلطان الحكومة تعُوق الوصول إلى الحقيقة. ثم راعه ألا يقوى مبدأ شيوعية الأرض على مقاومة المِلكية الخاصة (فالملكية في الروسيا سائدة فعلًا، وإن تكن منكورة على الورَق)، حتى أيقن أن طبيعة الناس — كما هم الآن — تأبى عليهم أن يفلحوا الأرض ويزرعوها على نحوٍ مُرْضٍ إلا إذا علِموا أنها صائرة إلى أبنائهم من بعدِهم.
ولقد كان «رسل» أكثر رضًا وأشدَّ اطمئنانًا حين ذهب إلى الصين حيث بقِي عامًا يحاضر فيها، إذ وجدَها أقلَّ آلية وأكثر في خطاها هدوءًا ورويَّة، حتى إنَّ الإنسان ليستطيع أن يجلس ليفكر، وأن تقِف الحياة حينًا ليتمكَّن من تحليلها وتشريحها، وهنالك حيث بحْر الإنسانية خِضَمٌّ زاخر، انفسحت أمام فيلسوفنا آفاق جديدة، إذ تحقَّق أن أوروبا ليست إلا طبلًا أجوف أمام قارةٍ أعظم منها وأقدم وأعمق ثقافة، فاقرأ له هذه العبارة الآتية لترى كيف انحلَّت فلسفتُه وذابت:
«لقد أيقنتُ أن ليس الجنس الأبيض من الأهمية بحيث كنتُ أعتقد، فلو فنِيَتْ أوروبا وأمريكا في الحرب لما استتبع هذا بالضرورة فناء النوع البشري ولا انتهاء المدنية، بل سيبقى بعدئذٍ من الصينيِّين عددٌ عديد، والصين أعظم ما رأيتُ من الأُمَم في كثيرٍ من النواحي، فليست أعظمها من الوجهة العددية والثقافية فحسْب، بل هي عندي أعظمها من الوجهة العقلية أيضًا. فلم أسمع بمدنيةٍ أخرى لها ما للصِّين من وضوح العقل، ومن النزوع إلى الواقعية ومن الرغبة في مواجهة الحقائق كما هي دون محاولة صبغِها بلونٍ مُعين.»
إنه لمن العسير حقًّا أن يتنقل «برتراند رسل» من إنجلترا إلى أمريكا فالروسيا فالهند والصين، ثم تبقى له فلسفته الاجتماعية كما هي دون أن يطرأ عليها التغيير والتبديل. فلقد أقنعتْه الدنيا أنها أعظم من أن يَصبَّها فيما أراد أن يصبَّها فيه من صِيَغ المنطق الرياضي، وأنها واسعة عريضة لا يمكن أن تسير وفق رغباته بالسرعة التي يريدها لها. فكم فوق الأرض من قلوب، وكلها تخفق بمختلِف الرغبات والآمال! وهكذا اضطرته التجارب أن يزداد في حِكمته، ولكنه رغم ذلك كله ما يزال يضطرِم — كما كان — قَلقًا من أمراض المجتمع ورغبةً في إصلاحه، غير أنه تعلم أن الإصلاح الاجتماعي شائك عسير.
ألا ما أعجبَ «رسل»، إنه باحث في أعمق الميتافيزيقا وأدقِّ الرياضيات، ومع ذلك لا تسمعه يتحدَّث إلا في بساطةٍ ووضوح! إنه رجل اتَّخذ لدراسته موضوعًا من شأنه أن يُجفِّف منابع الشعور، ولكنه رغم ذلك مليء بالعطف والرأفة نحو الإنسانية. ومن توفيق الله أنه لا يزال سليمًا قويًّا، ولا تزال شُعلة الحياة تضيء فيه ساطعةً متوهِّجة. فمن يدري؟ لعلَّه فيما يلي من الأيام مُنتج للعالم حكمةً بعد ما أنتجه له من حلم جميل، ولعلَّه مُخلِّدٌ اسمَه بين عشيرته من الفلاسفة الخالدين.
(٥-٤) جورج سنتيانا George Santayana
(١) حياته
كان أول ما كتَبَ في الفلسفة مقالةً في «حاسَّة الجمال» سنة ١٨٦٦م، ولم تنْقضِ بعدَ ذلك سنوات خمس حتى أخرج مؤلَّفًا مُمتعًا في «تفسير الشعر والدين»، ثم لبِث بعد ذلك سبعة أعوام لا يذيع في الناس شيئًا سوى مقطوعاتٍ شعرية ينشرُها الفينة بعد الفينة، ولكنه في خلال تلك الأعوام السبعة كان يكتب أهم مؤلَّفاته ألا وهو: «حياة العقل»، فلم يكد يُخرج إلى الناس هذا الكتاب بمجلَّداته الخمسة: «العقل في الإدراك السليم، العقل في الجماعة، العقل في الدين، العقل في الفن، العقل في العلم»، حتى ارتفع «سنتيانا» من فوره إلى منزلةٍ رفيعة عند خاصَّة المُشتغلين بالفلسفة وإن لم يذِعِ اسمُه بين الكافة من القُرَّاء، وإنك لترى هذا الرجل ينظُر في كبرياء إلى حياتنا الضئيلة، فينطق للناس بفلسفةٍ تَسحَق أحلامهم سحقًا في منطقٍ هادئ رزين، وبعبارةٍ قويةٍ رائعة، فما نحسَب أنْ قد تهيَّأ للفلسفة منذ عهد «أفلاطون» من جودة الصياغة ما أُتيح لها على يدي «سنتيانا» ألا ما أجلَّ رجلًا تلتقي فيه روعة الجمال وصيحة الحق.
اطمأن «سنتيانا» بعدئذٍ إلى ما نال من شهرة، وقنع بإنتاج قليل من الشعر والمؤلَّفات الثانوية يخرجها الحين بعد الحين، وغادر هارفارد إلى إنجلترا ليقضي فيها بقية عمره، فظنَّ الناس أن قد انتهت رسالة «سنتيانا»، ولكن ما أشدَّ عجَبهم حين كانت سنة ١٩٢٣م، فنشر مؤلَّفًا قيِّمًا في «الشك وإيمان الحيوان»، وأعلن أن هذا الكتاب مُقدِّمة لنظامٍ فلسفي جديد. إنَّنا سنبدأ في عرض فلسفته بهذا الكتاب الأخير، إذ هو الطريق إلى فهم فلسفته كلها.
(٢) الشك وإيمان الحيوان
أراد «سنتيانا» في هذا الكتاب أن يمحو بادئ بدءٍ نسيج العناكب الذي نسجتْه نظرية المعرفة، فوقفتْ به حجر عثرة في سبيل الفلسفة الحديثة لا تأذن لها بالنمو والتقدُّم. نعم ينبغي له أن يمحو ذلك النسيج قبل أن يشرَع في بناء «حياة العقل»، فأخذ يبحث أولًا في نشأة العقل البشري وحدوده؛ لأنه يعلم أنَّ أسوأ ما يزلُّ فيه الفكر هو أن يقبل الآراء التقليدية قبولًا أعمى، ولذا فهو يبدأ بالشكِّ فيقول: يصِل إلينا العالم الخارجي خلال الحواس، فيمتزِج بصفاتها وخصائصها، كذلك إذا ذكر الإنسان الحوادث الماضية استعان بذاكرته، والذاكرة تؤثِّر فيها الرغبة فتلوِّنها كما تشاء، وإذن فالعالَم كما يبدو لنا، والماضي كما نذكُره قابلان للشك، أما ما يثِق بصحته «سنتيانا» ولا يشكُّ فيه فشيء واحد هو الإدراك الآني، أي الإحساس الذي يستقبله الشخص في لحظةٍ ما، فهذا اللون وهذه الصورة وذلك الطعم وتلك الرائحة، كل هذه وما شاكَلَها هي العالَم «الحقيقي».
يقول «سنتيانا»: إنَّ المذهب المثالي صحيح لا غبار عليه، ولكنه لا ينتهي إلى نتيجةٍ ذات خطر، نعم نحن نعرِف العالَم بوساطة أفكارنا فقط، ولكن ما دام العالم بدا خلال الأجيال السالفة كلها، وكأنه يسير وفق إحساساتنا التي نُدركها عنه — أعني أنَّ الدلائل كلها قائمة على أن إحساس الإنسان صحيح، ولا يختلف عمَّا يبدو في العالَم الخارجي — فيحقُّ لنا إذن أن نقبل فلسفة البراجماتزم كما هي.
إنَّ عقيدة الإنسان قد تكون خُرافية، ولكن هذه الخرافة نفسها خيرٌ ما دامت الحياة تصلح بها وصلاح الحياة خير من استقامة المنطق، أي إنَّ الخرافة أفضل لنا من القياس المنطقي الصحيح إذا كانت الحياة تُصلحها الخرافة أكثر مما يقوِّمها ذلك القياس. إنَّ كثرة الشكِّ في صحة ما تأتي به التجربة الحسِّية قد أدَّى بالفلاسفة الألمان — الذين بالَغوا في ذلك الشك مُبالَغة فيها كثير من الإسراف — إلى حدِّ المرض، فكانوا في محاولتهم التخلُّص من ذلك الخطأ الموهوم، كالمجنون يُنفِق عمره في غسل يدَيه من لوَثٍ يتوهَّمه وليس له وجود، ومن العجيب أنَّ هؤلاء الفلاسفة أنفسهم الذين يبحثون عن العالم في باطن عقولهم يعيشون في حياتهم العملية كما يعيش سائر الناس، أي على اعتبار أنَّ العالم الحِسِّي موجود، فهم إذن يعترفون في حياتهم اليومية بما أنكروه في فلسفتهم.
(٣) العقل في العِلم
ليس العقل عدوًّا للغرائز، بل إنه ليُعينها في توفيقٍ ونجاح، والعقل فينا عبارة عن الطبيعة قد بلغَتْ مرتبة الإدراك، فهي إذ تستهدي به إنما تسترشد بضوء نفسها في تَبيُّن طريقها، ومعرفة الغاية التي تسعى إليها. إن العقل هو ازدواج جميل بين الحافز الذي يدفع والفكر الذي يفهم، ولو انفرَطَ ما بين هذَين العنصرين من رباطٍ لانقلب الإنسان وحشًا ضاريًا أو مجنونًا لا يعي العقل هو «تقليد الإنسان لله»، ويُقيم «سنتيانا» كتابَه في «حياة العقل» على العِلم؛ إذ في العِلم من ألوان المعرفة ما يُوثَق بها ويُركَن إليها. نعم إنه يعلم مقدار ما في العقل من ضعف، وما في العِلم من وهن، ولكنَّه رغم ذلك يُصرُّ على أن يكون العِلم عمادنا الوحيد الذي نثِق به، وهكذا صمَّم «سنتيانا» أن يفهم الحياة، شاعرًا بما شعَر به «سقراط» من أنَّ الحياة بغَير بحثٍ ليست جديرة بالإنسان. فينبغي أن نضع في ضوء العقل كلَّ نواحي التقدُّم الإنساني، وكل ما يتَّصِل بالإنسان من تاريخ.
و«سنتيانا» مُتواضع لا يقدِّم للناس فلسفة جديدة، بل يريد فقط أن يطبق الفلسفات القديمة على حياتنا الحاضرة معتقدًا أنَّ الفلاسفة الأقدَمين هم خير الفلاسفة جميعًا، وعلى رأس هؤلاء «ديمقريطس» و«أرسطو» فهو يمتدِح في الأول نزعته المادية الواضحة، وفي الثاني رزانته وحكمته … أخذ «سنتيانا» من «ديمقريطس» مذهبه الذَّرِّي، ومن «أرسطو» نظريته الأخلاقية في الأوساط، وبهذَين السلاحَين واجه مشكلات الحياة الحاضرة، وهو يقول في نزعته المادية:
«إنَّني في الفلسفة الطبيعية مادي صميم، ولكنِّي لا أزعم أنَّني أعرف ما المادة في ذاتها، فعلى رجال العِلم أن يُنبئوني بهذا، ولكن مهما تكن المادة فأنا أسمِّيها مادة بكلِّ جرأة، كما أُسمِّي أصدقائي «سمث» و«جونز» إلخ دون أن أعرِف أسرارهم.»
ولا يسمح «سنتيانا» لنفسه باعتناق الحلولية، التي ليست في رأيه إلا مهربًا من الإلحاد، فنحن لا نُضيف إلى الطبيعة شيئًا حين نُسمِّيها «الله»، ولكنَّا مع ذلك نقرأ في شعر «سنتيانا» أن العالَم الذي لا ربوبية فيه يكون موحِشًا لا لذَّة فيه ولا متاع، وهو يسائل نفسه: لماذا كان الضمير الإنساني دائم الثورة على الطبيعة متمسِّكًا بالغَيب الخفي؟ أذلك لأنَّ النفس قريبة الشبَه بما هو مِثالي خالد، فهي لا تقنع بالموجود بين يدَيها وتطمع في حياةٍ أفضل؟ هل تُحزنها فكرة الموت فتعلِّق رجاءها في قوة خفية تكتسب بها الدوام والخلود وسط هذه الحركة المتدفِّقة والتغيير الذي يُحيط بها؟ يُجيب «سنتبانا»: «إني أعتقِد أن ليس ثمة شيءٍ خالد، لا شكَّ أن روح العالم وطاقته هما اللذان يعملان فينا، كما أنَّ البحر هو الذي يرتفع في كل موجةٍ صغيرة، إنَّ الحياة ستمضي في طريقها خلالنا غير آبِهةٍ بصياحنا، وكل ما نمتاز به هو أنَّنا نُدركها وهي ماضية.»
الحياة كلها مادية آلية، فليس يُحرِّك الجسم الإنسانيَّ إدراكٌ عقلي، بل حرارةٌ تستخدِمها الرغبات والدوافع في التأثير على المخِّ والجسد، وإذن فليس الفكر أداة العمل، ولكنه مسرح تنطبع فيه صور التجارب، ومستودعٌ نُخزِّن فيه ما يسرُّنا من الأخلاق وضروب الجمال.
انظُر إلى أيِّ حدٍّ من النزعة المادية ذهب هذا الفيلسوف! أليس من العجيب أنَّ رجلًا مثل «سنتيانا»، وهو المفكر الرقيق والشاعر المُتخيِّل، يُغَلُّ عنقه بهذه الأثقال من فلسفةٍ مادية جاهدت قرونًا طويلة، ثم انتهت واهنةً ضعيفة كما بدأت؟ فهي فلسفة تعجز أن تفسِّر ازدهار الزهرة أو ابتسامة الطفل! وإنَّ من حقِّنا أن نسائل «سنتيانا»: إذا لم يكن للإدراك تأثير على الجسم في حركته، فلماذا تطوَّر ونما، ولماذا يحيا في عالم لا يلبَثُ أن يسحَقَ ما لا ينفع للحياة ويمحُوَه من الوجود؟ إنَّ الإدراك أداة للحُكم، وظيفته الحيوية أن يستجيب للمؤثرات الخارجية، ولسنا بشرًا إلا بهذا الإدراك وحدَه، ولقد يكون في تفتح الزهرة وابتسامة الطفل من سرِّ الكون ما لا يتوفَّر في أية آلةٍ سارت في يابس، أو سبحت على ماء، وإنه لخير لنا أن نفسر الطبيعة بالحياة من أن نصُوغها في عبارة الموت.
ولكن «سنتيانا» لم يُرضه هذا، فقد قرأ «برجسون»، ثم انصرف عنه مُستخفًّا بفلسفته.
«ما هذه الغاية الخالقة المبدِعة (التي يقول بوجودها برجسون) والتي لا بدَّ لها أن تنتظر الشمس والمطر لتبدأ عملها؟ ما هذه الحياة التي تنمحي في الفرد إذا ما أصابته رصاصة؟ ما هذا الدافع الحيوي الذي يمحوه من الوجود أقلُّ هبوطٍ في درجة الحرارة؟»
(٤) العقل في الدين
طرح «سنتيانا» العقيدة الدِّينية جانبًا، ولكنه ما فتئ يُحبُّها ويقدِّرها، كما قد يُحب الرجل المرأة التي خدعته: «إنَّني أُصدِّق المذهب الكاثوليكي، ولو أنَّني أعلم أنه كاذب.» وهكذا نرى «سنتيانا» يأسَف لإيمانه المفقود، إذ يعتقد أن الإيمان «غلطةٌ جميلة أكثر ملاءمة لنوازع النفس من الحياة نفسها.»
ويلاحظ «سنتيانا» أن الشعب الألماني — ويسميه برابرة الشمال — لم يدينوا قط بالديانة المسيحية الصحيحة، فسادت فيهم أخلاق غير مسيحية، إذ سادت القوة وحب الشرف، استمدُّوها من أصلٍ غير مسيحي — من العاطفة والخرافة والأساطير — كذلك عُوف هؤلاء التيوتون بمزاجهم الحربي الذي ينافي الميل الشرقي إلى السلام، كما أنهم بدَّلوا المسيحية من ديانة الحبِّ الأخوي إلى الصفات التي تعمل على النجاح الدنيوي، ومن ديانة الفقر إلى ديانة القوة والثراء، ويرى «سنتيانا» أن لا شيء يعدل في جماله المسيحية على شرط ألا تُفهَم بتفسيرها الحرفي وإلا لكانت متناقضة.
(٥) العقل في المجتمع
المشكلة الكبرى التي على الفلسفة أن تجد لها حلًّا هي أن تحمِل الناس على الفضيلة دون أن تُثير فيهم مخاوف الغيب وآماله، ولقد حُلَّت هذه المسألة حلًّا نظريًّا على يدي «سقراط»، ثم على يدي «سبينُوزا»، فكِلا هذَين الفيلسوفَين قدَّم للعالم نظامًا كاملًا من الأخلاق، فإذا أفلحْنا في حمْل الناس على اتباع أي الأخلاقين في حياتهم العملية لتمَّ للفلسفة ما تُريد، ولأصبح الناس كلهم في سعادةٍ وخير. ولكن من العسير على الناس أن يعيشوا وفقَ تلك المُثُل الأخلاقية التي ستظلُّ — فيما يظهر — ترفًا عقليًّا للفلاسفة لا أكثرَ ولا أقل، فلننشُد إذن رقُيَّنا الأخلاقي في غير هذه السبل. لننشُده في تنمية العواطف الاجتماعية التي تزدهِر في ظلال الحب.
فلقد أصاب «شوبنهور» حين قال إن الحبَّ خداع الجنس للفرد، فإنَّ «تسعة أعشار الدافع إلى الحبِّ كائنةٌ في المُحِبِّ.» وكذلك كان على حقٍّ حين قال إنَّ الحبَّ يصهر نفس الفرد ويدمجها في تيَّار الجنس، ولكن إذا كان في الحبِّ أعظم تضحية يقوم بها الفرد ففيه كذلك أتمَّ سعادة. ولقد رُوِي عن «لابلاس» أنه قال وهو على فراش الموت: إنَّ العلم أمر تافِه، وأن ليس ثمة من حقيقةٍ سوى الحب. فليكن في الحب ما فيه من خداع، ولكنه ينتهي في العادة بصِلةِ القُربى بين الوالد والولد، وهي صِلة تُرضي الغرائز البشرية أكثر جدًّا مما في حياة العزوبة من أمنٍ وهدوء، فالأبناء هُم خلودنا، وليس أرضى لنفوسنا من أن نرى (مَتن) الحياة الخالدة قد ظهر في «نسخة» أخرى أفضل من الأولى.
والأسرة هي السبيل إلى دوام الإنسانية، ولذا فهي أصل التقاليد بين الناس، فهي وحدَها كفيلة بدوام الجنس، ولكن المدنية لا ترقى على يدي الأسرة وحدَها إلا بدرجةٍ محدودة، ثم تحتاج المدنية لاطِّراد تقدُّمها إلى نظامٍ أشمل لا تكون الأسرة فيه هي الوحدة، وأعني بذلك الدولة، ولقد تكون الدولة وحشًا طاغيًا كما قال عنها «نيتشه»، ولكنَّ هذا الطغيان الذي يركَّز في هيئة واحدة يسحَقُ كل ضروب الطغيان الأخرى التي أزعجتِ الحياة قبل تكوين الدولة، ومن هنا نشأت الوطنية في الناس؛ إذ يعلمون أن ما يدفعونه للحكومة من ثمنٍ أقلُّ من تكاليف الفوضى، ولكن «سنتيانا» لا يفوته هنا أن يلاحظ أنَّ هذا الضرب من الوطنية له ضررُه الجسيم، فهو يَصِمُ دُعاة الإصلاح والتغيير بوصْمة الخيانة، مع أن حبَّ الفرد لبلاده حبًّا صحيحًا ينبغي أن يتضمَّن رغبته في تغيير حالتها الراهنة ليسير بها نحوَ مثلِها الأعلى.
وينتقل «سنتيانا» بعد ذلك إلى الحروب وما تجرُّه على الإنسانية من وَيلات، ويرى أنَّ «الألعاب الأولمبية» التي تهيِّئ ميدانًا للتنافُس بين الدول ربما أفادت في محوِ الحروب، ويميل «سنتيانا» إلى نظام الأرستقراطية، إذ يرى أنَّ ما عرَفه العالم من ثقافةٍ هو ثمرة ذلك النظام. فليست المدنية إلا انتشار عاداتٍ نشأت عند الأفراد الممتازين، ثم فرضت نفسها على الناس فرضًا. وإن دولة تتألَّف كلُّها من العمَّال والمزارعين — كما تتألَّف الأمم الحديثة — لَدولةٌ متأخِّرة غاية التأخُّر، تموت فيها كل تقاليد الحرية. «فسنتيانا» يكرَه المساواة، ويوافق «أفلاطون» «بأن المساواة بين غير المتساوين هي لا مساواة.» ولكنه حين يحبِّذُ الأرستقراطية لا يفُوته أنَّ التاريخ قد جربَّها، فوجد لها من العيوب ما يتعادل مع فضائلها، فهي تسدُّ الطريق دون نبوغ أفراد الشعب ولا تسمح إلَّا للنبوغ العريق، فالنظام الأرستقراطي يخدُم الثقافة، ولكنه كذلك يخدُم الطغيان، وهو إنْ هيَّأ الحرية لعددٍ قليلٍ فإنه يقضي بالعبودية على الملايين، إنَّ أفضل نظامٍ سياسي هو ما يُهيِّئ الفرصة لكل فردٍ في المجتمع أن يُنمِّي ملكاته وقواه، فالديمقراطية من هذه الناحية تفضل الأرستقراطية، ولكن لكل فردٍ في المجتمع أن يُنمِّي للديمقراطية أيضًا شرورها، فهي تجرُّ وراءها الفوضى والفساد، وهي فضلًا عن ذلك تتميَّز بطغيانٍ خاص بها ألا وهو عبادة المساواة والتمسُّك بالتشابُه التامِّ بين الأفراد، وهذا الضرب من الطغيان خبيث ممقوت يقضي على كل تجديد، ويسحَقُ كلَّ عبقرية.
يوازن «سنتيانا» بين الأرستقراطية والديمقراطية فيفضِّل الأولى قائلًا: إنَّ الحكمة دون الحرية هي الخير الأسمى، ولكن هل نقبل الأرستقراطية على إطلاقها؟ إنما يريد «سنتيانا» أرستقراطيةً غير وراثية، فيتولَّى الحكم ذوو الكفاية والشرَف، وهو ما يُسمَّى «بالتيمقراطية»، فيفسح المجال لكل رجلٍ أو امرأة إذا أبدى أو أبدت كفايةً ممتازة، فلَهُ أو لها أعلى مناصب الدولة، فالمساواة التي تسود عندئذٍ بين الناس هي الفرصة التي تُهيَّأ لكلِّ فردٍ ليُبرِز شخصيته، في مثل هذه الحكومة ينحصِر الفساد في أقلِّ حيزٍ ممكن، ويزدهِر العِلم والفن بما يجدان من تشجيع.
إنَّ التآلُف بين الأرستقراطية والديمقراطية إذن هو ما ينشُدُه العالم لينجو مما هو فيه من الفوضى السياسية، فلا ينبغي أنْ يحكُم إلَّا الأفضلون، ولكل إنسانٍ فرصة أن يكون بين هؤلاء الأفضلين إن كان جديرًا بها، وهكذا نرى أفلاطون يتحدَّث من جديدٍ على لسان «سنتيانا»، فليس هنالك فلسفة واحدة ترمي ببصرها إلى الأفق البعيد دون أن تنادي بوجوب تسليم الحُكم إلى «الملوك الفلاسفة» الذين نادى بهم «أفلاطون» في جمهوريته، وإنه ليتَّضِح من هذا أنَّنا كلَّما أمعنَّا الفكر في الموضوعات السياسية عُدنا إلى «أفلاطون»، فكأنَّ العالم في الحقيقة لا تعوزه فلسفة جديدة إنما تنقُصه الشجاعة وحدَها ليُنظِّم حياته وفقَ أقدم فلسفةٍ وأفضلها.
(٥-٥) وليم جيمس William James
(١) البراجماتزم
لبثت الفلسفة دهرًا طويلًا تسبَح في سماء الفكر المجرَّد، ولا تُصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعجُّ بأصدائها أرجاء الأرض جميعًا، ولا تحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلًا، فقد قصرت مجهودها في الأعمِّ الأغلب على جوهر الأشياء في ذاتها وأخذت تُسائل: ما المادة وما الرُّوح وما مبعثهما؟ ولكنها باءت بعد طول الكدْح والعناء بالفشَل والإفلاس، حتى جاءت هذه الفلسفة الأمريكية التي تمقُتُ البحث النظري المُجدِب العقيم، وأرادت أن تنحوَ بالفكر نحوًا جديدًا، فلا يكون من شأنه كُنْه الشيء ومصدره، بل نتيجته وعقباه، وكان «وليم جيمس» هو أول من صاغ هذا المذهب. ولقد اعترَف «جيمس» أنه استمدَّ أصول مذهبه وقواعده من أشتاتٍ قديمة، وأن له فضل الصياغة والتعبير، أما رسالته التي قصد إلى أدائها بمذهبه، فهي في أوجز عبارةٍ أن يتَّخِذ الإنسان من أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولًا، ثُم على السير بالحياة نحو السموِّ والكمال ثانيًا.
إنه لمن الغفلة والشطَط أن نُؤتَى هذه القوة العقلية، فنُبدِّدها في البحث عما وراء الطبيعة من قوى ممَّا لا غناء فيه للإنسان ولا رجاء، إنَّ العقل إنما خُلق ليكون أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فلينصرِف إلى أداء واجبه، وليضرب في معمعان الحياة العملية الواقعة، فليست مهمته أن يُصوِّر بريشته عالم الغَيب المجهول الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب، ولكن مقياسه الذي يفصِل به بين الحق والباطل هو مقدرة الفكرة المُعينة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العملية، فإنْ تضاربت الآراء وتعارضَت كان أحقَّها وأصدقَها هو أنفعها وأجداها، ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلًا على فائدته، وكل شيءٍ يؤثِّر في الحياة تأثيرًا منتجًا يجِب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة بغضِّ النظر عن مطابقته لما يخلُقه الفكر المجرد من معايير، إذ لا يعوِّل مذهب الذرائع إلا على النتائج وحدَها، فإن كان الرأي مُثمرًا نافعًا قبِلْناه حقيقة، وإلا أسقطْناه من حسابنا وعددْناه وهمًا باطلًا.
والواقع أنَّ معظم الناس يتَّبِعون في حياتهم العملية أصول هذا المذهب، فهم ينتقُون لأنفسهم من الآراء ما يُعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل على رُقيِّ الإنسانية وتقدُّم البشر بصفةٍ عامة. خُذ العقيدة في الله مثلًا، فالأكثرية العُظمى تأخُذ بها، لا لأنَّ الدليل قاطع بوجوده (فذلك أبعدُ عن متناوَل الدهماء)، ولكن لأنها ترى أنَّ هذه العقيدة تبثُّ في حياة الناس روحًا قوية، وتُفسِح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسِم، والذي لولاه لضِقْنا ذرعًا بفداحة عبئها، فليس منَّا من لا يقيس الآراء بظروف عيشه، ثم يختار منها أنسبَها له وأفعلَها في أداء مهمَّته، فسلوكنا العملي هو الذي يوجِّه أفكارنا، وليستْ أفكارنا هي التي توجِّه أعمالنا. ولقد قال «موسوليني» يومًا إنه يدين «لوليم جيمس» بكثيرٍ من آرائه السياسية، وإنه بتأثيره لا يحتكِم في سياسته إلى نظريات العقل المجرَّد، إنما يسلك من السُّبل ما يراه أقومَ وأدنى إنتاجًا، وإن «نيتشه» ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه، فيُقرِّر أنَّ الباطل إذا كان وسيلةً ناجعة لحفظ الحياة كان خيرًا من الحقيقة، فبطلان الرأي لا يمنع قبولَه إذا كان عاملًا من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع، فلرُبَّ أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجرَّدة العارية، انظُر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي، فيطوِّح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكَّم عقله المجرد لما فعل، انظُر كم يبذُل الآباء والأمَّهات من مجهودٍ في سبيل أبنائهم ولو استرشدوا العقل وحدَه لآثروا أشخاصهم ولضنُّوا على الأبناء بأي بذلٍ أو عطاء، ولكنَّنا لحُسن الطالع ذرائعيُّون بالفطرة فنعتنِق من الآراء أحفظها للحياة، ولولا ذلك لظلَّت الإنسانية في حيوانِيَّتها الأولى لا تتقدَّم ولا تسير، ولا يقتصر الأمر في ذلك على عامة الناس، بل إن أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفةٍ كبيرة من الآراء التي تُعين على المضي في بحثهم، دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساسًا لأبحاثهم، فلا يدري العِلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الطاقة وما الكهرباء؟ ولكنه يفرِضها؛ لأنها تُعينه على أداء مهمَّته، وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع (البراجماتزم)، فيكفي لأنْ تكون تلك الآراء صحيحة أنها تُوجِّهنا في حياتنا توجيهًا صحيحًا، فلا يَعنينا في كثيرٍ أو قليل أن نعلَمَ ما هي الكهرباء في ذاتها ما دُمنا نستطيع أن نستخدِمها، فحسبُنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمَلُه وما تؤدِّيه، وعلى هذا النحو يُمكنِنا أن نتخلَّص من أعوَصِ المسائل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائلٍ. فلندعْ جانبًا كل بحثٍ عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبُنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فإنْ لم يكن لها آثار فيما نُصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظًا جوفاء لا تحمِل من المعنى شيئًا.
وهكذا يريد مذهب الذرائع (البراجماتزم) أن تكون كلُّ فكرةٍ وسيلةً لسلوكٍ عملي مُعين، أعني أن تكون الفكرة تصميمًا لعملٍ يقوم به الإنسان، أو لا تكون على الإطلاق، فالفكرة التي تحيا في الذهن وحدَه ليست جديرةً بهذا الاسم، ولا خير فيها إلا إن كانت مرشدًا للإنسان في حياته وسلوكه، فيكون مثلها مثل اللون الأحمر أو الأخضر على السكة الحديدية يراهما سائق القطار، فيوجِّهان تصرُّفه توجيهًا مُعينًا، أو كالعلامات الموسيقية كل قيمتها في توجيه حركات الموسيقيِّ، فإنْ لم تُفِد ذلك كانت عبثًا صبيانيًّا لا يعني شيئًا. فيجِب على هذا الأساس أن تكون كلُّ فكرةٍ في أذهاننا مرشدًا عمليًّا يرسُم لنا سلوكنا، ويضع لنا القواعد التي ينبغي أن نسير على مُقتضاها في حياتنا اليومية، أو بمعنًى آخر تكون أساسًا لعادةٍ مُعيَّنة. ففكرة الجاذبية مثلًا معناها محصور في تكوين عاداتٍ مُعينة أستعين بها في سلوكي، فأعرف كيف أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيمًا ملائمًا، فأحمِل كوبَ الماء مثلا وفمُه إلى أعلى، حتى لا ينسكِب الماء بفعل الجاذبية، وأمشي معتدِلَ القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأُشيِّد مسكني مستقيم الجدُر لئلا ينهار بفعل الجاذبية وهلمَّ جرًّا. أما إن كانت حياتي لا تتأثَّر بهذه الفكرة، وكنتُ لا أصادِف لها آثارًا فيما أصادِف من تجارب، كانت في اعتباري وهمًا وخطأ، بغضِّ النظر عن حقيقة وجودها في العالم الخارجي أو عدَم وجودها، فالرأي الصحيح هو ما يُيسِّر لي سبيل الحياة، ويعمل على توفيقها ونجاحها، والرأي الباطل هو ما يفعل عكس ذلك، أو ما لا أرى له أثرًا في الحياة.
وظاهر أنَّ نظرية التطوُّر تؤيد هذا المذهب؛ لأنَّ العقل عندَها ليس إلا عضوًا كسائر الأعضاء يتذرَّع به الإنسان في تنازُع البقاء، وأنه لو لم يكن العقل أداةً من أدوات البقاء لما وُجِد أصلًا، وإذن فالفكرة التي تنشأ فيه لا تكون صادقةً بمقدار مُماثلتِها للحقيقة الواقعة في الخارج، كلا بل مقاس صدقها هو مقدرتها على إجابة الظروف المُحيطة بنا على النحو الذي يُمكِّن لنا في البقاء. ولتوضيح ذلك نقول: إنه من المعلوم أن الأشياء الخارجية في ذاتها ليس لها ألوان، إنما الألوان من صُنع أعيُننا، ولكنِّي ما دمتُ أستطيع بفكرة اللَّون التي في ذهني — وإن لم تكن موجودة في الخارج — أنْ أُميز الأشياء فأعرِف التفَّاحة الناضجة مثلًا باحمرارها والفجَّة باخضرارها، ففكرة اللون صحيحة صادقة. كذلك قُل في الصوت، فليس للأصوات وجود في الخارج، إنما هي أمواج تقصر حينًا وتطول حينًا، حتى إذا ما قرعَتِ الأذن، ترجمتُها بما نعهد من أصوات، ولكن ماذا يعنيني من عدَم مُماثلة فكرة الصوت في ذهني للأمواج الخارجية في الهواء ما دمتُ أعرف أنَّ هذا الصوت يدلُّ على سيَّارة قادمة، فأنجو بحياتي من الخطر؟ إنَّ فكرة الصوت حقيقية ما دامتْ تعمل على نجاح الحياة كما يُعرِّفها «سبنسر» هي ملاءمة حياة الإنسان الداخلية للظروف الخارجية، وإذن فالعقل الصالح للحياة هو ذلك الذي يُدرك اختلاف الظروف لنعدِّل من سلوكنا بما يلائم الموقف الجديد. وليس يَعنينا بعد ذلك في كثيرٍ ولا قليل أن تكون الصورة الذهنية التي رسمَها لنا العقل عن الأشياء الخارجية مطابقةً لأصلها أو مُشوَّهة مُحرَّفة، فالحقيقة العُليا في الوجود هي الاحتفاظ بالبقاء أولًا، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال، فكلُّ ما يؤدي إلى ذلك هو حقٌّ صريح، وفي ذلك يقول «ديوي» العالم الأمريكي المعروف: إنَّ الفكرة أداة لترقية الحياة، وليس وسيلةً إلى معرفة الأشياء ذاتها، ويقول «شلر»: إن الحقيقة هي ما تخدُم الإنسان وحدَه. وكِلا الرجلَين من دُعاة هذا المذهب.
- فأولًا: يجِب أن يكون للفكرة قيمة فورية Cash Value ومعناها أنَّ الإنسان يجِب أن يشاهد صحة رأيه أو خطأه في تجربته العملية، فإن جاءت هذه التجربة العملية موافقةً للفكرة كانت الفكرة صحيحة، وإلا فهي باطلة.
- وثانيًا: أن تكون الفكرة مُنسجمة مع سائر أفكاري وآرائي، فلا يكفي أن تكون كلُّ فكرةٍ صحيحة على حِدة بالنسبة لقِيمتها الفورية، ولكنها يجِب كذلك ألا تناقض الأفكار الأخرى، فلا يجوز مثلًا أن أفرض نوعًا من الذرَّات في علم الطبيعة، ثم أفرض نوعًا آخر منها في علم الكيمياء، حتى ولو كان كلٌّ منهما صحيحًا في ميدانه الخاص، فإذا وجدْنا أمامنا فكرتَين عن شيءٍ ما، كل منهما صحيح بالنسبة لقيمته الفورية، وجب أن نختار إحداهما على أساس البساطة، فأبسط الفكرتَين أصحهما، فمثلًا لما أتى «كوبرنيك» برأيه الجديد عن الكون يُعارض به رأي «بطليموس» القديم، كانت كِلتا الفكرتَين صادقةً إذا قِيستا إلى ما ينجُم عنهما من النتائج العملية في حياة الناس، ولكن ما دامت فكرة «كوبرنيك» أقلَّ تعقيدًا من الأولى كان لزامًا أن يقع عليها اختيارنا.
- وثالثًا: ولا بدَّ للفكرة بعد هذا وهذا أن تطمئنَّ لها نفس الإنسان، وترضى بها ما دام ذلك لا يتعارض مع القيمة العملية، فالعقيدة الدينية مثلًا — على الرغم من أنَّها ليس لها قيمة فورية في حياتنا إلَّا بمقدارٍ ضئيل — (كذا) إلا أنها واجبة؛ لأنها تخلع على حياتنا صبغةً من التفاؤل، وهي في الوقت نفسه تنسجِم مع الأفكار الأخرى ولا تتعارَض معها، ومعنى ذلك أنه إذا تساوت ظروف فكرتَين، ثم كانت إحداهما تبعث التفاؤل كانت الأولى بالنسبة لنا أصدقَ وأصح. فالمؤمِن والملحِد كلاهما لا تؤثر عقيدته في شئون حياته، ولكن الأول متفائل يرجو الآخرة، والثاني مُتشائم لا يرجو شيئًا، إذن فالإيمان أصدَقُ من الإلحاد وأحق؛ لأنه أجدى على الإنسان وأنفع.
تلك هي الحقيقة في عُرف هذا المذهب، ولقد يُعترَض بحق، أنها قد تؤدي إلى التنافُر بين الناس، وإلى عدَم انسجامهم في سلك المجتمع؛ لأنَّ كل فردٍ سينتقي لنفسه الرأي الذي ينفعه بغضِّ النظر عمَّا يتَّخِذه سواه من آراء، وإذن فلسفة الإنسان ستعتمد على مزاجِهِ وظروفه، ولكنَّنا نُسارع فنقول: إنَّ مذهب الذرائع قد أحسَّ في نفسه بهذا النقص، فحاول أن يُوفِّق بين قواعده وبين مصلحة الجماعة لا الفرد. فقرَّر أنَّ الرأي الصحيح هو الذي يكون له فائدة عملية لأكبر عددٍ ممكن من الناس، بل ويحسُن أن تشمل نتائجه النافعة الإنسانية بأسرِها، وإذن فلا ينبغي أن نحكُم على رأيٍ بالصواب أو بالخطأ إلا بعد تجربةٍ اجتماعية طويلة الأمد.