من لغو الصيف إلى جد الشتاء
كنا نلغو أثناء الصيف، فلنجدَّ أثناء الشتاء، وماذا كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف، وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير إلا على مهل يشبه الوقوف، وفي أناةٍ تضيق بها النفوس. كل أسباب النشاط مؤجلة إلى حين؛ غرف الاستقبال مقفلة، وملاعب التمثيل مغلقة أو كالمغلقة ولا تذكر الموسيقى والغناء، فمن للموسيقيين أو المغنين بهذا الجو القوي الحي الذي يبعث النشاط والخفة والمرح في النفوس والقلوب، وفي الألسنة والأيدي!
جو ثقيل يستتبع فتورًا ثقيلًا، يضطر الناس إلى أن يغدوا على أعمالهم فاترين، ويروحوا إلى بيوتهم مُثْقَلِين، لا يكادون ينظرون إلى المائدة حتى ينصرفوا عنها، تُنازعهم نفوسهم إلى النوم، وتنازعهم أجسامهم إلى أمهم الأرض، فلا يكادون ينظرون إلى سرير أو شيء يشبه السرير حتى يُسرعوا إليه، ويلقوا بأنفسهم عليه، وإذا هم يتصلون به ويتصل بهم، وإذا هم يمتزجون به ويمتزج بهم، وإذا هم يُصبحون مثله شيئًا جامدًا خامدًا لا حركة فيه ولا حياة إلا هذه اليقظة الفاترة البطيئة الثقيلة السمجة التي تُلِمُّ بهم من حين إلى حين، حين يُثقل عليهم الحر، ويشتد عليهم القيظ، فيفيقون أو يهمون بالإفاقة، ثم يغرقون في النوم ليفيقوا، ثم ليعودوا إلى الغرق فيه، ثم ينحسر النهار عن الأرض بشمسه المحرقة الملتهبة.
ويقبل الليل متثاقلًا متثائبًا، يبعث في الجو أنفاسًا حارة، كأنها أنفاس العاشق الولهان المحروم قد أوقد الحب الخائب في قلبه نارًا مضطرمة قوية اللظى، فلا تكاد أطراف هذا الليل الكسلان تمَس الأرض حتى تبعث في الناس نشاطًا كسلًا يدفعهم إلى حركات متخاذلة، فيخرجون من بيوتهم متثاقلين قد ضاقوا بالدنيا وضاقت بهم. فهم يهيمون إنْ حملتهم أقدامهم يلتمسون مكانًا خضرًا نضرًا لعلهم يجدون فيه فضلًا من نسيم قد صافح الماء، وأطال عِشرته بعض الوقت، فيحمل إلى وجوههم وإلى قلوبهم شيئًا من هذا البرد الخفيف اللطيف الذي يردُّهم إلى شيء من الدعة والهدوء.
هنالك يريدون أن يخرجوا من أنفسهم وأن ينسوا أشخاصهم؛ فيعمدون إلى اللغو يُقبِلون عليه كما يُقبِل المريض على الطعام، لا يكادون يذوقونه إلا على كُرْهٍ وفي مضض، ولعل الجو أن يعتدل، ولعل النسيم أن يَرِقَّ، ولعل هذه الأشربة الباردة المثلوجة أن تخفف بعض هذا اللظى الذي يجدونه في نفوسهم وفي أجسامهم فتطلق الألسنة من عقلها بعض الشيء، وتستطيع النفوس أن تحرك أجنحتها قليلًا وأن تصعِّد في الجو بعض التصعيد، ويستطيع المرح الهادئ أن يبعث في القلوب شيئًا من الراحة والابتهاج. ثم يتقدم الليل ويذكر الناس أن الصبح سيشرق بعد حين ومعه الأعمال والأثقال، والتكاليف والحر والضيق، وإذا هم مضطرون إلى أن يعودوا إلى بيوتهم ويسعوا إلى مضاجعهم كارهين.
كذلك نقضي الصيف في بلادنا إن لم نكُن من المترفين الذين لا يكادون يحسون الصيف حتى يعبروا البحر إلى حيث يَحْيَوْنَ حياة أخرى، أو لا يكادون يحسون الصيف حتى يسرعوا إلى ساحل البحر، فيحيون حياة خير منها ما نحن فيه من كسل وفتور، ومن تقصير وقصور. فلغو الصيف شيء طبيعي ملائم أشد الملاءمة لحياة الصيف. أما الشتاء فشيء آخر كله فرح ومرح، وكله حركة ونشاط، وكله حياة خصبة عذبة منتجة، تجد فيه النفوس أقصى لذاتها، وتجد فيه الأجسام أقصى قدرتها على الاستمتاع. أكلٌ كثير، وشربٌ كثير، واضطراب في الأرض كثير، وإقبال على العمل، ونسيان للكسل، وحياة مملوءة إلى حافتها، تفيض أو تكاد تفيض بما يُفعمها من الآمال والأعمال. ثم ضيق بالحياة؛ لأن الحياة تضيق بما نريد، وتعجز عن أن تسع كل ما تسعه آمالنا ورغباتنا وشهواتنا، وقد كدت أنسى واجباتنا. وهل للواجبات مكان في حياة الشتاء هذه التي يُفعمها الجنون؟ مسكينة هذه الواجبات! يطاردها فتور الصيف ويطاردها نشاط الشتاء؛ فحظها من عنايتنا قليل دائمًا. ولَعمري إنَّا لمعذورون، أما عذرنا في الصيف، فلا يقبل جدالًا ولا مِراءً، ومن ذا الذي يستطيع أن يكلف الناس أن يعملوا وهم عاجزون عن العمل، أو يكِدُّوا وهم مصروفون عن الكد، والله — عز وجل — لا يكلِّف النفوس إلا وسعها، ولا يحمل الناس ما لا طاقة لهم به، وأما في الشتاء فعذرنا أبلغ منه في الصيف، وكيف تريدنا على أن نفرغ للعمل، ونخلص للإنتاج، ونؤدي واجباتنا مشغوفين بها، مُقبِلين عليها، وحولنا من المغريات ما لا تقاومه إلا نفس سقراط أو أشباه سقراط، ومن يدري لعلَّ سقراط لو عاش في أيامنا، واضطرب في بيئتنا، لكان رجلًا مثلنا تصرفه المغريات عن أن يعرف نفسه بنفسه، وعن أن يولد نفوس محاوريه ويخرج منها كل ما احتوت من حقائق العلم والحكمة، وفنون المعرفة وألوان الخير.
وقد زعموا أن امرأة سقراط كانت مسلَّطة عليه، وأنه كان يخافها خوفًا شديدًا، ويُشفِق منها إشفاقًا لا حَدَّ له، فلو عاشت امرأة سقراط في مدينة القاهرة وفي القرن العشرين لاتَّخذت لها يومًا في كل أسبوع، تستقبل فيه الزائرين والزائرات، فلا تكاد تطلع الشمس حتى تهيئ وتضطر زوجها إلى أن يهيئ معها غرف البيت لاستقبال الزائرين والزائرات، وحتى تسعى وتضطر زوجها إلى أن يسعى معها إلى حيث تشتري ألوان الحلوى وفنون الزهر وصنوف الفاكهة، حتى إذا تقدَّم النهار ودنت الساعة الرابعة، قامت واضطر زوجها إلى أن يقوم معها لاستقبال الأصدقاء وغير الأصدقاء، من هؤلاء الذين يغشون غرف الاستقبال لأنهم يكلفون بغشيانها، أو لأنهم يكرهون غشيانها. تُكرههم عليه امرأة سقراط وأمثالها؛ لأن امرأة سقراط لا تغفر لفلان وفلان من العلماء والأدباء وأصحاب الفن أن يهملوها، أو ينصرفوا عن غرفة استقبالها، وهي تصر أشد الإصرار على أن يظهروا في بيتها مرة كل أسبوع، حتى لا يقول صديقاتها إن غرفتها ليست حافلة بأعلام الفن وأفذاذ الأدب ورجال المال والأعمال، فإذا فرغت امرأة سقراط وفرغ معها زوجها من الاستقبال وما فيه من حديث مختلف مؤتلف، معوج مستقيم، واضح غامض، خصب جدب، خطر بريء، فلم تنتهِ امرأة سقراط ولم ينتهِ سقراط من كل شيء، وإنما ابتدآ شيئًا لا سبيل إلى أن ينتهي، فهؤلاء الزائرون والزائرات لا بد أن تُرَدَّ لهم الزيارات؛ لأنهم كسقراط وامرأة سقراط مضطرون إلى أن يستقبلوا كما كانوا مضطرين إلى أن يزوروا، وكذلك تقضي امرأة سقراط ويقضي معها سقراط مساء كل يوم متنقِّلين من دار إلى دار، ومن غرفة استقبال إلى غرفة استقبال، يقولان كلامًا، ويسمعان كلامًا، يصدِّقان ويكذِّبان، ويصدُقان ويكذِبان، وويل لسقراط إن أدركه الكسل أو أصابه الملل أو شغلته الفلسفة أو صَرَفه عن زيارة من هذه الزيارات حوار مهما تكن قيمته، ومهما يكن المحاورون. فأفلاطون، وكسنوفون، وفيدون، وفيدر؛ كل هؤلاء يستطيعون أن يلقوه في داره يوم استقباله، أو في دار من هذه الدور التي تستقبل من الساعة الرابعة والثامنة من كل يوم، وإذا لم يكن بُدٌّ من الحوار في الطبيعة أو في القوانين، أو في أي شيء من هذه الأشياء التي تنجم من الأرض، أو تهبط من السماء، فليدبر لهم سقراط وقتًا من هذه الأوقات التي يمكن فيها اللقاء دون أن تصرفه عن واجباته الاجتماعية وتعرضه للغضب، وأي غضب؟ غضب السيدات!
فإذا فرغت امرأة سقراط وفرغ معها سقراط من الاستقبال والزيارة وأقبل الليل، فالويل كل الويل للفيلسوف العظيم إن دعته نفسه إلى أن يعرفها، أو يحقق ما كان مكتوبًا على معبد دلف «اعرف نفسك بنفسك» وأين يجد سقراط الوقت الذي يخلو فيه إلى نفسه إذا جَنَّه الليل؟ فالليل لا يُلقي على الأرض أستاره المظلمة ليأوي الناس إلى بيوتهم، بل ليخرجوا منها، وكيف تريد أن يأوي سقراط إلى بيته أو يخلو سقراط إلى نفسه، وهذه الأوبرا قد فتحت أبوابها، ومدت أسبابها، وأقبل عليها الممثلون والمغنون يعرضون بدائع التمثيل وآيات الغناء؟
وهذه دور السينما تعرض كل يوم جديدًا، وهذه قاعة (يورت) يوقع فيها فلان، وقاعة (الليسيه) يوقع فيها فلان، وقد يجمع سقراط شجاعته كلها ويقول بقلب متردد ولسان متلعثم إنه لا يحب ما يمثَّل الليلة، أو ما يوقَّع، أو ما يُغنَّى، وإنه يؤثر الراحة أو الانقطاع لبعض العمل، ولكن ويل لسقراط من هذه المقالة! فمن زعم له أنه سيشهد التمثيل أو يسمع الغناء لأنه يحب أو لا يحب، ولأنه متعب أو مستريح، إنما يشهد التمثيل ويسمع الغناء ويختلف إلى دور السينما لأن الناس يجب أن يَرَوْه في هذه المشاهد كلها، وإلا فليس هو من أهل القاهرة، ولا من ذوي المكانة فيها، وقد تظن أن سقراط حين يذهب إلى الملعب أو إلى دار من دور السينما أو إلى قاعة من قاعات الغناء يستطيع أن يفرغ للفن أو يستمتع به، فاطرد عن نفسك هذا الظن، واذكر أن هناك (الإنتراكت) ومقابلات الإنتراكت، وأحاديث النظارة والمستمعين عمَّا رأوا وما سمعوا، ويا لها من أحاديث تبغض الفن إلى أحب الناس للفن! يجب أن يكون لكل واحد من هؤلاء النظارة والمستمعين رأي يراه، وكلمة يقولها فيما رأى وما سمع، وقد يكون هذا الرأي سُخفًا، وقد تكون هذه الكلمة جهلًا، وهما كذلك في أكثر الأوقات، ولكن سقراط مضطر إلى أن يسمعهما ويُقرهما، أو يجادل فيهما مجادلة المُقِر الذي لا ينكر. وهناك ما هو أثقل من ذلك، فيجب أن يكون لسقراط رأي يراه وكلمة يقولها وإن لم يرَ شيئًا، وإن لم يُرِد أن يقول شيئًا؛ ذلك أنه إذا لم يقُل كلمته اتُّهِمَ بالجهل، أو وُصِفَ بالكبرياء، وكلاهما لا يليق بالحيوان الاجتماعي الذي ذكره أرستطاليس في كتاب السياسة، والذي يتألف منه ومن أمثاله سكان مدينة القاهرة، كما يتألف منه ومن أمثاله سكان باريس.
حتى إذا تقدم الليل عاد سقراط إلى بيته متعبًا مكدودًا فآوى إلى مضجعه ولم يلبث أن يأسره النوم. ولعلك تظن أن تكاليف سقراط تقِف عند هذا الحد، فما أشد إغراقك في الوهم! وأين أنت من المحاضرات؟ وما أدراك ما المحاضرات؟ محاضرات في الجمعية الجغرافية، وأخرى في الجمعية الاقتصادية، وأخرى في قاعة يورت التذكارية، وأخرى عند جروبي، وأخرى في الكونتننتال، ولا بد لأسرة سقراط من أن تشهد هذه المحاضرات لتكون ظريفة متلطفة، مجامِلة للمحاضرين والمحاضرات، ثم لتظهر أيضًا، أو لتظهر قبل كل شيء. والمحاضرون قوم قساة لا يحفلون بالناس ولا يحفلون بأنفسهم، وإنما يحفلون بالمحاضرات، فهم يحاضرون في غير رفق، وهم يحاضرون في غير حساب، وهم يتنافسون في المحاضرات لا في كيفية المحاضرات وقيمتها وحظِّها من الجودة، بل في عدد المحاضرات وعدد المستمعين، والإعلان في الصحف، وقد تسوء الحال فيلقي محاضران محاضرتيهما في وقت واحد وفي مكانين مختلفين طبعًا، ويومئذٍ يُضطر سقراط إلى أن يشهد إحداهما، وتُضطر امرأته إلى أن تشهد الأخرى، فلا بد من ظهور أسرة سقراط في المحاضرتين جميعًا. فإذا انتهى كلٌّ من المحاضرَيْن تقدَّم إليه نصف الأسرة فهنَّأه وحيَّاه واعتذر له عن النصف الآخر لأنه مشغول بمحاضرة فلان. يا لهذا الفصل: فصل الشتاء! إنه يشغل الوقت، ويصرف الناس حتى عن الحياة، وقد تعطف الظروف على سقراط وتؤثره الأيام بخير ما عندها من اللَّذَّات والمتاع. وإذا هو مضطر إلى أن يستمتع رغم أنفه بتناول الشاي عند فلان، ثم عند فلانة، ثم بالاستماع لمحاضرة يُلقِيها فلان في الساعة السادسة، وأخرى يلقيها فلان في الساعة السابعة، ثم يخطف عشاءه خطفًا، ويلقي ملابس النهار ويتخذ ملابس الليل ليسرع إلى الأوبرا.
ويل لسقراط إن لم يكن من أصحاب السيارات! وويل للسيارة وسائقها إن كانت لسقراط سيارة، من هذه الأيام العذاب الكذاب أيام الشتاء! ثم حدِّثني بعد ذلك كيف يستطيع سقراط أن يفرغ لفلسفته ومعرفة نفسه وحوار تلاميذه إذا كان الصباح؟ وأين له القوة التي تُمَكِّنُهُ من أن يفلسف أو يفتش عن نفسه أو يحاور أصدقاءه بعد هذا الجهد العنيف الذي أنفقه أو الذي احتمله منذ أقبل المساء إلى أن انقضى الليل أو كاد ينقضي؟ ومع ذلك فلا بد لسقراط من أن يُعنى بفلسفته، ويبحث عن نفسه، ويجاور أصدقاءه؛ لأنه بذلك يعيش، ولذلك يعيش، ومن ذلك يعيش! أرأيت أن سقراط لم تظلمه الأيام حين جعلت حياته في القرن الخامس قبل المسيح في ذلك الوقت الذي لم تنشأ فيه الصالونات، ولم تكثر فيه المحاضرات، ولم تتعدد فيه ملاعب التمثيل وقاعات الغناء، ولم تظهر فيه دور السينما؟ لقد كان سقراط سعيدًا حقًّا، كان يشهد التمثيل أيامًا في العام، مرة في الربيع حين يكون فصل التراجيديا، ومرة في الخريف حين يكون فصل الكوميديا. وكان يختلف إلى بعض الدور: إلى دار بيركليس مثلًا، ليسمع بعض السفسطائية، وليحاور أو ليستمتع بجوار هذه المرأة الجميلة زوج بيركليس. وكان ينفق ما بقي من وقته — وهو أكثره من غير شك — متنقلًا بفلسفته في شوارع أثينا، أو باحثًا عن نفسه في حمام أثينا وملاعب الرياضة فيها. وأنا واثق بأن سقراط لو خُيِّر بين حياتنا الحلوة العذبة، وبين سجنه الثقيل وما تناول فيه من السم لآثر السجن والسم على هذه اللَّذَّات الطوال الثقال التي نحتملها نحن في فصل الشتاء.
أرأيت أن الصيف هو الفصل الذي يحسن فيه اللغو، وأن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسن فيه إلا الجد، ولا يمكن فيه إلا الجد؟ ولعلك تظن أن ما حدثتك به هو كل ما في الشتاء من جِدٍّ، فَذُدْ عن نفسك هذا الوهم؛ ففي الشتاء جِدٌّ آخرُ مرٌّ كله، لا حلاوة فيه، فأنت توافقني على أن الزيارة والاستقبال، والاختلاف إلى المحاضرات، وشهود التمثيل والاستماع للمغنين والموقِّعين، كل ذلك يحتاج إلى نفقات، فثياب الشاي غير ثياب التمثيل، ولكن ماذا أريد أن أقول؟ وما لي أدخل بك في هذا الحديث الذي لا فكاهة فيه ولا مَتاع؟ أهذا كل ما يحمل إلينا الشتاء من الجِدِّ؟ كلَّا، ففي الشتاء جِدٌّ آخر، جِدٌّ خصب حقًّا، جِدٌّ نافع حقًّا، جِدٌّ نعيش منه ونلهو به، ولا يجني منه أصحابه إلا حياة كلها خشونة وشظف وحرمان، هو جِدُّ هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، لا يحفلون بالبرد ولا يحفل بهم البرد. وفي الشتاء جِدٌّ آخر، جِدٌّ يمزق القلوب، ويعذِّب النفوس، ويبعث اللوعة والأسى في أفئدة الذين يعرفون الرحمة واللين، ويذكرون حين يلهون أن في الأرض ليالي خير منها ظلمة القبور في الشتاء؛ هذا الجو المظلم القاتم، المرهق المحرق الذي يصوره أجمل تصوير وأبلغه تلك الأغنية المشهورة أغنية الإحسان التي ما استطعتُ أن أستقبل الشتاء منذ عرفتها دون أن أسمعها مرة ومرة: