الفاروق الشديد الليِّن
من أيسر الأمور على المثَّال البارع أن يصنع لعمر بن الخطاب — رضي الله عنه — تمثالًا يجمع بين الصدق والروعة، وبين الدقة التي ترضي الحق، والجمال الذي يرضي الخيال؛ فقد حفظ التاريخ لعمر صورة دقيقة صادقة لا تتعرض للشك ولا للخلاف، بحيث يراها الناس جميعًا إذا قرءوا تاريخه فلا يختلفون فيها ولا يفترقون في الإعجاب بها والإعظام لها مهما تختلف أمزجتهم وطبائعهم، ومهما تختلف آراؤهم ومذاهبهم، ومهما تختلف طرائقهم في التفكير والحكم والشعور.
وهذه الصورة الدقيقة الصادقة الرائعة التي حفظها التاريخ لعمر لا تمثل شخصه المادي وحده، وإنما تمثل شخصه المادي والمعنوي أيضًا، وتمثل شخصه المعنوي من جميع نواحيه: تمثل قلبه، وتمثل عقله، وتمثل إرادته، وتمثل حسه أيضًا. وهي صادقة في هذا كله؛ لا يتطرق إليها الشك؛ لأنها أوضح وأظهر من أن يتطرق إليها الشك وأن تختلف فيها الآراء. وما أعرِف أن تاريخ الخلفاء والملوك المسلمين قد صدق في تصوير شخصية من شخصيات الخلفاء والملوك كما صدق في تصوير شخصية عمر بن الخطاب.
والغريب أن هذه الشخصية لم تكن سهلة ولا يسيرة في نفسها، وإنما كانت عسيرة معقدة — كما سترى بعد قليل — ولكنها كانت قوية جدًّا، قوية إلى الحد الذي يعجز معه التاريخ عن مقاومتها فيضطر إلى أن يقبلها كما هي، لا يستطيع أن يزيد فيها أو ينقص منها، وإنما يتلقاها كاملة وينقلها إلى الأجيال كاملة، وتمضي القرون في أثر القرون وهي كما هي لا يستطيع الزمان أن يمسها بزيادة أو نقص. ولو أن مثَّالًا بارعًا قرأ ما حفظه التاريخ من صورة عمر، ثم أراد أن يظهر ذلك بوسائله الفنية وأن يصنع هذا التمثال لعمر، لجمع بين خَصلتين غريبتين، فكان ناقلًا لا مبتكرًا، وكان في الوقت نفسه رائعًا معجبًا يبهر العقول ويخلب الألباب ويملأ الأبصار والقلوب.
ولكن عمر كان ثاني خلفاء المسلمين، فمكانته الدينية ومنزلته من النبي ومقامه من الإسلام نفسه، كل ذلك يرفعه عن أن يكون موضوعًا لصناعة المصور أو المثَّال. فلنجتهد في أن نستعين بصناعة الكلام على تصويره للشباب المحدَثين، فعمر — فيما نعتقد — أعظم شخصية يمكن أن تعرض على الشباب؛ لأنهم يجدون فيه خير ما نحب أن يجدوا من المُثُل التي نتمنى أن يُطيلوا النظر إليها والتفكير فيها والتأثر لها؛ لعلهم يرْقَوْن إليها شيئًا.
وأول ما يهمنا من أمر عمر أنه كان ملتقى لطائفة من الخصال المتناقضة التي ينكر بعضها بعضًا أشد الإنكار، ويدفع بعضها بعضًا أشد الدفع. ولكن الله قد لاءم بينها وألَّف بين مقاديرها تأليفًا غريبًا، حتى التقت فلم تتنافر ولم تتدابر ولم يُفسد بعضها أثر بعض، وإنما ائتلفت أحسن ائتلاف وانسجمت أروع انسجام، كما تأتلف الأصوات المتنافرة، وكما تنسجم الأنغام المتباعدة في القطعة الموسيقية الرائعة، حتى أصبح شخص عمر آية خالدة من آيات الموسيقى يتغنى بها تاريخ المسلمين، وسيتغنى بها ما بقي الإسلام وما بقي للإسلام تاريخ.
وأغرب من هذا كله أن بعض هذه الخصال لم يستأنف في شخص عمر، وإنما وجدت في أسرته ورهطه الأدنين مفرَّقة قبل أن يوجد عمر. وقد نشأ هذا الفتى القرشي فأدرك شيئًا من هذه الخصال؛ فقد كان أبوه الخطَّاب بن نفيل رجلًا غليظًا فظًّا، إن امتاز بشيء من قومه فإنما يمتاز بالشدة والعنف والمحافظة على القديم الموروث والنشاط الغريب في حماية هذا القديم الموروث والذود عنه. وكان ابن عمه زيد بن عمرو بن نفيل رجلًا رقيقًا ليِّنًا، مرهَف الحس، ذكي القلب، نقي الطبع، مستعدًّا للإيمان الصادق، مبغضًا للقديم، شديد النشاط للتجديد. شكَّ في وثنية قومه ثم جحدها، والتمس دينًا صفوًا وملَّة نقية، وجعل ينكر على قريش ما كانت فيه، فكانت قريش تسمع منه وتُعرض عنه ولا تحفل بما كان يقول، ولكن الخطاب بن نفيل ثبت له ثم قاومه، ثم جدَّ في فتنته حتى أشقاه، ثم حبسه في مكة، ثم أغرى به الشباب حتى اضطره إلى أن يستخفي وأن يحتال في الفرار من مكة ليلتمس ما كان يجد من دين عند اليهود والنصارى. وقد فر زيد بدينه الجديد أو باستعداده للدين الجديد، وجعل يلتمس ما يحب عند اليهود مرة وعند النصارى مرة، حتى استيأس من أولئك وهؤلاء فعاد إلى مكة، ولكنه قُتِل غيلةً في بعض الطريق.
وقد ورث عمر هاتين الخصلتين عن أسرته، فكان شديدًا ورقيقًا في وقت واحد، وكان غاليًا في الشدة، غاليًا في الرقة أيضًا، وكان إسلامه مظهرًا لهاتين الخصلتين المتناقضتين. خرج ذات يوم — وكان فتى قد نيَّف على العشرين — ملتزمًا أن يشتد في غيظ المسلمين والكيد لهم والإيقاع بهم، يبحث عن أول فرصة تتيح له البطش بهؤلاء المجددين، فلقي رجلًا من المسلمين، وأخذ معه في حديث حول الإسلام يريد أن ينتهي من هذا الحديث إلى الشدة والبطش، فينبئه هذا الرجل أن الإسلام قد غزا أسرته واستقر فيها، وأن أخته قد أسلمت كما أسلم زوجها. فينقضُّ عمر على أخته وقد أزمع البطش بها وبزوجها، فإذا بلغ الدار سمع قراءة، فإذا طرق الباب فزع من في الدار واستخفى مقرئ الأسرة، ودخل عمر على أخته فسألها فلم تُخفِ عليه شيئًا، فيبطش بها وبزوجها، ويثبتان له ويظهرانه على الصحيفة التي كانا يقرآن فيها، فلا يكاد يتلو آيات من القرآن حتى تذهب شدته وبأسه ويستحيل إلى لين وعطف ورحمة وإشفاق، ويسأل عن مكان النبي، فإذا دُلَّ على هذا المكان ذهب إلى حيث كان النبي وأصحابه يجتمعون، فإذا أحس أصحاب النبي مقدمَهُ أنكروه وأشفقوا منه إلا رجلًا واحدًا هو حمزة بن عبد المطلب، لم يكن أقل منه شدة وبأسًا، فقد انتظره ثابتًا له، وتلقَّاه بمثل ما كان قد أقبل به فيما ظنَّ المسلمون من الشدة والبأس، ولكن النبي يلقاه لقاءً شديدًا رقيقًا، فما هي إلا أن يُسلم عمر ويكبِّر المسلمون ويعلموا أن الله قد أعز دينه بأحب الرجلين إليه عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام أبي جهل، كما كان النبي يسأله في كل يوم.
ومنذ ذلك اليوم استطاع المسلمون أن يجهروا بصلاتهم وكانوا يُخفونها، وأن يتخذوا ناديهم في المسجد وكانوا لا يظهرون فيه إلا فرادى.
هذه الشدة البالغة والرقة الرائعة تصوران عمر طول حياته؛ تصورانه صاحبًا للنبي ومشيرًا لأبي بكر وإمامًا للمسلمين، تصورانه حين أراد النبي أن يُمضي صلح الحديبية فأنكر عمر هذا الصلح وقال للنبي: «كيف نرضى الدنية في ديننا؟!» وتصورانه حين رأى الجِد من الله ورسوله في هذا الصلح فأذعن له راضيًا مؤمنًا أصدق الرضا وأخلص الإيمان. تصورانه حين أُعلِن أن رسول الله قد مات فأنكر ذلك أشد الإنكار وأنذر المعلِنين له بالسيف، فلما سمع قول الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ أذعن لقضاء الله راضيًا به مؤمنًا له أصدق الرضى وأخلص الإيمان. تصورانه حين جد في أمر المسلمين وأخذ البيعة لأبي بكر باسطًا يده للبيعة قبل أن تتم الشورى، حتى إذا استقرت الأمور واطمأنت القلوب واجتمعت الكلمة عرف من نفسه هذه الشدة وقال في بيعة أبي بكر: «كانت فتنة وقى الله المسلمين شرَّها.» تصورانه في كل ما تقرأ من مواقفه حينما كان يجدُّ الجد ويحتاج الأمر إلى الحزم والعزم، ثم بعد أن تستقر الأمور وتهدأ العاصفة. وقد اختصر التاريخ هذه الصورة الغريبة الرائعة فيما تحدَّث به من أن عمر كان أشد الناس غضبًا إذا غضب، وكان إذا ثار لم يثبت له أحد ولم يثبت له شيء، فإذا ذُكر الله أو تُلي القرآن رقَّ حتى أصبح الرقة نفسها.
واختصر التاريخ هذه الصورة الرائعة أيضًا حين روي ما كان من أمره لمَّا اجتمع الناس إليه في الموسم فسأل عن سيرة العمال في الأمصار، فقام إليه أحد المسلمين وزعم له أن عامله قد ضربه، فأبى عمر إلا أن يقتص هذا الرجل من الوالي بمحضر من المسلمين، وجعل الولاة يصورون له أثر ذلك في إضعاف السلطان وإطماع الرعية في الولاة، فلا يحفل بشيء من ذلك لأن رسول الله قد اقتص من نفسه، حتى اضطر العمال إلى أن يُرضوا هذا الرجل ويشتروا منه حقه بالدنانير، ولولا ذلك لرأت جماعة المسلمين رجلًا من الرعية يُعمِل سوطه في جسم والٍ من ولاة الأمصار.
كان عمر شديدًا حتى خشي الله في الشدة، وكان لينًا حتى خشي الله في اللين، وكان يصطنع في الناس شدته ولينه جميعًا، فأما مع نفسه وأهله فلم يصطنع قط إلا الشدة، ولم يعرف اللينُ قَطُّ إلى قلبه سبيلًا. وكان عمر حريصًا على مال المسلمين أشد الحرص، يحاسب العمال والولاة حسابًا أيسر ما يقال فيه إنه كان عسيرًا؛ لا يختار واليًا لعمل من الأعمال حتى يحصي ماله قبل الولاية، ثم يتتبعه بعد ذلك ليرى كيف زاد ماله، ومصدر هذه الزيادة، وما الصلة بينها وبين ما كان له من عطاء. ثم لا يتحرج أن يقاسم الوالي ماله بعد عزله، فيترك له النصف ويرد النصف إلى المسلمين. وكان كريمًا في مال المسلمين إلى أقصى حدود الكرم، لا تكاد تجتمع إليه الأموال التي كانت تأتيه من الأمصار والأقاليم حتى يشيعها في المسلمين على طريقة رائعة حقًّا، لا يترك رجلًا ولا امرأة ولا صبيًّا ولا صبية في أسرة تليه أو تبعد عنه إلا قسم له من هذا المال حظَّه وأدى إليه حقه وأدى إليه الفضل بعد الحق. ثم كان لا يأمن على ذلك أحدًا، وإنما يليه بنفسه، ويتتبع أمور الناس لا ليعرفها ولكن ليعرف أيشكو الناس منه شيئًا، أينكر الناس منه شيئًا؛ فقد كان لا يأمن نفسه على تحقيق العدل كما كان لا يأمن الناس على تحقيق هذا العدل.
وقد أجدب المسلمون في بلاد العرب سنة، فاقرأ أخبار عمر في هذه السنة، فستقرأ أروع ما حفظ الأدب والتاريخ في أي أمة من الأمم وفي أي جيل من الأجيال وفي أي عصر من العصور، من تصوير الرفق بالرعية والنصح لها والإشفاق عليها والشدة على الأقوياء والرحمة للضعفاء. أخذ عماله في الأقاليم بأن يرسلوا إليه الطعام والكسوة للناس، ووجَّه رسله في أطراف الجزيرة وأنحائها يقسمون الطعام وينحرون الجُزُر ويكسون الناس، وقام هو على ذلك في المدينة وما حولها، وأبى أن يَطعم في بيته إذا اجتمع المسلمون للطعام العام. قلَّ السمن وقلَّ اللحم، فحرَّم على نفسه السمن واللحم، وفرض على نفسه الخبز والزيت حتى يخصب المسلمون. وكانت حرارة الزيت تؤذيه، فتقدَّم إلى مولاه أن يطبخه له ليكسر من حرارته، فلم يغنِ ذلك شيئًا، وجعل بطنه يقرقر، فيقول له: «قرقر ما شئت، فلن تطعم إلا الزيت حتى يخصب المسلمون.»
وكان عمر أجرأ الناس على الناس، حتى خافه الأقوياء وأشفقوا من لقائه، ووسَّط إليه كبار الصحابة مَن يسأله الرِّقَّة للناس؛ لأنهم يهابونه ويشفقون أن يعرضوا عليه حاجاتهم. ثم كان في الوقت نفسه أشد الناس خوفًا من الضعفاء والعاجزين والمحرومين، يستطيع أهون الناس شأنًا وأيسرهم أمرًا أن يجترئ عليه ويلقاه بما يكره من الحديث، فيسمع ثم يعتذر ثم يستعبر ثم يستغفر.
وأروع ما تلقاه في شخصية عمر من الخصال هذه الفكرة التي كوَّنها لنفسه عن الخلافة منذ ولي الخلافة إلى أن مات. وقد صورها هو تصويرًا رائعًا بإيجازه ودقته وصراحته العنيفة حين خطب الناس لأول مرة بعد البيعة فقال: «أيها الناس، إنكم قد ابتُلِيتم بي وابتُلِيت بكم.»
فالخلافة عند عمر امتحان للخليفة وللرعية معًا، كلاهما ممتحَنٌ بصاحبه، وكلاهما خليق أن يحتمل المحنة ثابتًا لها صابرًا عليها، وأن يخلص منها وينقذ من مشكلاتها صحيحًا بريئًا، لم يكلم في نفسه ولا في دينه ولا في شيء من هذه الملكات الكثيرة المعقدة التي تكوِّن ضمير الرجل الكريم. وإذا كان الخليفة ممتحَنًا دائمًا مبتلًى برعيته فمن الحق عليه لنفسه وللناس، ومن الحق عليه لله الذي يلي أمره وأمر الناس؛ أن يحاسب نفسه دائمًا عن عظيم الأمر وهيِّنه، وألَّا يأتي أمرًا صغيرًا أو كبيرًا إلا وهو عالم بما يأتي وبما يحمله على أن يأتي هذا الأمر أو ذاك، إلا وهو مقدِّر أنه سيُسأل عما أتى ومهيِّئ الجواب على هذا السؤال حين يُلقى إليه. سيُسأل عمَّا أتى في اليوم الآخر حين يسأله الله عن الجليل والضئيل من أعماله. وقد يُسأل عما أتى في كل لحظة ومن كل إنسان. فإنه حين نهض بالأمر قد عرَّض نفسه لهذا السؤال؛ لأنه احتمل أمانة يشترك في حسابه عنها الناس جميعًا، وينفرد بحسابه عنها آخر الأمر ربه الذي جعل إليه أمور الناس على أن يؤدي إليه حساب ما فعل وما ترك.
وما أعرف أن خليفة من خلفاء المسلمين أو ملكًا من ملوكهم مُنح ما منحه عمر من هذا الضمير الحساس إلى أقصى ما يستطيع الضمير أن يحس. ظهر ذلك من أمره للناس جميعًا ظهورًا قويًّا مقنعًا حتى شبَّهوه بالميزان الدقيق الذي لا يمكن أن ينحرف أو يجور. وما أعرِف خليفة من خلفاء المسلمين أو ملكًا من ملوكهم تمثَّل حساب الله له في جميع لحظاته يقظان ونائمًا عاملًا ومستريحًا، مقبلًا على عظائم الأمور أو على الهين منها كما فعل عمر.
يدخل عمر على بنته حفصة أم المؤمنين فتُقدم إليه خبزًا ومرقًا قد جعلت فيه الزيت، فينصرف عنه ويقول: «أدَمان في إناء واحد؟ لا واللهِ لا أذوقهما.» ويدخل على رجل من المسلمين فيستقيه، فيقدم إليه الرجل شرابًا، فيسأل ما هو، فإذا عرف أنه عسل انصرف عنه وقال: «لا واللهِ، ليحاسبني الله عليه.» ويدفع إلى أحد الفُرس قميصًا له ويتعجله في ذلك فيقدِّم إليه الفارسي قميصين قد صنعهما فيسأل: «أليس فيهما من مال الذمة شيء؟» فيجيب الفارسي: «لا، إلا الخيط.» فينهره عمر ويقول: «اغرب واردد إليَّ قميصي.» ويرد عليه الفارسي: «قميصك لم يجف بعد.» فهو يرى الله إذا أصبح ويراه إذا أمسى، ويتمثَّل نفسه قائمًا بين يديه يؤدي إليه الحساب عما فعل وما قال.
وله في ذلك أعاجيب كلها رائعة، وكثير منها يدفع إلى البكاء دفعًا. جهَّز عبدًا إلى الشام فقد كان يتَّجر ليعيش، واحتاج إلى ثلاثة آلاف درهم فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف ليقرضه هذا المقدار، فقال عبد الرحمن للرسول: «ليقترضها من بيت المال.» فلما لقي عمرُ عبدَ الرحمن بعد ذلك سأله: «أأنت قلت هذا؟» قال: «نعم.» قال عمر: «فإني إن اقترضت هذه الدراهم من بيت المال ثم أدركني الموت قال المسلمون ضعوها عن أمير المؤمنين واتركوها لأهل أمير المؤمنين، وسألني الله عنها يوم القيامة، ولكن إن اقترضتها من شحيحٍ مثلك ثم أدركني الموت لم يضعها عني، ولم يتركها لأهلي حتى تؤدَّى إليه.» ولما طُعن وأفاق من غشيته الأولى كان أول شيء عناه وأهمه أن يعرف أكان طاعنه رجلًا من المسلمين، فلما عرف أن طاعنه كان غلام المغيرة بن شعبة رضي واطمأنَّت نفسه؛ لأنه علم أن قاتله لا يستطيع أن يحاسبه أمام الله عن سيئة قدمها إليه أو شر جناه عليه.
ومن هنا لم يكن عمر شديدًا على الناس بما كان يلقاهم به من الحزم فحسب، وإنما كان شديدًا عليهم بما كان يتشدد على نفسه. وكان كثير من المسلمين يرون من إمامهم هذا العيش الخشن الغليظ، فيستحون أن يلينوا لأنفسهم من العيش أن يظهروا ذلك، وربما وسَّطوا إليه ابنته حفصة أم المؤمنين لتسأله أن يرفق بنفسه، وأن يبيح لها شيئًا ولو قليلًا من طيبات الحياة، فأجابها: «لقد نصحتِ لقومك وغششتِ أباك.» وكذلك كان ضميره مرهف الحس شديد المراقبة، يسأله عن كل شيء قبل أن يسأله الناس، وقبل أن يسأله الله، وكذلك أدَّى امتحانه مدة خلافته. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن رعيته لم تؤدِّ الامتحان كما أداه، ولم تثبت للمحنة كما ثبت. ومراقبة الضمير لا تتاح للناس جميعًا، وإنما تتاح لأخيارهم والممتازين منهم، وهي على النحو الذي عرفه عمر لا تكاد تتاح إلا للرجل الفذ بين حين وحين، أو قل بين القرون عليهم السنة ظهرت مراقبة الضمير في حياة عمر وفي أقواله وأفعاله جميعًا، فكان يقول للناس: «إن الله قد ابتلاكم بي وابتلاني بكم، فما أدري أهي خطيئة مني أم خطيئة منكم، أم هي خطيئة عمَّتنا فعمَّنا من أجلها العذاب؟»
وقد صلى بالناس صلاة الاستسقاء فكانت صلاته استغفارًا كلها حتى ظن الناس أنه لن يسأل الله شيئًا إلا المغفرة، ولكنه في آخر الصلاة سأل الله أن يسقي الناس.
وعمر أول الخلفاء تشدُّدًا في تعرُّف أحوال الناس كما قدمت؛ ليتعرف ما يمكن أن يكون قد قدم إليهم من شر أو جنى عليهم من مكروه. كان إذا أقبل الليل صلى فأطال الصلاة ثم خرج مستخفيًا يتحسس أخبار الناس ويستمع أحاديثهم، وقد نفعه ذلك فأصلح من أمور الناس شيئًا كثيرًا. كان قد فرض العطاء للرجال والنساء والفتيان والفتيات وللصبيان بعد أن يفطموا، فلما كان في بعض لياليه سمع صبيًّا يبكي بكاءً شديدًا، فسأل أمه عن مصدر هذا البكاء، فأجابته — وهي لا تعرفه — جوابًا لم يقنعه، وعاد الصبي إلى البكاء فعاد عمر إلى السؤال، وتكرر ذلك من الصبي ومن عمر حتى ضاقت المرأة بهذا السائل الملحِّ فقالت له: «لقد أثقلت عليَّ منذ الليلة، ألم تعلم أن ابن الخطاب لا يعطي الصبية إلا بعد الفطام، فأنا أتعجل فطام هذا الصبي لننال عطاءه من بيت المال.» فانصرف عمر عن المرأة محزونًا كئيبًا وهو يقول: «ويل عمر! كم قتل من أبناء المسلمين!» ثم أمر المنادين فنادوا في الناس: «أتموا رضاع أبنائكم، فإن لهم عطاءهم منذ يولدون.»
ولم يعرف عمر نُظم الحكم الديمقراطي كما أَلِفه اليونان والرومان في بعض عهودهم، ولكن ضميره الحساس وغريزته المستقيمة وقلبه الذكي وحرصه على العدل وخوفه من الجور … كل ذلك دعاه إلى شيء ليس بعيدًا عن النظام الديمقراطي. ولعل عمر لو عاش لأحدث للمسلمين نظامًا ديمقراطيًّا عربيًّا. كان يستشير مَن حوله من أصحاب النبي وسادة الناس في كل ما يعرض له من المشكلات، ولكنه كان شديد الحرص على أن يحج بالناس في كل عام، ويشهد الموسم الذي يجتمع فيه أهل الأمصار، ويأمر العمال أن يوافوه على رأس من يليهم، فإذا كان الموسم وحضرت هذه الوفود سمع من العمال في الرعية، وسمع من الرعية في العمال، وأقر العدل والنصفة بين أولئك وهؤلاء. فكان — ومن يدري — لو أن الله مد له في الحياة إلامَ كان يصير أمر هذا الاجتماع السياسي المنظم.
وخصلة أخرى من خصال عمر هي بُغضه للتكلُّف وازدراؤه للمتكلِّفين. يتأخر شيئًا عن الصلاة، فإذا خرج جلس على المبنى واعتذر إلى الناس قائلًا: «لقد أخَّرني قميصي.» غُسل له قميصه فانتظر أن يجف ثم خرج للناس بعد أن تم له ما أراد. وقرئ أمامه قول الله عز وجل: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، فقال قائل: «وما الأبُّ؟» قال عمر: «هذا هو التكلف! وما يضرك ألا تعرف الأب؟»
ولو أني ذهبت أعد خصال عمر الرائعة وخلاله الممتازة لخشيت أن أستغرق هذا السِّفر دون أن أرضي من ذلك حاجتي وحاجة القراء، ولكنك توافقني فيما أظن على أن ما عرضتُ عليك من صورته كافٍ كل الكفاية لإثبات ما زعمتُه في أول هذا الفصل من أن أيسر الأشياء أن يُصنع لعمر تمثال دقيق رائع دون أن يحتاج المثَّال إلى أن يستعين الخيال.
وقد حفظ التاريخ الصورة المادية لعمر كما حفظ الصورة المعنوية؛ فقد كان طويلًا يفوق الناس كلهم طولًا، وكان ضخمًا بدينًا، وكان إذا مشى أسرع في مشيته، وكان أبيض اللون إلا في عام الجدب؛ فقد اقتصر على أكل الزيت حتى أفسد عليه معدته فاسودَّ شيئًا، وأكبر الظن أن الذين وصفوه بالسواد لم يروه إلا في ذلك العام.
وخصلة أخرى أختم بها هذا الفصل لأن عمر قد ختم بها حياته، وهي الرقة والأدب والحياء والإكبار لحرمات البيوت. كان عمر شديد الحرص على أن يُدفن مع صاحبَيْه إذا مات، فلما طُعن وأحسَّ الموت دعا ابنه عبد الله وقال: «اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها إن عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام — ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست للمؤمنين أميرًا — ويستأذنك أن يُدفن مع صاحبيه.» فذهب عبد الله فقال ذلك لعائشة وعاد إلى أبيه بإذنها، فقال لابنه: «إذا متُّ احملوني على سرير، فإذا وصلتم إلى بيت عائشة فلا تَدخلوا حتى تستأذنوا.» وقد حُمل سرير عمر حتى إذا بلغوا بيت عائشة قالوا: «إن عمر بن الخطاب يستأذن عائشة أم المؤمنين.» ولم يُدخلوا السرير حتى أذنت عائشة. وهنالك دُفن عمر بن الخطاب مع صاحبيه محمد رسول الله وأبي بكر أول خلفاء المسلمين.