أخيرًا … هذه مزرعة «كاجان»!
كان الليل يُغطي كل شيء خارج القطار، الذي كان يَنطلِق بسرعة. وكان الشياطين قد استغرقوا في النوم، بمجرَّد تحرك القطار إلا «رشيد».
فلقد كان سريره العُلوي، إلا أنَّ الرجل المصاحب له قال: هل تسمح لي بأن نتبادل السريرَين، إنني أصاب بالغثيان عندما أنام في السرير السُّفلي، وأنت ما زلت صغيرًا تستطيع الاحتمال!
كان صوت الرجل خشنًا، أصاب «رشيد» بنوع من القشعريرة. لكنَّه في نفس الوقت لم يرفض. فقد تنازل عن سريره العلوي، ونزل إلى السرير الأسفل. وعندما كاد يغرق في النوم، كان الصوت الخشن يقول: هل نام الزميل؟
رد «رشيد»: نعم، أوشك على النوم!
قال الرجل: لا أدري ماذا أصابني، إنني أعاني من حالة أرق!
رشيد: حاول أن تسترخي. إنَّ ذلك يجلب النوم.
الرجل: لقد حاولت بلا نتيجة؛ فهذه حالة أُصاب بها، كلما سافرت ليلًا.
كان «رشيد» يشعر بالغيظ؛ لأنَّه يريد أن يرتاح؛ فهو لا يعرف، متى يمكن أن ينام مرة أخرى، فالمغامرة قد تحتاج إلى صراع مستمر، ولذلك لم يرد.
غير أنَّ الرجل قال: يبدو أنك متعب، وتريد النوم. هل نمت فعلًا؟
أجاب «رشيد»: ليس بعد، وإن كنتُ فعلًا في حاجة إلى نوم.
الرجل: لا بأس. ينبغي أن تنام. لقد كنتُ في صغري أنام مبكرًا أيضًا.
صمت لحظة ثم أضاف: أتمنَّى لك نومًا هادئًا.
لم يردَّ «رشيد». غير أنَّه لم ينم أيضًا؛ فقد كانت الدقائق التي تحدث فيها الرجل، كافية لأن تُطير النوم من عينَيه. مرَّ بعض الوقت، ثم وصل إلى سمعِه، صوت أقدام قوية … فجأة، قفز الرجل من فوق السرير، ليقف بجوار «رشيد». استمع لحظة، في الوقت الذي أغمض «رشيد» عينَيه نصف إغماضة حتى يرى ما يحدث. في لحظة، رأى يد الرجل ترتفع لتهبط فوق رأسه. لكنه كان أسرع منه؛ فقد ضرَب الرجل بقدمه ضربة قوية، جعلته يَندفِع، ثم يَصطدم بجدار الحجرة الصغيرة. إلا أنَّ ذلك لم يكن كافيًا. فقد تحرك الرجل بسرعة، وفتح الباب، واختفى. جلس «رشيد» لا يَدري شيئًا … فماذا كان يريد هذا الرجل؟ كان صوت الأقدام قد اقترب. أسرع «رشيد» ووقف في الباب، في نفس اللحظة، التي كان الشياطين قد خرجوا أيضًا، عندما سمعوا صوت ارتطام الرجل بالجدار؛ فقد كانت حجراتهم متجاورة.
ظهر كذلك عدد من رجال الشرطة، وبدأ أكثر من وجه يطلُّ من أبواب الحجرات.
أسرع الشياطين إلى «رشيد»، وسأله «أحمد»: ماذا حدث؟
وفي كلمات سريعة، حكى له الموقف. في نفس الوقت كان بعض رجال الشرطة قد وصلوا.
فسألهم «أحمد»: هل هناك شيء؟
نظر له الضابط لحظة، ثم قال: إننا نبحث عن مجرم هارب.
نظر «أحمد» إلى «رشيد» الذي قال: هل هو متوسط القامة، خشن الصوت؟
رد الضابط بسرعة: نعم!
قال «رشيد»: لقد هرب الآن، وكان يشاركني مقصورة النوم!
فجأة اندفع «رشيد» جاريًا في نفس الاتجاه الذي اختفى فيه الرجل؛ فقد لمحه يقترب من باب القطار. وعندما وصل «رشيد» إلى هناك، كان الرجل قد فتح الباب، واستعدَّ للقفز برغم سرعة القطار. إلا أنَّ «رشيد» كان قد طار في الهواء وضربه ضربة جعلت الرجل يدور حول نفسه ويتخبط. إلا أنَّ ذلك لم يمنعه من القفز. في نفس اللحظة، كان «رشيد» قد قفز مرَّة أخرى، وتعلَّق به، فسقط الاثنان خارج القطار. وقف الشياطين لا يدرون ماذا يمكن أن يفعلوا الآن؟ إلا أنَّ الضابط أسرع إلى جرس الإنذار، وجذبه بقوة. ولم تمضِ دقائق، حتى كان القطار يُهدئ من سرعته، ثم يتوقف. لكن ذلك استغرق وقتًا. وكان القطار قد قطع حوالي كيلومتر. قفز الشياطين بسرعة من القطار إلى قلب الليل. في نفس الوقت الذي كان فيه الضابط يتبعهم مع عدد من الجنود. أضاء الضابط بطارية صغيرة، وتقدَّموا على هداها. كان ثلث ساعة قد انقضى.
وفجأة، ظهر من قلب الظلام اثنان. كان «رشيد» يسوق الرجل أمامه بعد أن قبض عليه. ابتسم الشياطين في سعادة؛ فهم دائمًا على استعداد لتقديم المعونة. كان الرجل يبدو متعبًا تمامًا، بما يعني أنَّ «رشيد» قد لقَّنه درسًا قاسيًا، وعندما وضع أحد الجنود الحديد في يد الرجل، قال الضابط: لقد أسديتم لي معروفًا لن أنساه. إن هذا المجرم قد ارتكب عدة جرائم، وهو هارب من العدالة.
صمت لحظة ثم قال: دعوني أشكر لكم هذا العمل العظيم. خصوصًا … ونظر إلى «رشيد» في نفس اللحظة التي ارتفع فيها صوت القطار. فأخذوا طريقهم إليه. وعندما تسلقوه الواحد بعد الآخر انطلقت صفارته مرة أخرى، ثم تحرك في طريقه إلى «باداجون».
داخل القطار قال الضابط: هل تسمحون لي بدعوتكم لشراب ساخن؟!
إلا أنَّ الشياطين اعتذروا؛ لأنَّهم في حاجة إلى النوم، وبسرعة كانوا متجهين إلى مقصورات النوم، ومرة أخرى كان «رشيد» وحده. إلا أنَّه كان سعيدًا لأنه سوف يستغرق في النوم دون إزعاج. وما كاد يُلقي نفسه على السرير حتى استغرق فعلًا في النوم، ولم يستيقظ إلا عندما اهتز القطار بشدة. أزاح الستائر عن نافذة المقصورة فملأ الضوء المكان. عرف «رشيد» أنَّ القطار قد توقَّف في «باداجون». قفز من سريره بسرعة. وعندما خرج إلى الطرقة الطويلة رأى الشياطين أمامه. تحركوا بسرعة مع الركاب الذين كانوا يغادرون القطار، ونزلوا على رصيف المحطة. وبسرعة أيضًا أخذوا طريقهم إلى خارجها، أخرج «أحمد» خريطة صغيرة، ثم جرَت عيناه فوقها، وقال: سوف ننزل في فندق «سييرا». إنَّه يبعد كثيرًا عنَّا.
أشار «خالد» إلى تاكسي فركبوه، وتحدث «أحمد» بالإسبانية إلى السائق الذي اتجه مباشرة إلى فندق «سييرا». في الطريق سأل «أحمد» السائق: ما هي أخبار سباق الخيل هنا؟
ردَّ السائق: إنَّ السباق يدور في «مدريد»، هنا فقط تنتشر مزارع الخيول!
أحمد: هل هي قريبة من المدينة؟
السائق: تستطيع أن تقول ذلك!
ابتسم «أحمد» وقال: هل تهوى السباق؟
السائق: في بعض الأحيان!
أحمد: وهل تذهب إلى العاصمة؟
السائق: نعم. عندما يكون السباق جيدًا!
أحمد: وكيف يكون جيدًا. وأنت بعيد عنه؟
السائق: أسماء الخيول المشتركة في السباق!
أحمد: أم أسماء الجوكيه؟!
كان الشياطين يستمعون إلى الحوار الذي يدور، وهم يعرفون أنَّ «أحمد» يسعى وراء معلومات جديدة.
قال السائق: الجوكيه، لا يختلفون كثيرًا. الحصان هو الذي يختلف!
ابتسم «أحمد» قائلًا: وما هي الخيول التي تفضلها؟
نظر له السائق قليلًا، بينما كانت السيارة تقترب من فندق «سييرا» ثم قال: البرق. الريح.
سكت لحظة، ثم قال: أما إذا كان «السهم» فإنني لا أعمل وأسافر فورًا!
ابتسم «أحمد»، وقال: وهل هناك سباق قريب؟
قال السائق وهو يقف بالسيارة بجوار الرصيف: بعد يومين. لكن «السهم» لن يشترك!
أحمد: لا بد أنَّه مصاب!
السائق: ليس بهذا المعنى.
نظر إلى «أحمد» قليلًا، ثم أضاف: لقد اختفى «السهم»، ولا أحد يدري أين هو.
أضاف بعد قليل: أظنُّك لا تعرف ماذا حدث.
قال «أحمد» دون أن يبدي اهتمامًا كبيرًا: لست من هُواة حضور السباق، وإن كنت أهوى مشاهدة الخيل.
ابتسم الرجل قائلًا: إذن احرص على حضور استعراض الغد. فدائمًا قبل السباق بيوم، يقام استعراض للخيول بعضها يكون مشتركًا، والبعض للاستعراض فقط.
أبدى «أحمد» بعض الاهتمام، في نفس الوقت الذي كان الشياطين يتابعون ما يدور باهتمام شديد، قال «أحمد»: وأين يقام الاستعراض؟
السائق: في مزرعة السيد «كاجان»!
أحمد: هل تَبعُد كثيرًا؟
السائق: ليس كثيرًا، إذا كنتم ترغبون في حضور الاستعراض فلنتَّفق.
اتفق الشياطين مع السائق، الذي قدم نفسه لهم في نهاية الحديث: اسمي «فاليرو»!
غادر الشياطين التاكسي إلى فندق «سييرا»، وهم يؤكدون موعدهم في الغد مع السائق. وعندما انطلق التاكسي ابتسم «فهد» قائلًا: إنَّه حوار طيب.
قال «باسم»: من يدري، لعله من رجال «كاجان»!
قال «خالد»: وهو يبتسم ابتسامة عريضة: في هذه الحالة يكون قد قدَّم لنا معروفًا لا يُنسى!
اتجهوا إلى الفندق في هدوء، بينما كان النُّزَلاء يغادرونه. كان الفندق متوسط الحجم ولا يرتفع كثيرًا، بينما تلمع فوقه لافتة ضخمة تعلن اسم: «سييرا». دخلوا، واتجه «رشيد» إلى الاستعلامات يطلب غرفًا. ولم تكن هناك سوى غرفة واحدة.
قال موظَّف الاستعلامات: إنَّها غرفة واسعة ويُمكن أن نضع فيها أسرَّة إضافية!
ابتسم رشيد وهو يقول: هل العمل نشيط هذه الأيام؟
رد الموظف بابتسامة، قائلًا: نعم. ثم أشار إلى لوحة معلَّقة وهو يقول: غدًا، مهرجان استعراض الخيول وهواتُها كثيرون.
قال «رشيد»: لا بأس إذن!
قال الموظف: خلال دقائق، تكون الغرفة معدَّة.
عاد «رشيد» إلى حيث يقف الشياطين أمام اللافتة يقرءون ما بها من معلومات، ونقل إليهم ما دار بينه وبين موظف الاستعلامات. ثم ابتسم وهو يضيف: يبدو أننا سوف نشهد شيئًا طيبًا!
مرَّت دقائق، ثم اقترب أحد العمال من الشياطين يخبرهم أنَّ الغرفة جاهزة. ثم صحبهم إليها. عندما دخلوا، توقفوا قليلًا، كانت الغرفة متسعة فعلًا، وإن ملأتْها الأسرَّة، إلا أنَّ موقعها كان بديعًا، لقد كانت تطلُّ على مزارع ممتدة حتى الأفق. اقتربوا من الشرفة الزجاجية العريضة، يتأملون المزارع.
بعد لحظة، قال «باسم»: من يدري، في أي مكان فيها، يوجد «سهم»!
فجأة، تردَّد ضوء أحمر في جهاز الاستقبال. أسرع «أحمد» إليه، وتلقى الرسالة. كانت من رقم «صفر»، وكانت بطريقة الشفرة: «١ – ٥ – ١٥ – ١٠ – ٢٦ – ١» وقفة «١ – ١٢ – ٣ – ١٨ – ١٠ – ١ – ١٥» وقفة «١ – ٢٣ – ٧ – ٢٩ – ٢٦ – ٢٣» وقفة «٣ – ٥ – ١٠ – ٢٢ – ٢٦ – ١» وقفة «٢١ – ٢ – ٢٣ – ٢٧» انتهى. وكانت ترجمة الرسالة: «احضروا استعراض الخيول. تحركوا قبله.»
نقل «أحمد» ترجمة الرسالة إلى الشياطين. أخذوا يتحاوَرُون فيما يقصده رقم «صفر» بجملة «تحرَّكوا قبله».
وفي النهاية اتفقوا على معنى واحد، هو: يجب التحرُّك من الآن.
قال «أحمد» بعد لحظة: إنَّ الاستعراض، قد لا يعطينا الفرصة لمراقبة كل شيء جيدًا.
في دقائق كانوا يُغادرون فندق «سييرا»، ثم يستقبلون تاكسيًا. وعندما سألهم السائق عن وجهتهم.
قال «أحمد»: مزرعة «كاجان»؛ حيث أرض الاستعراض.
قال السائق: إنَّ هذه مسافة كبيرة، والاستعراض يبدأ غدًا.
رد «أحمد»: كم من الزمن تستغرقه السيارة إلى هناك؟
أجاب: ساعة بالسرعة العادية.
قال «أحمد»: لا بأس. فلنذهب.
صمت الجميع، ولم يكن يُسمع سوى صوت موتور السيارة، وسط الخلاء الأخضر، حيث كانت الخضرة تمتد حتى مدى البصر، كان المنظر بديعًا فعلًا. فاستغرق الشياطين في مشاهدته، وكان الوقت مبكرًا، حتى إنَّهم لم يكونوا يفكرون إلا في هذه الرحلة التي حدثت فجأة، ومنحتهم نوعًا من المتعة. انقضى الوقت سريعًا، فعندما نظر «أحمد» في ساعته، كانت ثلاثة أرباع الساعة قد انقضت، حتى إنَّ السائق قال: إننا نقترب من مزرعة «كاجان».
وبعد دقائق قال: هل ترون هذه الأسلاك الممتدَّة. إنَّها بداية المزرعة، فهي متسعة المساحة.
وعندما انقضت ثلاثة دقائق أخرى، قال «أحمد»: سوف ننزل هنا!
توقف السائق، فغادر الشياطين السيارة.
وقدم «رشيد» للسائق مبلغًا طيبًا من المال، جعل السائق يشكرهم. ظلوا في أماكنهم حتى انصرف السائق، ثم بدأت خطواتهم تتجه إلى هناك.